وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)
(وَمَا كَانَ) أي ما صح وما استقام (لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) قال القرطبي: لفظ ما كان وما ينبغي ونحوهما معناها الحظر والمنع من الشيء والإخبار بأنه لا يحل شرعاً أن يكون، وقد يكون لما يمتنع عقلاً كقوله: (مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا)، ومعنى الآية: أنه لا يحل لمن يؤمن بالله -إذا قضى الله أمراً- أن يختار من أمر نفسه ما شاء، بل يجب عليه أن يذعن للقضاء ويوقف نفسه تحت ما قضاه الله عليه، واختاره له، ويجعل رأيه تبعاً لرأيه. وجمع الضمير في قوله لهم ومن أمرهم؛ لأن مؤمناً ومؤمنة وقعا في سياق النفي، فهما يعمان كل مؤمن ومؤمنة، قرىء أن يكون بالتحتية؛ لأنه قد فرق بين الفعل وفاعله المؤنث بقوله: لهم مع كون التأنيث غير حقيقي، وقرىء بالفوقية لكونه مسنداً إلى الخيرة وهي مؤنثة لفظاً والخيرة مصدر بمعنى الاختيار، ودل ذلك على أن الأمر للوجوب، وقرىء بسكون التحتية وبتحريكها، ثم توعد سبحانه من لم يذعن لقضاء الله وقدره فقال:
(ومن يعص الله ورسوله) في أمر من الأمور ومن ذلك عدم الرضاء بالقضاء (فقد ضل ضلالاً مبيناً) أي ضل عن طريق الحق ضلالاً ظاهراً واضحاً لا يخفى. فإن كان العصيان عصيان رد وامتناع عن القبول فهو ضلال كفر، وإن كان عصيان فعل مع قبول الأمر واعتقاد الوجوب فهو ضلال خطأ وفسق.
عن ابن عباس قال: " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انطلق ليخطب على فتاه زيد بن حارثة فدخل على زينب بنت جحش الأسدية فخطبها. قالت: لست بناكحته قال: بلى فانكحيه. قالت: يا رسول الله أؤامر نفسي؛ فبينما هما يتحدثان أنزل الله هذه الآية على رسوله. قالت: قد رضيته لي يا رسول الله منكحاً، قال: نعم قالت: إذن لا أعصي رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) قد أنكحته نفسي " أخرجه ابن جرير وابن مردويه، وعنه قال: قال رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) لزينب: إني أريد أن أزوجك زيد بن حارثة فإني قد رضيته لك. قالت: يا رسول الله لكني لا أرضاه لنفسي، وأنا أيّم قومي، وبنت عمتك، فلم أكن لأفعل فنزلت هذه الآية: (وما كان لمؤمن) يعني: زيداً (ولا مؤمنة) يعني زينب (إذا قضى الله ورسوله أمراً) يعني النكاح في هذا الموضع (أن تكون لهم الخيرة من أمرهم)، يقول: ليس لهم الخيرة من أمرهم خلاف ما أمر الله به، قالت: قد أطعتك فاصنع ما شئت، فزوجها زيداً ودخل عليها أخرجه ابن مردويه.
وعن ابن زيد قال: نزلت في أم كلثوم بنت عقب بن أبي معيط وكانت أول امرأة هاجرت فوهبت نفسها للنبي (- صلى الله عليه وسلم -) فزوجها زيد بن حارثة فسخطت هي وأخوها وقالا: إنما أردنا رسول الله (- صلى الله عليه وسلم -) فزوجها عبده، وكان تزوج زيد بزينب قبل الهجرة بنحو ثمان سنين، وبعد ما طلق زيد زينب زوجه (- صلى الله عليه وسلم -) أم كلثوم بنت عقب: بن أبي معيط وكانت وهبت نفسها للنبي (- صلى الله عليه وسلم -) فزوجها من زيد، وكان زوجه قبلها أم أيمن وولدت له أسامة، وكانت ولادته بعد البعثة بثلاث سنين، وقيل بخمس، وفي شرح المواهب أن أم أيمن، هي بركة الحبشية بنت ثعلبة أعتقها عبد الله أبو النبي (- صلى الله عليه وسلم -)، وقيل بل اعتقها هو (- صلى الله عليه وسلم -) وقيل: كانت لأمه أسلمت قديماً وهاجرت الهجرتين ماتت بعده (- صلى الله عليه وسلم -) بخمسة أشهر، وقيل بستة، ودلت الآية على لزوم اتباع قضاء الكتاب والسنة، وذم التقليد والرأي، وعدم خيرة الأمر في مقابلة النص من الله ورسوله (- صلى الله عليه وسلم -) وإن كان السبب خاصاً فإن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
لما زوج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زيد بن حارثة بزينب بنت جحش كما مر أنزل الله سبحانه: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37) مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38)
{"ayah":"وَمَا كَانَ لِمُؤۡمِنࣲ وَلَا مُؤۡمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥۤ أَمۡرًا أَن یَكُونَ لَهُمُ ٱلۡخِیَرَةُ مِنۡ أَمۡرِهِمۡۗ وَمَن یَعۡصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدۡ ضَلَّ ضَلَـٰلࣰا مُّبِینࣰا"}