قوله تعالى: ﴿لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّساءَ مَا لمْ تَمَسُّوهُنَّ﴾:
أمر الله في هذه الآية بالمتعة على مَن طلَّق قبلَ الدخول ولم يَفْرِض. قال ابنُ المسَيِّب: كانت المتعةُ واجبةً لمن لم يُدخَل بها من النساء، بقوله في الأحزاب: ﴿فَمَتِّعوهُنَّ وسَرِّحوهنَّ سراحاً جَميلاً﴾ [الأحزاب: 49]، وبقوله في هذه السُّورة: ﴿ومَتِّعوهُنَّ على المُوسِعِ قَدَرُهُ، وعَلَى المُقْتِرِ قَدَرُهُ﴾ [البقرة: 236]. فنسخ ذلك بقوله: ﴿وإن طَلَّقْتُموهُنَّ مِن قَبْلِ أن تمسُّوهُنَّ وقَد فَرَضْتُم لَهُنَّ فَريضةً فَنِصْفُ ما فَرَضتُم﴾ [البقرة: 237].
وعنه أيضاً أنه قال: كانت المتعَةُ واجبةً بالآية التي في الأحزاب قولُه: ﴿فَمَتِّعُوهُنَّ وسَرِّحُوهُنَّ سراحاً جَمِيلاً﴾، قال: ثُمَّ نَسَخَها بالآية التي في البقرة، قولُه: ﴿حقَّاً على المُحْسِنين﴾، ولم يقل عليكُم ولا واجبٌ عليكم.
قال أبو محمد: ويلزَمُ من قالَ بهذا القولِ أن يكونَ المنسوخُ منها التي قد فُرض لها خاصة، وتكون التي لم يُفرَض لها باقيةً على حكم إيجاب المتعة؛ لأنه قال في الآية النَّاسِخة: ﴿وقد فَرَضْتُم لَهنَّ فريضةً﴾، فإذا كانت المطلَّقَةُ قبلَ الدَّخولِ بها لم يُفْرَض لها شيءٌ، فهي باقيةٌ على حكم الآيةِ الأُولى في إيجابِ المتعة - وهو قولُ ابنِ عباس وجماعةٍ من الفقهاء -.
لكن إيجابَ ذلك على المتقين وعلى المحسنين دونَ غيرِهم يدلُّ على أنه ندبٌ غيرُ فرض؛ إذ لم يقُل حقاً عليكم (وإذ لم يأت بتحديد ما يمتّع) به في كتابٍ ولا سُنَّةٍ ولا إجماعٍ. فالنَّدبُ أولى به؛ (إذ) لا يُعْلَمُ قدرُه.
وعن علي - رضي الله عنه - أنه قال: المتعةُ واجبةٌ لِكُلِّ مُطَلَّقةٍ - وبه قال الحسنُ وابنُ جبيرٍ والضَّحاك -.
وقال شُريح: المتعةُ: نَدَبَ الله إلى فعلِها عبادَه: قال: ولو كانت واجبةً لم تجب على المحسنين وعلى المتقين دونَ غيرِهم، ولكان يقول: حقاً عليكُم. وكان شُرَيح يقول: مَتِّعْ إن كنتَ من المحسنين. ألا تحبُّ أن تكون من المتقين.
وهذا القول هو الاختيارُ وهو مذهب مالك.
وأكثرُ الفقهاء يأمر مَن عقَدَ النِّكاحَ على التعريض ولم يَفْرِض وطَلَّق قبل الدخول بالمتعة، ولا يحكُم عليه بها.
ويكونُ قولُه تعالى في الأحزاب: ﴿فَمَتِّعوهُنَّ﴾، على الندب بدلالة آية البقرة في قوله: ["على المحسنين"، "وعلى المتقين"]؛ وبدَلالة (أنها غيرُ محدودةٍ) "ولا مُقَدَّرةٍ"، من كتاب الله ولا من سُنَّةِ رسول الله ولا مِن إجماع.
فَمَن مَتَّعَ بدرهمٍ فأقل وَجَبَ له اسمُ (الإِمتاع)، وكذلك مَنْ مَتَّعَ بألفِ مثقال.
وليس لهذا في الفروض نظيرٌ يُحْمَل عليه. فهو بالنَّدْبِ أولى مِنه بالفرض. وهو قولُ عامَّة الفقهاء والصَّحابة والتابعين إلا اليسير (منهم).
وقد أجمعوا على أن المطلَّقَةَ قبلَ الدخول لا تَضْرِبُ مع الغرماء بالمتعة كان قد فرض لها أو لم يفرض، وتضربُ معَهُم بنصفِ ما فُرِض لها. فدلَّ ذلك على أن المتعةَ غيرُ واجبةٍ.
وليس قول من احتجَّ بأن سورةَ الأحزاب نزلَت بعد البقرة فلا يَنْسَخُ ما في البقرة ما (في) الأحزاب بشيءٍ، لأنه لا يَدّعي أَحدٌ أن البقرةَ كُلَّها نزلت بعد الأحزاب. بل نزلَ منها (شيءٌ) قبل الأحزاب وبعدَها.
فقد قال ابنُ عباسٍ وعمرُ بن عبدِ العزيز: آخرُ (آيةٍ) نزلت: ﴿واتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلى الله﴾ [البقرة: 281].
(وقال) عمرٌ - رضي الله عنه -: آخر (ما نزل) آية الرِّبا.
ورُوِيَ أن قولَه: ﴿واتَّقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلى الله﴾ نزل قبل موت النبي ﷺ بثلاث ساعات، فقال: اجعلوها بعد ثمانين ومائتين من البقرة. فهذا يَدُلُّ على أنَّ أشياءَ من البقرة نزلت بعد الأحزاب. ولستا نعيّن شيئاً من ذلك إلا برواية صحيحة.
فلا حُجَّةَ في أن الأحزابَ نزلت بعد البقرة.
وعن ابن عباس: أَنَّ المتعةَ واجبةٌ للتي طُلِّقَت قبل الدخول ولم يُفْرَض لها. وبه قال العراقيون غيرَ أَنَّهم حدّوا (ما تُمَتَّع به)، فقالوا: إذا طلَّق قبل الدخول ولم يفرض لها، مَتَّعَها بمثل نصف صَداق مثلها.
{"ayah":"لَّا جُنَاحَ عَلَیۡكُمۡ إِن طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَاۤءَ مَا لَمۡ تَمَسُّوهُنَّ أَوۡ تَفۡرِضُوا۟ لَهُنَّ فَرِیضَةࣰۚ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى ٱلۡمُوسِعِ قَدَرُهُۥ وَعَلَى ٱلۡمُقۡتِرِ قَدَرُهُۥ مَتَـٰعَۢا بِٱلۡمَعۡرُوفِۖ حَقًّا عَلَى ٱلۡمُحۡسِنِینَ"}