الباحث القرآني

﴿والَّذِينَ آتَيْناهُمُ الكِتابَ﴾ نَزَلَتْ كَما قالَ الماوَرْدِيُّ في مُؤْمِنِي أهْلِ الكِتابَيْنِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ وكَعْبٍ وأضْرابِهِما مِنَ اليَهُودِ وكالَّذِينِ أسْلَمُوا مِنَ النَّصارى كالثَّمانِينَ المَشْهُورِينَ وهم أرْبَعُونَ رَجُلًا بِنَجْرانَ وثَمانِيَةٌ بِاليَمَنِ واثْنانِ وثَلاثُونَ بِالحَبَشَةِ فالمُرادُ بِالكِتابِ التَّوْراةُ والإنْجِيلُ ﴿يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إلَيْكَ﴾ إذْ هو الكِتابُ المَوْعُودُ فِيما أُوتُوهُ ﴿ومِنَ الأحْزابِ﴾ أيْ مِن أحْزابِهِمْ وهم كَفَرَتُهُمُ الَّذِينَ تَحَزَّبُوا عَلى رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِالعَداوَةِ كَكَعْبِ بْنِ الأشْرَفِ وأصْحابِهِ والسَّيِّدِ والعاقِبِ أُسْقُفِيِّ نَجْرانَ وأشْياعِهِما وأصْلُهُ جَمْعُ حِزْبٍ بِكَسْرٍ وسُكُونٍ الطّائِفَةُ المُتَحَزِّبَةُ أيِ المُجْتَمِعَةِ لِأمْرٍ ما كَعَداوَةٍ وحَرْبٍ وغَيْرِ ذَلِكَ وإرادَةُ جَماعَةٍ مَخْصُوصَةٍ مِنهُ بِواسِطَةِ العَهْدِ ﴿مَن يُنْكِرُ بَعْضَهُ﴾ وهو ما لا يُوافِقُ كُتُبَهم مِنَ الشَّرائِعِ الحادِثَةِ إنْشاءً أوْ نَسْخًا وأمّا ما يُوافِقُ كُتُبَهم فَلَمْ يُنْكِرُوهُ وإنْ لَمْ يَفْرَحُوا بِهِ وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وابْنِ زَيْدٍ أنَّها نَزَلَتْ في مُؤْمِنِي اليَهُودِ خاصَّةً فالمُرادُ بِالكِتابِ التَّوْراةُ وبِالأحْزابِ كَفَرَتُهم وعَنْ مُجاهِدٍ والحَسَنِ وقَتادَةَ أنَّ المُرادَ بِالمَوْصُولِ جَمِيعُ أهْلِ الكِتابِ فَإنَّهم كانُوا يَفْرَحُونَ بِما يُوافِقُ كُتُبَهم فالمُرادُ بِما أُنْزِلَ إلَيْكَ بَعْضُهُ وهو المُوافِقُ واعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأنَّهُ يَأْباهُ مُقابَلَةُ قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿ومِنَ الأحْزابِ مَن يُنْكِرُ بَعْضَهُ﴾ لِأنَّ إنْكارَ البَعْضِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهم وأُجِيبَ بِأنَّ المُرادَ مِنَ الأحْزابِ مَن حَظُّهُ إنْكارُ بَعْضِهِ فَحَسْبُ ولا نَصِيبَ لَهُ مِنَ الفَرَحِ بِبَعْضٍ مِنهُ لِشِدَّةٍ بُغْضِهِ وعَداوَتِهِ وأُولَئِكَ يَفْرَحُونَ بِبَعْضِهِ المُوافِقِ لِكُتُبِهِمْ وقِيلَ: الظّاهِرُ أنَّ المَعْنى أنَّ مِنهم مَن يَفْرَحُ بِبَعْضِهِ إذا وافَقَ كُتُبَهم وبَعْضُهم لا يَفْرَحُ بِذَلِكَ البَعْضِ بَلْ يَغْتَمُّ بِهِ وإنْ وافَقَها ويُنْكِرُ المُوافَقَةَ لِئَلّا يَتَّبِعَ أحَدٌ مِنهم شَرِيعَتَهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ كَما في قِصَّةِ الرَّجْمِ وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ الجَوابَيْنِ لَيْسا بِشَيْءٍ وعَلى تَفْسِيرِ المَوْصُولِ بِعامَّةِ أهْلِ الكِتابِ فَسَّرَ البَعْضُ البَعْضَ بِما لَمْ يُوافِقْ ما حَرَّفُوهُ وبَيَّنَ ذَلِكَ بِأنَّ مِنهم مَن يَفْرَحُ بِما وافَقَ ومِنهم مَن يُنْكِرُهُ لِعِنادِهِ وشِدَّةِ فَسادِهِ وإنْكارُهم لِمُخالَفَةِ المُحَرَّفِ بِالقَوْلِ دُونَ القَلْبِ لِعِلْمِهِمْ بِهِ أوْ هو بِالنِّسْبَةِ لِمَن لَمْ يُحَرِّفْهُ ولَعَلَّ نَعْيَ الإنْكارِ أوْفَقُ بِالمَقامِ مِن نَعْيِ التَّحْرِيفِ عَلَيْهِمْ عَلى ما لا يَخْفى عَلى المُتَأمِّلِ وقِيلَ: المُرادُ بِالمَوْصُولِ مُطْلَقُ المُسْلِمِينَ وبِالأحْزابِ اليَهُودُ والنَّصارى والمَجُوسُ. وأخْرَجَ ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتادَةَ فالمُرادُ بِالكِتابِ القُرْآنُ ومَعْنى ﴿يَفْرَحُونَ﴾ اسْتِمْرارُ فَرَحِهِمْ وزِيادَتُهُ وقالَتْ فِرْقَةٌ: المُرادُ بِالأحْزابِ أحْزابُ الجاهِلِيَّةِ مِنَ العَرَبِ وقالَ مُقاتِلٌ: هم بَنُو أُمَيَّةَ وبَنُو المُغِيرَةِ وآلُ أبِي طَلْحَةَ ﴿قُلْ﴾ صادِعًا بِالحَقِّ غَيْرَ مُكْتَرِثٍ بِمُنْكِرِ بَعْضِ ما أُنْزِلَ إلَيْكَ ﴿إنَّما أُمِرْتُ أنْ أعْبُدَ اللَّهَ ولا أُشْرِكَ بِهِ﴾ (p-166)أيْ شَيْئًا مِنَ الأشْياءِ أوْ لا أفْعَلُ الإشْراكَ بِهِ سُبْحانَهُ والظّاهِرُ أنَّ المُرادَ قَصْرُ الأمْرِ عَلى عِبادَتِهِ تَعالى خاصَّةً وهو الَّذِي يَقْتَضِيهِ كَلامُ الإمامِ حَيْثُ قالَ: إنَّ ﴿إنَّما﴾ لِلْحَصْرِ ومَعْناهُ إنِّي ما أُمِرْتُ إلّا بِعِبادَةِ اللَّهِ تَعالى وهو يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لا تَكْلِيفَ ولا أمْرَ ولا نَهْيَ إلّا بِذَلِكَ وقِيلَ: مَعْناهُ إنَّما أُمِرْتُ بِعِبادَتِهِ تَعالى وتَوْحِيدِهِ لا بِما أنْتُمْ عَلَيْهِ. وفِي إرْشادِ العَقْلِ السَّلِيمِ أنَّ المَعْنى إلْزامًا لِلْمُنْكِرِينَ ورَدًّا لِإنْكارِهِمْ إنَّما أُمِرْتُ إلى آخِرِهِ والمُرادُ قَصْرُ الأمْرِ بِالعِبادَةِ عَلى اللَّهِ تَعالى لا قَصْرَ الأمْرِ مُطْلَقًا عَلى عِبادَتِهِ سُبْحانَهُ أيْ قُلْ لَهم: إنَّما أُمِرْتُ فِيما أُنْزِلَ إلَيَّ بِعِبادَةِ اللَّهِ تَعالى وتَوْحِيدِهِ وظاهِرٌ أنْ لا سَبِيلَ لَكم إلى إنْكارِهِ لِإطْباقِ جَمِيعِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ والكُتُبِ عَلى ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿تَعالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وبَيْنَكم ألا نَعْبُدَ إلا اللَّهَ ولا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا﴾ فَما لَكم تُشْرِكُونَ بِهِ عُزَيْرًا والمَسِيحَ عَلَيْهِما السَّلامُ ولا يَخْفى أنَّ هَذا التَّفْسِيرَ مَبْنِيٌّ عَلى كَوْنِ المُرادِ مِنَ الأحْزابِ كَفَرَةَ أهْلِ الكِتابَيْنِ وهَذا الكَلامُ إلْزامٌ لَهم واعْتُرِضَ بِأنَّ مِنهم مَن يُنْكِرُ التَّوْحِيدَ وإطْباقَ جَمِيعِ الأنْبِياءِ والكُتُبِ عَلَيْهِ كالمُثَلِّثَةِ مِنَ النَّصارى. وأُجِيبَ بِأنَّهم مَعَ التَّثْلِيثِ يَزْعُمُونَ التَّوْحِيدَ ولا يُنْكِرُونَهُ كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهم: بِاسْمِ الأبِ والِابْنِ ورُوحِ القُدُسِ إلَهًا واحِدًا وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ هَذا مِمّا لا يُحْتاجُ إلَيْهِ والِاعْتِراضُ ناشِئٌ مِنَ الغَفْلَةِ عَنِ المُرادِ وقَدْ يُقالُ: المَعْنى إنَّما أُمِرْتُ بِعِبادَةِ اللَّهِ تَعالى وعَدَمِ الإشْراكِ بِهِ وذَلِكَ أمْرٌ تَسْتَحْسِنُهُ العُقُولُ وتُصَرِّحُ بِهِ الدَّلائِلُ الآفاقِيَّةُ والأنْفُسِيَّةُ: . وفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ واحِدُ فَإنْكارُهُ دَلِيلُ الحَماقَةِ وشاهِدُ الجَهالَةِ لا يَنْبَغِي لِعاقِلٍ أنْ يُلْتَفَتَ إلَيْهِ ويَجْرِي هَذا عَلى سائِرِ تَفاسِيرِ الأحْزابِ وقَرَأ أبُو خُلَيْدٍ عَنْ نافِعٍ ( ولا أُشْرِكُ ) بِالرَّفْعِ عَلى القَطْعِ أيْ وأنا لا أُشْرِكُ وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ حالًا أيْ أنْ أعْبُدَ اللَّهَ غَيْرَ مُشْرِكٍ بِهِ قِيلَ: وهو الأوْلى لِخُلُوِّ الِاسْتِئْنافِ عَنْ دَلالَةِ الكَلامِ عَلى أنَّ المَأْمُورَ بِهِ تَخْصِيصُ العِبادَةِ بِهِ تَعالى وفِيهِ بَحْثٌ ﴿إلَيْهِ﴾ أيْ إلى اللَّهِ تَعالى خاصَّةً عَلى النَّهْجِ المَذْكُورِ مِنَ التَّوْحِيدِ أوْ إلى ما أُمِرْتُ بِهِ مِنَ التَّوْحِيدِ ﴿أدْعُو﴾ النّاسَ لا إلى غَيْرِهِ ولا إلى شَيْءٍ آخَرَ مِمّا لا يُطَبَّقُ عَلَيْهِ الكُتُبُ الإلَهِيَّةُ والأنْبِياءُ عَلَيْهِمُ السَّلامُ فَما وجْهُ إنْكارِكم قالَهُ في الإرْشادِ أيْضًا والأوْلى عَوْدُ الضَّمِيرِ عَلى اللَّهِ تَعالى كَنَظِيرِهِ السّابِقِ وكَذا اللّاحِقِ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿وإلَيْهِ﴾ أيِ اللَّهِ تَعالى وحْدَهُ ﴿مَآبِ﴾ . (36) . أيْ مَرْجِعِي لِلْجَزاءِ وعَلى ذَلِكَ اقْتَصَرَ العَلّامَةُ البَيْضاوِيُّ وكانَ قَدْ زادَ ومَرْجِعُكم فِيما تَقَدَّمَ غَيْرَ بَعِيدٍ واعْتُرِضَ بِأنَّهُ كانَ عَلَيْهِ أنْ يَزِيدَهُ هُنا أيْضًا بَلْ هَذا المَقامُ أنْسَبُ بِالتَّعْمِيمِ لِيَدُلَّ عَلى ثُبُوتِ الحَشْرِ عُمُومًا وهو المَرْوِيُّ عَنْ قَتادَةَ وقَدْ جَعَلَ الإمامُ هَذِهِ الآيَةَ جامِعَةً لِكُلِّ ما لا يَحْتاجُ المَرْءُ إلَيْهِ مِن مَعْرِفَةِ المَبْدَأِ والمَعادِ فَقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿قُلْ إنَّما أُمِرْتُ أنْ أعْبُدَ اللَّهَ ولا أُشْرِكَ بِهِ﴾ جامِعٌ لِكُلِّ ما ورَدَ التَّكْلِيفُ بِهِ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلَيْهِ أدْعُو﴾ مُشِيرٌ إلى نُبُوَّتِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وقَوْلُهُ جَلَّ وعَلا: ﴿وإلَيْهِ مَآبِ﴾ إشارَةٌ إلى الحَشْرِ والبَعْثِ والقِيامَةِ وأجابَ الشِّهابُ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: إنَّ قَوْلَ الزَّمَخْشَرِيِّ إلَيْهِ لا إلى غَيْرِهِ مَرْجِعِي وأنْتُمْ تَقُولُونَ مِثْلَ ذَلِكَ فَلا مَعْنى لِإنْكارِكم فِيهِ بَيانٌ لِنُكْتَةِ التَّخْصِيصِ مِن أنَّهم يُنْكِرُونَ حَقِيقَةً أوْ حُكْمًا فَلا حاجَةَ إلى ما يُقالُ لا حاجَةَ لِذِكْرِهِ لِدَلالَةِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿تِلْكَ عُقْبى الَّذِينَ اتَّقَوْا وعُقْبى الكافِرِينَ النّارُ﴾ انْتَهى. وهُوَ كَما تَرى ولَعَلَّ الأظْهَرَ أنْ يُقالَ: إنَّ دَلالَةَ الكَلامِ عَلَيْهِ هُنا لَيْسَتْ كَدَلالَتِهِ عَلَيْهِ هُناكَ إذْ مَساقُ الآيَةِ فِيهِ لِلتَّخْوِيفِ اللّائِقِ بِهِ اعْتِبارُهُ ومَساقُها هُنا لِأمْرٍ آخَرَ والِاقْتِصارُ عَلى ذَلِكَ كافٍ فِيهِ. (p-167)وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّهُ لا مانِعَ مِنَ اعْتِبارِهِ ويَكُونُ مَعْنى الآيَةِ قُلْ في جَوابِهِمْ: إنِّي إنَّما أمَرَنِي اللَّهُ تَعالى بِما هو مِن مَعالِي الأُمُورِ وإلَيْهِ أدْعُو وقْتًا فَوَقْتًا وإلَيْهِ مَرْجِعِي ومَرْجِعُكم فَيُثِيبُنِي عَلى ما أنا عَلَيْهِ ويَنْتَقِمُ مِنكم عَلى إنْكارِكم وتَخَلُّفِكم عَنِ اتِّباعِ دَعْوَتِي أوْ فَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ حَقِّيَّةُ جَمِيعِ ما أُنْزِلَ إلَيَّ ويَتَبَيَّنُ فَسادُ رَأْيِكم في إنْكارِكم شَيْئًا مِنهُ وقَدْ يُقالُ عَلى عَدَمِ اعْتِبارِهِ نَحْوَ ما قِيلَ فِيما قَبْلُ: إنَّ المَعْنى قُلْ في مُقابَلَةِ إنْكارِهِمْ إنِّي إنَّما أمَرَنِي اللَّهُ تَعالى بِما أمَرَنِي بِهِ وإلَيْهِ أدْعُو وإلَيْهِ مَرْجِعِي فِيما يَعْرِضُ لِي في أمْرِ الدَّعْوَةِ وغَيْرِهِ فَلا أُبالِي بِإنْكارِكم فَإنَّهُ سُبْحانَهُ كافٍ مَن رَجَعَ إلَيْهِ ولَعَلَّ هَذا المَعْنى هُنا مِن حَيْثُ أنَّهُ فِيهِ تَأْسِيسٌ مَحْضٌ مِنهُ هُناكَ واقْتَصَرَ في الإرْشادِ عَلى جَعْلِ الكَلامِ إلْزامًا وجَعَلَهُ نُكْتَةً أمَرَهُ ﷺ بِأنْ يُخاطِبَهم بِذَلِكَ وذَكَرَ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب