الباحث القرآني

قَوْلُهُ: ﴿وإذْ أخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهم﴾ العامِلُ في الظَّرْفِ مَحْذُوفٌ أيْ: واذْكُرْ، كَأنَّهُ قالَ: يا أيُّها النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ واذْكُرْ أنَّ اللَّهَ أخَذَ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ. قالَ قَتادَةُ: أخَذَ اللَّهُ المِيثاقَ عَلى النَّبِيِّينَ خُصُوصًا أنْ يُصَدِّقَ بَعْضُهم بَعْضًا ويَتَّبِعَ بَعْضُهم بَعْضًا. وقالَ مُقاتِلٌ: أخَذَ مِيثاقَهم عَلى أنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ، ويَدْعُوا إلى عِبادَةِ اللَّهِ، وأنْ يُصَدِّقَ بَعْضُهم بَعْضًا، وأنْ يَنْصَحُوا لِقَوْمِهِمْ. والمِيثاقُ هو اليَمِينُ، وقِيلَ: هو الإقْرارُ بِاللَّهِ، والأوَّلُ أوْلى، وقَدْ سَبَقَ تَحْقِيقُهُ. ثُمَّ خَصَّصَ - سُبْحانَهُ - بَعْضَ النَّبِيِّينَ بِالذِّكْرِ بَعْدَ التَّعْمِيمِ الشّامِلِ لَهم ولِغَيْرِهِمْ، فَقالَ: ﴿ومِنكَ ومِن نُوحٍ وإبْراهِيمَ ومُوسى وعِيسى ابْنِ مَرْيَمَ﴾ ووَجْهُ تَخْصِيصِهِمْ بِالذِّكْرِ الإعْلامُ بِأنَّ لَهم مَزِيدَ شَرَفٍ وفَضْلٍ لِكَوْنِهِمْ مِن أصْحابِ الشَّرائِعِ المَشْهُورَةِ ومِن أُولِي العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ، وتَقْدِيمُ ذِكْرِ نَبِيِّنا - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - مَعَ تَأخُّرِ زَمانِهِ فِيهِ مِنَ التَّشْرِيفِ لَهُ والتَّعْظِيمِ ما لا يَخْفى. قالَ الزَّجّاجُ: وأخَذَ المِيثاقَ حَيْثُ أُخْرِجُوا مِن صُلْبِ آدَمَ كالذَّرِّ. ثُمَّ أكَّدَ ما أخَذَهُ عَلى النَّبِيِّينَ مِنَ المِيثاقِ بِتَكْرِيرِ ذِكْرِهِ ووَصْفِهِ بِالغِلَظِ، فَقالَ: ﴿وأخَذْنا مِنهم مِيثاقًا غَلِيظًا﴾ أيْ: عَهْدًا شَدِيدًا عَلى الوَفاءِ بِما حَمَلُوا وما أخَذَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ قَدْ أخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ المِيثاقَ مَرَّتَيْنِ، فَأخَذَ عَلَيْهِمْ في المَرَّةِ الأُولى مُجَرَّدَ المِيثاقِ بِدُونِ تَغْلِيظٍ ولا تَشْدِيدٍ، ثُمَّ أخَذَهُ عَلَيْهِمْ ثانِيًا مُغَلَّظًا مُشَدَّدًا، ومِثْلُ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ: ﴿وإذْ أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكم مِن كِتابٍ وحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكم رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكم لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ ولَتَنْصُرُنَّهُ﴾ [آل عمران: ٨١] . واللّامُ في قَوْلِهِ: ﴿لِيَسْألَ الصّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ﴾ يَجُوزُ أنْ تَكُونَ لامَ كَيْ أيْ: لِكَيْ يَسْألَ الصّادِقِينَ مِنَ النَّبِيِّينَ عَنْ صِدْقِهِمْ في تَبْلِيغِ الرِّسالَةِ إلى قَوْمِهِمْ، وفي هَذا وعِيدٌ لِغَيْرِهِمْ، لِأنَّهم إذا كانُوا يَسْألُونَ عَنْ ذَلِكَ فَكَيْفَ غَيْرُهم. وقِيلَ: لِيَسْألَ الأنْبِياءَ عَمّا أجابَهم بِهِ قَوْمُهم كَما في قَوْلِهِ: ﴿فَلَنَسْألَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إلَيْهِمْ ولَنَسْألَنَّ المُرْسَلِينَ﴾ [الأعراف: ٦] ويَجُوزُ أنْ تَتَعَلَّقَ بِمَحْذُوفٍ أيْ: فَعَلَ ذَلِكَ لِيَسْألَ، ﴿وأعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذابًا ألِيمًا﴾ مَعْطُوفٌ عَلى ما دَلَّ عَلَيْهِ لِيَسْألَ الصّادِقِينَ إذِ التَّقْدِيرُ: أثابَ الصّادِقِينَ وأعَدَّ لِلْكافِرِينَ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى أخَذْنا؛ لِأنَّ المَعْنى: أكَّدَ عَلى الأنْبِياءِ الدَّعْوَةَ إلى دِينِهِ لِيُثِيبَ المُؤْمِنِينَ وأعَدَّ لِلْكافِرِينَ. وقِيلَ: إنَّهُ قَدْ حُذِفَ مِنَ الثّانِي ما أُثْبِتَ مُقابِلُهُ في الأوَّلِ، ومِنَ الأوَّلِ ما أُثْبِتَ مُقابِلُهُ في الثّانِي، والتَّقْدِيرُ: لِيَسْألَ الصّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ فَأثابَهم، ويَسْألَ الكافِرِينَ عَمّا أجابُوا بِهِ رُسُلَهم وأعَدَّ لَهم عَذابًا ألِيمًا. وقِيلَ: إنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلى المُقَدَّرِ عامِلًا في لِيَسْألَ كَما ذَكَرْنا، ويَجُوزَ أنْ يَكُونَ الكَلامُ قَدْ تَمَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿لِيَسْألَ الصّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ﴾ وتَكُونَ جُمْلَةُ ﴿وأعَدَّ لَهُمْ﴾ مُسْتَأْنَفَةً لِبَيانِ ما أعَدَّهُ لِلْكُفّارِ. ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكم﴾ هَذا تَحْقِيقٌ لِما سَبَقَ مِنَ الأمْرِ بِتَقْوى اللَّهِ بِحَيْثُ لا يَبْقى مَعَها خَوْفٌ مِن أحَدٍ وقَوْلُهُ عَلَيْكم مُتَعَلِّقٌ بِالنِّعْمَةِ إنْ كانَتْ مَصْدَرًا أوْ بِمَحْذُوفٍ هو حالٌ أيْ: كائِنَةً عَلَيْكم، ومَعْنى ﴿إذْ جاءَتْكم جُنُودٌ﴾ حِينَ جاءَتْكم جُنُودٌ، وهو ظَرْفٌ لِلنِّعْمَةِ، أوْ لِلْمُقَدَّرِ عامِلًا في عَلَيْكم، أوْ لِمَحْذُوفٍ هو اذْكُرْ، والمُرادُ بِالجُنُودِ: جُنُودُ الأحْزابِ الَّذِينَ تَحَزَّبُوا عَلى رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - وغَزَوْهُ إلى المَدِينَةِ، وهي الغَزْوَةُ المُسَمّاةُ " غَزْوَةَ الخَنْدَقِ " وهم: أبُو سُفْيانَ بْنُ حَرْبٍ (p-١١٥٩)بِقُرَيْشٍ ومَن مَعَهم مِنَ الألْفافِ، وعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الفَزارِيُّ ومَن مَعَهُ مِن قَوْمِهِ غَطَفانَ وبَنُو قُرَيْظَةَ والنَّضِيرِ، فَضايَقُوا المُسْلِمِينَ مُضايَقَةً شَدِيدَةً كَما وصَفَ اللَّهُ - سُبْحانَهُ - في هَذِهِ الآياتِ، وكانَتْ هَذِهِ الغَزْوَةُ في شَوّالٍ سَنَةَ خَمْسٍ مِنَ الهِجْرَةِ. قالَهُ ابْنُ إسْحاقَ، وقالَ ابْنُ وهْبٍ، وابْنُ القاسِمِ عَنْ مالِكٍ: كانَتْ في سَنَةِ أرْبَعٍ. وقَدْ بَسَطَ أهْلُ السِّيَرِ في هَذِهِ الوَقْعَةِ ما هو مَعْرُوفٌ فَلا نُطِيلُ بِذِكْرِها ﴿فَأرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحًا﴾ مَعْطُوفٌ عَلى جاءَتْكم. قالَ مُجاهِدٌ: هي الصَّبا، أُرْسِلَتْ عَلى الأحْزابِ يَوْمَ الخَنْدَقِ حَتّى ألْقَتْ قُدُورَهم ونَزَعَتْ فَساطِيطَهم، ويَدُلُّ عَلى هَذا ما ثَبَتَ عَنْهُ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - مِن قَوْلِهِ «نُصِرْتُ بِالصَّبا، وأُهْلِكَتْ عادٌ بِالدَّبُّورِ»، والمُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿وجُنُودًا لَمْ تَرَوْها﴾ المَلائِكَةُ. قالَ المُفَسِّرُونَ: بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ المَلائِكَةَ فَقَلَعَتِ الأوْتادَ، وقَطَعَتْ أطْنابَ الفَساطِيطِ، وأطْفَأتِ النِّيرانَ، وأكْفَأتِ القُدُورَ، وجالَتِ الخَيْلُ بَعْضُها في بَعْضٍ، وأرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الرُّعْبَ، وكَثُرَ تَكْبِيرُ المَلائِكَةِ في جَوانِبِ العَسْكَرِ حَتّى كانَ سَيِّدُ كُلِّ قَوْمٍ يَقُولُ لِقَوْمِهِ: يا بَنِي فُلانٍ هَلُمَّ إلَيَّ، فَإذا اجْتَمَعُوا قالَ لَهم: النَّجاءَ النَّجاءَ ! . ﴿وكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرًا﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ تَعْمَلُونَ بِالفَوْقِيَّةِ أيْ: بِما تَعْمَلُونَ أيْ: أيُّها المُسْلِمُونَ مِن تَرْتِيبِ الحَرْبِ، وحَفْرِ الخَنْدَقِ، واسْتِنْصارِكم بِهِ، وتَوَكُّلِكم عَلَيْهِ، وقَرَأ أبُو عَمْرٍو بِالتَّحْتِيَّةِ أيْ: بِما يَعْمَلُهُ الكُفّارُ مِنَ العِنادِ لِلَّهِ ولِرَسُولِهِ، والتَّحَزُّبِ عَلى المُسْلِمِينَ واجْتِماعِهِمْ عَلَيْهِمْ مِن كُلِّ جِهَةٍ. ﴿إذْ جاءُوكم مِن فَوْقِكُمْ﴾ إذْ هَذِهِ وما بَعْدَها بَدَلٌ مِن إذِ الأُولى، والعامِلُ في هَذِهِ هو العامِلُ في تِلْكَ، وقِيلَ: مَنصُوبَةٌ بِمَحْذُوفٍ هو اذْكُرْ، ومَعْنى مِن فَوْقِكم مِن أعْلى الوادِي، وهو مِن جِهَةِ المَشْرِقِ، والَّذِينَ جاءُوا مِن هَذِهِ الجِهَةِ هم غَطَفانُ وسَيِّدُهم عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، وهَوازِنُ وسَيِّدُهم عَوْفُ بْنُ مالِكٍ، وأهْلُ نَجْدٍ وسَيِّدُهم طُلَيْحَةُ بْنُ خُوَيْلِدٍ الأسَدِيُّ، وانْضَمَّ إلَيْهِمْ عَوْفُ بْنُ مالِكٍ وبَنُو النَّضِيرِ، ومَعْنى ﴿ومِن أسْفَلَ مِنكُمْ﴾ مِن أسْفَلِ الوادِي مِن جِهَةِ المَغْرِبِ مِن ناحِيَةِ مَكَّةَ، وهم قُرَيْشٌ ومَن مَعَهم مِنَ الأحابِيشِ، وسَيِّدُهم أبُو سُفْيانَ بْنُ حَرْبٍ، وجاءَ أبُو الأعْوَرِ السُّلَمِيُّ ومَعَهُ حُيَيُّ بْنُ أخْطَبَ اليَهُودِيُّ في يَهُودِ بَنِي قُرَيْظَةَ مِن وجْهِ الخَنْدَقِ، ومَعَهم عامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ، وجُمْلَةُ ﴿وإذْ زاغَتِ الأبْصارُ﴾ مَعْطُوفَةٌ عَلى ما قَبْلَها أيْ: مالَتْ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ فَلَمْ تَنْظُرْ إلّا إلى عَدُوِّها مُقْبِلًا مِن كُلِّ جانِبٍ، وقِيلَ: شَخَصَتْ دَهَشًا مِن فَرْطِ الهَوْلِ والحَيْرَةِ ﴿وبَلَغَتِ القُلُوبُ الحَناجِرَ﴾ جَمْعُ حَنْجَرَةٍ، وهي جَوْفُ الحُلْقُومِ أيِ: ارْتَفَعَتِ القُلُوبُ عَنْ مَكانِها، ووَصَلَتْ مِنَ الفَزَعِ والخَوْفِ إلى الحَناجِرِ، فَلَوْلا أنَّهُ ضاقَ الحُلْقُومُ عَنْها وهو الَّذِي نِهايَتُهُ الحَنْجَرَةُ لَخَرَجَتْ، كَذا قالَ قَتادَةُ. وقِيلَ: هو عَلى طَرِيقِ المُبالَغَةِ المَعْهُودَةِ في كَلامِ العَرَبِ وإنْ لَمْ تَرْتَفِعِ القُلُوبُ إلى ذَلِكَ المَكانِ ولا خَرَجَتْ عَنْ مَوْضِعِها، ولَكِنَّهُ مَثَلٌ في اضْطِرابِها وجُبْنِها. قالَ الفَرّاءُ: والمَعْنى أنَّهم جَبُنُوا وجَزِعَ أكْثَرُهم، وسَبِيلُ الجَبانِ إذا اشْتَدَّ خَوْفُهُ أنْ تَنْتَفِخَ رِئَتُهُ، فَإذا انْتَفَخَتِ الرِّئَةُ ارْتَفَعَ القَلْبُ إلى الحَنْجَرَةِ، ولِهَذا يُقالُ: لِلْجَبانِ: انْتَفَخَ سَحَرُهُ ﴿وتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ﴾ أيِ: الظُّنُونَ المُخْتَلِفَةَ، فَبَعْضُهم ظَنَّ النَّصْرَ ورَجا الظَّفَرَ، وبَعْضُهم ظَنَّ خِلافَ ذَلِكَ. وقالَ الحَسَنُ: ظَنَّ المُنافِقُونَ أنَّهُ يُسْتَأْصَلُ مُحَمَّدٌ وأصْحابُهُ، وظَنَّ المُؤْمِنُونَ أنَّهُ يُنْصَرُ. وقِيلَ: الآيَةُ خِطابٌ لِلْمُنافِقِينَ، والأوْلى ما قالَهُ الحَسَنُ فَيَكُونُ الخِطابُ لِمَن أظْهَرَ الإسْلامَ عَلى الإطْلاقِ أعَمَّ مِن أنْ يَكُونَ مُؤْمِنًا في الواقِعِ أوْ مُنافِقًا. واخْتَلَفَ القُرّاءُ في هَذِهِ الألِفِ في الظَّنُونا: فَأثْبَتَها وصْلًا ووَقْفًا نافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ، وأبُو بَكْرٍ، ورُوِيَتْ هَذِهِ القِراءَةُ عَنْ أبِي عَمْرٍو والكِسائِيِّ، وتَمَسَّكُوا بِخَطِّ المُصْحَفِ العُثْمانِيِّ وجَمِيعِ المَصاحِفِ في جَمِيعِ البُلْدانِ فَإنَّ الألِفَ فِيها كُلِّها ثابِتَةٌ، واخْتارَ هَذِهِ القِراءَةَ أبُو عُبَيْدٍ إلّا أنَّهُ قالَ: لا يَنْبَغِي لِلْقارِئِ أنْ يُدْرِجَ القِراءَةَ بَعْدَهُنَّ بَلْ يَقِفُ عَلَيْهِنَّ، وتَمَسَّكُوا أيْضًا بِما في أشْعارِ العَرَبِ مِن مِثْلِ هَذا. وقَرَأ أبُو عَمْرٍو، وحَمْزَةُ والجَحْدَرِيُّ، ويَعْقُوبُ بِحَذْفِها في الوَصْلِ والوَقْفِ مَعًا، وقالُوا: هي مِن زِياداتِ الخَطِّ فَكُتِبَتْ كَذَلِكَ، ولا يَنْبَغِي النُّطْقُ بِها. وأمّا في الشِّعْرِ فَهو يَجُوزُ فِيهِ لِلضَّرُورَةِ ما لا يَجُوزُ في غَيْرِهِ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، والنَّسائِيُّ وابْنُ مُحَيْصِنٍ بِإثْباتِها وقْفًا وحَذْفِها وصْلًا، وهَذِهِ القِراءَةُ راجِحَةٌ بِاعْتِبارِ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ، وهَذِهِ الألِفُ هي الَّتِي تُسَمِّيها النُّحاةُ ألِفَ الإطْلاقِ، والكَلامُ فِيها مَعْرُوفٌ في عِلْمِ النَّحْوِ، وهَكَذا اخْتَلَفَ القُرّاءُ في الألِفِ الَّتِي في قَوْلِهِ الرَّسُولا و السَّبِيلا كَما سَيَأْتِي آخِرَ هَذِهِ السُّورَةِ. ﴿هُنالِكَ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ﴾ الظَّرْفُ مُنْتَصِبٌ بِالفِعْلِ الَّذِي بَعْدَهُ، وقِيلَ: بِـ ( تَظُنُّونَ )، واسْتَضْعَفَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وهو ظَرْفُ مَكانٍ، يُقالُ لِلْمَكانِ البَعِيدِ: هُنالِكَ كَما يُقالُ لِلْمَكانِ القَرِيبِ: هُنا، ولِلْمُتَوَسِّطِ هُناكَ. وقَدْ يَكُونُ ظَرْفَ زَمانٍ أيْ: عِنْدَ ذَلِكَ الوَقْتِ ابْتُلِيَ المُؤْمِنُونَ ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎وإذا الأُمُورُ تَعاظَمَتْ وتَشاكَلَتْ فَهُناكَ يَعْتَرِفُونَ أيْنَ المَفْزَعُ أيْ: في ذَلِكَ الوَقْتِ، والمَعْنى: أنَّ في ذَلِكَ المَكانِ أوِ الزَّمانِ اخْتُبِرَ المُؤْمِنُونَ بِالخَوْفِ والقِتالِ والجُوعِ والحَصْرِ والنِّزالِ لِيُتَبَيَّنَ المُؤْمِنُ مِنَ المُنافِقِ ﴿وزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيدًا﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ زُلْزِلُوا بِضَمِّ الزّايِ: الأُولى وكَسْرِ الثّانِيَةِ عَلى ما هو الأصْلُ في المَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ، ورُوِيَ عَنْ أبِي عَمْرٍو أنَّهُ قَرَأ بِكَسْرِ الأُولى، ورَوى الزَّمَخْشَرِيُّ عَنْهُ أنَّهُ قَرَأ بِإشْمامِها كَسْرًا، وقَرَأ الجُمْهُورُ ﴿زِلْزالًا﴾ بِكَسْرِ الزّايِ: الأُولى، وقَرَأ عاصِمٌ، والجَحْدَرِيُّ، وعِيسى بْنُ عُمَرَ بِفَتْحِها. قالَ الزَّجّاجُ: كُلُّ مَصْدَرٍ مِنَ المُضاعَفِ عَلى فَعِلالٍ يَجُوزُ فِيهِ الكَسْرُ والفَتْحُ: نَحْوَ قَلْقَلْتُهُ قِلْقالًا، وزُلْزِلُوا زِلْزالًا، والكَسْرُ أجْوَدُ. قالَ ابْنُ سَلامٍ: مَعْنى زُلْزِلُوا: حُرِّكُوا بِالخَوْفِ تَحْرِيكًا شَدِيدًا. وقالَ الضَّحّاكُ: هو إزاحَتُهم عَنْ أماكِنِهِمْ حَتّى لَمْ يَكُنْ لَهم إلّا مَوْضِعُ الخَنْدَقِ، وقِيلَ: المَعْنى أنَّهُمُ اضْطَرَبُوا اضْطِرابًا مُخْتَلِفًا، فَمِنهم مَنِ اضْطَرَبَ في نَفْسِهِ، ومِنهم مَنِ اضْطَرَبَ في دِينِهِ. ﴿وإذْ يَقُولُ المُنافِقُونَ والَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى ﴿وإذْ زاغَتِ الأبْصارُ﴾، والمَرَضُ (p-١١٦٠)فِي القُلُوبِ هو الشَّكُّ والرِّيبَةُ، والمُرادُ بِـ المُنافِقُونَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وأصْحابُهُ، وبِالَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ: أهْلُ الشَّكِّ والِاضْطِرابِ ما ﴿وعَدَنا اللَّهُ ورَسُولُهُ﴾ مِنَ النَّصْرِ والظَّفَرِ ﴿إلّا غُرُورًا﴾ أيْ: باطِلًا مِنَ القَوْلِ، وكانَ القائِلُونَ بِهَذِهِ المَقالَةِ نَحْوَ سَبْعِينَ رَجُلًا مِن أهْلِ النِّفاقِ والشَّكِّ، وهَذا القَوْلُ المَحْكِيُّ عَنْ هَؤُلاءِ هو كالتَّفْسِيرِ لِلظُّنُونِ المَذْكُورَةِ أيْ: كانَ ظَنُّ هَؤُلاءِ هَذا الظَّنَّ، كَما كانَ ظَنُّ المُؤْمِنِينَ بِالنَّصْرِ وإعْلاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ. ﴿وإذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنهُمْ﴾ أيْ: مِنَ المُنافِقِينَ. قالَ مُقاتِلٌ: هم بَنُو سالِمٍ مِنَ المُنافِقِينَ. وقالَ السُّدِّيُّ: هم عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وأصْحابُهُ، وقِيلَ: هم أوْسُ بْنُ قِبْطِيٍّ وأصْحابُهُ، والطّائِفَةُ تَقَعُ عَلى الواحِدِ فَما فَوْقَهُ، والقَوْلُ الَّذِي قالَتْهُ هَذِهِ الطّائِفَةُ هو قَوْلُهُ: ﴿ياأهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ﴾ أيْ: لا مَوْضِعَ إقامَةٍ لَكم، أوْ لا إقامَةَ لَكم هاهُنا في العَسْكَرِ. قالَ أبُو عُبَيْدٍ: يَثْرِبُ اسْمُ الأرْضِ، ومَدِينَةُ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - في ناحِيَةٍ مِنها. قالَ السُّهَيْلِيُّ: وسُمِّيَتْ يَثْرِبَ، لِأنَّ الَّذِي نَزَلَها مِنَ العَمالِقَةِ اسْمُهُ يَثْرِبُ بْنُ عُمَيْلٍ، قَرَأ الجُمْهُورُ " لا مَقامَ لَكم " بِفَتْحِ المِيمِ، وقَرَأ حَفْصٌ، والسُّلَمِيُّ، والجَحْدَرِيُّ، وأبُو حَيْوَةَ بِضَمِّها، عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ مِن أقامَ يُقِيمُ، وعَلى القِراءَةِ الأُولى هو اسْمُ مَكانٍ فارْجِعُوا أيْ: إلى مَنازِلِكم، أمَرُوهم بِالهَرَبِ مِن عَسْكَرِ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -، وذَلِكَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - والمُسْلِمِينَ خَرَجُوا عامَ الخَنْدَقِ حَتّى جَعَلُوا ظُهُورَهم إلى سَلْعٍ والخَنْدَقُ بَيْنَهم وبَيْنَ القَوْمِ، فَقالَ هَؤُلاءِ المُنافِقُونَ: لَيْسَ هاهُنا مَوْضِعُ إقامَةِ، وأمَرُوا النّاسَ بِالرُّجُوعِ إلى مَنازِلِهِمْ بِالمَدِينَةِ ﴿ويَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنهُمُ النَّبِيَّ﴾ مَعْطُوفٌ عَلى قالَتْ طائِفَةٌ مِنهم أيْ: يَسْتَأْذِنُونَ في الرُّجُوعِ إلى مَنازِلِهِمْ وهم بَنُو حارِثَةَ وبَنُو سَلِمَةَ، وجُمْلَةُ يَقُولُونَ بَدَلٌ مِن قَوْلِهِ " يَسْتَأْذِنُ " أوْ حالٌ أوِ اسْتِئْنافٌ جَوابًا لِسُؤالٍ مُقَدَّرٍ، والقَوْلُ الَّذِي قالُوهُ وهو قَوْلُهم: ﴿إنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ﴾ أيْ: ضائِعَةٌ سائِبَةٌ لَيْسَتْ بِحَصِينَةٍ ولا مُمْتَنِعَةٍ مِنَ العَدُوِّ. قالَ الزَّجّاجُ: يُقالُ: عَوِرَ المَكانُ يَعْوَرُ عَوَرًا وعَوْرَةً، وبُيُوتٌ عَوِرَةٌ وعَوْرَةٌ، وهي مَصْدَرٌ. قالَ مُجاهِدٌ، ومُقاتِلٌ، والحَسَنُ: قالُوا: بُيُوتُنا ضائِعَةٌ نَخْشى عَلَيْها السُّرّاقَ. وقالَ قَتادَةُ: قالُوا: بُيُوتُنا مِمّا يَلِي العَدُوَّ ولا نَأْمَنُ عَلى أهْلِنا. قالَ الهَرَوِيُّ: كُلُّ مَكانٍ لَيْسَ بِمَمْنُوعٍ ولا مَسْتُورٍ فَهو عَوْرَةٌ، والعَوْرَةُ في الأصْلِ: الخَلَلُ فَأُطْلِقَتْ عَلى المُخْتَلِّ، والمُرادُ: ذاتُ عَوْرَةٍ، وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ، وعِكْرِمَةُ، ومُجاهِدٌ، وأبُو رَجاءٍ العُطارِدِيُّ " عَوِرَةٌ " بِكَسْرِ الواوِ أيْ: قَصِيرَةُ الجُدْرانِ. قالَ الجَوْهَرِيُّ: العَوْرَةُ كُلُّ حالٍ يُتَخَوَّفُ مِنهُ في ثَغْرٍ أوْ حَرْبٍ. قالَ النَّحّاسُ يُقالُ: أعْوَرَ المَكانُ: إذا تَبَيَّنَتْ فِيهِ عَوْرَةٌ، وأعْوَرَ الفارِسُ: إذا تَبَيَّنَ مِنهُ مَوْضِعُ الخَلَلِ، ثُمَّ رَدَّ - سُبْحانَهُ - عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿وما هي بِعَوْرَةٍ﴾ فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ - سُبْحانَهُ - فِيما ذَكَرُوهُ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ، ثُمَّ بَيَّنَ سَبَبَ اسْتِئْذانِهِمْ وما يُرِيدُونَهُ بِهِ، فَقالَ: ﴿إنْ يُرِيدُونَ إلّا فِرارًا﴾ أيْ: ما يُرِيدُونَ إلّا الهَرَبَ مِنَ القِتالِ، وقِيلَ: المُرادُ: ما يُرِيدُونَ إلّا الفِرارَ مِنَ الدِّينِ. ﴿ولَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِن أقْطارِها﴾ يَعْنِي بُيُوتَهم أوِ المَدِينَةَ، والأقْطارُ: النَّواحِي جَمْعُ قُطْرٍ، وهو الجانِبُ والنّاحِيَةُ، والمَعْنى: لَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ بُيُوتُهم أوِ المَدِينَةُ مِن جَوانِبِها جَمِيعًا لا مِن بَعْضِها، نَزَلَتْ بِهِمْ هَذِهِ النّازِلَةُ الشَّدِيدَةُ، واسْتُبِيحَتْ دِيارُهم، وهُتِكَتْ حُرَمُهم ومَنازِلُهم ﴿ثُمَّ سُئِلُوا الفِتْنَةَ﴾ مِن جِهَةٍ أُخْرى عِنْدَ نُزُولِ هَذِهِ النّازِلَةِ الشَّدِيدَةِ بِهِمْ لَأتَوْها أيْ: لَجاءُوها أوْ أعْطَوْها، ومَعْنى الفِتْنَةِ هُنا: إمّا القِتالُ في العَصَبِيَّةِ كَما قالَ الضَّحّاكُ، أوِ الشِّرْكُ بِاللَّهِ والرَّجْعَةُ إلى الكُفْرِ الَّذِي يُبْطِنُونَهُ ويُظْهِرُونَ خِلافَهُ كَما قالَ الحَسَنُ، قَرَأ الجُمْهُورُ " لَآتَوْها " بِالمَدِّ أيْ: لَأعْطَوْها مِن أنْفُسِهِمْ، وقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ كَثِيرٍ بِالقَصْرِ أيْ: لَجاءُوها ﴿وما تَلَبَّثُوا بِها إلّا يَسِيرًا﴾ أيْ: بِالمَدِينَةِ بَعْدَ أنْ أتَوُا الفِتْنَةَ إلّا تَلْبُثًّا يَسِيرًا حَتّى يَهْلِكُوا، كَذا قالَ الحَسَنُ والسُّدِّيُّ والفَرّاءُ والقُتَيْبِيُّ. وقالَ أكْثَرُ المُفَسِّرِينَ: إنَّ المَعْنى: وما احْتَسَبُوا عَنْ فِتْنَةِ الشِّرْكِ إلّا قَلِيلًا، بَلْ هم مُسْرِعُونَ إلَيْها راغِبُونَ فِيها لا يَقِفُونَ عَنْها إلّا مُجَرَّدَ وُقُوعِ السُّؤالِ لَهم، ولا يَتَعَلَّلُونَ عَنِ الإجابَةِ بِأنَّ بُيُوتَهم في هَذِهِ الحالَةِ عَوْرَةٌ مَعَ أنَّها قَدْ صارَتْ عَوْرَةً عَلى الحَقِيقَةِ كَما تَعَلَّلُوا عَنْ إجابَةِ الرَّسُولِ والقِتالِ مَعَهُ بِأنَّها عَوْرَةٌ ولَمْ تَكُنْ إذْ ذاكَ عَوْرَةً. ثُمَّ حَكى - سُبْحانَهُ - عَنْهم ما قَدْ كانَ وقْعَ مِنهم مِن قَبْلُ مِنَ المُعاهَدَةِ لِلَّهِ ولِرَسُولِهِ بِالثَّباتِ في الحَرْبِ وعَدَمِ الفِرارِ عَنْهُ، فَقالَ: ﴿ولَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأدْبارَ﴾ أيْ: مِن قَبْلِ غَزْوَةِ الخَنْدَقِ ومِن بَعْدِ بَدْرٍ قالَ قَتادَةُ: وذَلِكَ أنَّهم غابُوا عَنْ بَدْرٍ ورَأوْا ما أعْطى اللَّهُ أهْلَ بَدْرٍ مِنَ الكَرامَةِ والنَّصْرِ، فَقالُوا: لَئِنْ أشْهَدَنا اللَّهُ قِتالًا لِنُقاتِلَنَّ، وهم بَنُو حارِثَةَ وبَنُو سَلِمَةَ ﴿وكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا﴾ أيْ: مَسْئُولًا عَنْهُ، ومَطْلُوبًا صاحِبُهُ بِالوَفاءِ بِهِ، ومُجازًى عَلى تَرْكِ الوَفاءِ بِهِ. ﴿قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الفِرارُ إنْ فَرَرْتُمْ مِنَ المَوْتِ أوِ القَتْلِ﴾ فَإنَّ مَن حَضَرَ أجَلُهُ ماتَ أوْ قُتِلَ فَرَّ أوْ لَمْ يَفِرَّ ﴿وإذًا لا تُمَتَّعُونَ إلّا قَلِيلًا﴾ أيْ: تَمَتُّعًا قَلِيلًا أوْ زَمانًا قَلِيلًا بَعْدَ فِرارِهِمْ إلى أنْ تَنْقَضِيَ آجالُهم، وكُلُّ ما هو آتٍ فَهو قَرِيبٌ قَرَأ الجُمْهُورُ تُمَتَّعُونَ بِالفَوْقِيَّةِ، وقَرَأ يَعْقُوبُ الحَضْرَمِيُّ في رِوايَةِ السّاجِيِّ عَنْهُ بِالتَّحْتِيَّةِ. وفِي بَعْضِ الرِّواياتِ " لا تُمَتَّعُوا " بِحَذْفِ النُّونِ إعْمالًا لِإذَنْ، وعَلى قِراءَةِ الجُمْهُورِ هي مُلْغاةٌ. ﴿قُلْ مَن ذا الَّذِي يَعْصِمُكم مِنَ اللَّهِ إنْ أرادَ بِكم سُوءًا﴾ أيْ: هَلاكًا أوْ نَقْصًا في الأمْوالِ وجَدْبًا ومَرَضًا ﴿أوْ أرادَ بِكم رَحْمَةً﴾ يَرْحَمُكم بِها مِن خِصْبٍ ونَصْرٍ وعافِيَةٍ ﴿ولا يَجِدُونَ لَهم مِن دُونِ اللَّهِ ولِيًّا﴾ يُوالِيهِمْ ويَدْفَعُ عَنْهم ولا نَصِيرًا يَنْصُرُهم مِن عَذابِ اللَّهِ. وقَدْ أخْرَجَ الطَّبَرانِيُّ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وأبُو نُعَيْمٍ في الدَّلائِلِ عَنْ أبِي مَرْيَمَ الغَسّانِيِّ «أنَّ أعْرابِيًّا قالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، أيُّ شَيْءٍ كانَ أوَّلَ نُبُوَّتِكَ ؟ قالَ: أخَذَ اللَّهُ مِنِّي المِيثاقَ كَما أخَذَ مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهم، ثُمَّ تَلا» ﴿وإذْ أخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهم ومِنكَ ومِن نُوحٍ وإبْراهِيمَ ومُوسى وعِيسى ابْنِ مَرْيَمَ وأخَذْنا مِنهم مِيثاقًا غَلِيظًا﴾ ودَعْوَةُ إبْراهِيمَ قالَ: (p-١١٦١)﴿وابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنهُمْ﴾ [البقرة: ١٢٩]، وبُشْرى عِيسى ابْنِ مَرْيَمَ، ورَأتْ أُمُّ رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - في مَنامِها أنَّهُ خَرَجَ مِن بَيْنِ رِجْلَيْها سِراجٌ أضاءَتْ لَهُ قُصُورَ الشّامِ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ " «قِيلَ: يا رَسُولَ اللَّهِ مَتى أُخِذَ مِيثاقُكَ ؟ " قالَ: وآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ والجَسَدِ» . وأخْرَجَ البَزّارُ، والطَّبَرانِيُّ في الأوْسَطِ وأبُو نُعَيْمٍ في الدَّلائِلِ عَنْهُ قالَ " قِيلَ: «يا رَسُولَ اللَّهِ مَتّى كَنْتَ نَبِيًّا ؟ " قالَ: وآدَمُ بَيْنَ الرُّوحِ والجَسَدِ» . وفِي البابِ أحادِيثُ قَدْ صُحِّحَ بَعْضُها. وأخْرَجَ الحَسَنُ بْنُ سُفْيانَ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وأبُو نُعَيْمٍ في الدَّلائِلِ والدَّيْلَمِيُّ وابْنُ عَساكِرَ مِن طَرِيقِ قَتادَةَ عَنِ الحَسَنِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ عَنِ «النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - في قَوْلِهِ: ﴿وإذْ أخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ﴾ الآيَةَ قالَ: كُنْتُ أوَّلَ النَّبِيِّينَ في الخَلْقِ وآخِرَهم في البَعْثِ، فَبَدَأ بِهِ قَبْلَهم» . وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ مِن طَرِيقِ الضَّحّاكِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: مِيثاقَهم عَهْدَهم. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والطَّبَرانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿وإذْ أخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ﴾ قالَ: إنَّما أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ عَلى قَوْمِهِمْ. وأخْرَجَ الحاكِمُ وصَحَّحَهُ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وأبُو نُعَيْمٍ، والبَيْهَقِيُّ كِلاهُما في الدَّلائِلِ وابْنُ عَساكِرَ مِن طُرُقٍ عَنْ حُذَيْفَةَ قالَ: " لَقَدْ رَأيْتُنا لَيْلَةَ الأحْزابِ ونَحْنُ صافُّونَ قُعُودٌ وأبُو سُفْيانَ ومَن مَعَهُ مِنَ الأحْزابِ فَوْقَنا، وقُرَيْظَةُ اليَهُودُ أسْفَلَ مِنّا، نَخافُهم عَلى ذَرارِيِّنا، وما أتَتْ عَلَيْنا لَيْلَةٌ قَطُّ أشَدُّ ظُلْمَةً ولا أشَدُّ رِيحًا في أصْواتِ رِيحِها أمْثالَ الصَّواعِقِ، وهي ظُلْمَةٌ ما يَرى أحَدٌ مِنّا أُصْبُعَهُ، فَجَعَلَ المُنافِقُونَ يَسْتَأْذِنُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - و﴿يَقُولُونَ إنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وما هي بِعَوْرَةٍ﴾ فَما يَسْتَأْذِنُ أحَدٌ مِنهم إلّا أذِنَ لَهُ، فَيَتَسَلَّلُونَ ونَحْنُ ثَلاثُمِائَةٍ، أوْ نَحْوُ ذَلِكَ إذِ «اسْتَقْبَلَنا رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - رَجُلًا رَجُلًا حَتّى مَرَّ عَلَيَّ وما عَلَيَّ جُنَّةٌ مِنَ العَدُوِّ ولا مِنَ البَرْدِ إلّا مِرْطٌ لِامْرَأتِي ما يُجاوِزُ رُكْبَتَيَّ، فَأتانِي وأنا جاثٍ عَلى رُكْبَتَيَّ، فَقالَ: مَن هَذا ؟ فَقُلْتُ: حُذَيْفَةُ، قالَ حُذَيْفَةُ، فَتَقاصَرْتُ إلى الأرْضِ، فَقُلْتُ: بَلى يا رَسُولَ اللَّهِ كَراهِيَةَ أنْ أقُومَ، قالَ: قُمْ، فَقُمْتُ، فَقالَ: إنَّهُ كانَ في القَوْمِ خَبَرٌ، فَأْتِنِي بِخَبَرِ القَوْمِ، قالَ: وأنا مِن أشَدِّ القَوْمِ فَزَعًا وأشَدِّهِمْ قُرًّا، فَخَرَجْتُ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -: اللَّهُمَّ احْفَظْهُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ ومِن خَلْفِهِ وعَنْ يَمِينِهِ وعَنْ شِمالِهِ ومِن فَوْقِهِ ومِن تَحْتِهِ، قالَ: فَواللَّهِ ما خَلَقَ اللَّهُ فَزَعًا ولا قُرًّا في جَوْفِي إلّا خَرَجَ مِن جَوْفِي، فَما أجِدُ مِنهُ شَيْئًا، فَلَمّا ولَّيْتُ قالَ: يا حُذَيْفَةُ لا تُحَدِثَنَّ في القَوْمِ شَيْئًا حَتّى تَأْتِيَنِي، فَخَرَجْتُ حَتّى إذا دَنَوْتُ مِن عَسْكَرِ القَوْمِ نَظَرْتُ في ضَوْءِ نارٍ لَهم تُوقَدُ، وإذا رَجُلٌ أدْهَمُ ضَخْمٌ يَقُولُ بِيَدِهِ عَلى النّارِ ويَمْسَحُ خاصِرَتَهُ ويَقُولُ: الرَّحِيلَ الرَّحِيلَ، ثُمَّ دَخَلْتُ العَسْكَرَ، فَإذا أدْنى النّاسِ مِنِّي بَنُو عامِرٍ يَقُولُونَ: يا آلَ عامِرٍ الرَّحِيلَ الرَّحِيلَ لا مُقامَ لَكم، وإذا الرِّيحُ في عَسْكَرِهِمْ ما تُجاوِزُ شِبْرًا، فَواللَّهِ إنِّي لَأسْمَعُ صَوْتَ الحِجارَةِ في رِحالِهِمْ وفُرُشِهِمُ الرِّيحُ تَضْرِبُهم، ثُمَّ خَرَجْتُ نَحْوَ النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - فَلَمّا انْتَصَفْتُ في الطَّرِيقِ أوْ نَحْوِ ذَلِكَ إذا أنا بِنَحْوٍ مِن عِشْرِينَ فارِسًا مُعْتَمِّينَ فَقالُوا: أخْبِرْ صاحِبَكَ أنَّ اللَّهَ كَفاهُ القَوْمَ، فَرَجَعْتُ إلى رَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - فَأخْبَرْتُهُ وهو مُشْتَمِلٌ في شَمْلَةٍ يُصَلِّي، وكانَ إذا حَزَبَهُ أمْرٌ صَلّى، فَأخْبَرْتُهُ خَبَرَ القَوْمِ أنِّي تَرَكْتُهم يَتَرَحَّلُونَ، وأنْزَلَ اللَّهُ ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكم إذْ جاءَتْكم جُنُودٌ﴾ الآيَةَ» . وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ في الدَّلائِلِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: إذْ جاءَتْكم جُنُودٌ قالَ: كانَ يَوْمُ أبِي سُفْيانَ يَوْمَ الأحْزابِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والحاكِمُ في الكُنى، وأبُو الشَّيْخِ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وأبُو نُعَيْمٍ في الدَّلائِلِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: لَمّا كانَ لَيْلَةَ الأحْزابِ جاءَتِ الشَّمالُ إلى الجَنُوبِ، فَقالَتِ: انْطَلِقِي فانْصُرِي اللَّهَ ورَسُولَهُ، فَقالَتِ الجَنُوبُ: إنَّ الحُرَّةَ لا تَسْرِي بِاللَّيْلِ، فَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْها وجَعَلَها عَقِيمًا، فَأرْسَلَ عَلَيْهِمُ الصَّبا، فَأطْفَأتْ نِيرانَهم وقَطَعَتْ أطْنابَهم فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -: نُصِرْتُ بِالصَّبا وأُهْلِكَتْ عادٌ بِالدَّبُّورِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿فَأرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحًا وجُنُودًا لَمْ تَرَوْها﴾ . وأخْرَجَ البُخارِيُّ، ومُسْلِمٌ وغَيْرُهُما مِن حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -: «نُصِرْتُ بِالصَّبا وأُهْلِكَتْ عادٌ بِالدَّبُّورِ» . وأخْرَجَ البُخارِيُّ وغَيْرُهُ عَنْ عائِشَةَ في قَوْلِهِ: ﴿إذْ جاءُوكم مِن فَوْقِكُمْ﴾ الآيَةَ قالَتْ: كانَ ذَلِكَ يَوْمَ الخَنْدَقِ، وفي البابِ أحادِيثُ في وصْفِ هَذِهِ الغَزْوَةِ وما وقَعَ فِيها، وقَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَيْها كُتُبُ الغَزَواتِ والسِّيَرِ. وأخْرَجَ البُخارِيُّ، ومُسْلِمٌ وغَيْرُهُما عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -: «أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تَأْكُلُ القُرى يَقُولُونَ يَثْرِبُ، وهي المَدِينَةُ تَنْفِي البَأْسَ كَما يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ» . وأخْرَجَ أحْمَدُ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ البَراءِ بْنِ عازِبٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -: «مَن سَمّى المَدِينَةَ يَثْرِبَ فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ، هي: طابَةُ هي: طابَةُ هي: طابَةُ» ولَفْظُ أحْمَدَ إنَّما هي طابَةُ وإسْنادُهُ ضَعِيفٌ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ في الدَّلائِلِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿ويَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنهُمُ النَّبِيَّ﴾ قالَ: هم بَنُو حارِثَةَ قالُوا: ﴿بُيُوتَنا عَوْرَةٌ﴾ أيْ: مُخْتَلَّةٌ نَخْشى عَلَيْها السَّرَقَ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ جابِرٍ نَحْوَهُ. وأخْرَجَ البَيْهَقِيُّ في الدَّلائِلِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: جاءَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الآيَةِ عَلى رَأْسِ سِتِّينَ سَنَةً ﴿ولَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِن أقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الفِتْنَةَ لَأتَوْها﴾ قالَ: لَأعْطَوْها: يَعْنِي إدْخالَ بَنِي حارِثَةَ أهْلَ الشّامِ عَلى المَدِينَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب