الباحث القرآني

(p-٢٠٢) * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا﴾ ﴿يُصْلِحْ لَكم أعْمالَكم ويَغْفِرْ لَكم ذُنُوبَكُمْ﴾ أرْشَدَهم إلى ما يَنْبَغِي أنْ يَصْدُرَ مِنهم مِنَ الأفْعالِ والأقْوالِ، أمّا الأفْعالُ فالخَيْرُ، وأمّا الأقْوالُ فالحَقُّ؛ لِأنَّ مَن أتى بِالخَيْرِ وتَرَكَ الشَّرَّ فَقَدِ اتَّقى اللَّهَ، ومَن قالَ الصِّدْقَ قالَ قَوْلًا سَدِيدًا، ثُمَّ وعَدَهم عَلى الأمْرَيْنِ بِأمْرَيْنِ: عَلى الخَيْراتِ بِإصْلاحِ الأعْمالِ، فَإنَّ بِتَقْوى اللَّهِ يَصْلُحُ العَمَلُ، والعَمَلُ الصّالِحُ يُرْفَعُ ويَبْقى فَيَبْقى فاعِلُهُ خالِدًا في الجَنَّةِ، وعَلى القَوْلِ السَّدِيدِ بِمَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ومَن يُطِعِ اللَّهَ ورَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ فَطاعَةُ اللَّهِ هي طاعَةُ الرَّسُولِ، ولَكِنْ جَمَعَ بَيْنَهُما لِبَيانِ شَرَفِ فِعْلِ المُطِيعِ؛ فَإنَّهُ إنْ يَفْعَلْهُ الواحِدُ اتَّخَذَ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا وعِنْدَ الرَّسُولِ يَدًا، وقَوْلُهُ: ﴿فَقَدْ فازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ جَعَلَهُ عَظِيمًا مِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّهُ مِن عَذابٍ عَظِيمٍ، والنَّجاةُ مِنَ العَذابِ تَعْظُمُ بِعِظَمِ العَذابِ، حَتّى إنَّ مَن أرادَ أنْ يَضْرِبَ غَيْرَهُ سَوْطًا ثُمَّ نَجا مِنهُ لا يُقالُ فازَ فَوْزًا عَظِيمًا؛ لِأنَّ العَذابَ الَّذِي نَجا مِنهُ لَوْ وقَعَ ما كانَ يَتَفاوَتُ الأمْرُ تَفاوُتًا كَثِيرًا والثّانِي: أنَّهُ وصَلَ إلى ثَوابٍ كَثِيرٍ وهو الثَّوابُ الدّائِمُ الأبَدِيُّ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ عَلى السَّماواتِ والأرْضِ والجِبالِ فَأبَيْنَ أنْ يَحْمِلْنَها وأشْفَقْنَ مِنها وحَمَلَها الإنْسانُ إنَّهُ كانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ . لَمّا أرْشَدَ اللَّهُ المُؤْمِنِينَ إلى مَكارِمِ الأخْلاقِ وأدَّبَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلامُ بِأحْسَنِ الآدابِ، بَيَّنَ أنَّ التَّكْلِيفَ الَّذِي وجَّهَهُ اللَّهُ إلى الإنْسانِ أمْرٌ عَظِيمٌ فَقالَ: ﴿إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ﴾ أيِ التَّكْلِيفَ وهو الأمْرُ بِخِلافِ ما في الطَّبِيعَةِ، واعْلَمْ أنَّ هَذا النَّوْعَ مِنَ التَّكْلِيفِ لَيْسَ في السَّماواتِ ولا في الأرْضِ لِأنَّ الأرْضَ والجَبَلَ والسَّماءَ كُلُّها عَلى ما خُلِقَتْ عَلَيْهِ: الجَبَلُ لا يُطْلَبُ مِنهُ السَّيْرُ، والأرْضُ لا يُطْلَبُ مِنها الصُّعُودُ ولا مِنَ السَّماءِ الهُبُوطُ ولا في المَلائِكَةِ؛ لِأنَّ المَلائِكَةَ وإنْ كانُوا مَأْمُورِينَ مَنهِيِّينَ عَنْ أشْياءَ لَكِنَّ ذَلِكَ لَهم كالأكْلِ والشُّرْبِ لَنا فَيُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ والنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ كَما يَشْتَغِلُ الإنْسانُ بِأمْرٍ مُوافِقٍ لِطَبْعِهِ، وفي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: في الأمانَةِ وُجُوهٌ كَثِيرَةٌ مِنها مَن قالَ: هو التَّكْلِيفُ وسُمِّيَ أمانَةً لِأنَّ مَن قَصَّرَ فِيهِ فَعَلَيْهِ الغَرامَةُ، ومَن وفَّرَ فَلَهُ الكَرامَةُ. ومِنهم مَن قالَ هو قَوْلُ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ وهو بَعِيدٌ فَإنَّ السَّماواتِ والأرْضَ والجِبالَ بِألْسِنَتِها ناطِقَةٌ بِأنَّ اللَّهَ واحِدٌ لا إلَهَ إلّا هو، ومِنهم مَن قالَ: الأعْضاءُ فالعَيْنُ أمانَةٌ يَنْبَغِي أنْ يَحْفَظَها، والأُذُنُ كَذَلِكَ، واليَدُ كَذَلِكَ، والرِّجْلُ والفَرْجُ واللِّسانُ، ومِنهم مَن قالَ مَعْرِفَةُ اللَّهِ بِما فِيها، واللَّهُ أعْلَمُ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: في العَرْضِ وُجُوهٌ مِنهم مَن قالَ: المُرادُ العَرْضُ، ومِنهم مَن قالَ: الحَشْرُ، ومِنهم مَن قالَ: المُقابَلَةُ؛ أيْ: قابَلْنا الأمانَةَ عَلى السَّماواتِ فَرَجَحَتِ الأمانَةُ عَلى أهْلِ السَّماواتِ والأرْضِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: ﴿عَلى السَّماواتِ والأرْضِ﴾ وجْهانِ: أحَدُهُما: أنَّ المُرادَ هي بِأعْيانِها. والثّانِي: المُرادُ أهْلُوها، فَفِيهِ إضْمارٌ تَقْدِيرُهُ: إنّا عَرَضْنا الأمانَةَ عَلى أهْلِ السَّماواتِ والأرْضِ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قَوْلُهُ: ﴿فَأبَيْنَ أنْ يَحْمِلْنَها﴾ لَمْ يَكُنْ إباؤُهُنَّ كَإباءِ إبْلِيسَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أبى أنْ يَكُونَ مَعَ السّاجِدِينَ﴾ [الحجر: ٣١] مِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّ هُناكَ السُّجُودَ كانَ فَرْضًا، وهَهُنا الأمانَةُ كانَتْ عَرْضًا. وثانِيهِما: أنَّ الإباءَ كانَ هُناكَ اسْتِكْبارًا وهَهُنا اسْتِصْغارًا اسْتَصْغَرْنَ أنْفُسَهُنَّ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: ﴿وأشْفَقْنَ مِنها﴾ . المَسْألَةُ الخامِسَةُ: ما سَبَبُ الإشْفاقِ ؟ نَقُولُ: الأمانَةُ لا تُقْبَلُ لِوُجُوهٍ: أحَدُها: أنْ يَكُونَ عَزِيزًا صَعْبَ (p-٢٠٣)الحِفْظِ كالأوانِي مِنَ الجَواهِرِ الَّتِي تَكُونُ عَزِيزَةً سَرِيعَةَ الِانْكِسارِ، فَإنَّ العاقِلَ يَمْتَنِعُ عَنْ قَبُولِها، ولَوْ كانَتْ مِنَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ لَقَبِلَها ولَوْ كانَتْ مِنَ الزُّجاجِ لَقَبِلَها، في الأوَّلِ لِأمانِهِ مِن هَلاكِها، وفي الثّانِي لِكَوْنِها غَيْرَ عَزِيزَةِ الوُجُودِ، والتَّكْلِيفُ كَذَلِكَ. والثّانِي: أنْ يَكُونَ الوَقْتُ زَمانَ شُهُبٍ وغارَةٍ فَلا يَقْبَلُ العاقِلُ في ذَلِكَ الوَقْتِ الوَدائِعَ، والأمْرُ كانَ كَذَلِكَ لِأنَّ الشَّيْطانَ وجُنُودَهُ كانُوا في قَصْدِ المُكَلَّفِينَ إذِ الغَرَضُ كانَ بَعْدَ خُرُوجِ آدَمَ مِنَ الجَنَّةِ. الثّالِثُ: مُراعاةُ الأمانَةِ والإتْيانُ بِما يَجِبُ كَإيداعِ الحَيَواناتِ الَّتِي تَحْتاجُ إلى العَلْفِ والسَّقْيِ ومَوْضِعٍ مَخْصُوصٍ يَكُونُ بِرَسْمِها، فَإنَّ العاقِلَ يَمْتَنِعُ مِن قَبُولِها بِخِلافِ مَتاعٍ يُوضَعُ في صُنْدُوقٍ أوْ في زاوِيَةِ بَيْتٍ، والتَّكْلِيفُ كَذَلِكَ فَإنَّهُ يَحْتاجُ إلى تَرْبِيَةٍ وتَنْمِيَةٍ. المَسْألَةُ السّادِسَةُ: كَيْفَ حَمَلَها الإنْسانُ ولَمْ تَحْمِلْها هَذِهِ الأشْياءُ ؟ فِيهِ جَوابانِ: أحَدُهُما: بِسَبَبِ جَهْلِهِ بِما فِيها وعِلْمِهِنَّ، ولِهَذا قالَ تَعالى: ﴿إنَّهُ كانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ . والثّانِي: أنَّ الأشْياءَ نَظَرَتْ إلى أنْفُسِهِنَّ فَرَأيْنَ ضَعْفَهُنَّ فامْتَنَعْنَ، والإنْسانُ نَظَرَ إلى جانِبِ المُكَلِّفِ، وقالَ: المُودِعُ عالِمٌ قادِرٌ لا يَعْرِضُ الأمانَةَ إلّا عَلى أهْلِها وإذا أوْدَعَ لا يَتْرُكُها بَلْ يَحْفَظُها بِعَيْنِهِ وعَوْنِهِ فَقَبِلَها، وقالَ: ﴿إيّاكَ نَعْبُدُ وإيّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: ٥] . المَسْألَةُ السّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّهُ كانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ فِيهِ وُجُوهٌ: أحَدُها: أنَّ المُرادَ مِنهُ آدَمُ ظَلَمَ نَفْسَهُ بِالمُخالَفَةِ ولَمْ يَعْلَمْ ما يُعاقَبُ عَلَيْهِ مِنَ الإخْراجِ مِنَ الجَنَّةِ. ثانِيها: المُرادُ الإنْسانُ يَظْلِمُ بِالعِصْيانِ ويَجْهَلُ ما عَلَيْهِ مِنَ العِقابِ. ثالِثُها: إنَّهُ كانَ ظَلُومًا جَهُولًا، أيْ كانَ مِن شَأْنِهِ الظُّلْمُ والجَهْلُ يُقالُ: فَرَسٌ شَمُوسٌ ودابَّةٌ جَمُوحٌ وماءٌ طَهُورٌ أيْ مِن شَأْنِهِ ذَلِكَ، فَكَذَلِكَ الإنْسانُ مِن شَأْنِهِ الظُّلْمُ والجَهْلُ فَلَمّا أُودِعَ الأمانَةَ بَقِيَ بَعْضُهم عَلى ما كانَ عَلَيْهِ وبَعْضُهم تَرَكَ الظُّلْمَ كَما قالَ تَعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمانَهم بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام: ٨٢] وتَرَكَ الجَهْلَ كَما قالَ تَعالى في حَقِّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿وعَلَّمَ آدَمَ الأسْماءَ كُلَّها﴾ [البقرة: ٣١] وقالَ في حَقِّ المُؤْمِنِينَ عامَّةً: ﴿والرّاسِخُونَ في العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ﴾ [آل عمران: ٧] وقالَ تَعالى: ﴿إنَّما يَخْشى اللَّهَ مِن عِبادِهِ العُلَماءُ﴾ [فاطر: ٢٨] . رابِعُها: ﴿إنَّهُ كانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ في ظَنِّ المَلائِكَةِ حَيْثُ قالُوا: ﴿أتَجْعَلُ فِيها مَن يُفْسِدُ فِيها﴾ [البقرة: ٣٠] وبَيَّنَ عِلْمَهُ عِنْدَهم حَيْثُ قالَ تَعالى: ﴿أنْبِئُونِي بِأسْماءِ هَؤُلاءِ﴾ [البقرة: ٣١] وقالَ بَعْضُهم في تَفْسِيرِ الآيَةِ: إنَّ المَخْلُوقَ عَلى قِسْمَيْنِ: مُدْرِكٌ، وغَيْرُ مُدْرِكٍ، والمُدْرِكُ مِنهُ مَن يُدْرِكُ الكُلِّيَّ والجُزْئِيَّ مِثْلُ الآدَمِيِّ، ومِنهُ مَن يُدْرِكُ الجُزْئِيَّ كالبَهائِمِ ثُمَّ تُدْرِكُ الشَّعِيرَ الَّذِي تَأْكُلُهُ ولا تَتَفَكَّرُ في عَواقِبِ الأُمُورِ ولا تَنْظُرُ في الدَّلائِلِ والبَراهِينِ، ومِنهُ مَن يُدْرِكُ الكُلِّيَّ ولا يُدْرِكُ الجُزْئِيَّ كالمَلَكِ يُدْرِكُ الكُلِّيّاتِ ولا يُدْرِكُ لَذَّةَ الجِماعِ والأكْلِ، قالُوا: وإلى هَذا أشارَ اللَّهُ تَعالى بِقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ عَرَضَهم عَلى المَلائِكَةِ فَقالَ أنْبِئُونِي بِأسْماءِ هَؤُلاءِ﴾ [البقرة: ٣١] فاعْتَرَفُوا بِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِتِلْكَ الجُزْئِيّاتِ، والتَّكْلِيفُ لَمْ يَكُنْ إلّا عَلى مُدْرِكِ الأمْرَيْنِ إذْ لَهُ لَذّاتٌ بِأُمُورٍ جُزْئِيَّةٍ، فَمُنِعَ مِنها لِتَحْصِيلِ لَذّاتٍ حَقِيقِيَّةٍ هي مِثْلُ لَذَّةِ المَلائِكَةِ بِعِبادَةِ اللَّهِ ومَعْرِفَتِهِ، وأمّا غَيْرُهُ فَإنْ كانَ مُكَلَّفًا يَكُونُ مُكَلَّفًا لا بِمَعْنى الأمْرِ بِما فِيهِ عَلَيْهِمْ كُلْفَةٌ ومَشَقَّةٌ بَلْ بِمَعْنى الخِطابِ فَإنَّ المُخاطَبَ يُسَمّى مُكَلَّفًا لِما أنَّ المُكَلَّفَ مُخاطَبٌ فَسُمِّيَ المُخاطَبُ مُكَلَّفًا وفي الآيَةِ لِطائِفُ: الأُولى: الأمانَةُ كانَ عَرْضُها عَلى آدَمَ فَقَبِلَها فَكانَ أمِينًا عَلَيْها والقَوْلُ قَوْلُ الأمِينِ فَهو فائِزٌ، بَقِيَ أوْلادُهُ أخَذُوا الأمانَةَ مِنهُ والآخِذُ مِنَ الأمِينِ لَيْسَ بِمُؤْتَمَنٍ، ولِهَذا وارِثُ المُودَعِ لا يَكُونُ القَوْلُ قَوْلَهُ ولَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِن تَجْدِيدِ عَهْدٍ وائْتِمانٍ، فالمُؤْمِنُ اتَّخَذَ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَصارَ أمِينًا مِنَ اللَّهِ فَصارَ القَوْلُ قَوْلَهُ فَكانَ لَهُ ما كانَ لِآدَمَ مِنَ الفَوْزِ. ولِهَذا قالَ تَعالى: ﴿ويَتُوبَ اللَّهُ عَلى المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ﴾ [الأحزاب: ٧٣] أيْ كَما تابَ عَلى آدَمَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَتابَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: ٣٧] والكافِرُ صارَ آخِذًا (p-٢٠٤)لِلْأمانَةِ مِنَ المُؤْتَمَنِ فَبَقِيَ في ضَمانِهِ، ثُمَّ إنَّ المُؤْمِنَ إذا أصابَ الأمانَةَ في يَدِهِ شَيْءٌ بِقَضاءِ اللَّهِ وقَدَرِهِ كانَ ذَلِكَ مِن غَيْرِ تَقْصِيرٍ مِنهُ، والأمِينُ لا يَضْمَنُ ما فاتَ بِغَيْرِ تَقْصِيرٍ، والكافِرُ إذا أصابَ الأمانَةَ في يَدِهِ شَيْءٌ ضَمِنَ وإنْ كانَ بِقَضاءِ اللَّهِ وقَدَرِهِ، لِأنَّهُ يَضْمَنُ ما فاتَ وإنْ لَمْ يَكُنْ بِتَقْصِيرٍ. اللَّطِيفَةُ الثّانِيَةُ: خَصَّ الأشْياءَ الثَّلاثَةَ بِالذِّكْرِ لِأنَّها أشَدُّ الأُمُورِ وأحْمَلُها لِلْأثْقالِ، وأمّا السَّماواتُ فَلِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وبَنَيْنا فَوْقَكم سَبْعًا شِدادًا﴾ [النبأ: ١٢] والأرْضُ والجِبالُ لا تَخْفى شِدَّتُها وصَلابَتُها، ثُمَّ إنَّ هَذِهِ الأشْياءَ لَمّا كانَتْ لَها شِدَّةٌ وصَلابَةٌ عَرَضَ اللَّهُ تَعالى الأمانَةَ عَلَيْها واكْتُفِيَ بِشِدَّتِهِنَّ وقُوَّتِهِنَّ فامْتَنَعْنَ؛ لِأنَّهُنَّ وإنْ كُنَّ أقْوِياءَ إلّا أنَّ أمانَةَ اللَّهِ تَعالى فَوْقَ قُوَّتِهِنَّ، وحَمَلَها الإنْسانُ مَعَ ضَعْفِهِ الَّذِي قالَ اللَّهُ تَعالى فِيهِ: ﴿وخُلِقَ الإنْسانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء: ٢٨] ولَكِنْ وعَدَهُ بِالإعانَةِ عَلى حِفْظِ الأمانَةِ بِقَوْلِهِ: ﴿ومَن يَتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ فَهو حَسْبُهُ﴾ [الطلاق: ٣] فَإنْ قِيلَ فالَّذِي يُعِينُهُ اللَّهُ تَعالى كَيْفَ يُعَذَّبُ فَلِمَ يُعَذِّبُ الكافِرَ ؟ نَقُولُ: قالَ اللَّهُ تَعالى: ”«أنا أُعِينُ مَن يَسْتَعِينُ بِي ويَتَوَكَّلُ عَلَيَّ» “ والكافِرُ لَمْ يَرْجِعْ إلى اللَّهِ تَعالى فَتَرَكَهُ مَعَ نَفْسِهِ فَيَبْقى في عُهْدَةِ الأمانَةِ. اللَّطِيفَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَأبَيْنَ أنْ يَحْمِلْنَها﴾ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وحَمَلَها الإنْسانُ﴾ إشارَةٌ إلى أنَّ فِيهِ مَشَقَّةً بِخِلافِ ما لَوْ قالَ: فَأبَيْنَ أنْ يَقْبَلْنَها وقَبِلَها الإنْسانُ، ومَن قالَ لِغَيْرِهِ: افْعَلْ هَذا الفِعْلَ فَإنْ لَمْ يَكُنْ في الفِعْلِ تَعَبٌ يُقابَلُ بِأُجْرَةٍ فَإذا فَعَلَهُ لا يَسْتَحِقُّ أُجْرَةً فَقالَ تَعالى: ﴿وحَمَلَها﴾ إشارَةٌ إلى أنَّهُ مِمّا يَسْتَحِقُّ الأجْرَ عَلَيْهِ أيْ عَلى مُجَرَّدِ حَمْلِ الأمانَةِ، وإمّا عَلى رِعايَتِها حَقَّ الرِّعايَةِ فَيَسْتَحِقُّ الزِّيادَةَ، فَإنْ قِيلَ: فالكُلُّ حَمَلُوها، غايَةُ ما في البابِ أنَّ الكافِرَ لَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ زائِدٍ عَلى الحَمْلِ فَيَنْبَغِي أنْ يَسْتَحِقَّ الأجْرَ عَلى الحَمْلِ فَنَقُولُ: الفِعْلُ إذا كانَ عَلى وفْقِ الإذْنِ مِنَ المالِكِ الآمِرِ يَسْتَحِقُّ الفاعِلُ الأُجْرَةَ، ألا تَرى أنَّهُ لَوْ قالَ: احْمِلْ هَذا إلى الضَّيْعَةِ الَّتِي عَلى الشِّمالِ فَحَمَلَ ونَقَلَها إلى الضَّيْعَةِ الَّتِي عَلى الجَنُوبِ لا يَسْتَحِقُّ الأُجْرَةَ ويَلْزَمُهُ رَدُّها إلى المَوْضِعِ الَّذِي كانَ فِيهِ كَذَلِكَ الكافِرُ حَمَلَها عَلى غَيْرِ وجْهِ الإذْنِ فَغَرِمَ وزالَتْ حَسَناتُهُ الَّتِي عَمِلَها بِسَبَبِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب