الباحث القرآني

قَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ في تَفْسِيرِ إقامَةِ الصَّلاةِ واشْتِقاقِها، والمُرادُ هُنا الصَّلاةُ المَعْهُودَةُ، وهي صَلاةُ المُسْلِمِينَ عَلى أنَّ التَّعْرِيفَ لِلْعَهْدِ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ لِلْجِنْسِ، ومِثْلُها الزَّكاةُ. والإيتاءُ: الإعْطاءُ، يُقالُ آتَيْتُهُ: أيْ أعْطَيْتُهُ. والزَّكاةُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ الزَّكاةِ، وهو النَّماءُ، زَكا الشَّيْءُ: إذا نَما وزادَ، ورَجُلٌ زَكِيٌّ: أيْ زائِدُ الخَيْرِ، وسُمِّيَ إخْراجُ جُزْءٍ مِنَ المالِ زَكاةً: أيْ زِيادَةً مَعَ أنَّهُ نَقْصٌ مِنهُ، لِأنَّها تُكْثِرُ بَرَكَتَهُ بِذَلِكَ، أوْ تُكْثِرُ أجْرَ صاحِبِهِ، وقِيلَ: الزَّكاةُ مَأْخُوذَةٌ مِنَ التَّطْهِيرِ، كَما يُقالُ زَكا فُلانٌ: أيْ طَهُرَ. والظّاهِرُ أنَّ الصَّلاةَ والزَّكاةَ والحَجَّ والصَّوْمَ ونَحْوَها قَدْ نَقَلَها الشَّرْعُ إلى مَعانٍ شَرْعِيَّةٍ هي المُرادَةُ بِما هو مَذْكُورٌ في الكِتابِ والسُّنَّةِ مِنها. وقَدْ تَكَلَّمَ أهْلُ العِلْمِ عَلى ذَلِكَ بِما لا يَتَّسِعُ المَقامُ لِبَسْطِهِ. وقَدِ اخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ في المُرادِ بِالزَّكاةِ هُنا، فَقِيلَ المُرادُ المَفْرُوضَةُ لِاقْتِرانِها بِالصَّلاةِ، وقِيلَ: صَدَقَةُ الفِطْرِ، والظّاهِرُ أنَّ المُرادَ ما هو أعَمُّ مِن ذَلِكَ. والرُّكُوعُ في اللُّغَةِ: الِانْحِناءُ، وكُلُّ مُنْحَنٍ راكِعٌ، قالَ لَبِيدٌ: ؎أُخَبِّرُ أخْبارَ القُرُونِ الَّتِي مَضَتْ أدِبُّ كَأنِّي كُلَّما قُمْتُ راكِعُ وقِيلَ: الِانْحِناءُ يَعُمُّ الرُّكُوعَ والسُّجُودَ، ويُسْتَعارُ الرُّكُوعُ أيْضًا لِلِانْحِطاطِ في المَنزِلَةِ، قالَ الشّاعِرُ: ؎لا تُهِينَ الفَقِيرَ عَلَّكَ أنْ ∗∗∗ تَرْكَعَ يَوْمًا والدَّهْرُ قَدْ رَفَعَهْ وإنَّما خَصَّ الرُّكُوعَ بِالذِّكْرِ هُنا، لِأنَّ اليَهُودَ لا رُكُوعَ في صَلاتِهِمْ، وقِيلَ: لِكَوْنِهِ كانَ ثَقِيلًا عَلى أهْلِ الجاهِلِيَّةِ وقِيلَ: إنَّهُ أرادَ بِالرُّكُوعِ جَمِيعَ أرْكانِ الصَّلاةِ. والرُّكُوعُ الشَّرْعِيُّ: هو أنْ يَنْحَنِيَ الرَّجُلُ ويَمُدَّ ظَهْرَهُ وعُنُقَهُ ويَفْتَحَ أصابِعَ يَدَيْهِ ويَقْبِضَ عَلى رُكْبَتَيْهِ ثُمَّ يَطْمَئِنَّ راكِعًا ذاكِرًا بِالذِّكْرِ المَشْرُوعِ. وقَوْلُهُ ﴿مَعَ الرّاكِعِينَ﴾ فِيهِ الإرْشادُ إلى شُهُودِ الجَماعَةِ والخُرُوجِ إلى المَساجِدِ. وقَدْ ورَدَ في ذَلِكَ مِنَ الأحادِيثِ الصَّحِيحَةِ الثّابِتَةِ في الصَّحِيحَيْنِ وغَيْرِهِما ما هو مَعْرُوفٌ. وقَدْ أوْجَبَ حُضُورَ الجَماعَةِ بَعْضُ أهْلِ العِلْمِ عَلى خِلافٍ بَيْنَهم في كَوْنِ ذَلِكَ عَيْنًا أوْ كِفايَةً، وذَهَبَ الجُمْهُورُ إلى أنَّهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ مُرَغَّبٌ فِيها ولَيْسَ بِواجِبٍ، وهو الحَقُّ لِلْأحادِيثِ الصَّحِيحَةِ الثّابِتَةِ عَنْ جَماعَةٍ مِنَ الصَّحابَةِ، مِن أنَّ صَلاةَ الجَماعَةِ تَفْضُلُ صَلاةَ الفَرْدِ بِخَمْسٍ وعِشْرِينَ دَرَجَةً أوْ بِسَبْعٍ وعِشْرِينَ دَرَجَةً. وثَبَتَ في الصَّحِيحِ عَنْهُ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: الَّذِي يُصَلِّي مَعَ الإمامِ أفْضَلُ مِنَ الَّذِي يُصَلِّي وحْدَهُ ثُمَّ يَنامُ. والبَحْثُ طَوِيلُ الذُّيُولِ، كَثِيرُ النُّقُولِ. والهَمْزَةُ في قَوْلِهِ: ﴿أتَأْمُرُونَ النّاسَ بِالبِرِّ﴾ لِلِاسْتِفْهامِ مَعَ التَّوْبِيخِ لِلْمُخاطَبِينَ، ولَيْسَ المُرادُ تَوْبِيخَهم عَلى نَفْسِ الأمْرِ بِالبِرِّ فَإنَّهُ فِعْلٌ حَسَنٌ مَندُوبٌ إلَيْهِ، بَلْ بِسَبَبِ تَرْكِ فِعْلِ البِرِّ المُسْتَفادِ مِن قَوْلِهِ: ﴿وتَنْسَوْنَ أنْفُسَكُمْ﴾ مَعَ التَّطَهُّرِ بِتَزْكِيَةِ النَّفْسِ والقِيامِ في مَقامِ دُعاةِ الخَلْقِ إلى الحَقِّ إيهامًا لِلنّاسِ وتَلْبِيسًا عَلَيْهِمْ كَما قالَ أبُو العَتاهِيَةِ: ؎وصَفْتَ التُّقى حَتّى كَأنَّكَ ذُو تُقى ∗∗∗ ورِيحُ الخَطايا مِن ثِيابِكَ يَسْطَعُ والبِرُّ: الطّاعَةُ والعَمَلُ الصّالِحُ، والبِرُّ: سَعَةُ الخَيْرِ والمَعْرُوفِ، والبِرُّ: الصِّدْقُ، والبِرُّ: ولَدُ الثَّعْلَبِ، والبِرُّ: سَوْقُ الغَنَمِ، ومِن إطْلاقِهِ عَلى الطّاعَةِ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎لاهُمَّ رَبِّ أنْ يَكُونُوا دُونَكا ∗∗∗ يَبَرُّكَ النّاسُ ويَفْجُرُونَكا أيْ يُطِيعُونَكَ ويَعْصُونَكَ. والنِّسْيانُ بِكَسْرِ النُّونِ هو هُنا بِمَعْنى التَّرْكِ: أيْ وتَتْرُكُونَ أنْفُسَكم، وفي الأصْلِ خِلافُ الذِّكْرِ والحِفْظِ: أيْ زَوالُ الصُّورَةِ الَّتِي كانَتْ مَحْفُوظَةً عَنِ المُدْرِكَةِ والحافِظَةِ. والنَّفْسُ: الرُّوحُ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِها﴾ [الزمر: ٤٢] يُرِيدُ الأرْواحَ. وقالَ أبُو خِراشٍ: ؎نَجا سالِمٌ والنَّفْسُ مِنهُ بِشِدْقِهِ، والنَّفْسُ أيْضًا الدَّمُ. ومِنهُ قَوْلُهم: سالَتْ نَفْسُهُ، قالَ الشّاعِرُ: ؎تَسِيلُ عَلى حَدِّ السُّيُوفِ نُفُوسُنا ∗∗∗ ولَيْسَ عَلى غَيْرِ الظُّباتِ تَسِيلُ والنَّفْسُ الجَسَدُ، ومِنهُ: ؎نُبِّئْتُ أنَّ بَنِي سُحَيْمٍ أدْخَلُوا ∗∗∗ أبْياتَهم تَأمُورَ نَفْسِ المُنْذِرِ، والتَّأمُورُ البَدَنُ. وقَوْلُهُ: ﴿وأنْتُمْ تَتْلُونَ الكِتابَ﴾ جُمْلَةٌ حالِيَّةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلى أعْظَمِ تَقْرِيعٍ وأشَدِّ تَوْبِيخٍ وأبْلَغِ تَبْكِيتٍ. أيْ كَيْفَ تَتْرُكُونَ البِرَّ الَّذِي تَأْمُرُونَ النّاسَ بِهِ وأنْتُمْ مِن أهْلِ العِلْمِ العارِفِينَ بِقُبْحِ هَذا الفِعْلِ وشِدَّةِ الوَعِيدِ عَلَيْهِ، كَما تَرَوْنَهُ في الكِتابِ الَّذِي تَتْلُونَهُ والآياتِ الَّتِي تَقْرَءُونَها مِنَ التَّوْراةِ. والتِّلاوَةُ: القِراءَةُ، وهي المُرادُ هُنا وأصْلُها الِاتِّباعُ، يُقالُ تَلَوْتُهُ: إذا اتَّبَعْتُهُ، وسُمِّيَ القارِئُ تالِيًا والقِراءَةُ تِلاوَةً لِأنَّهُ يُتْبِعُ بَعْضَ الكَلامِ بِبَعْضٍ عَلى النَّسَقِ الَّذِي هو عَلَيْهِ. وقَوْلُهُ: ﴿أفَلا تَعْقِلُونَ﴾ اسْتِفْهامٌ لِلْإنْكارِ عَلَيْهِمْ والتَّقْرِيعِ لَهم، وهو أشَدُّ مِنَ الأوَّلِ وأشَدُّ، وأشَدُّ ما قَرَّعَ اللَّهُ في هَذا المَوْضِعِ مَن يَأْمُرُ بِالخَيْرِ ولا يَفْعَلُهُ مِنَ العُلَماءِ الَّذِينَ هم غَيْرُ عامِلِينَ بِالعِلْمِ، فاسْتَنْكَرَ عَلَيْهِمْ أوَّلًا أمْرَهم لِلنّاسِ بِالبِرِّ مَعَ نِسْيانِ أنْفُسِهِمْ في ذَلِكَ، الأمْرُ الَّذِي قامُوا بِهِ في المَجامِعِ ونادَوْا بِهِ في المَجالِسِ إيهامًا لِلنّاسِ بِأنَّهم مُبَلِّغُونَ عَنِ اللَّهِ ما تَحَمَّلُوهُ مِن حُجَجِهِ، ومُبَيِّنُونَ لِعِبادِهِ ما أمَرَهم بِبَيانِهِ، ومُوَصِّلُونَ إلى خَلْقِهِ ما اسْتَوْدَعَهم وائْتَمَنَهم عَلَيْهِ، وهم أتْرَكُ النّاسِ لِذَلِكَ وأبْعَدُهم مِن نَفْعِهِ وأزْهَدُهم فِيهِ، ثُمَّ رَبَطَ (p-٥٤)هَذِهِ الجُمْلَةَ بِجُمْلَةٍ أُخْرى جَعَلَها مُبَيِّنَةً لِحالِهِمْ وكاشِفَةً لِعَوارِهِمْ وهاتِكَةً لِأسْتارِهِمْ، وهي أنَّهم فَعَلُوا هَذِهِ الفِعْلَةَ الشَّنِيعَةَ والخَصْلَةَ الفَظِيعَةَ عَلى عِلْمٍ مِنهم ومَعْرِفَةٍ بِالكِتابِ الَّذِي أُنْزِلَ عَلَيْهِمْ ومُلازَمَةٍ لِتِلاوَتِهِ، وهم في ذَلِكَ كَما قالَ المَعَرِّيُّ: وإنَّما حَمَلَ التَّوْراةَ قارِئُها كَسْبَ الفَوائِدِ لا حُبَّ التِّلاواتِ ثُمَّ انْتَقَلَ مَعَهم مِن تَقْرِيعٍ إلى تَقْرِيعٍ، ومِن تَوْبِيخٍ إلى تَوْبِيخٍ فَقالَ: إنَّكم لَوْ لَمْ تَكُونُوا مِن أهْلِ العِلْمِ وحَمَلَةِ الحُجَّةِ وأهْلِ الدِّراسَةِ لِكُتِبِ اللَّهِ لَكانَ مُجَرَّدُ كَوْنِكم مِمَّنْ يَعْقِلُ حائِلًا بَيْنَكم وبَيْنَ ذَلِكَ ذائِدًا لَكم عَنْهُ زاجِرًا لَكم مِنهُ، فَكَيْفَ أهْمَلْتُمْ ما يَقْتَضِيهِ العَقْلُ بَعْدَ إهْمالِكم لِما يُوجِبُهُ العِلْمُ. والعَقْلُ في أصْلِ اللُّغَةِ: المَنعُ، ومِنهُ عِقالُ البَعِيرِ؛ لِأنَّهُ يَمْنَعُهُ عَنِ الحَرَكَةِ، ومِنهُ العَقْلُ في الدِّيَةِ لِأنَّهُ يَمْنَعُ ولِيَّ المَقْتُولِ عَنْ قَتْلِ الجانِي. والعَقْلُ نَقِيضُ الجَهْلِ، ويَصِحُّ تَفْسِيرُ ما في الآيَةِ هُنا بِما هو أصْلُ مَعْنى العَقْلِ عِنْدَ أهْلِ اللُّغَةِ: أيْ أفَلا تَمْنَعُونَ أنْفُسَكم مِن مُواقَعَةِ هَذِهِ الحالِ المُزْرِيَةِ، ويَصِحُّ أنْ يَكُونَ مَعْنى الآيَةِ: أفَلا تَنْظُرُونَ بِعُقُولِكُمُ الَّتِي رَزَقَكُمُ اللَّهُ إيّاها حَيْثُ لَمْ تَنْتَفِعُوا بِما لَدَيْكم مِنَ العِلْمِ. وقَوْلُهُ: ﴿واسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ﴾ الصَّبْرُ في اللُّغَةِ: الحَبْسُ، وصَبَرْتُ نَفْسِي عَلى الشَّيْءِ: حَبَسْتُها. ومِنهُ قَوْلُ عَنْتَرَةَ: فَصَبَرَتْ عارِفَةً لِذَلِكَ حُرَّةً تَرْسُو إذا نَفْسُ الجَبانِ تَطَلَّعُ والمُرادُ هُنا: اسْتَعِينُوا بِحَبْسِ أنْفُسِكم عَنِ الشَّهَواتِ وقَصْرِها عَلى الطّاعاتِ عَلى دَفْعِ ما يَرِدُ عَلَيْكم مِنَ المَكْرُوهاتِ وقِيلَ: الصَّبْرُ هُنا هو خاصٌّ بِالصَّبْرِ عَلى تَكالِيفِ الصَّلاةِ. واسْتَدَلَّ هَذا القائِلُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأْمُرْ أهْلَكَ بِالصَّلاةِ واصْطَبِرْ عَلَيْها﴾ [طه: ١٣٢] ولَيْسَ في هَذا الصَّبْرِ الخاصِّ بِهَذِهِ الآيَةِ ما يَنْفِي ما تُفِيدُهُ الألِفُ واللّامُ الدّاخِلَةُ عَلى الصَّبْرِ مِنَ الشُّمُولِ كَما أنَّ المُرادَ بِالصَّلاةِ هُنا جَمِيعُ ما تَصْدُقُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ الشَّرْعِيَّةُ مِن غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ فَرِيضَةٍ ونافِلَةٍ. واخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في رُجُوعِ الضَّمِيرِ في قَوْلِهِ: وإنَّها لَكَبِيرَةٌ فَقِيلَ: إنَّهُ راجِعٌ إلى الصَّلاةِ وإنْ كانَ المُتَقَدِّمُ هو الصَّبْرَ والصَّلاةَ فَقَدْ يَجُوزُ إرْجاعُ الضَّمِيرِ إلى أحَدِ الأمْرَيْنِ المُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُما. كَما قالَ تَعالى: ﴿واللَّهُ ورَسُولُهُ أحَقُّ أنْ يُرْضُوهُ﴾ [التوبة: ٦٢] إذا كانَ أحَدُهُما داخِلًا تَحْتَ الآخَرِ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎إنَّ شَرْخَ الشَّبابِ والشَّعَرَ الأسْ ∗∗∗ ودَ ما لَمْ يُعاضَ كانَ جُنُونا ولَمْ يَقُلْ ما لَمْ يُعاضا بَلْ جَعَلَ الضَّمِيرَ راجِعًا إلى الشَّبابِ، لِأنَّ الشَّعْرَ الأسْوَدَ داخِلٌ فِيهِ، وقِيلَ: إنَّهُ عائِدٌ إلى الصَّلاةِ مِن دُونِ اعْتِبارِ دُخُولِ الصَّبْرِ تَحْتَها لِأنَّ الصَّبْرَ هو عَلَيْها، كَما قِيلَ سابِقًا، وقِيلَ: إنَّ الضَّمِيرَ راجِعٌ إلى الصَّلاةِ وإنْ كانَ الصَّبْرُ مُرادًا مَعَها، لَكِنْ لَمّا كانَتْ آكَدَ وأعَمَّ تَكْلِيفًا وأكْثَرَ ثَوابًا كانَتِ الكِنايَةُ بِالضَّمِيرِ عَنْها، ومِنهُ قَوْلُهُ: ﴿والَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والفِضَّةَ ولا يُنْفِقُونَها في سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [التوبة: ٣٤] كَذا قِيلَ، وقِيلَ: إنَّ الضَّمِيرَ راجِعٌ إلى الأشْياءِ المَكْنُوزَةِ، ومِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإذا رَأوْا تِجارَةً أوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إلَيْها﴾ [الجمعة: ١١] فَأرْجَعَ الضَّمِيرَ هُنا إلى الفِضَّةِ والتِّجارَةِ لَمّا كانَتِ الفِضَّةُ أعَمَّ نَفْعًا وأكْثَرَ وُجُودًا، والتِّجارَةُ هي الحامِلَةَ عَلى الِانْفِضاضِ، والفَرْقُ بَيْنَ هَذا الوَجْهِ وبَيْنَ الوَجْهِ الأوَّلِ أنَّ الصَّبْرَ هُناكَ جُعِلَ داخِلًا تَحْتَ الصَّلاةِ، وهُنا لَمْ يَكُنْ داخِلًا وإنْ كانَ مُرادًا، وقِيلَ: إنَّ المُرادَ الصَّبْرُ والصَّلاةُ، ولَكِنْ أرْجَعَ الضَّمِيرَ إلى أحَدِهِما اسْتِغْناءً بِهِ عَنِ الآخَرِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وجَعَلْنا ابْنَ مَرْيَمَ وأُمَّهُ آيَةً﴾ [المؤمنون: ٥٠] أيِ ابْنَ مَرْيَمَ آيَةً وأُمَّهُ آيَةً. ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ: ؎ومَن يَكُ أمْسى بِالمَدِينَةِ رَحْلُهُ ∗∗∗ فَإنِّي وقَيّارٌ بِها لَغَرِيبُ وقالَ آخَرُ: ؎لِكُلِّ هَمٍّ مِنَ الهُمُومِ سَعَهْ ∗∗∗ والصُّبْحُ والمَساءُ لا فَلاحَ مَعَهْ وقِيلَ: رَجَعَ الضَّمِيرُ إلَيْهِما بَعْدَ تَأْوِيلِهِما بِالعِبادَةِ، وقِيلَ: رَجَعَ إلى المَصْدَرِ المَفْهُومِ مِن قَوْلِهِ: واسْتَعِينُوا وهو الِاسْتِعانَةُ، وقِيلَ: رَجَعَ إلى جَمِيعِ الأُمُورِ الَّتِي نُهِيَ عَنْها بَنُو إسْرائِيلَ. والكَبِيرَةُ الَّتِي يَكْبُرُ أمْرُها ويَتَعاظَمُ شَأْنُها عَلى حامِلِها لِما يَجِدُهُ عِنْدَ تَحَمُّلِها والقِيامِ بِها مِنَ المَشَقَّةِ، ومِنهُ ﴿كَبُرَ عَلى المُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهم إلَيْهِ﴾ [الشورى: ١٣] . والخاشِعُ: هو المُتَواضِعُ، والخُشُوعُ: التَّواضُعُ. قالَ في الكَشّافِ: والخُشُوعُ الإخْباتُ والتَّطامُنُ، ومِنهُ الخُشْعَةُ لِلرَّمْلَةِ المُتَطامِنَةِ وأمّا الخُضُوعُ فاللِّينُ والِانْقِيادُ، ومِنهُ خَضَعَتْ بِقَوْلِها: إذا لَيَّنَتْهُ انْتَهى. وقالَ الزَّجّاجُ: الخاشِعُ الَّذِي يُرى أثَرُ الذُّلِّ والخُشُوعِ عَلَيْهِ كَخُشُوعِ الدّارِ بَعْدَ الأقْوى، ومَكانٌ خاشِعٌ: لا يُهْتَدى إلَيْهِ، وخَشَعَتِ الأصْواتُ: أيْ سَكَنَتْ، وخَشَعَ بِبَصَرِهِ: إذا غَضَّهُ، والخُشْعَةُ: قِطْعَةٌ مِنَ الأرْضِ رِخْوَةٌ. وقالَ سُفْيانُ الثَّوْرِيُّ: سَألْتُ الأعْمَشَ عَنِ الخُشُوعِ فَقالَ: يا ثَوْرِيُّ أنْتَ تُرِيدُ أنْ تَكُونَ إمامًا لِلنّاسِ ولا تَعْرِفُ الخُشُوعَ ؟ لَيْسَ الخُشُوعُ بِأكْلِ الخَشِنِ ولُبْسِ الخَشِنِ وتُطَأْطِئُ الرَّأْسَ، لَكِنَّ الخُشُوعَ أنْ تَرى الشَّرِيفَ والدَّنِيءَ في الحَقِّ سَواءً، وتَخْشَعَ لِلَّهِ في كُلِّ فَرْضٍ افْتُرِضَ عَلَيْكَ. انْتَهى. وما أحْسَنَ ما قالَهُ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ في بَيانِ ماهِيَّتِهِ: إنَّهُ هَيْئَةٌ في النَّفْسِ يَظْهَرُ مِنها في الجَوارِحِ سُكُونٌ وتَواضُعٌ، واسْتَثْنى سُبْحانَهُ الخاشِعِينَ مَعَ كَوْنِهِمْ بِاعْتِبارِ اسْتِعْمالِ جَوارِحِهِمْ في الصَّلاةِ، ومُلازَمَتِهِمْ لِوَظائِفِ الخُشُوعِ الَّذِي هو رُوحُ الصَّلاةِ، وإتْعابِهِمْ لِأنْفُسِهِمْ إتْعابًا عَظِيمًا في الأسْبابِ المُوجِبَةِ لِلْحُضُورِ والخُضُوعِ لِأنَّهم لِما يَعْلَمُونَهُ مِن تَضاعُفِ الأجْرِ وتَوَفُّرِ الجَزاءِ والظَّفَرِ بِما وعَدَ اللَّهُ بِهِ مِن عَظِيمِ الثَّوابِ، تَسْهُلُ عَلَيْهِمْ تِلْكَ المَتاعِبُ، ويَتَذَلَّلُ لَهم ما يَرْتَكِبُونَهُ مِنَ المَصاعِبِ، بَلْ يَصِيرُ ذَلِكَ لَذَّةً لَهم خالِصَةً وراحَةً عِنْدِهِمْ مَحْضَةً، ولِأمْرٍ ما هانَ عَلى قَوْمٍ ما يُلاقُونَهُ مِن حَرِّ السُّيُوفِ عِنْدَ تَصادُمِ الصُّفُوفِ، وكانَتِ الأُمْنِيَّةُ عِنْدَهم طَعْمَ المَنِيَّةِ حَتّى قالَ قائِلُهم: ؎ولَسْتُ أُبالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِمًا ∗∗∗ عَلى أيِّ جَنْبٍ كانَ في اللَّهِ مَصْرَعِي والظَّنُّ هُنا عِنْدَ الجُمْهُورِ بِمَعْنى اليَقِينِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنِّي ظَنَنْتُ أنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ﴾ [الحاقة: ٢٠] وقَوْلُهُ: (p-٥٥)﴿فَظَنُّوا أنَّهم مُواقِعُوها﴾ [الكهف: ٥٣] ومِنهُ قَوْلُ دُرَيْدِ بْنِ الصِّمَّةِ: فَقُلْتُ لَهم ظُنُّوا بِألْفَيْ مُدَجَّجٍ سَراتُهم بِالفارِسِيِّ المُسَوَّدِ وقِيلَ: إنَّ الظَّنَّ في الآيَةِ عَلى بابِهِ، ويُضْمَرُ في الكَلامِ " بِذُنُوبِهِمْ "، فَكَأنَّهم تَوَقَّعُوا لِقاءَهُ مُذْنِبِينَ، ذَكَرَهُ المَهْدَوِيُّ والماوَرْدِيُّ، والأوَّلُ أوْلى. وأصْلُ الظَّنِّ: الشَّكُّ مَعَ المَيْلِ إلى أحَدِ الطَّرَفَيْنِ، وقَدْ يَقَعُ مَوْقِعَ اليَقِينِ في مَواضِعَ، مِنها هَذِهِ الآيَةُ. ومَعْنى قَوْلِهِ: ﴿مُلاقُوا رَبِّهِمْ﴾ مُلاقُوا جَزائِهِ، والمُفاعَلَةُ هُنا لَيْسَتْ عَلى بابِها، ولا أرى في حَمْلِهِ عَلى أصْلِ مَعْناهُ مِن دُونِ تَقْدِيرِ المُضافِ بَأْسًا. وفِي هَذا مَعَ ما بَعْدَهُ مِن قَوْلِهِ: ﴿وأنَّهم إلَيْهِ راجِعُونَ﴾ إقْرارٌ بِالبَعْثِ وما وعَدَ اللَّهُ بِهِ في اليَوْمِ الآخِرِ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ مُجاهِدٍ في قَوْلِهِ: وارْكَعُوا قالَ: صَلُّوا. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ أيْضًا عَنْ مُقاتِلٍ في قَوْلِهِ: ﴿وارْكَعُوا مَعَ الرّاكِعِينَ﴾ قالَ: أمَرَهم أنْ يَرْكَعُوا مَعَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ يَقُولُ: كُونُوا مِنهم ومَعَهم. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أتَأْمُرُونَ النّاسَ بِالبِرِّ﴾ الآيَةَ، قالَ: أُولَئِكَ أهْلُ الكِتابِ كانُوا يَأْمُرُونَ النّاسَ بِالبِرِّ ويَنْسَوْنَ أنْفُسَهم وهم يَتْلُونَ الكِتابَ ولا يَنْتَفِعُونَ بِما فِيهِ. وأخْرَجَ الثَّعْلَبِيُّ والواحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في يَهُودِ أهْلِ المَدِينَةِ، كانَ الرَّجُلُ مِنهم يَقُولُ لِصِهْرِهِ ولِذِي قَرابَتِهِ ولِمَن بَيْنَهُ وبَيْنَهُ رَضاعٌ مِنَ المُسْلِمِينَ: اثْبُتْ عَلى الدِّينِ الَّذِي أنْتَ عَلَيْهِ وما يَأْمُرُكَ بِهِ هَذا الرَّجُلُ، يَعْنُونَ مُحَمَّدًا صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ، فَإنَّ أمْرَهُ حَقٌّ، وكانُوا يَأْمُرُونَ النّاسَ بِذَلِكَ ولا يَفْعَلُونَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ في قَوْلِهِ: ﴿أتَأْمُرُونَ النّاسَ بِالبِرِّ﴾ قالَ: بِالدُّخُولِ في دِينِ مُحَمَّدٍ. وأخْرَجَ ابْنُ إسْحاقَ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْهُ في الآيَةِ قالَ: تَنْهَوْنَ النّاسَ عَنِ الكُفْرِ بِما عِنْدَكم مِنَ النُّبُوَّةِ والعَهْدِ مِنَ التَّوْراةِ، وأنْتُمْ تَكْفُرُونَ بِما فِيها مِن عَهْدِي إلَيْكم في تَصْدِيقِ رُسُلِي ؟ وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وابْنُ أبِي شَيْبَةَ وابْنُ جَرِيرٍ والبَيْهَقِيُّ عَنْ أبِي الدَّرْداءِ في الآيَةِ قالَ: لا يَفْقَهُ الرَّجُلُ كُلَّ الفِقْهِ حَتّى يَمْقُتَ النّاسَ في ذاتِ اللَّهِ، ثُمَّ يَرْجِعَ إلى نَفْسِهِ فَيَكُونَ لَها أشَدَّ مَقْتًا. وأخْرَجَ أحْمَدُ وابْنُ أبِي شَيْبَةَ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ والبَزّارُ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ وأبُو نُعَيْمٍ في الحِلْيَةِ وابْنُ حِبّانَ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ والبَيْهَقِيُّ عَنْ أنَسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: «رَأيْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي رِجالًا تُقْرَضُ شِفاهُهم بِمَقارِيضَ مِن نارٍ كُلَّما قُرِضَتْ رَجَعَتْ، فَقُلْتُ لِجِبْرِيلَ: مَن هَؤُلاءِ ؟ قالَ: هَؤُلاءِ خُطَباءُ مِن أُمَّتِكَ كانُوا يَأْمُرُونَ النّاسَ بِالبِرِّ ويَنْسَوْنَ أنْفُسَهم وهم يَتْلُونَ الكِتابَ أفَلا يَعْقِلُونَ» . وثَبَتَ في الصَّحِيحَيْنِ مِن حَدِيثِ أُسامَةَ بْنِ زَيْدٍ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ يَقُولُ: «يُجاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ القِيامَةِ فَيُلْقى في النّارِ، فَتَنْدَلِقُ بِهِ أقْتابُهُ فَيَدُورُ بِها كَما يَدُورُ الحِمارُ بِرَحاهُ، فَيُطِيفُ بِهِ أهْلُ النّارِ فَيَقُولُونَ: يا فُلانُ ما لَكَ ما أصابَكَ ؟ ألَمْ تَكُنْ تَأْمُرُنا بِالمَعْرُوفِ وتَنْهانا عَنِ المُنْكَرِ ؟ فَيَقُولُ: كُنْتُ آمُرُكم بِالمَعْرُوفِ ولا آتِيهِ، وأنْهاكم عَنِ المُنْكَرِ وآتِيهِ» وفي البابِ أحادِيثُ مِنها عَنْ جابِرٍ مَرْفُوعًا عِنْدَ الخَطِيبِ وابْنِ النَّجّارِ، وعَنِ الوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ مَرْفُوعًا عِنْدَ الطَّبَرانِيِّ والخَطِيبِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ وعِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أحْمَدَ في زَوائِدِ الزُّهْدِ عَنْهُ مَوْقُوفًا، ومَعْناها جَمِيعًا: أنَّهُ يَطْلُعُ قَوْمٌ مِن أهْلِ الجَنَّةِ عَلى قَوْمٍ مِن أهْلِ النّارِ فَيَقُولُونَ لَهم: بِما دَخَلْتُمُ النّارَ وإنَّما دَخَلْنا الجَنَّةَ بِتَعْلِيمِكم ؟ قالُوا: إنّا كُنّا نَأْمُرُكم ولا نَفْعَلُ. وأخْرَجَ الطَّبَرانِيُّ والخَطِيبُ في الِاقْتِضاءِ والأصْبِهانِيُّ في التَّرْغِيبِ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: «مَثَلُ العالِمِ الَّذِي يُعَلِّمُ النّاسَ الخَيْرَ ولا يَعْمَلُ بِهِ كَمَثَلِ السِّراجِ يُضِيءُ لِلنّاسِ ويُحْرِقُ نَفْسَهُ» . وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أحْمَدَ في زَوائِدِ الزُّهْدِ عَنْهُ نَحْوَهُ. وأخْرَجَ الطَّبَرانِيُّ والخَطِيبُ في الِاقْتِضاءِ عَنْ أبِي بَرْزَةَ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ قانِعٍ في مُعْجَمِهِ والخَطِيبُ في الِاقْتِضاءِ عَنْ سُلَيْكٍ مَرْفُوعًا نَحْوَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ وابْنُ أبِي شَيْبَةَ وأحْمَدُ في الزُّهْدِ عَنْ أبِي الدَّرْداءِ قالَ: ويْلٌ لِلَّذِي لا يَعْلَمُ مَرَّةً ولَوْ شاءَ اللَّهُ لَعَلَّمَهُ، ووَيْلٌ لِلَّذِي يَعْلَمُ ولا يَعْمَلُ سَبْعَ مَرّاتٍ. وأخْرَجَ أحْمَدُ في الزُّهْدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ مِثْلَهُ، وما أحْسَنَ ما أخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ والبَيْهَقِيُّ في شُعَبِ الإيمانِ وابْنُ عَساكِرَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ جاءَهُ رَجُلٌ فَقالَ: يا ابْنَ عَبّاسٍ إنِّي أُرِيدُ أنْ آمُرَ بِالمَعْرُوفِ وأنْهى عَنِ المُنْكَرِ، قالَ: أوَبَلَغْتَ ذَلِكَ ؟ قالَ: أرْجُو، قالَ: فَإنْ لَمْ تَخْشَ أنْ تَفْتَضِحَ بِثَلاثَةِ أحْرُفٍ في كِتابِ اللَّهِ فافْعَلْ، قالَ: وما هُنَّ ؟ قالَ: قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿أتَأْمُرُونَ النّاسَ بِالبِرِّ وتَنْسَوْنَ أنْفُسَكم﴾ [البقرة: ٤٤] أحْكَمْتَ هَذِهِ الآيَةَ ؟ قالَ: لا، قالَ: فالحَرْفُ الثّانِي، قالَ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: ٢] أحْكَمْتَ هَذِهِ الآيَةَ ؟ قالَ: لا، قالَ: فالحَرْفُ الثّالِثُ، قالَ: قَوْلُ العَبْدِ الصّالِحِ شُعَيْبٍ ﴿وما أُرِيدُ أنْ أُخالِفَكم إلى ما أنْهاكم عَنْهُ﴾ [هود: ٨٨] أحْكَمْتَ هَذِهِ الآيَةَ ؟ قالَ: لا، قالَ: فابْدَأْ بِنَفْسِكَ. وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿واسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ﴾ قالَ: إنَّهُما مَعُونَتانِ مِنَ اللَّهِ فاسْتَعِينُوا بِهِما. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ أبِي الدُّنْيا في كِتابِ الصَّبْرِ وأبُو الشَّيْخِ في الثَّوابِ والدَّيْلَمِيُّ في مُسْنَدِ الفِرْدَوْسِ عَنْ عَلِيٍّ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ: «الصَّبْرُ ثَلاثَةٌ: فَصَبْرٌ عَلى المُصِيبَةِ، وصَبْرٌ عَلى الطّاعَةِ، وصَبْرٌ عَنِ المَعْصِيَةِ» . وقَدْ ورَدَتْ أحادِيثُ كَثِيرَةٌ في مَدْحِ الصَّبْرِ والتَّرْغِيبِ فِيهِ والجَزاءِ لِلصّابِرِينَ، ولَمْ نَذْكُرْها هُنا لِأنَّها لَيْسَتْ بِخاصَّةٍ بِهَذِهِ الآيَةِ، بَلْ هي وارِدَةٌ في مُطْلَقِ الصَّبْرِ، وقَدْ ذَكَرَ السُّيُوطِيُّ في الدُّرِّ المَنثُورِ هاهُنا مِنها شَطْرًا صالِحًا، وفي الكِتابِ العَزِيزِ مِنَ الثَّناءِ عَلى ذَلِكَ والتَّرْغِيبِ فِيهِ الكَثِيرُ الطَّيِّبُ. وأخْرَجَ أحْمَدُ وأبُو داوُدَ وابْنُ جَرِيرٍ عَنْ حُذَيْفَةَ قالَ: «كانَ النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ إذا حَزَبَهُ أمْرٌ فَزِعَ إلى الصَّلاةِ» وأخْرَجَ أحْمَدُ والنَّسائِيُّ وابْنُ حِبّانَ عَنْ صُهَيْبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ قالَ: «كانُوا - يَعْنِي الأنْبِياءَ - يَفْزَعُونَ إذا فَزِعُوا إلى الصَّلاةِ» . وأخْرَجَ ابْنُ أبِي الدُّنْيا وابْنُ عَساكِرَ عَنْ أبِي الدَّرْداءِ مَرْفُوعًا نَحْوَ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ. وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ وابْنُ المُنْذِرِ والحاكِمُ والبَيْهَقِيُّ في شُعَبِ الإيمانِ (p-٥٦)عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ كانَ في مَسِيرٍ لَهُ، فَنُعِيَ إلَيْهِ ابْنٌ لَهُ، فَنَزَلَ فَصَلّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ اسْتَرْجَعَ فَقالَ: فَعَلْنا كَما أمَرَنا اللَّهُ فَقالَ: ﴿واسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ﴾ . وقَدْ رَوى عَنْهُ نَحْوَ ذَلِكَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ والبَيْهَقِيُّ لَمّا نُعِيَ إلَيْهِ أخُوهُ قُثَمُ. وقَدْ رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ جَماعَةٍ مِنَ الصَّحابَةِ والتّابِعِينَ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الضَّحّاكِ في قَوْلِهِ: وإنَّها لَكَبِيرَةٌ قالَ: لَثَقِيلَةٌ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: إلّا عَلى الخاشِعِينَ قالَ: المُؤْمِنِينَ حَقًّا. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أبِي العالِيَةِ في قَوْلِهِ: إلّا عَلى الخاشِعِينَ قالَ: الخائِفِينَ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ مُجاهِدٍ قالَ: كُلُّ الظَّنِّ في القُرْآنِ فَهو يَقِينٌ، ولا يَتِمُّ هَذا في مِثْلِ قَوْلِهِ: ﴿إنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئًا﴾ [النجم: ٢٨] وقَوْلِهِ: ﴿إنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إثْمٌ﴾ [الحجرات: ١٢] ولَعَلَّهُ يُرِيدُ الظَّنَّ المُتَعَلِّقَ بِأُمُورِ الآخِرَةِ كَما رَواهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتادَةَ قالَ: ما كانَ مِن ظَنِّ الآخِرَةِ فَهو عِلْمٌ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أبِي العالِيَةِ في قَوْلِهِ: ﴿وأنَّهم إلَيْهِ راجِعُونَ﴾ قالَ: يَسْتَيْقِنُونَ أنَّهم يَرْجِعُونَ إلَيْهِ يَوْمَ القِيامَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب