الْآيَةُ الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا} [الأحزاب: 72].
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي حَقِيقَةِ الْعَرْضِ: وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمُشْكِلَيْنِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي ذِكْرِ الْأَمَانَةِ:
وَفِيهَا اخْتِلَاطُ كَثِيرٍ مِنْ الْقَوْلِ، لُبَابُهُ فِي عَشْرَةِ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ؛ قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ.
الثَّانِي: أَنَّهَا الْفَرَائِضُ؛ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهَا أَمَانَةُ الْفَرْجِ عِنْدَ الْمَرْأَةِ؛ قَالَهُ أُبَيٌّ.
الرَّابِعُ: أَنَّ اللَّهَ وَضَعَ الرَّحِمَ عِنْدَ آدَمَ أَمَانَةً.
الْخَامِسُ: أَنَّهَا الْخِلَافَةُ.
السَّادِسُ: أَنَّهَا الْجَنَابَةُ وَالصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ؛ قَالَهُ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ.
السَّابِعُ: أَنَّهَا أَمَانَةُ آدَمَ قَابِيلَ عَلَى أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، فَقَتَلَ قَابِيلُ هَابِيلَ.
الثَّامِنُ: أَنَّهَا وَدَائِعُ النَّاسِ.
التَّاسِعُ: أَنَّهَا الطَّاعَةُ.
الْعَاشِرُ: أَنَّهَا التَّوْحِيدُ.
فَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا مُتَقَارِبَةٌ، تَرْجِعُ إلَى قِسْمَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: التَّوْحِيدُ: فَإِنَّهُ أَمَانَةٌ عِنْدَ الْعَبْدِ، وَخَفِيَ فِي الْقَلْبِ، لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أُنَقِّبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ».
ثَانِيهِمَا: قِسْمُ الْعَمَلِ:
وَهُوَ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ الشَّرِيعَةِ، وَكُلُّهَا أَمَانَةٌ تَخْتَصُّ بِتَأْكِيدِ الِاسْمِ فِيهَا.
وَالْمَعْنَى مَا كَانَ خَفِيًّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ النَّاسُ، فَأَخْفَاهُ أَحَقُّهُ بِالْحِفْظِ، وَأَخْفَاهُ أَلْزَمُهُ بِالرِّعَايَةِ وَأَوْلَاهُ.
[مَسْأَلَة مِنْ الْأَمَانَات الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: تَخْتَصُّ بِالْأَحْكَامِ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ:
ثَلَاثَةٌ:
الْأَوَّلُ: الْوَدَائِعُ؛ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا، وَأَوْضَحْنَا وَجْهَ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ فِيهَا، وَهَلْ تُقَابَلُ بِخِيَانَةٍ أَمْ لَا؟ الثَّانِي: أَمَانَةُ الْمَرْأَةِ عَلَى حَيْضِهَا وَحَمْلِهَا.
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
الثَّالِثُ: الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ، وَهُمَا أَمَانَتَانِ عَظِيمَتَانِ لَا يَعْلَمُهُمَا إلَّا اللَّهُ، وَكَذَلِكَ الصَّوْمُ؛ وَلِأَجْلِ ذَلِكَ جُعِلَ لِلَّهِ وَحْدَهُ وَهُوَ يَجْزِي بِهِ حَسْبَمَا وَرَدَ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: إنَّ الطَّهَارَةَ لَمَّا كَانَتْ خَفِيَّةً لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ كَانَ الْحُكْمُ فِيهَا إذَا صَلَّى إمَامٌ بِقَوْمٍ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ مُحْدِثٌ، فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ وَحْدَهُ، وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ حَدَثَهُ أَوْ طَهَارَتَهُ لَا تُعْلَمُ حَقِيقَةً، وَإِنَّمَا تُعْلَمُ بِظَاهِرٍ مِنْ الْقَوْلِ، وَاجْتِهَادٍ فِي النَّظَرِ؛ لَيْسَ بِنَصٍّ وَلَا يَقِينٍ، وَقَدْ أُدِّيَتْ الصَّلَاةُ وَرَاءَهُ بِاجْتِهَادٍ؛ وَلَا يُنْقَضُ بِاجْتِهَادٍ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُهُ لِلْحَدَثِ غَيْرَ صَحِيحٍ، وَهُوَ أَيْضًا نَاسٍ فِيهِ؛ إذْ هُوَ غَيْرُ مُحَقِّقٍ لَهُ حَتَّى بَالَغُوا فِي ذَلِكَ النَّظَرِ، وَاسْتَوْفَوْا فِيهِ الْحَقَّ، فَقَالُوا: إنَّ الْإِمَامَ إذَا قَالَ: صَلَّيْت بِكُمْ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا سَنَةً مُتَعَمِّدًا لِتَرْكِ الطَّهَارَةِ مَا اسْتَقْبَلْت فِيهَا قِبْلَةً بِوُضُوءٍ، وَلَا اغْتَسَلْت عَنْ جَنَابَةٍ، ذَنْبًا ارْتَكَبْته؛ وَسَيِّئَةً اجْتَرَمَتْهَا، وَأَنَا مِنْهَا تَائِبٌ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَاحِدٍ مِمَّنْ صَلَّى وَرَاءَهُ إعَادَةٌ؛ وَاَللَّهُ حَسِيبُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ غَيْرُ مُتَحَقَّقٍ مِنْ قَوْلِهِ، وَلَعَلَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْحَقُّ وَالصِّدْقُ، وَهَذَا كَذِبٌ لِعِلَّةٍ أَوْ حِيلَةٍ أَوْ لِتَهَوُّرٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ لَا رَبَّ غَيْرُهُ.
{"ayah":"إِنَّا عَرَضۡنَا ٱلۡأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱلۡجِبَالِ فَأَبَیۡنَ أَن یَحۡمِلۡنَهَا وَأَشۡفَقۡنَ مِنۡهَا وَحَمَلَهَا ٱلۡإِنسَـٰنُۖ إِنَّهُۥ كَانَ ظَلُومࣰا جَهُولࣰا"}