الباحث القرآني

قَوْلُهُ: ٦٩ ﴿لا تَكُونُوا كالَّذِينَ آذَوْا مُوسى﴾ هو قَوْلُهم: إنَّ بِهِ أُدْرَةً أوْ بَرَصًا أوْ عَيْبًا، وسَيَأْتِي بَيانُ ذَلِكَ آخِرَ البَحْثِ، وفِيهِ تَأْدِيبٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وزَجْرٌ لَهم عَنْ أنْ يَدْخُلُوا في شَيْءٍ مِنَ الأُمُورِ الَّتِي تُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ قالَ مُقاتِلٌ: وعَظَ اللَّهُ (p-١١٨٦)المُؤْمِنِينَ أنْ لا يُؤْذُوا مُحَمَّدًا - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - كَما آذى بَنُو إسْرائِيلَ مُوسى. وقَدْ وقَعَ الخِلافُ فِيما أُوذِيَ بِهِ نَبِيُّنا مُحَمَّدٌ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - حَتّى نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، فَحَكى النَّقّاشُ أنَّ أذِيَّتَهم مُحَمَّدًا قَوْلُهم زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ. وقالَ أبُو وائِلٍ: «إنَّهُ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - قَسَمَ قَسْمًا، فَقالَ رَجُلٌ مِنَ الأنْصارِ: إنَّ هَذِهِ قِسْمَةٌ ما أُرِيدَ بِها وجْهُ اللَّهِ»، وقِيلَ: نَزَلَتْ في قِصَّةِ زَيْدِ بْنِ حارِثَةَ وزَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وما سَمِعَ فِيها مِن قالَةِ النّاسِ، ومَعْنى ﴿وكانَ عِنْدَ اللَّهِ وجِيهًا﴾ وكانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا ذا وجاهَةٍ، والوَجِيهُ عِنْدَ اللَّهِ العَظِيمُ القَدْرِ الرَّفِيعُ المَنزِلَةِ، وقِيلَ: في تَفْسِيرِ الوَجاهَةِ إنَّهُ كَلَّمَهُ تَكْلِيمًا. قَرَأ الجُمْهُورُ ﴿وكانَ عِنْدَ اللَّهِ﴾ بِالنُّونِ عَلى الظَّرْفِيَّةِ المَجازِيَّةِ، وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ، والأعْمَشُ، وأبُو حَيْوَةَ " عَبْدُ اللَّهِ " بِالباءِ المُوَحَّدَةِ مِنَ العُبُودِيَّةِ، وما في قَوْلِهِ: ﴿فَبَرَّأهُ اللَّهُ مِمّا قالُوا﴾ هي المَوْصُولَةُ أوِ المَصْدَرِيَّةُ أيْ: مِنَ الَّذِي قالُوهُ. أوْ مِن قَوْلِهِ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ﴾ أيْ: في كُلِّ أمْرٍ مِنَ الأُمُورِ ﴿وقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ أيْ: قَوْلًا صَوابًا وحَقًّا. قالَ قَتادَةُ ومُقاتِلٌ: يَعْنِي قُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا في شَأْنِ زَيْدٍ وزَيْنَبَ، ولا تَنْسُبُوا النَّبِيَّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - إلى ما لا يَحِلُّ. وقالَ عِكْرِمَةُ: إنَّ القَوْلَ السَّدِيدَ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ. وقِيلَ: هو الَّذِي يُوافِقُ ظاهِرُهُ باطِنَهُ، وقِيلَ: هو ما أُرِيدَ بِهِ وجْهُ اللَّهِ دُونَ غَيْرِهِ، وقِيلَ: هو الإصْلاحُ بَيْنَ النّاسِ. والسَّدِيدُ مَأْخُوذٌ مِن تَسْدِيدِ السَّهْمِ لِيُصابَ بِهِ الغَرَضُ، والظّاهِرُ مِنَ الآيَةِ أنَّهُ أمَرَهم بِأنْ يَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا في جَمِيعِ ما يَأْتُونَهُ ويَذَرُونَهُ فَلا يَخُصُّ ذَلِكَ نَوْعًا دُونَ نَوْعٍ، وإنْ لَمْ يَكُنْ في اللَّفْظِ ما يَقْتَضِي العُمُومَ فالمَقامُ يُفِيدُ هَذا المَعْنى، لِأنَّهُ أرْشَدَ - سُبْحانَهُ - عِبادَهُ إلى أنْ يَقُولُوا قَوْلًا يُخالِفُ قَوْلَ أهْلِ الأذى. ثُمَّ ذَكَرَ ما لِهَؤُلاءِ الَّذِينَ امْتَثَلُوا الأمْرَ بِالتَّقْوى والقَوْلِ السَّدِيدِ مِنَ الأجْرِ، فَقالَ: ﴿يُصْلِحْ لَكم أعْمالَكُمْ﴾ أيْ: يَجْعَلْها صالِحَةً لا فاسِدَةً بِما يَهْدِيهِمْ إلَيْهِ ويُوَفِّقُهم فِيهِ ﴿ويَغْفِرْ لَكم ذُنُوبَكُمْ﴾ أيْ: يَجْعَلْها مُكَفَّرَةً مَغْفُورَةً ﴿ومَن يُطِعِ اللَّهَ ورَسُولَهُ﴾ في فِعْلِ ما هو طاعَةٌ واجْتِنابِ ما هو مَعْصِيَةٌ ﴿فَقَدْ فازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ أيْ: ظَفِرَ بِالخَيْرِ ظَفَرًا عَظِيمًا، ونالَ خَيْرَ الدُّنْيا والآخِرَةِ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مُقَرِّرَةٌ لِما سَبَقَها. ثُمَّ لَمّا فَرَغَ - سُبْحانَهُ - مِن بَيانِ ما لِأهْلِ الطّاعَةِ مِنَ الخَيْرِ بَعْدَ بَيانِ ما لِأهْلِ المَعْصِيَةِ مِنَ العَذابِ بَيَّنَ عِظَمَ شَأْنِ التَّكالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ وصُعُوبَةَ أمْرِها، فَقالَ: ﴿إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ عَلى السَّماواتِ والأرْضِ والجِبالِ فَأبَيْنَ أنْ يَحْمِلْنَها وأشْفَقْنَ مِنها﴾ . واخْتُلِفَ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الأمانَةِ المَذْكُورَةِ هُنا، فَقالَ الواحِدِيُّ: مَعْنى الأمانَةِ هاهُنا في قَوْلِ جَمِيعِ المُفَسِّرِينَ الطّاعَةُ والفَرائِضُ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِأدائِها الثَّوابُ وبِتَضْيِيعِها العِقابُ. قالَ القُرْطُبِيُّ: والأمانَةُ تَعُمُّ جَمِيعَ وصائِفِ الدِّينِ عَلى الصَّحِيحِ مِنَ الأقْوالِ، وهو قَوْلُ الجُمْهُورِ. وقَدِ اخْتُلِفَ في تَفاصِيلِ بَعْضِها، فَقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: هي في أمانَةِ الأمْوالِ كالوَدائِعِ وغَيْرِها، ورُوِيَ عَنْهُ أنَّها في كُلِّ الفَرائِضِ، وأشَدُّها أمانَةُ المالِ. وقالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: مِنَ الأمانَةِ أنِ ائْتُمِنَتِ المَرْأةُ عَلى فَرْجِها. وقالَ أبُو الدَّرْداءِ: غُسْلُ الجَنابَةِ أمانَةٌ، وإنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمَنِ ابْنَ آدَمَ عَلى شَيْءٍ مِن دِينِهِ غَيْرُها. وقالَ ابْنُ عُمَرَ: أوَّلُ ما خَلَقَ اللَّهُ مِنَ الإنْسانِ فَرْجَهُ، وقالَ: هَذِهِ أمانَةٌ أسْتَوْدِعُكَها فَلا تُلْبِسْها إلّا بِحَقٍّ، فَإنْ حَفِظْتَها حَفِظْتُكَ. فالفَرْجُ أمانَةٌ والأُذُنُ أمانَةٌ والعَيْنُ أمانَةٌ واللِّسانُ أمانَةٌ والبَطْنُ أمانَةٌ واليَدُ أمانَةٌ والرِّجْلُ أمانَةٌ، ولا إيمانَ لِمَن لا أمانَةَ لَهُ. وقالَ السُّدِّيُّ: هي ائْتِمانُ آدَمَ ابْنَهُ قابِيلَ عَلى ولَدِهِ هابِيلَ وخِيانَتُهُ إيّاهُ في قَتْلِهِ. وما أبْعَدَ هَذا القَوْلَ، ولَيْتَ شِعْرِي ما هو الَّذِي سَوَّغَ لِلسُّدِّيِّ تَفْسِيرَ هَذِهِ الآيَةِ بِهَذا، فَإنْ كانَ ذَلِكَ لِدَلِيلٍ دَلَّهُ عَلى ذَلِكَ فَلا دَلِيلَ، ولَيْسَتْ هَذِهِ الآيَةُ حِكايَةً عَنِ الماضِينَ مِنَ العِبادِ حَتّى يَكُونَ لَهُ في ذَلِكَ مُتَمَسَّكٌ أبْعَدُ مِن كُلِّ بَعِيدٍ وأوْهَنُ مِن بُيُوتِ العَنْكَبُوتِ، وإنْ كانَ تَفْسِيرُ هَذا عَمَلًا بِما تَقْتَضِيهِ اللُّغَةُ العَرَبِيَّةُ، فَلَيْسَ في لُغَةِ العَرَبِ ما يَقْتَضِي هَذا ويُوجِبُ حَمْلَ هَذِهِ الأمانَةِ المُطْلَقَةِ عَلى شَيْءٍ كانَ في أوَّلِ هَذا العالَمِ، وإنْ كانَ هَذا تَفْسِيرًا مِنهُ بِمَحْضِ الرَّأْيِ، فَلَيْسَ الكِتابُ العَزِيزُ عُرْضَةً لِتَلاعُبِ آراءِ الرِّجالِ بِهِ، ولِهَذا ورَدَ الوَعِيدُ عَلى مَن فَسَّرَ القُرْآنَ بِرَأْيِهِ، فاحْذَرْ أيُّها الطّالِبُ لِلْحَقِّ عَنْ قَبُولِ مِثْلِ هَذِهِ التَّفاسِيرِ واشْدُدْ يَدَيْكَ في تَفْسِيرِ كِتابِ اللَّهِ عَلى ما تَقْتَضِيهِ اللُّغَةُ العَرَبِيَّةُ، فَهو قُرْآنٌ عَرَبِيٌّ كَما وصَفَهُ اللَّهُ، فَإنْ جاءَكَ التَّفْسِيرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - فَلا تَلْتَفِتْ إلى غَيْرِهِ، وإذا جاءَ نَهْرُ اللَّهِ بَطَلَ نَهْرُ مَعْقِلٍ، وكَذَلِكَ ما جاءَ عَنِ الصَّحابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - فَإنَّهم مِن جُمْلَةِ العَرَبِ ومِن أهْلِ اللُّغَةِ ومِمَّنْ جَمَعَ إلى اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ العِلْمَ بِالِاصْطِلاحاتِ الشَّرْعِيَّةِ، ولَكِنْ إذا كانَ مَعْنى اللَّفْظِ أوْسَعَ مِمّا فَسَّرُوهُ في لُغَةِ العَرَبِ فَعَلَيْكَ أنْ تَضُمَّ إلى ما ذَكَرَهُ الصَّحابِيُّ ما تَقْتَضِيهِ لُغَةُ العَرَبِ وأسْرارُها، فَخُذْ هَذِهِ كُلِّيَّةً تَنْتَفِعُ بِها، وقَدْ ذَكَرْنا في خُطْبَةِ هَذا التَّفْسِيرِ ما يُرْشِدُكَ إلى هَذا. قالَ الحَسَنُ: إنَّ الأمانَةَ عُرِضَتْ عَلى السَّماواتِ والأرْضِ والجِبالِ فَقالَتْ: وما فِيها ؟ فَقالَ لَها: إنْ أحْسَنْتِ آجَرْتُكِ وإنْ أسَأْتِ عَذَّبْتُكِ، فَقالَتْ: لا. قالَ مُجاهِدٌ: فَلَمّا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَرَضَها عَلَيْهِ، وقِيلَ: لَهُ ذَلِكَ فَقالَ: قَدْ تَحَمَّلْتُها. ورُوِيَ نَحْوُ هَذا عَنْ غَيْرِ حَسَنٍ ومُجاهِدٍ. قالَ النَّحّاسُ: وهَذا القَوْلُ هو الَّذِي عَلَيْهِ أهْلُ التَّفْسِيرِ. وقِيلَ: هَذِهِ الأمانَةُ هي ما أوْدَعَهُ اللَّهُ في السَّماواتِ والأرْضِ والجِبالِ وسائِرِ المَخْلُوقاتِ مِنَ الدَّلائِلِ عَلى رُبُوبِيَّتِهِ أنْ يُظْهِرُوها فَأظْهَرُوها، إلّا الإنْسانَ فَإنَّهُ كَتَمَها وجَحَدَها. كَذا قالَ بَعْضُ المُتَكَلِّمِينَ مُفَسِّرًا لِلْقُرْآنِ بِرَأْيِهِ الزّائِفِ، فَيَكُونُ عَلى هَذا مَعْنى عَرَضْنا: أظْهَرْنا. قالَ جَماعَةٌ مِنَ العُلَماءِ: ومِنَ المَعْلُومِ أنَّ الجَمادَ لا يَفْهَمُ ولا يُجِيبُ، فَلا بُدَّ مِن تَقْدِيرِ الحَياةِ فِيها، وهَذا العَرْضُ في الآيَةِ هو عَرْضُ تَخْيِيرٍ لا عَرْضَ إلْزامٍ. وقالَ القَفّالُ وغَيْرُهُ: العَرْضُ في هَذِهِ الآيَةِ ضَرْبُ مَثَلٍ، أيْ إنَّ السَّماواتِ والأرْضَ والجِبالَ عَلى كِبَرِ أجْرامِها لَوْ كانَتْ بِحَيْثُ يَجُوزُ تَكْلِيفُها لَثَقُلَ عَلَيْها تَقَلُّدُ الشَّرائِعِ لِما فِيها مِنَ الثَّوابِ والعِقابِ أيْ أنَّ التَّكْلِيفَ أمْرٌ عَظِيمٌ حَقُّهُ أنْ تَعْجِزَ عَنْهُ السَّماواتُ والأرْضُ، (p-١١٨٧)والجِبالُ، وقَدْ كُلِّفَهُ الإنْسانُ وهو ظَلُومٌ جَهُولٌ لَوْ عَقَلَ، وهَذا كَقَوْلِهِ: ﴿لَوْ أنْزَلْنا هَذا القُرْآنَ عَلى جَبَلٍ﴾ [الحشر: ٢١] وقِيلَ: إنَّ عَرَضْنا بِمَعْنى عارَضْنا أيْ: عارَضْنا الأمانَةَ بِالسَّماواتِ والأرْضِ والجِبالِ، فَضَعُفَتْ هَذِهِ الأشْياءُ عَنِ الأمانَةِ ورَجَحَتِ الأمانَةُ بِثِقَلِها عَلَيْها. وقِيلَ: إنَّ عَرْضَ الأمانَةِ عَلى السَّماواتِ والأرْضِ والجِبالِ إنَّما كانَ مِن آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ -، وأنَّ اللَّهَ أمَرَهُ أنْ يَعْرِضَ ذَلِكَ عَلَيْها، وهَذا أيْضًا تَحْرِيفٌ لا تَفْسِيرٌ، ومَعْنى ﴿وحَمَلَها الإنْسانُ﴾ أيِ: التَزَمَ بِحَقِّها، وهو في ذَلِكَ ظَلُومٌ لِنَفْسِهِ جَهُولٌ لِما يَلْزَمُهُ، أوْ جَهُولٌ لِقَدْرِ ما دَخَلَ فِيهِ كَما قالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، أوْ جَهُولٌ بِرَبِّهِ كَما قالَ الحَسَنُ. وقالَ الزَّجّاجُ: مَعْنى حَمَلَها خانَ فِيها، وجَعَلَ الآيَةَ في الكُفّارِ والفُسّاقِ والعُصاةِ، وقِيلَ: مَعْنى حَمَلَها: كُلِّفَها وأُلْزِمَها، أوْ صارَ مُسْتَعِدًّا لَها بِالفِطْرَةِ، أوْ حَمَلَها عِنْدَ عَرْضِها عَلَيْهِ في عالَمِ الذَّرِّ عِنْدَ خُرُوجِ ذُرِّيَّةِ آدَمَ مِن ظَهْرِهِ وأخْذِ المِيثاقِ عَلَيْهِمْ. واللّامُ في ﴿لِيُعَذِّبَ اللَّهُ المُنافِقِينَ والمُنافِقاتِ والمُشْرِكِينَ والمُشْرِكاتِ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِـ حَمَلَها أيْ: حَمَلَها الإنْسانُ لِيُعَذِّبَ اللَّهُ العاصِيَ، ويُثِيبَ المُطِيعَ. وعَلى هَذا فَجُمْلَةُ ﴿إنَّهُ كانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الجُمْلَةِ وغايَتِها لِلْإيذانِ بِعَدَمِ وفائِهِ بِما تَحْمِلُهُ. قالَ مُقاتِلُ بْنُ سُلَيْمانَ ومُقاتِلُ بْنُ حِبّانَ: لِيُعَذِّبَهم بِما خانُوا مِنَ الأمانَةِ وكَذَّبُوا مِنَ الرُّسُلِ ونَقَضُوا مِنَ المِيثاقِ الَّذِي أقَرُّوا بِهِ حِينَ أُخْرِجُوا مِن ظَهْرِ آدَمَ. وقالَ الحَسَنُ، وقَتادَةُ: هَؤُلاءِ المُعَذَّبُونَ هُمُ الَّذِينَ خانُوها، وهَؤُلاءِ الَّذِينَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هُمُ الَّذِينَ أدَّوْها. وقالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ أيْ: عَرَضْنا ذَلِكَ لِيَظْهَرَ نِفاقُ المُنافِقِ وشِرْكُ المُشْرِكِ فَيُعَذِّبُهُما اللَّهُ ويَظْهَرَ إيمانُ المُؤْمِنِ فَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَيْهِ أيْ: يَعُودُ عَلَيْهِ بِالمَغْفِرَةِ والرَّحْمَةِ إنْ حَصَلَ مِنهُ تَقْصِيرٌ في بَعْضِ الطّاعاتِ، ولِذَلِكَ ذُكِرَ بِلَفْظِ التَّوْبَةِ، فَدَلَّ عَلى أنَّ المُؤْمِنَ العاصِيَ خارِجٌ مِنَ العَذابِ ﴿وكانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ أيْ: كَثِيرَ المَغْفِرَةِ والرَّحْمَةِ لِلْمُؤْمِنِينَ مِن عِبادِهِ إذا قَصَّرُوا في شَيْءٍ مِمّا يَجِبُ عَلَيْهِمْ. وقَدْ قِيلَ: إنَّ المُرادَ بِالأمانَةِ العَقْلُ، والرّاجِحُ ما قَدَّمْنا عَنِ الجُمْهُورِ، وما عَداهُ فَلا يَخْلُو عَنْ ضَعْفٍ لِعَدَمِ وُرُودِهِ عَلى المَعْنى العَرَبِيِّ ولا انْطِباقِهِ عَلى ما يَقْتَضِيهِ الشَّرْعُ ولا مُوافَقَتِهِ لِما يَقْتَضِيهِ تَعْرِيفُ الأمانَةِ. وقَدْ أخْرَجَ البُخارِيُّ وغَيْرُهُ مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -: «إنَّ مُوسى كانَ رَجُلًا حَيِيًّا سِتِّيرًا لا يُرى مِن جِلْدِهِ شَيْءٌ اسْتِحْياءً مِنهُ، فَأذاهُ مَن أذاهُ مِن بَنِي إسْرائِيلَ، فَقالُوا ما تَسَتَّرَ هَذا السِّتْرَ إلّا مِن عَيْبٍ بِجِلْدِهِ، إمّا بَرَصٌ، وإمّا أُدْرَةٌ، وإمّا آفَةٌ، وإنَّ اللَّهَ - عَزَّ وجَلَّ - أرادَ أنْ يُبَرِّئَ مُوسى مِمّا قالُوا، فَخَلا يَوْمًا وحْدَهُ فَخَلَعَ ثِيابَهُ عَلى الحَجَرِ ثُمَّ اغْتَسَلَ، فَلَمّا فَرَغَ أقْبَلَ عَلى ثِيابِهِ لِيَأْخُذَها وإنَّ الحَجَرَ عَدا بِثَوْبِهِ، فَأخَذَ مُوسى عَصاهُ فَطَلَبَ الحَجَرَ فَجَعَلَ يَقُولُ: ثَوْبِي حَجَرُ ثَوْبِي حَجَرُ، حَتّى انْتَهى إلى مَلَأٍ مِن بَنِي إسْرائِيلَ فَرَأوْهُ عُرْيانًا أحْسَنَ ما خَلَقَ اللَّهُ وأبْرَأهُ مِمّا يَقُولُونَ، وقامَ الحَجَرُ فَأخَذَ ثَوْبَهُ فَلَبِسَهُ وطَفِقَ بِالحَجَرِ ضَرْبًا بِعَصاهُ، فَواللَّهِ إنَّ بِالحَجَرِ لَنَدَبًا مِن أثَرِ ضَرْبِهِ ثَلاثًا أوْ أرْبَعًا أوْ خَمْسًا» . وأخْرَجَ نَحْوَهُ البَزّارُ وابْنُ الأنْبارِيِّ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ مِن حَدِيثِ أنَسٍ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ في المُصَنَّفِ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿لا تَكُونُوا كالَّذِينَ آذَوْا مُوسى﴾ قالَ: قالَ لَهُ قَوْمُهُ إنَّهُ آدَرُ، فَخَرَجَ ذاتَ يَوْمٍ لِيَغْتَسِلَ فَوَضَعَ ثِيابَهُ عَلى حَجَرٍ فَخَرَجَتِ الصَّخْرَةُ تَشْتَدُّ بِثِيابِهِ، فَخَرَجَ مُوسى يَتْبَعُها عُرْيانًا حَتّى انْتَهَتْ بِهِ إلى مَجالِسِ بَنِي إسْرائِيلَ فَرَأوْهُ ولَيْسَ بِآدَرَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿فَبَرَّأهُ اللَّهُ مِمّا قالُوا وكانَ عِنْدَ اللَّهِ وجِيهًا﴾ . وأخْرَجَ الحاكِمُ وصَحَّحَهُ مِن طَرِيقِ السُّدِّيِّ عَنْ أبِي مالِكٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وعَنْ مُرَّةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وناسٍ مِنَ الصَّحابَةِ: أنَّ اللَّهَ أوْحى إلى مُوسى إنِّي مُتَوَفٍّ هارُونَ فَأْتِ بِهِ جَبَلَ كَذا وكَذا، فانْطَلَقا نَحْوَ الجَبَلِ فَإذا هم بِشَجَرَةٍ وبَيْتٍ فِيهِ سَرِيرٌ عَلَيْهِ فُرُشٌ ورِيحٌ طَيِّبٌ، فَلَمّا نَظَرَهارُونُ إلى ذَلِكَ الجَبَلِ والبَيْتِ وما فِيهِ أعْجَبَهُ قالَ: يا مُوسى إنِّي أُحِبُّ أنْ أنامَ عَلى هَذا السَّرِيرِ، قالَ: نَمْ عَلَيْهِ، قالَ: نَمْ مَعِي، فَلَمّا ناما أخَذَ هارُونَ المَوْتُ، فَلَمّا قُبِضَ رُفِعَ ذَلِكَ البَيْتُ وذَهَبَتِ الشَّجَرَةُ ورُفِعَ السَّرِيرُ إلى السَّماءِ، فَلَمّا رَجَعَ مُوسى إلى بَنِي إسْرائِيلَ قالُوا قَتَلَ هارُونَ وحَسَدَهُ حُبَّ بَنِي إسْرائِيلَ لَهُ، وكانَ هارُونُ أأْلَفَ بِهِمْ وألْيَنَ، وكانَ في مُوسى بَعْضُ الغِلْظَةِ عَلَيْهِمْ، فَلَمّا بَلَغَهُ ذَلِكَ قالَ: ويْحَكم إنَّهُ كانَ أخِي أفَتَرَوْنِي أقْتُلُهُ ؟ فَلَمّا أكْثَرُوا عَلَيْهِ قامَ فَصَلّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ دَعا اللَّهَ، فَنَزَلَ بِالسَّرِيرِ حَتّى نَظَرُوا إلَيْهِ بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ فَصَدَّقُوهُ. وأخْرَجَ البُخارِيُّ، ومُسْلِمٌ وغَيْرُهُما عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: «قَسَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - ذاتَ يَوْمٍ قَسْمًا، فَقالَ رَجُلٌ: إنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ ما أُرِيدَ بِها وجْهُ اللَّهِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - فاحْمَرَّ وجْهُهُ ثُمَّ قالَ: رَحْمَةُ اللَّهِ عَلى مُوسى لَقَدْ أُوذِيَ أكْثَرَ مِن هَذا فَصَبَرَ» . وأخْرَجَ أحْمَدُ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والطَّبَرانِيُّ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أبِي مُوسى الأشْعَرِيِّ قالَ: «صَلّى بِنا رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - صَلاةَ الظُّهْرِ، ثُمَّ قالَ: عَلى مَكانِكُمُ اثْبُتُوا، ثُمَّ أتى الرِّجالَ، فَقالَ: إنَّ اللَّهَ أمَرَنِي أنْ آمُرَكم أنْ تَتَّقُوا اللَّهَ وأنْ تَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا، ثُمَّ أتى النِّساءَ، فَقالَ: إنَّ اللَّهَ أمَرَنِي أنْ آمُرَكُنَّ أنْ تَتَّقِينَ اللَّهَ وأنْ تَقُلْنَ قَوْلًا سَدِيدًا» . وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ الأنْبارِيِّ في كِتابِ الأضْدادِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ﴾ الآيَةَ قالَ: الأمانَةُ الفَرائِضُ عَرَضَها اللَّهُ عَلى السَّماواتِ والأرْضِ والجِبالِ إنْ أدَّوْها أثابَهم، وإنْ ضَيَّعُوها عَذَّبَهم، فَكَرِهُوا ذَلِكَ وأشْفَقُوا مِن غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، ولَكِنْ تَعْظِيمًا لِدِينِ اللَّهِ أنْ لا يَقُومُوا بِها، ثُمَّ عَرَضَها عَلى آدَمَ فَقَبِلَها بِما فِيها، وهو قَوْلُهُ: ﴿وحَمَلَها الإنْسانُ إنَّهُ كانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ يَعْنِي: غِرًّا بِأمْرِ اللَّهِ. وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ، وابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ الأنْبارِيِّ في كِتابِ الأضْدادِ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنْهُ في الآيَةِ قالَ: عُرِضَتْ عَلى آدَمَ، فَقِيلَ: خُذْها بِما فِيها فَإنْ أطَعْتَ غَفَرْتُ لَكَ وإنْ عَصَيْتَ عَذَّبْتُكَ، قالَ: قَبِلْتُها بِما (p-١١٨٨)فِيها، فَما كانَ إلّا ما بَيْنَ العَصْرِ إلى اللَّيْلِ مِن ذَلِكَ اليَوْمِ حَتّى أصابَ الذَّنْبَ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أيْضًا مِن طَرِيقٍ أُخْرى نَحْوَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب