قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ أَيْ بَعْضُ مَنْ أُوتِيَ الْكِتَابَ يَفْرَحُ بِالْقُرْآنِ، كَابْنِ سَلَامٍ وَسَلْمَانَ، وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنَ الْحَبَشَةِ، فَاللَّفْظُ عَامٌّ، وَالْمُرَادُ الْخُصُوصُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ ﷺ يَفْرَحُونَ بِنُورِ الْقُرْآنِ، وَقَالَهُ مجاهد وَابْنُ زَيْدٍ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا أَنَّهُمْ مُؤْمِنُو أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقِيلَ: هُمْ جَمَاعَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يَفْرَحُونَ بِنُزُولِ الْقُرْآنِ لِتَصْدِيقِهِ كُتُبَهُمْ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ: كَانَ ذِكْرُ الرَّحْمَنِ فِي الْقُرْآنِ قَلِيلًا فِي أَوَّلِ مَا أُنْزِلَ، فَلَمَّا أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَأَصْحَابُهُ سَاءَهُمْ قِلَّةُ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ فِي الْقُرْآنِ مَعَ كثرة ذكره في التوراة، فسألوا النبي عَنْ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى ﴾[[راجع ج ١٠ ص ٣٤٢.]] [الإسراء: ١١٠] فقالت قريس: مَا بَالُ مُحَمَّدٍ يَدْعُو إِلَى إِلَهٍ وَاحِدٍ فَأَصْبَحَ الْيَوْمَ يَدْعُو إِلَهَيْنِ، اللَّهَ وَالرَّحْمَنَ! وَاللَّهِ مَا نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ إِلَّا رَحْمَانَ الْيَمَامَةَ، يَعْنُونَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ، فَنَزَلَتْ: ﴿وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ﴾[[راجع ج ١١ ص ٢٨٧.]] [الأنبياء: ٣٦] ﴿وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ﴾ [الرعد: ٣٠] فَفَرِحَ مُؤْمِنُو أَهْلِ الْكِتَابِ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ".
(وَمِنَ الْأَحْزابِ) يَعْنِي مُشْرِكِي مَكَّةَ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ. وَقِيلَ: هُمُ الْعَرَبُ الْمُتَحَزِّبُونَ عَلَى النَّبِيِّ ﷺ. وَقِيلَ: ومن أعداء المسلمون مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَ مَا فِي الْقُرْآنِ، لِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ كَانَ يَعْتَرِفُ بِبَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ، وَفِيهِمْ مَنْ كَانَ يَعْتَرِفُ بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
(قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ) قِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى "أَعْبُدَ". وَقَرَأَ أَبُو خَالِدٍ [[في ح وا وى: أبو خليد: وهو عتبة بن حماد الحكمي وروى عن نافع. غاية النهاية.]] بِالرَّفْعِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ أَيْ أُفْرِدُهُ بِالْعِبَادَةِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَتَبَرَّأُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، وَمَنْ قَالَ: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ وَعُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وَمَنِ اعْتَقَدَ التشبيه كاليهود.
(إِلَيْهِ أَدْعُوا) أَيْ إِلَى عِبَادَتِهِ أَدْعُو النَّاسَ.
(وَإِلَيْهِ مَآبِ) أي أرجع في أموري كلها.
{"ayah":"وَٱلَّذِینَ ءَاتَیۡنَـٰهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ یَفۡرَحُونَ بِمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَۖ وَمِنَ ٱلۡأَحۡزَابِ مَن یُنكِرُ بَعۡضَهُۥۚ قُلۡ إِنَّمَاۤ أُمِرۡتُ أَنۡ أَعۡبُدَ ٱللَّهَ وَلَاۤ أُشۡرِكَ بِهِۦۤۚ إِلَیۡهِ أَدۡعُوا۟ وَإِلَیۡهِ مَـَٔابِ"}