الباحث القرآني

ولَمّا كانَ التَّقْدِيرُ: ومَن لَمْ يُطِعْ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرانًا مُبِينًا، وكانَ كُلُّ شَيْءٍ عُرِضَ عَلى شَيْءٍ فالمَعْرُوضُ عَلَيْهِ مُتَمَكِّنٌ مِنَ المَعْرُوضِ قادِرٌ عَلَيْهِ، (p-٤٢٣)وكانَ كُلُّ شَيْءٍ أوْدَعَهُ اللَّهُ شَيْئًا فَحِفْظَهُ ورَعاهُ وبَذَلَهُ لِأهْلِهِ وآتاهُ باذِلًا لِلْأمانَةِ غَيْرَ حامِلٍ لَها. وكُلُّ مَن أوْدَعَهُ شَيْئًا فَضَيَّعَهُ وضَمِنَ بِهِ عَنْ أهْلِهِ ومَنَعَهُ عَنْ مُسْتَحِقِّهِ خائِنٌ فِيهِ حامِلٌ لَهُ، وكانَ اللَّهُ تَعالى قَدْ أوْدَعَ النّاسَ مِنَ العُقُولِ ما يُمَيِّزُونَ بِهِ بَيْنَ الصَّحِيحِ والفاسِدِ، ومِنَ القُوى الظّاهِرَةِ ما يَصْرِفُونَهُ فِيما أرادُوا مِنَ المَعْصِيَةِ والطّاعَةِ، فَمِنهم مَنِ اسْتَدَلَّ بِعَقْلِهِ عَلى كُلٍّ مِنَ المُحِقِّ والمُبْطِلِ فَبَذَلَ لَهُ مِن قُواهُ ما يَسْتَحِقُّهُ، فَكانَ باذِلًا لِلْأمانَةِ غَيْرَ حامِلٍ لَها، ومِنهم مَن عَكَسَ ذَلِكَ وهُمُ الأكْثَرُ فَكانَ حامِلًا [لَها] خائِنًا فِيها أمَرَ بِهِ مِن بَذْلِها، وأوْدَعَ سُبْحانَهُ الأكْوانَ ما فِيها مِنَ المَنافِعِ مِنَ المِياهِ والمَعادِنِ والنَّباتاتِ فَبَذَلَتْهُ ولَمْ تَمْنَعْهُ مِن أحَدٍ طَلَبَهُ مَعَ أنَّ مَنعَها لَهُ في حَيِّزِ الإمْكانِ، قالَ تَعالى مُعَلِّلًا لِلْأمْرِ بِالتَّقْوى، أوْ مُسْتَأْنِفًا مُؤَكِّدًا تَنْبِيهًا عَلى أنَّ هَذا الأمْرَ [مِمّا] يَحِقُّ أنْ يُؤَكَّدَ تَنْبِيهًا عَلى دِقَّتِهِ، وأنَّهُ مِمّا لا يَكادُ أنْ يَفْطِنَ لَهُ كَثِيرٌ مِنَ النّاسِ فَضْلًا عَنْ أنْ يُصَدِّقُوهُ [لافِتًا القَوْلَ إلى مَظْهَرِ العَظَمَةِ دَلالَةً عَلى عَظِيمِ جُرْأةِ الإنْسانِ]: ﴿إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ﴾ أيْ أداءَها أوْ حَمْلَها أوْ مَنَعْها أهْلَها، وهي طاعَتُهُ سُبْحانَهُ فِيما أمَرَ بِهِ العاقِلَ، وفِيما أرادَهُ مِن غَيْرِهِ، ولَمْ يَذْكُرِ المِياهَ والرِّياحَ لِأنَّهُما مِن جُمْلَةِ ما في الكَوْنَيْنِ مِنَ الأماناتِ الَّتِي يُؤَدِّيانِها عَلى حَسَبِ الأمْرِ ﴿عَلى السَّماواتِ﴾ بِما فِيها مِنَ المَنافِعِ (p-٤٢٤)﴿والأرْضِ﴾ بِما فِيها مِنَ المَرافِقِ والمَعادِنِ. ولَمّا أُرِيدَ التَّصْرِيحُ بِالتَّعْمِيمِ قالَ: ﴿والجِبالِ﴾ [و] لِأنَّ أكْثَرَ المَنافِعِ فِيها ﴿فَأبَيْنَ﴾ عَلى عِظَمِ أجْرامِها وقُوَّةِ أرْكانِها وسَعَةِ أرْجائِها ﴿أنْ يَحْمِلْنَها﴾ فَيَمْنَعْنَها ويَحْبِسْنْها عَنْ أهْلِها، قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِن قَوْلِكَ: فُلانٌ حامِلٌ لِلْأمانَةِ ومُحْتَمِلٌ لَها، أيْ لا يُؤَدِّيها إلى صاحِبِها حَتّى تَزُولَ عَنْ ذِمَّتِهِ ويَخْرُجُ عَنْ عُهْدَتِها، لِأنَّ الأمانَةَ كَأنَّها راكِبَةٌ لِلْمُؤْتَمَنِ عَلَيْها وهو حامِلُها، ألا تَراهم يَقُولُونَ: رَكِبَتْهُ الدُّيُونُ ولِي عَلَيْهِ حَقٌّ، فَإذا أدّاها لَمْ تَبْقَ راكِبَةً لَهُ ولا هو حامِلًا لَها ﴿وأشْفَقْنَ مِنها﴾ فَبَذَلَ كُلٌّ [مِنهُنَّ] ما أوْدَعَهُ اللَّهُ فِيهِ في وقْتِهِ كَما أرادَهُ اللَّهُ، وهو مَعْنى: أتَيْنا طائِعِينَ، والحاصِلُ أنَّهُ جُعِلَتِ الإرادَةُ وهي الأمْرُ التَّكْوِينِيُّ في حَقِّ الأكْوانِ لِكَوْنِها لا تَعْقِلُ كالأمْرِ التَّكْلِيفِيِّ التَّكْوِينِيِّ في حَقِّنا لِأنّا نَعْقِلُ تَمْيِيزًا بَيْنَ مَن يَعْقِلُ ومَن لا يَعْقِلُ في الحُكْمِ، كَما مَيَّزَ بَيْنَهُما في الفَهْمِ إعْطاءً لِكُلٍّ مِنهُما ما يَسْتَحِقُّهُ رُتْبَتَهُ - وهَذا هو مَعْنى ما نَقَلَهُ البَغَوِيُّ عَنِ الزَّجّاجِ وغَيْرِهِ مِن أهْلِ المَعانِي، وما أحْسَنَ ما قالَهُ النّابِغَةُ زِيادُ بْنُ مُعاوِيَةَ الذُّبْيانِيُّ حَيْثُ قالَ:(p-٤٢٥) ؎أتَيْتُكَ عارِيًا خَلَقًا ثِيابِي ∗∗∗ عَلى خَوْفٍ تُظَنُّ بِي الظُّنُونُ ؎فَألْفَيْتُ الأمانَةَ لَمْ تَخُنْها ∗∗∗ ∗∗∗ كَذَلِكَ كانَ نُوحٌ لا يَخُونُ قالَ ابْنُ الفُراتِ: إنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ لَمّا قِيلَ لَهُ إنَّ النّابِغَةَ قائِلُهُما: هو أشْعَرُ شُعَرائِكم. ولَمّا كانَ الخائِنُ أكْثَرَ مِنَ الأمِينِ أضْعافًا مُضاعَفَةً، وكانَتِ النَّفْسُ بِما أُودِعَ فِيها مِنَ الشَّهَواتِ والحُظُوظِ مَحَلَّ النَّقائِصِ، قالَ تَعالى: ﴿وحَمَلَها الإنْسانُ﴾ أيْ أكْثَرُ النّاسِ والجِنِّ، فَإنَّ الإنْسانَ الإنْسُ، والإنْسُ والأُناسُ النّاسُ، وقَدْ تَقَدَّمَ في ﴿ولا تَبْخَسُوا النّاسَ أشْياءَهُمْ﴾ [الأعراف: ٨٥] في الأعْرافِ أنَّ النّاسَ يَكُونُ مِنَ الإنْسِ ومِنَ الجِنِّ، وأنَّهُ جَمْعُ إنْسٍ وأصْلُهُ أُناسٌ، والإسْنادُ إلى الجِنْسِ لا يَلْزَمُ مِنهُ أنْ يَكُونَ كُلُّ فَرْدٍ مِنهُ كَذَلِكَ، فَهو هُنا بِاعْتِبارِ الأغْلَبِ، وفي التَّعْبِيرِ بِهِ إشارَةٌ إلى أنَّهُ لا يَخُونُ إلّا مَن [هُوَ فِي] أسْفَلَ الرُّتَبِ لَمْ يَصِلْ إلى حَدِّ النَّوْسِ. ولَمّا كانَ الإنْسانُ - لِما لَهُ بِنَفْسِهِ [مِنَ الأُنْسِ] وفي صِفاتِهِ [مِن] العِشْقِ، ولَهُ مِنَ العَقْلِ والفَهْمِ - يَظُنُّ أنَّهُ لا نَقْصَ فِيهِ، عَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ مُؤَكِّدًا: ﴿إنَّهُ﴾ عَلى ضَعْفِ قُوَّتِهِ وقِلَّةِ حِيلَتِهِ ﴿كانَ﴾ (p-٤٢٦)أيْ في جِبِلَّتِهِ إلّا مَن عَصَمَ اللَّهُ ﴿ظَلُومًا﴾ يَضَعُ الشَّيْءَ في غَيْرِ مَحَلِّهِ كالَّذِي في الظَّلامِ لِما غَطّى مِن شَهَواتِهِ عَلى عَقْلِهِ، ولِذَلِكَ قالَ: ﴿جَهُولا﴾ أيْ فَجَهْلُهُ يَغْلِبُ عَلى حِلْمِهِ فَيُوقِعُهُ في الظُّلْمِ، فَجُعِلَ كُلٌّ مِن ظُهُورٍ ما أوْدَعَهُ اللَّهُ في الأكْوانِ وكَوْنُهُ في حَيِّزِ الإمْكانِ كَأنَّهُ عَرَضَ عَلَيْها كُلَّ مَن حَمَلَهُ وبَذَلَهُ كَما أنَّهُ جَعَلَ تَمْكِينَ الإنْسانِ مِن كُلٍّ مِن إبْداءِ ما اؤْتُمِنَ عَلَيْهِ وإخْفائِهِ كَذَلِكَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب