الباحث القرآني

﴿والَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إلَيْكَ ومِنَ الأحْزابِ مَن يُنْكِرُ بَعْضَهُ﴾ الواوُ لِلِاسْتِئْنافِ. وهَذا اسْتِئْنافٌ ابْتِدائِيٌّ انْتُقِلَ بِهِ إلى فَضْلٍ لِبَعْضِ أهْلِ الكِتابِ في حُسْنِ تَلَقِّيهِمْ لِلْقُرْآنِ بَعْدَ الفَراغِ مِن ذِكْرِ أحْوالِ المُشْرِكِينَ مِن قَوْلِهِ ﴿كَذَلِكَ أرْسَلْناكَ في أُمَّةٍ﴾ [الرعد: ٣٠] إلَخَّ، ولِذَلِكَ جاءَتْ عَلى أُسْلُوبِها في التَّعْقِيبِ بِجُمْلَةِ ﴿قُلْ إنَّما أُمِرْتُ أنْ أعْبُدَ اللَّهَ ولا أُشْرِكَ بِهِ﴾ . والمُناسَبَةُ هي أنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ بِالقُرْآنِ انْقَسَمُوا في التَّصْدِيقِ بِالقُرْآنِ فِرَقًا: فَفَرِيقٌ آمَنُوا بِاللَّهِ وهُمُ المُؤْمِنُونَ، وفَرِيقٌ كَفَرُوا بِهِ وهم مِصْداقُ قَوْلِهِ ﴿وهم يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ﴾ [الرعد: ٣٠] . كَما تَقَدَّمَ أنَّهُ عائِدٌ إلى المُشْرِكِينَ المَفْهُومِينَ مِنَ المَقامِ كَما هو مُصْطَلَحُ القُرْآنِ. وهَذا فَرِيقٌ آخَرُ أيْضًا أهْلُ الكِتابِ وهو مُنْقَسِمٌ أيْضًا في تَلَقِّي القُرْآنِ فِرْقَتَيْنِ: فالفَرِيقُ الأوَّلُ صَدَّقُوا بِالقُرْآنِ وفَرِحُوا بِهِ وهُمُ الَّذِينَ ذُكِرُوا في قَوْلِهِ تَعالى ﴿وإذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إلى الرَّسُولِ تَرى أعْيُنَهم تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ﴾ [المائدة: ٨٣] في سُورَةِ العُقُودِ، وكُلُّهم مِنَ النَّصارى مِثْلَ ورَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ وكَذَلِكَ غَيْرُهُ مِمَّنْ بَلَغَهُمُ القُرْآنُ أيّامَ مَقامِ النَّبِيءِ ﷺ بِمَكَّةَ قَبْلَ أنْ تَبْلُغَهم دَعْوَةُ النَّبِيءِ ﷺ فَإنَّ اليَهُودَ (p-١٥٧)كانُوا قَدْ سُرُّوا بِنُزُولِ القُرْآنِ مُصَدِّقًا لِلتَّوْراةِ، وكانُوا يَحْسَبُونَ دَعْوَةَ النَّبِيءِ ﷺ مَقْصُورَةً عَلى العَرَبِ فَكانَ اليَهُودُ يَسْتَظْهِرُونَ بِالقُرْآنِ عَلى المُشْرِكِينَ، قالَ تَعالى ﴿وكانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلى الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [البقرة: ٨٩]، وكانَ النَّصارى يَسْتَظْهِرُونَ بِهِ عَلى اليَهُودِ؛ وفَرِيقٌ لَمْ يَثْبُتْ لَهُمُ الفَرَحُ بِالقُرْآنِ وهم مُعْظَمُ اليَهُودِ والنَّصارى البُعَداءُ عَنْ مَكَّةَ. وما كَفَرَ الفَرِيقانِ بِهِ إلّا حِينَ عَلِمُوا أنَّ دَعْوَةَ الإسْلامِ عامَّةٌ. وبِهَذا التَّفْسِيرِ تَظْهَرُ بَلاغَةُ التَّعْبِيرِ عَنْهم بِ (يَفْرَحُونَ) دُونَ يُؤْمِنُونَ، وإنَّما سَلَكْنا هَذا الوَجْهَ بِناءً عَلى أنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ كانَ نُزُولُها قَبْلَ أنْ يُسْلِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ وسَلْمانُ الفارِسِيُّ وبَعْضُ نَصارى نَجْرانَ وبَعْضُ نَصارى اليَمَنِ. فَإنْ كانَتِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةً أوْ كانَ هَذا مِنَ المَدَنِيِّ فَلا إشْكالَ. فالمُرادُ بِالَّذِينِ آتَيْناهُمُ الكِتابَ الَّذِينَ أُوتُوهُ إيتاءً كامِلًا، وهو المُجَرَّدُ عَنِ العَصَبِيَّةِ لِما كانُوا عَلَيْهِ وعَنِ الحَسَدِ، فَهو كَقَوْلِهِ تَعالى ﴿الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ [البقرة: ١٢١] . فالأظْهَرُ أنَّ المُرادَ بِالأحْزابِ أحْزابُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ، كَما جاءَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿فاخْتَلَفَ الأحْزابُ مِن بَيْنِهِمْ﴾ [مريم: ٣٧] في سُورَةِ مَرْيَمَ، أيْ ومِن أحْزابِهِمْ مَن يُنْكِرُ بَعْضَ القُرْآنِ. فاللّامُ عِوَضٌ عَنِ المُضافِ إلَيْهِ. ولَعَلَّ هَؤُلاءِ هم خُبَثاؤُهم ودُهاتُهُمُ الَّذِينَ تَوَسَّمُوا أنَّ القُرْآنَ يُبْطِلُ شَرائِعَهم فَأنْكَرُوا بَعْضَهُ. وهو ما فِيهِ مِنِ الإيماءِ إلى ذَلِكَ مِن إبْطالِ أُصُولِ عَقائِدِهِمْ مِثْلَ عُبُودِيَّةِ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ بِالنِّسْبَةِ لِلنَّصارى. ونُبُوءَتِهِ بِالنِّسْبَةِ لِلْيَهُودِ. وفِي التَّعْبِيرِ عَنْهم بِالأحْزابِ إيماءٌ إلى أنَّ هَؤُلاءِ هُمُ المُتَحَزِّبُونَ المُتَصَلِّبُونَ لِقَوْمِهِمْ ولِما كانُوا عَلَيْهِ. وهَكَذا كانَتْ حالَةُ اضْطِرابِ أهْلِ الكِتابِ عِنْدَما دَمْغَتْهم بَعْثَةُ النَّبِيءِ ﷺ وأخَذَ أمْرُ الإسْلامِ يَفْشُو. * * * (p-١٥٨)﴿قُلْ إنَّما أُمِرْتُ أنْ أعْبُدَ اللَّهَ ولا أُشْرِكَ بِهِ إلَيْهِ أدْعُو وإلَيْهِ مَآبِ﴾ أُمِرَ النَّبِيءُ ﷺ أنْ يُعْلِنَ لِلْفَرِيقَيْنِ بِأنَّهُ ما أُمِرَ إلّا بِتَوْحِيدِ اللَّهِ كَما في الآيَةِ الأُخْرى﴿قُلْ يَأْهَلُ الكِتابِ تَعالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وبَيْنَكُمْ﴾ [آل عمران: ٦٤]، فَمَن فَرِحَ بِالقُرْآنِ فَلْيَزْدَدْ فَرَحًا ومَن أنْكَرَ بَعْضَهُ فَلْيَأْخُذْ بِما لا يُنْكِرُهُ وهو عَدَمُ الإشْراكِ. وقَدْ كانَ النَّصارى يَتَبَرَّءُونَ مِنَ الشِّرْكِ ويَعُدُّونَ اعْتِقادَ بُنُوَّةِ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ غَيْرَ شِرْكٍ. وهَذِهِ الآيَةُ مِن مُجاراةِ الخَصْمِ واسْتِنْزالِ طائِرِ نَفْسِهِ كَيْلا يَنْفِرَ مِنَ النَّظَرِ. وبِهَذا التَّفْسِيرِ يَظْهَرُ مَوْقِعَ جُمْلَةِ﴿قُلْ إنَّما أُمِرْتُ أنْ أعْبُدَ اللَّهَ﴾ بَعْدَ جُمْلَةِ ﴿والَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ يَفْرَحُونَ﴾ وأنَّها جَوابٌ لِلْفَرِيقَيْنِ. وأفادَتْ إنَّما أنَّهُ لَمْ يُؤْمَرْ إلّا بِأنْ يَعْبُدَ اللَّهَ ولا يُشْرِكَ بِهِ، أيْ لا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِمّا عَلَيْهِ المُشْرِكُونَ، فَهو قَصْرٌ إضافِيٌّ دَلَّتْ عَلَيْهِ القَرِينَةُ. ولَمّا كانَ المَأْمُورُ بِهِ مَجْمُوعَ شَيْئَيْنِ: عِبادَةَ اللَّهِ، وعَدَمَ الإشْراكِ بِهِ في ذَلِكَ آلَ المَعْنى: أنِّي ما أُمِرْتُ إلّا بِتَوْحِيدِ اللَّهِ. ومِن بَلاغَةِ الجَدَلِ القُرْآنِيِّ أنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ مِن أوَّلِ الكَلامِ بَلْ أتى بِهِ مُتَدَرِّجًا فِيهِ فَقالَ ﴿أنْ أعْبُدَ اللَّهَ﴾ لِأنَّهُ لا يُنازِعُ في ذَلِكَ أحَدٌ مِن أهْلِ الكِتابِ ولا المُشْرِكِينَ، ثُمَّ جاءَ بَعْدَهُ ﴿ولا أُشْرِكَ بِهِ﴾ لِإبْطالِ إشْراكِ المُشْرِكِينَ ولِلتَّعْرِيضِ بِإبْطالِ إلَهِيَّةِ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ؛ لِأنَّ ادِّعاءَ بُنُوَّتِهِ مِنَ اللَّهِ تَعالى يَؤُولُ إلى الإشْراكِ. وجُمْلَةُ ﴿إلَيْهِ أدْعُو وإلَيْهِ مَئابِ﴾ بَيانٌ لِجُمْلَةِ ﴿إنَّما أُمِرْتُ أنْ أعْبُدَ اللَّهَ ولا أُشْرِكَ بِهِ﴾، أيْ أنْ أعْبُدَهُ وأنْ أدْعُوَ النّاسَ إلى ذَلِكَ، لِأنَّهُ لَمّا أمُرَ بِذَلِكَ مِن قِبَلِ اللَّهِ اسْتُفِيدَ أنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللَّهِ فَهو مَأْمُورٌ بِالدَّعْوَةِ إلَيْهِ. (p-١٥٩)وتَقْدِيمُ المَجْرُورِ في المَوْضِعَيْنِ لِلِاخْتِصاصِ، أيْ إلَيْهِ لا إلى غَيْرِهِ أدْعُو، أيْ بِهَذا القُرْآنِ، وإلَيْهِ لا إلى غَيْرِهِ مَئابِي، فَإنَّ المُشْرِكِينَ يُرْجِعُونَ في مُهِمَّهم إلى الأصْنامِ يَسْتَنْصِرُونَها ويَسْتَغِيثُونَها، ولَيْسَ في قَوْلِهِ هَذا ما يُنْكِرُهُ أهْلُ الكِتابِ إذْ هو مِمّا كانُوا فِيهِ سَواءً مَعَ الإسْلامِ. عَلى أنَّ قَوْلَهُ وإلَيْهِ مَئابِ يَعُمُّ الرُّجُوعَ في الآخِرَةِ وهو البَعْثُ. وهَذا مِن وُجُوهِ الوِفاقِ في أصْلِ الدِّينِ بَيْنَ الإسْلامِ واليَهُودِيَّةِ والنَّصْرانِيَّةِ. وحَذْفُ ياءِ المُتَكَلِّمُ مِن مَئابِي كَحَذْفِها في قَوْلِهِ ﴿عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وإلَيْهِ مَتابِ﴾ [الرعد: ٣٠]، وقَدْ مَضى قَرِيبًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب