الباحث القرآني
بابُ مُتْعَةِ المُطَلَّقَةِ
قالَ اللَّهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿لا جُناحَ عَلَيْكم إنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ومَتِّعُوهُنَّ﴾؛ تَقْدِيرُهُ: "ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ؛ ولَمْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً"؛ ألا تَرى أنَّهُ عَطَفَ (p-١٣٦)عَلَيْهِ قَوْلَهُ (تَعالى): ﴿وإنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أنْ تَمَسُّوهُنَّ وقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ﴾ [البقرة: ٢٣٧] ؟ فَلَوْ كانَ الأوَّلُ بِمَعْنى: "ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ؛ وقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً؛ أوْ لَمْ تَفْرِضُوا"؛ لَما عَطَفَ عَلَيْها المَفْرُوضَ لَها؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ مَعْناهُ: "ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ؛ ولَمْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً"؛ وقَدْ تَكُونُ "أوْ" بِمَعْنى الواوِ؛ قالَ اللَّهُ (تَعالى): ﴿ولا تُطِعْ مِنهم آثِمًا أوْ كَفُورًا﴾ [الإنسان: ٢٤]؛ مَعْناهُ: ولا كَفُورًا؛ وقالَ (تَعالى): ﴿وإنْ كُنْتُمْ مَرْضى أوْ عَلى سَفَرٍ أوْ جاءَ أحَدٌ مِنكم مِنَ الغائِطِ﴾ [المائدة: ٦]؛ والمَعْنى: وجاءَ أحَدٌ مِنكم مِنَ الغائِطِ؛ وأنْتُمْ مَرْضى؛ ومُسافِرُونَ؛ وقالَ (تَعالى): ﴿وأرْسَلْناهُ إلى مِائَةِ ألْفٍ أوْ يَزِيدُونَ﴾ [الصافات: ١٤٧]؛ مَعْناهُ: ويَزِيدُونَ؛ فَهَذا مَوْجُودٌ في اللُّغَةِ؛ وهي في النَّفْيِ أظْهَرُ في دُخُولِها عَلَيْهِ أنَّها بِمَعْنى الواوِ؛ مِنهُ ما قَدَّمْنا مِن قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿ولا تُطِعْ مِنهم آثِمًا أوْ كَفُورًا﴾ [الإنسان: ٢٤]؛ مَعْناهُ: ولا كَفُورًا؛ لِدُخُولِها عَلى النَّفْيِ؛ وقالَ (تَعالى): ﴿حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إلا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أوِ الحَوايا أوِ ما اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ﴾ [الأنعام: ١٤٦]؛ "أوْ" في هَذِهِ المَواضِعِ بِمَعْنى الواوِ؛ فَوَجَبَ عَلى هَذا أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿لا جُناحَ عَلَيْكم إنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾؛ لَمّا دَخَلَتْ عَلى النَّفْيِ؛ أنْ تَكُونَ بِمَعْنى الواوِ؛ فَيَكُونُ شَرْطُ وُجُوبِ المُتْعَةِ المَعْنَيَيْنِ جَمِيعًا؛ مِن عَدَمِ المَسِيسِ؛ والتَّسْمِيَةِ جَمِيعًا؛ بَعْدَ الطَّلاقِ.
وهَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ لِلرَّجُلِ أنْ يُطَلِّقَ امْرَأتَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِها في الحَيْضِ؛ وأنَّها لَيْسَتْ كالمَدْخُولِ بِها؛ لِإطْلاقِهِ إباحَةَ الطَّلاقِ مِن غَيْرِ تَفْصِيلٍ مِنهُ بِحالِ الطُّهْرِ؛ دُونَ الحَيْضِ.
وقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ؛ وفُقَهاءُ الأمْصارِ؛ في وُجُوبِ المُتْعَةِ؛ فَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أنَّهُ قالَ: "لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ مُتْعَةٌ"؛ وعَنِ الزُّهْرِيِّ مِثْلُهُ؛ وقالَ ابْنُ عُمَرَ: "لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ مُتْعَةٌ؛ إلّا الَّتِي تُطَلَّقُ وقَدْ فُرِضَ لَها صَداقٌ ولَمْ تُمَسَّ؛ فَحَسْبُها نِصْفُ ما فُرِضَ لَها"؛ ورُوِيَ عَنِ القاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ مِثْلُهُ؛ وقالَ شُرَيْحٌ؛ وإبْراهِيمُ؛ والحَسَنُ: "تُخَيَّرُ الَّتِي تُطَلَّقُ قَبْلَ الدُّخُولِ؛ ولَمْ يُفْرَضْ عَلى المُتْعَةِ"؛ وقالَ شُرَيْحٌ - وقَدْ سَألُوهُ في مَتاعٍ -: "لا نَأْبى أنْ نَكُونَ مِنَ المُتَّقِينَ"؛ فَقالَ: إنِّي مُحْتاجٌ؛ فَقالَ: "لا نَأْبى أنْ نَكُونَ مِنَ المُحْسِنِينَ"؛ وقَدْ رُوِيَ عَنِ الحَسَنِ؛ وأبِي العالِيَةِ: "لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ مَتاعٌ"؛ وسُئِلَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ المُتْعَةِ عَلى النّاسِ كُلِّهِمْ؛ فَقالَ: "لا؛ عَلى المُتَّقِينَ"؛ ورَوى ابْنُ أبِي الزِّنادِ عَنْ أبِيهِ - في كِتابِ البَيْعَةِ -: "وكانُوا لا يَرَوْنَ المَتاعَ لِلْمُطَلَّقَةِ واجِبًا؛ ولَكِنَّها تَخْصِيصٌ مِنَ اللَّهِ؛ وفَضْلٌ"؛ ورَوى عَطاءٌ؛ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: "إذا فَرَضَ الرَّجُلُ؛ وطَلَّقَ قَبْلَ أنْ يَمَسَّ؛ فَلَيْسَ لَها إلّا المَتاعُ"؛ وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ: "اَلْمُتْعَةُ لِلَّتِي لَمْ يُفْرَضْ لَها؛ والَّتِي قَدْ فُرِضَ لَها لَيْسَ لَها مُتْعَةٌ"؛ وذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحاقَ؛ عَنْ نافِعٍ قالَ: "كانَ ابْنُ عُمَرَ لا يَرى لِلْمُطَلَّقَةِ مُتْعَةً واجِبَةً؛ إلّا لِلَّتِي أُنْكِحَتْ بِالعِوَضِ؛ ثُمَّ يُطَلِّقُها قَبْلَ أنْ (p-١٣٧)يَدْخُلَ بِها"؛ ورَوى مَعْمَرٌ؛ عَنِ الزُّهْرِيِّ قالَ: "مُتْعَتانِ؛ إحْداهُما يَقْضِي بِها السُّلْطانُ؛ والأُخْرى حَقٌّ عَلى المُتَّقِينَ؛ مَن طَلَّقَ قَبْلَ أنْ يَفْرِضَ؛ ولَمْ يَدْخُلْ؛ أخَذَ بِالمُتْعَةِ؛ لِأنَّهُ لا صَداقَ عَلَيْهِ؛ ومَن طَلَّقَ بَعْدَما يَدْخُلُ؛ أوْ يَفْرِضُ؛ فالمُتْعَةُ حَقٌّ عَلَيْهِ"؛ وعَنْ مُجاهِدٍ نَحْوُ ذَلِكَ؛ فَهَذا قَوْلُ السَّلَفِ فِيها؛ وأمّا فُقَهاءُ الأمْصارِ فَإنَّ أبا حَنِيفَةَ؛ وأبا يُوسُفَ؛ ومُحَمَّدًا؛ وزُفَرَ؛ قالُوا: "اَلْمُتْعَةُ واجِبَةٌ لِلَّتِي طَلَّقَها قَبْلَ الدُّخُولِ؛ ولَمْ يُسَمِّ لَها مَهْرًا؛ وإنْ دَخَلَ بِها فَإنَّهُ يُمَتِّعُها؛ ولا يُجْبَرُ عَلَيْها"؛ وهو قَوْلُ الثَّوْرِيِّ؛ والحَسَنِ بْنِ صالِحٍ؛ والأوْزاعِيِّ؛ إلّا أنَّ الأوْزاعِيَّ زَعَمَ أنَّ أحَدَ الزَّوْجَيْنِ؛ إذا كانَ مَمْلُوكًا؛ لَمْ تَجِبِ المُتْعَةُ؛ وإنْ طَلَّقَها قَبْلَ الدُّخُولِ؛ ولَمْ يُسَمِّ لَها مَهْرًا؛ وقالَ ابْنُ أبِي لَيْلى؛ وأبُو الزِّنادِ: "اَلْمُتْعَةُ لَيْسَتْ واجِبَةً؛ إنْ شاءَ فَعَلَ؛ وإنْ شاءَ لَمْ يَفْعَلْ؛ ولا يُجْبَرُ عَلَيْها"؛ ولَمْ يُفَرِّقا بَيْنَ المَدْخُولِ بِها؛ وبَيْنَ غَيْرِ المَدْخُولِ بِها؛ وبَيْنَ مَن سُمِّيَ لَها؛ وبَيْنَ مَن لَمْ يُسَمَّ لَها؛ وقالَ مالِكٌ؛ واللَّيْثُ: "لا يُجْبَرُ أحَدٌ عَلى المُتْعَةِ؛ سَمّى لَها؛ أوْ لَمْ يُسَمِّ لَها؛ دَخَلَ بِها؛ أوْ لَمْ يَدْخُلْ؛ وإنَّما هي مِمّا يَنْبَغِي أنْ يَفْعَلَهُ؛ ولا يُجْبَرُ عَلَيْها؛ قالَ مالِكٌ: "ولَيْسَ لِلْمُلاعَنَةِ مُتْعَةٌ عَلى حالٍ مِنَ الحالاتِ"؛ وقالَ الشّافِعِيُّ: "اَلْمُتْعَةُ واجِبَةٌ لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ؛ ولِكُلِّ زَوْجَةٍ؛ إذا كانَ الفِراقُ مِن قِبَلِهِ؛ أوْ يَتِمُّ بِهِ؛ إلّا الَّتِي سَمّى لَها؛ وطَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ".
قالَ أبُو بَكْرٍ: نَبْدَأُ بِالكَلامِ في إيجابِ المُتْعَةِ؛ ثُمَّ نُعْقِبُهُ بِالكَلامِ عَلى مَن أوْجَبَها لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ؛ والدَّلِيلُ عَلى وُجُوبِها قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿لا جُناحَ عَلَيْكم إنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ومَتِّعُوهُنَّ عَلى المُوسِعِ قَدَرُهُ وعَلى المُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعًا بِالمَعْرُوفِ حَقًّا عَلى المُحْسِنِينَ﴾؛ وقالَ (تَعالى) - في آيَةٍ أُخْرى -: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا نَكَحْتُمُ المُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكم عَلَيْهِنَّ مِن عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وسَرِّحُوهُنَّ سَراحًا جَمِيلا﴾ [الأحزاب: ٤٩]؛ وقالَ - في آيَةٍ أُخْرى -: ﴿ولِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالمَعْرُوفِ حَقًّا عَلى المُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢٤١]؛ فَقَدْ حَوَتْ هَذِهِ الآياتُ الدَّلالَةَ عَلى وُجُوبِ المُتْعَةِ مِن وُجُوهٍ؛ أحَدُها قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿فَمَتِّعُوهُنَّ﴾ [الأحزاب: ٤٩]؛ لِأنَّهُ أمْرٌ؛ والأمْرُ يَقْتَضِي الوُجُوبَ؛ حَتّى تَقُومَ الدَّلالَةُ عَلى النَّدْبِ؛ والثّانِي قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿مَتاعًا بِالمَعْرُوفِ حَقًّا عَلى المُحْسِنِينَ﴾؛ ولَيْسَ في ألْفاظِ الإيجابِ آكَدُ مِن قَوْلِهِ: ( حَقًّا عَلى )؛ والثّالِثُ قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿حَقًّا عَلى المُحْسِنِينَ﴾؛ وهو تَأْكِيدٌ لِإيجابِهِ؛ إذْ جَعَلَها مِن شَرْطِ الإحْسانِ؛ وعَلى كُلِّ أحَدٍ أنْ يَكُونَ مِنَ المُحْسِنِينَ؛ وكَذَلِكَ قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿حَقًّا عَلى المُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢٤١]؛ فَقَدْ دَلَّ قَوْلُهُ ( حَقًّا عَلى )؛ عَلى الوُجُوبِ؛ وقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿حَقًّا عَلى المُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢٤١] تَأْكِيدٌ لِإيجابِها؛ وكَذَلِكَ قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿فَمَتِّعُوهُنَّ وسَرِّحُوهُنَّ سَراحًا جَمِيلا﴾ [الأحزاب: ٤٩]؛ قَدْ دَلَّ عَلى الوُجُوبِ؛ مِن حَيْثُ هو أمْرٌ؛ وقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿ولِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ (p-١٣٨)بِالمَعْرُوفِ﴾ [البقرة: ٢٤١]؛ يَقْتَضِي الوُجُوبَ أيْضًا؛ لِأنَّهُ جَعَلَها لَهُنَّ؛ وما كانَ لِلْإنْسانِ فَهو مِلْكُهُ؛ لَهُ المُطالَبَةُ بِهِ؛ كَقَوْلِكَ: "هَذِهِ الدّارُ لِزَيْدٍ ".
فَإنْ قِيلَ: لَمّا خَصَّ المُتَّقِينَ؛ والمُحْسِنِينَ؛ بِالذِّكْرِ في إيجابِ المُتْعَةِ عَلَيْهِمْ؛ دَلَّ عَلى أنَّها غَيْرُ واجِبَةٍ؛ وأنَّها نَدْبٌ؛ لِأنَّ الواجِباتِ لا يَخْتَلِفُ فِيها المُتَّقُونَ؛ والمُحْسِنُونَ؛ وغَيْرُهُمْ؛ قِيلَ لَهُ: إنَّما ذَكَرَ المُتَّقِينَ؛ والمُحْسِنِينَ؛ تَأْكِيدًا لِوُجُوبِها؛ ولَيْسَ تَخْصِيصُهم بِالذِّكْرِ نَفْيًا عَلى غَيْرِهِمْ؛ كَما قالَ (تَعالى): ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢]؛ وهو هُدًى لِلنّاسِ كافَّةً؛ وكَقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدًى لِلنّاسِ﴾ [البقرة: ١٨٥]؛ فَلَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢]؛ مُوجِبًا ألّا يَكُونَ هُدًى لِغَيْرِهِمْ؛ كَذَلِكَ قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿حَقًّا عَلى المُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢٤١]؛ أوْ ﴿حَقًّا عَلى المُحْسِنِينَ﴾؛ غَيْرُ نافٍ أنْ يَكُونَ حَقًّا عَلى غَيْرِهِمْ؛ وأيْضًا فَإنّا نُوجِبُها عَلى المُتَّقِينَ؛ والمُحْسِنِينَ؛ بِالآيَةِ؛ ونُوجِبُها عَلى غَيْرِهِمْ بِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿فَمَتِّعُوهُنَّ وسَرِّحُوهُنَّ سَراحًا جَمِيلا﴾ [الأحزاب: ٤٩]؛ وذَلِكَ عامٌّ في الجَمِيعِ بِالِاتِّفاقِ؛ لِأنَّ كُلَّ مَن أوْجَبَها مِن فُقَهاءِ الأمْصارِ عَلى المُحْسِنِينَ؛ والمُتَّقِينَ؛ أوْجَبَها عَلى غَيْرِهِمْ؛ ويَلْزَمُ هَذا السّائِلَ ألّا يَجْعَلَها نَدْبًا أيْضًا؛ لِأنَّ ما كانَ نَدْبًا لا يَخْتَلِفُ فِيهِ المُتَّقُونَ؛ وغَيْرُهُمْ؛ فَإذا جازَ تَخْصِيصُ المُتَّقِينَ؛ والمُحْسِنِينَ بِالذِّكْرِ في المَندُوبِ إلَيْهِ مِنَ المُتْعَةِ؛ وهم وغَيْرُهم فِيهِ سَواءٌ؛ فَكَذَلِكَ جائِزٌ تَخْصِيصُ المُحْسِنِينَ والمُتَّقِينَ بِالذِّكْرِ في الإيجابِ؛ ويَكُونُونَ هُمْ؛ وغَيْرُهم فِيهِ سَواءً؛ فَإنْ قِيلَ: لَمّا لَمْ يُخَصِّصِ المُتَّقِينَ؛ والمُحْسِنِينَ في سائِرِ الدُّيُونِ مِنَ الصَّداقِ؛ وسائِرِ عُقُودِ المُدايَناتِ؛ عِنْدَ إيجابِها عَلَيْهِمْ؛ وخَصَّهم بِذَلِكَ عِنْدَ ذِكْرِ المُتْعَةِ؛ دَلَّ عَلى أنَّها لَيْسَتْ بِواجِبَةٍ؛ قِيلَ لَهُ: إذا كانَ لَفْظُ الإيجابِ مَوْجُودًا في الجَمِيعِ؛ فالواجِبُ عَلَيْنا الحُكْمُ بِمُقْتَضى اللَّفْظِ؛ ثُمَّ تَخْصِيصُهُ بَعْضَ مَن أوْجَبَ عَلَيْهِ الحَقَّ بِذِكْرِ التَّقْوى؛ والإحْسانِ؛ إنَّما هو عَلى وجْهِ التَّأْكِيدِ؛ ووُجُوهُ التَّأْكِيدِ مُخْتَلِفَةٌ؛ فَمِنها ما يَكُونُ ذُكِرَ بِتَقْيِيدِ التَّقْوى؛ والإحْسانِ؛ ومِنها ما يَكُونُ بِتَخْصِيصِ لَفْظِ الأداءِ؛ نَحْوَ قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿وآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾ [النساء: ٤]؛ وقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أمانَتَهُ ولْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ﴾ [البقرة: ٢٨٣]؛ ومِنها ما يَكُونُ بِالأمْرِ بِالإشْهادِ عَلَيْهِ؛ والرَّهْنِ بِهِ؛ فَكَيْفَ يُسْتَدَلُّ بِلَفْظِ التَّأْكِيدِ عَلى نَفْيِ الإيجابِ؟ وأيْضًا فَإنّا وجَدْنا عَقْدَ النِّكاحِ لا يَخْلُو مِن إيجابِ البَدَلِ؛ إنْ كانَ مُسَمًّى؛ فالمُسَمّى؛ وإنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ تَسْمِيَةٌ؛ فَمَهْرُ المِثْلِ؛ ثُمَّ كانَتْ حالُهُ إذا كانَ فِيهِ تَسْمِيَةٌ أنَّ البُضْعَ لا يَخْلُو مِنَ اسْتِحْقاقِ البَدَلِ لَهُ؛ مَعَ وُرُودِ الطَّلاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ؛ وفارَقَ النِّكاحُ بِهَذا المَعْنى سائِرَ العُقُودِ؛ لِأنَّ عَوْدَ المَبِيعِ إلى مِلْكِ البائِعِ يُوجِبُ سُقُوطَ الثَّمَنِ كُلِّهِ؛ وسُقُوطُ حَقِّ الزَّوْجِ عَنْ بُضْعِها بِالطَّلاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ لا يُخْرِجُهُ مِنَ اسْتِحْقاقِ بَدَلِ ما هو نِصْفُ المُسَمّى؛ فَوَجَبَ (p-١٣٩)أنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمَهُ؛ إذا لَمْ تَكُنْ فِيهِ تَسْمِيَةٌ؛ والمَعْنى الجامِعُ بَيْنَهُما وُرُودُ الطَّلاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ؛ وأيْضًا فَإنَّ مَهْرَ المِثْلِ مُسْتَحَقٌّ بِالعَقْدِ؛ والمُتْعَةُ هي بَعْضُ مَهْرِ المِثْلِ؛ فَتَجِبُ كَما يَجِبُ نِصْفُ المُسَمّى؛ إذا طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ.
فَإنْ قِيلَ: مَهْرُ المِثْلِ دَراهِمُ؛ ودَنانِيرُ؛ والمُتْعَةُ إنَّما هي أثْوابٌ؛ قِيلَ لَهُ: اَلْمُتْعَةُ أيْضًا عِنْدَنا دَراهِمُ؛ ودَنانِيرُ؛ لَوْ أعْطاها لَمْ يُجْبَرْ عَلى غَيْرِها؛ وهَذا الَّذِي ذَكَرْناهُ مِن أنَّها بَعْضُ مَهْرِ المِثْلِ يَسُوغُ عَلى مَذْهَبِ مُحَمَّدٍ؛ لِأنَّهُ يَقُولُ: إذا رَهَنَها بِمَهْرِ المِثْلِ رَهْنًا؛ ثُمَّ طَلَّقَها قَبْلَ الدُّخُولِ؛ كانَ رَهْنًا بِالمُتْعَةِ؛ مَحْبُوسًا بِها؛ إنْ هَلَكَ هَلَكَ بِها؛ وأمّا أبُو يُوسُفَ فَإنَّهُ لا يَجْعَلُهُ رَهْنًا بِالمُتْعَةِ؛ فَإنْ هَلَكَ هَلَكَ بِغَيْرِ شَيْءٍ؛ والمُتْعَةُ واجِبَةٌ؛ باقِيَةٌ عَلَيْهِ؛ فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لَمْ يَرَها بَعْضَ مَهْرِ المِثْلِ؛ ولَكِنَّهُ أوْجَبَها بِمُقْتَضى ظاهِرِ القُرْآنِ؛ وبِالِاسْتِدْلالِ؛ وبِالأُصُولِ؛ عَلى أنَّ البُضْعَ لا يَخْلُو مِن بَدَلٍ؛ مَعَ وُرُودِ الطَّلاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ؛ وأنَّهُ لا فارِقَ بَيْنَ وُجُودِ التَّسْمِيَةِ في العَقْدِ؛ وبَيْنَ عَدَمِها؛ إذْ غَيْرُ جائِزٍ حُصُولُ مِلْكِ البُضْعِ لَهُ بِغَيْرِ بَدَلٍ؛ فَوُجُوبُ مَهْرِ المِثْلِ بِالعَقْدِ؛ عِنْدَ عَدَمِ التَّسْمِيَةِ؛ كَوُجُوبِ المُسَمّى فِيهِ؛ فَوَجَبَ أنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ حُكْمُهُما في وُجُوبِ بَدَلِ البُضْعِ؛ عِنْدَ وُرُودِ الطَّلاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ؛ وأنْ تَكُونَ المُتْعَةُ قائِمَةً مَقامَ بَعْضِ مَهْرِ المِثْلِ؛ وإنْ لَمْ تَكُنْ بَعْضَهُ؛ كَما تَقُومُ القِيَمُ مَقامَ المُسْتَهْلَكاتِ.
وقَدْ قالَ إبْراهِيمُ - في المُطَلَّقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ؛ وقَدْ سُمِّيَ لَها أنَّ لَها نِصْفَ الصَّداقِ -: "هُوَ مُتْعَتُها"؛ فَكانَتِ المُتْعَةُ اسْمًا لِما يُسْتَحَقُّ بَعْدَ الطَّلاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ؛ ويَكُونُ بَدَلًا مِنَ البُضْعِ؛ فَإنْ قِيلَ: إذا قامَتْ مَقامَ بَعْضِ مَهْرِ المِثْلِ؛ فَهو عِوَضٌ مِنَ المَهْرِ؛ والمَهْرُ لا يَجِبُ لَهُ عِوَضٌ قَبْلَ الطَّلاقِ؛ فَكَذَلِكَ بَعْدَهُ؛ قِيلَ لَهُ: لَمْ نَقُلْ: "إنَّهُ بَدَلٌ مِنهُ"؛ وإنْ قامَ مَقامَهُ؛ كَما لا نَقُولُ: إنَّ قِيَمَ المُسْتَهْلَكاتِ أبْدالٌ لَها؛ بَلْ كَأنَّها هِيَ؛ حِينَ قامَتْ مَقامَها؛ ألا تَرى أنَّ المُشْتَرِيَ لا يَجُوزُ لَهُ أخْذُ بَدَلِ المَبِيعِ قَبْلَ القَبْضِ؛ بِبَيْعٍ؛ ولا غَيْرِهِ؟ ولَوْ كانَ اسْتَهْلَكَهُ مُسْتَهْلِكٌ كانَ لَهُ أخْذُ القِيمَةِ مِنهُ؛ لِأنَّها تَقُومُ مَقامَهُ؛ كَأنَّها هُوَ؛ لا عَلى مَعْنى العِوَضِ؛ فَكَذَلِكَ المُتْعَةُ تَقُومُ مَقامَ بَعْضِ مَهْرِ المِثْلِ؛ بَدَلًا مِنَ البُضْعِ؛ كَما يَجِبُ نِصْفُ المُسَمّى بَدَلًا مِنَ البُضْعِ مَعَ الطَّلاقِ؛ فَإنْ قِيلَ: لَوْ كانَتِ المُتْعَةُ تَقُومُ مَقامَ بَعْضِ مَهْرِ المِثْلِ بَدَلًا مِنَ البُضْعِ؛ لَوَجَبَ اعْتِبارُها بِالمَرْأةِ؛ كَما يُعْتَبَرُ مَهْرُ المِثْلِ بِحالِها؛ دُونَ حالِ الزَّوْجِ؛ فَلَمّا أوْجَبَ اللَّهُ (تَعالى) اعْتِبارَ المُتْعَةِ بِحالِ الرَّجُلِ؛ في قَوْلِهِ (تَعالى): ﴿ومَتِّعُوهُنَّ عَلى المُوسِعِ قَدَرُهُ وعَلى المُقْتِرِ قَدَرُهُ﴾؛ دَلَّ عَلى أنَّها لَيْسَتْ بَدَلًا مِنَ البُضْعِ؛ وإذا لَمْ تَكُنْ بَدَلًا مِنَ البُضْعِ لَمْ يَجُزْ أنْ تَكُونَ بَدَلًا مِنَ الطَّلاقِ؛ لِأنَّ البُضْعَ يَحْصُلُ لَها بِالطَّلاقِ؛ فَلا يَجُوزُ أنْ تَسْتَحِقَّ بَدَلَ ما يَحْصُلُ لَها؛ وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّها (p-١٤٠)لَيْسَتْ بَدَلًا عَنْ شَيْءٍ؛ وإذا كانَ كَذَلِكَ عَلِمْنا أنَّها لَيْسَتْ بِواجِبَةٍ؛ قِيلَ لَهُ: أمّا قَوْلُكَ في اعْتِبارِ حالِهِ؛ دُونَ حالِها؛ فَلَيْسَ كَذَلِكَ عِنْدَنا؛ وأصْحابُنا المُتَأخِّرُونَ مُخْتَلِفُونَ فِيهِ؛ فَكانَ شَيْخُنا أبُو الحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: "يُعْتَبَرُ فِيها حالُ المَرْأةِ أيْضًا"؛ ولَيْسَ فِيهِ خِلافُ الآيَةِ؛ لِأنّا نَسْتَعْمِلُ حُكْمَ الآيَةِ مَعَ ذَلِكَ في اعْتِبارِ حالِ الزَّوْجِ؛ ومِنهم مَن يَقُولُ: "يُعْتَبَرُ حالُهُ؛ دُونَ حالِها"؛ ومَن قالَ بِهَذا يَلْزَمُهُ سُؤالُ هَذا السّائِلِ أيْضًا؛ لِأنَّهُ يَقُولُ: إنَّ مَهْرَ المِثْلِ إنَّما وجَبَ اعْتِبارُهُ بِها في الحالِ الَّتِي يَحْصُلُ فِيها البُضْعُ لِلزَّوْجِ؛ إمّا بِالدُّخُولِ؛ وإمّا بِالمَوْتِ القائِمِ مَقامَ الدُّخُولِ في اسْتِحْقاقِ كَمالِ المَهْرِ؛ فَكانَ بِمَنزِلَةِ قِيَمِ المُتْلَفاتِ في اعْتِبارِها بِأنْفُسِها؛ وأمّا المُتْعَةُ فَإنَّها لا تَجِبُ عِنْدَنا إلّا في حالِ سُقُوطِ حَقِّهِ مِن بُضْعِها؛ لِسَبَبٍ مِن قِبَلِهِ؛ قَبْلَ الدُّخُولِ؛ أوْ ما يَقُومُ مَقامَهُ؛ فَلَمْ يَجِبِ اعْتِبارُ حالِ المَرْأةِ؛ إذِ البُضْعُ غَيْرُ حاصِلٍ لِلزَّوْجِ؛ بَلْ حَصَلَ لَها بِسَبَبٍ مِن قِبَلِهِ؛ مِن غَيْرِ ثُبُوتِ حُكْمِ الدُّخُولِ؛ فَلِذَلِكَ اعْتُبِرَ حالُهُ؛ دُونَها؛ وأيْضًا.. لَوْ سَلَّمْنا لَكَ أنَّها لَيْسَتْ بَدَلًا عَنْ شَيْءٍ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ وُجُوبَها؛ لِأنَّ النَّفَقَةَ لَيْسَتْ بَدَلًا عَنْ شَيْءٍ؛ بِدَلالَةِ أنَّ بَدَلَ البُضْعِ هو المَهْرُ؛ وقَدْ مَلَكَهُ بِعَقْدِ النِّكاحِ؛ والدُّخُولُ والِاسْتِمْتاعُ إنَّما هُما تَصَرُّفٌ في مِلْكِهِ؛ وتَصَرُّفُ الإنْسانِ في مِلْكِهِ لا يُوجِبُ عَلَيْهِ بَدَلًا؛ ولَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ وُجُوبَها؛ ولِذَلِكَ تَلْزَمُهُ نَفَقَةُ أبِيهِ؛ وابْنِهِ الصَّغِيرِ؛ بِنَصِّ الكِتابِ؛ والإنْفاقُ لَيْسَ بَدَلًا عَنْ شَيْءٍ؛ ولَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ وُجُوبَها؛ والزَّكَواتُ والكَفّاراتُ لَيْسَتْ بَدَلًا عَنْ شَيْءٍ؛ وهُنَّ واجِباتٌ؛ فالمُسْتَدِلُّ بِكَوْنِها غَيْرَ بَدَلٍ عَنْ شَيْءٍ؛ عَلى نَفْيِ إيجابِها؛ مُغَفَّلٌ؛ وأيْضًا فاعْتِبارُها بِالرَّجُلِ وبِالمَرْأةِ إنَّما هو كَلامٌ في تَقْدِيرِها؛ والكَلامُ في التَّقْدِيرِ لَيْسَ يَتَعَلَّقُ بِالإيجابِ؛ ولا بِنَفْيِهِ؛ وأيْضًا لَوْ لَمْ تَكُنْ واجِبَةً؛ لَمْ تَكُنْ مُقَدَّرَةً بِحالِ الرَّجُلِ؛ فَلَمّا قالَ (تَعالى): ﴿عَلى المُوسِعِ قَدَرُهُ وعَلى المُقْتِرِ قَدَرُهُ﴾؛ دَلَّ عَلى الوُجُوبِ؛ إذْ ما لَيْسَ بِواجِبٍ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِحالِ الرَّجُلِ؛ إذْ لَهُ أنْ يَفْعَلَ ما شاءَ مِنهُ في حالِ اليَسارِ؛ والإعْسارِ؛ فَلَمّا قَدَّرَها بِحالِ الرَّجُلِ؛ ولَمْ يُطْلِقْها؛ فَيُخَيَّرَ الرَّجُلُ فِيها؛ دَلَّ عَلى وُجُوبِها؛ وهَذا يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ ابْتِداءَ دَلِيلٍ في المَسْألَةِ.
وقالَ هَذا القائِلُ أيْضًا: لَمّا قالَ (تَعالى): ﴿عَلى المُوسِعِ قَدَرُهُ وعَلى المُقْتِرِ قَدَرُهُ﴾؛ اِقْتَضى ذَلِكَ ألّا تَلْزَمَ المُقْتِرَ الَّذِي لا يَمْلِكُ شَيْئًا؛ وإذا لَمْ تَلْزَمْهُ لَمْ تَلْزَمِ المُوسِرَ؛ ومَن ألْزَمَها المُقْتِرَ فَقَدْ خَرَجَ مِن ظاهِرِ الكِتابِ؛ لِأنَّ مَن لا مالَ لَهُ لَمْ تَقْتَضِ الآيَةُ إيجابَها عَلَيْهِ؛ إذْ لا مالَ لَهُ فَيُعْتَبَرَ قَدَرُهُ؛ فَغَيْرُ جائِزٍ أنْ نَجْعَلَها دَيْنًا عَلَيْهِ؛ وألّا يَكُونَ مُخاطَبًا بِها؛
قالَ أبُو بَكْرٍ: هَذا الَّذِي ذَكَرَهُ هَذا القائِلُ إغْفالٌ مِنهُ لِمَعْنى الآيَةِ؛ لِأنَّ اللَّهَ (تَعالى) لَمْ يَقُلْ: "عَلى المُوسِعِ عَلى قَدْرِ مالِهِ؛ (p-١٤١)وعَلى المُقْتِرِ عَلى قَدْرِ مالِهِ"؛ وإنَّما قالَ (تَعالى): ﴿عَلى المُوسِعِ قَدَرُهُ وعَلى المُقْتِرِ قَدَرُهُ﴾؛ ولِلْمُقْتِرِ قَدَرٌ يُعْتَبَرُ بِهِ؛ وهو ثُبُوتُهُ في ذِمَّتِهِ حَتّى يَجِدَ فَيُسَلِّمَهُ؛ كَما قالَ اللَّهُ (تَعالى): ﴿وعَلى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفِ﴾ [البقرة: ٢٣٣]؛ فَأوْجَبَها عَلَيْهِ بِالمَعْرُوفِ؛ ولَوْ كانَ مُعْسِرًا لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ حُكْمِ الآيَةِ؛ لِأنَّ لَهُ ذِمَّةً تَثْبُتُ فِيها النَّفَقَةُ بِالمَعْرُوفِ؛ حَتّى إذا وجَدَها أعْطاها؛ كَذَلِكَ المُقْتِرُ في حُكْمِ المُتْعَةِ؛ وكَسائِرِ الحُقُوقِ الَّتِي تَثْبُتُ في الذِّمَّةِ؛ وتَكُونُ الذِّمَّةُ كالأعْيانِ؛ ألا تَرى أنَّ شِراءَ المُعْسِرِ بِمالٍ في ذِمَّتِهِ جائِزٌ؟ وقامَتِ الذِّمَّةُ مَقامَ العَيْنِ في بابِ ثُبُوتِ البَدَلِ فِيها؛ فَكَذَلِكَ ذِمَّةُ الزَّوْجِ المُقْتِرِ ذِمَّةٌ صَحِيحَةٌ؛ يَصِحُّ إثْباتُ المُتْعَةِ فِيها؛ كَما تَثْبُتُ فِيها النَّفَقاتُ؛ وسائِرُ الدُّيُونِ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: في هَذِهِ الآيَةِ دَلالَةٌ عَلى جَوازِ النِّكاحِ بِغَيْرِ تَسْمِيَةِ مَهْرٍ؛ لِأنَّ اللَّهَ (تَعالى) حَكَمَ بِصِحَّةِ الطَّلاقِ فِيهِ؛ مَعَ عَدَمِ التَّسْمِيَةِ؛ والطَّلاقُ لا يَقَعُ إلّا في نِكاحٍ صَحِيحٍ؛ وقَدْ تَضَمَّنَتِ الدَّلالَةَ عَلى أنَّ شَرْطَهُ أنْ لا صَداقَ لَها لا يُفْسِدُ النِّكاحَ؛ لِأنَّها لَمّا لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَ مَن سَكَتَ عَنِ التَّسْمِيَةِ؛ وبَيْنَ مَن شَرَطَ أنْ لا صَداقَ؛ فَهي عَلى الأمْرَيْنِ جَمِيعًا؛ وزَعَمَ مالِكٌ أنَّهُ إذا شَرَطَ أنْ لا مَهْرَ لَها فالنِّكاحُ فاسِدٌ؛ فَإنْ دَخَلَ بِها صَحَّ النِّكاحُ؛ ولَها مَهْرُ مِثْلِها؛ وقَدْ قَضَتِ الآيَةُ بِجَوازِ النِّكاحِ؛ وشَرْطُهُ أنْ لا مَهْرَ لَها لَيْسَ بِأكْثَرَ مِن تَرْكِ التَّسْمِيَةِ؛ فَإذا كانَ عَدَمُ التَّسْمِيَةِ لا يَقْدَحُ في العَقْدِ؛ فَكَذَلِكَ شَرْطُهُ أنْ لا مَهْرَ لَها؛ وإنَّما قالَ أصْحابُنا: إنَّها غَيْرُ واجِبَةٍ لِلْمَدْخُولِ بِها؛ لِأنّا قَدْ بَيَّنّا أنَّ المُتْعَةَ بَدَلٌ مِنَ البُضْعِ؛ وغَيْرُ جائِزٍ أنْ تَسْتَحِقَّ بَدَلَيْنِ؛ فَلَمّا كانَتْ مُسْتَحِقَّةً بَعْدَ الدُّخُولِ المُسَمّى؛ أوْ مَهْرِ المِثْلِ لَمْ يَجُزْ أنْ تَسْتَحِقَّ مَعَهُ المُتْعَةَ؛ ولا خِلافَ أيْضًا بَيْنَ فُقَهاءِ الأمْصارِ عَلى أنَّ المُطَلَّقَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ لا تَسْتَحِقُّها عَلى وجْهِ الوُجُوبِ إذا وجَبَ لَها نِصْفُ المَهْرِ؛ فَدَلَّ ذَلِكَ مِن وجْهَيْنِ عَلى ما ذَكَرْنا؛ أحَدُهُما أنَّها لَمْ تَسْتَحِقَّهُ مَعَ وُجُوبِ بَعْضِ المَهْرِ؛ فَألّا تَسْتَحِقَّهُ مَعَ وُجُوبِ جَمِيعِهِ أوْلى؛ والثّانِي أنَّ المَعْنى فِيهِ أنَّها قَدِ اسْتَحَقَّتْ شَيْئًا مِنَ المَهْرِ؛ وذَلِكَ مَوْجُودٌ في المَدْخُولِ بِها؛ فَإنْ قِيلَ: لَمّا وجَبَتِ المُتْعَةُ حِينَ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ مِنَ المَهْرِ؛ وجَبَ أنْ يَكُونَ وُجُوبُها عِنْدَ اسْتِحْقاقِ المَهْرِ أوْلى؛ قِيلَ لَهُ: فَيَنْبَغِي أنْ تَسْتَحِقَّها إذا وجَبَ نِصْفُ المَهْرِ؛ لِوُجُوبِها عِنْدَ عَدَمِ شَيْءٍ مِنهُ؛ وأيْضًا فَإنَّما اسْتَحَقَّتْها عِنْدَ فَقْدِ شَيْءٍ مِنَ المَهْرِ لِعِلَّةِ أنَّ البُضْعَ لا يَخْلُو مِن بَدَلٍ؛ قَبْلَ الطَّلاقِ؛ وبَعْدَهُ؛ فَلَمّا لَمْ يَجِبِ المَهْرُ وجَبَتِ المُتْعَةُ؛ ولَمّا اسْتَحَقَّتْ بَدَلًا آخَرَ لَمْ يَجُزْ أنْ تَسْتَحِقَّها؛ فَإنْ قِيلَ: قالَ اللَّهُ (تَعالى): ﴿ولِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالمَعْرُوفِ حَقًّا عَلى المُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢٤١]؛ وذَلِكَ عامٌّ في سائِرِهِنَّ؛ إلّا ما خَصَّهُ الدَّلِيلُ؛ قِيلَ لَهُ: هو كَذَلِكَ؛ إلّا أنَّ المَتاعَ اسْمٌ لِجَمِيعِ ما يُنْتَفَعُ بِهِ؛ قالَ اللَّهُ (تَعالى): (p-١٤٢)﴿وفاكِهَةً وأبًّا﴾ [عبس: ٣١] ﴿مَتاعًا لَكم ولأنْعامِكُمْ﴾ [عبس: ٣٢]؛ وقالَ (تَعالى): ﴿مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهم جَهَنَّمُ﴾ [آل عمران: ١٩٧]؛ وقالَ (تَعالى): ﴿إنَّما هَذِهِ الحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ﴾ [غافر: ٣٩]؛ وقالَ الأفْوَهُ الأوْدِيُّ:
؎إنَّما نِعْمَةُ قَوْمٍ مُتْعَةٌ ∗∗∗ وحَياةُ المَرْءِ ثَوْبٌ مُسْتَعارٌ
فالمُتْعَةُ؛ والمَتاعُ اسْمٌ يَقَعُ عَلى جَمِيعِ ما يُنْتَفَعُ بِهِ؛ ونَحْنُ مَتى أوْجَبْنا لِلْمُطَلَّقاتِ شَيْئًا مِمّا يُنْتَفَعُ بِهِ؛ مِن مَهْرٍ؛ أوْ نَفَقَةٍ؛ فَقَدْ قَضَيْنا عُهْدَةَ الآيَةِ؛ فَمُتْعَةُ الَّتِي لَمْ يُدْخَلْ بِها نِصْفُ المَهْرِ المُسَمّى؛ والَّتِي لَمْ يُسَمَّ لَها عَلى قَدْرِ حالِ الرَّجُلِ؛ والمَرْأةِ؛ ولِلْمَدْخُولِ بِها تارَةً المُسَمّى؛ وتارَةً المِثْلُ؛ إذا لَمْ يَكُنْ مُسَمًّى؛ وذَلِكَ كُلُّهُ مُتْعَةٌ؛ ولَيْسَ بِواجِبٍ إذا أوْجَبْنا لَها ضَرْبًا مِنَ المُتْعَةِ أنْ تُوجَبَ لَها سائِرُ ضُرُوبِها؛ لِأنَّ قَوْلَهُ (تَعالى): ﴿ولِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ﴾ [البقرة: ٢٤١]؛ إنَّما يَقْتَضِي أدْنى ما يَقَعُ عَلَيْهِ الِاسْمُ؛ فَإنْ قِيلَ: قَوْلُهُ (تَعالى): ﴿ولِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ﴾ [البقرة: ٢٤١]؛ يَقْتَضِي إيجابَهُ بِالطَّلاقِ؛ ولا يَقَعُ عَلى ما اسْتَحَقَّتْهُ قَبْلَهُ مِنَ المَهْرِ؛ قِيلَ لَهُ: لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأنَّهُ جائِزٌ أنْ تَقُولَ: "ولِلْمُطَلَّقاتِ المُهُورُ الَّتِي كانَتْ واجِبَةً لَهُنَّ قَبْلَ الطَّلاقِ"؛ فَلَيْسَ في ذِكْرِ وُجُوبِهِ بَعْدَ الطَّلاقِ ما يَنْفِي وُجُوبَهُ قَبْلَهُ؛ إذْ لَوْ كانَ كَذَلِكَ لَما جازَ ذِكْرُ وُجُوبِهِ في الحالَيْنِ؛ مَعَ ذِكْرِ الطَّلاقِ؛ فَتَكُونُ فائِدَةُ وُجُوبِهِ بَعْدَ الطَّلاقِ إعْلامَنا أنَّ مَعَ الطَّلاقِ يَجِبُ المَتاعُ؛ إذْ كانَ جائِزًا أنْ يَظُنَّ ظانٌّ أنَّ الطَّلاقَ يُسْقِطُ ما وجَبَ؛ فَأبانَ عَنْ إيجابِهِ بَعْدَهُ؛ كَهو قَبْلَهُ؛ وأيْضًا إنْ كانَ المُرادُ مَتاعًا وجَبَ بِالطَّلاقِ؛ فَهو عَلى ثَلاثَةِ أنْحاءٍ؛ إمّا نَفَقَةُ العِدَّةِ لِلْمَدْخُولِ بِها؛ أوِ المُتْعَةُ؛ أوْ نِصْفُ المُسَمّى لِغَيْرِ المَدْخُولِ بِها؛ وذَلِكَ مُتَعَلِّقٌ بِالطَّلاقِ؛ لِأنَّ النَّفَقَةَ تُسَمّى مَتاعًا؛ عَلى ما بَيَّنّا؛ كَما قالَ (تَعالى): ﴿والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكم ويَذَرُونَ أزْواجًا وصِيَّةً لأزْواجِهِمْ مَتاعًا إلى الحَوْلِ غَيْرَ إخْراجٍ﴾ [البقرة: ٢٤٠]؛ فَسَمّى النَّفَقَةَ والسُّكْنى الواجِبَتَيْنِ لَها مَتاعًا؛ ومِمّا يَدُلُّ عَلى أنَّ المُتْعَةَ غَيْرُ واجِبَةٍ مَعَ المَهْرِ اتِّفاقُ الجَمِيعِ عَلى أنَّهُ لَيْسَ لَها المُطالَبَةُ بِها قَبْلَ الطَّلاقِ؛ فَلَوْ كانَتِ المُتْعَةُ تَجِبُ مَعَ المَهْرِ بَعْدَ الطَّلاقِ لَوَجَبَتْ قَبْلَ الطَّلاقِ؛ إذْ كانَتْ بَدَلًا مِنَ البُضْعِ؛ ولَيْسَتْ بَدَلًا مِنَ الطَّلاقِ؛ فَكانَ يَكُونُ حُكْمُها حُكْمَ المَهْرِ؛ وفي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى امْتِناعِ وُجُوبِ المُتْعَةِ والمَهْرِ.
فَإنْ قِيلَ: فَأنْتُمْ تُوجِبُونَها بَعْدَ الطَّلاقِ لِمَن لَمْ يُسَمَّ لَها؛ ولَمْ يُدْخَلْ بِها؛ ولا تُوجِبُونَها قَبْلَهُ؛ ولَمْ يَكُنِ انْتِفاءُ وُجُوبِها قَبْلَ الطَّلاقِ دَلِيلًا عَلى انْتِفاءِ وُجُوبِها بَعْدَهُ؛ وكَذَلِكَ قُلْنا في المَدْخُولِ بِها؛ قِيلَ لَهُ: إنَّ المُتْعَةَ بَعْضُ مَهْرِ المِثْلِ؛ إذْ قامَ مَقامَ بَعْضِهِ؛ وقَدْ كانَتِ المُطالَبَةُ لَها واجِبَةً بِالمَهْرِ؛ قَبْلَ الطَّلاقِ؛ فَلِذَلِكَ صَحَّتْ بِبَعْضِهِ بَعْدَهُ؛ وأنْتَ لَسْتَ تَجْعَلُ المُتْعَةَ بَعْضَ المَهْرِ؛ فَلَمْ يَخْلُ إيجابُها مِن أنْ تَكُونَ بَدَلًا مِنَ البُضْعِ؛ أوْ مِنَ الطَّلاقِ؛ فَإنْ كانَتْ بَدَلًا مِنَ البُضْعِ مَعَ (p-١٤٣)مَهْرِ المِثْلِ فَواجِبٌ أنْ تَسْتَحِقَّها قَبْلَ الطَّلاقِ؛ وإنْ لَمْ تَكُنْ بَدَلًا مِنَ البُضْعِ اسْتَحالَ وُجُوبُها عَنِ الطَّلاقِ في حالِ حُصُولِ البُضْعِ لَها؛ واللَّهُ (تَعالى) أعْلَمُ.
* * *
ذِكْرُ تَقْدِيرِ المُتْعَةِ الواجِبَةِ
قالَ اللَّهُ (تَعالى): ﴿ومَتِّعُوهُنَّ عَلى المُوسِعِ قَدَرُهُ وعَلى المُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعًا بِالمَعْرُوفِ﴾؛ وإثْباتُ المِقْدارِ عَلى اعْتِبارِ حالِهِ في الإعْسارِ؛ واليَسارِ؛ طَرِيقُهُ الِاجْتِهادُ؛ وغالِبُ الظَّنِّ؛ ويَخْتَلِفُ ذَلِكَ في الأزْمانِ أيْضًا؛ لِأنَّ اللَّهَ (تَعالى) شَرَطَ في مِقْدارِها شَيْئَيْنِ؛ أحَدُهُما اعْتِبارُها بِيَسارِ الرَّجُلِ؛ وإعْسارِهِ؛ والثّانِي أنْ يَكُونَ بِالمَعْرُوفِ مَعَ ذَلِكَ؛ فَوَجَبَ اعْتِبارُ المَعْنَيَيْنِ في ذَلِكَ؛ وإذا كانَ كَذَلِكَ؛ وكانَ المَعْرُوفُ مِنهُما مَوْقُوفًا عَلى عاداتِ النّاسِ فِيها؛ والعاداتُ قَدْ تَخْتَلِفُ وتَتَغَيَّرُ؛ وجَبَ بِذَلِكَ مُراعاةُ العاداتِ في الأزْمانِ؛ وذَلِكَ أصْلٌ في جَوازِ الِاجْتِهادِ في أحْكامِ الحَوادِثِ؛ إذْ كانَ ذَلِكَ حُكْمًا مُؤَدِّيًا إلى اجْتِهادِ رَأْيِنا.
وقَدْ ذَكَرْنا أنَّ شَيْخَنا أبا الحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: يَجِبُ مَعَ ذَلِكَ اعْتِبارُ حالِ المَرْأةِ؛ وذَكَرَ ذَلِكَ أيْضًا عَلِيُّ بْنُ مُوسى القُمِّيُّ في كِتابِهِ؛ واحْتَجَّ بِأنَّ اللَّهَ (تَعالى) عَلَّقَ الحُكْمَ في تَقْدِيرِ المُتْعَةِ بِشَيْئَيْنِ: حالِ الرَّجُلِ بِيَسارِهِ؛ وإعْسارِهِ؛ وأنْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ بِالمَعْرُوفِ؛ قالَ: فَلَوِ اعْتَبَرْنا حالَ الرَّجُلِ وحْدَهُ عارِيًا مِنَ اعْتِبارِ حالِ المَرْأةِ؛ لَوَجَبَ أنْ يَكُونَ لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأتَيْنِ؛ إحْداهُما شَرِيفَةٌ؛ والأُخْرى دَنِيَّةٌ مَوْلاةٌ؛ ثُمَّ طَلَّقَهُما قَبْلَ الدُّخُولِ؛ ولَمْ يُسَمِّ لَهُما أنْ تَكُونا مُتَساوِيَتَيْنِ في المُتْعَةِ؛ فَتَجِبُ لِهَذِهِ الدَّنِيَّةِ؛ كَما تَجِبُ لِهَذِهِ الشَّرِيفَةِ؛ وهَذا مُنْكَرٌ في عاداتِ النّاسِ وأخْلاقِهِمْ؛ غَيْرُ مَعْرُوفٍ؛ قالَ: ويَفْسُدُ مِن وجْهٍ آخَرَ قَوْلُ مَنِ اعْتَبَرَ حالَ الرَّجُلِ وحْدَهُ؛ دُونَها؛ وهو أنَّهُ لَوْ كانَ رَجُلًا مُوسِرًا عَظِيمَ الشَّأْنِ؛ فَتَزَوَّجَ امْرَأةً دَنِيَّةً؛ مَهْرُ مِثْلِها دِينارٌ؛ أنَّهُ لَوْ دَخَلَ بِها وجَبَ لَها مَهْرُ مِثْلِها؛ إذا لَمْ يُسَمِّ لَها شَيْئًا؛ دِينارٌ واحِدٌ؛ ولَوْ طَلَّقَها قَبْلَ الدُّخُولِ لَزِمَتْهُ المُتْعَةُ عَلى قَدْرِ حالِهِ؛ وقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ أضْعافَ مَهْرِ مِثْلِها؛ فَتَسْتَحِقُّ قَبْلَ الدُّخُولِ بَعْدَ الطَّلاقِ أكْثَرَ مِمّا تَسْتَحِقُّهُ بَعْدَ الدُّخُولِ؛ وهَذا خُلْفٌ مِنَ القَوْلِ؛ لِأنَّ اللَّهَ (تَعالى) قَدْ أوْجَبَ لِلْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ نِصْفَ ما أوْجَبَهُ لَها بَعْدَ الدُّخُولِ؛ فَإذا كانَ القَوْلُ بِاعْتِبارِ حالِ الرَّجُلِ؛ دُونَها؛ يُؤَدِّي إلى مُخالَفَةِ مَعْنى الكِتابِ؛ ودَلالَتِهِ؛ وإلى خِلافِ المَعْرُوفِ في العاداتِ؛ سَقَطَ؛ ووَجَبَ اعْتِبارُ حالِها مَعَهُ؛ ويَفْسُدُ أيْضًا مِن وجْهٍ آخَرَ؛ وهو أنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ رَجُلانِ مُوسِرانِ أُخْتَيْنِ فَدَخَلَ أحَدُهُما بِامْرَأتِهِ؛ كانَ لَها مَهْرُ مِثْلِها؛ ألْفُ دِرْهَمٍ؛ إذْ لَمْ يُسَمِّ لَها مَهْرًا؛ وطَلَّقَ الآخَرُ امْرَأتَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ؛ مِن غَيْرِ تَسْمِيَةٍ؛ أنْ تَكُونَ المُتْعَةُ لَها عَلى قَدْرِ (p-١٤٤)حالِ الرَّجُلِ؛ وجائِزٌ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ أضْعافَ مَهْرِ أُخْتِها؛ فَيَكُونَ ما تَأْخُذُهُ المَدْخُولُ بِها أقَلَّ مِمّا تَأْخُذُهُ المُطَلَّقَةُ؛ وقِيمَةُ البُضْعَيْنِ واحِدَةٌ؛ وهُما مُتَساوِيَتانِ في المَهْرِ؛ فَيَكُونَ الدُّخُولُ مُدْخِلًا عَلَيْها ضَرَرًا؛ ونُقْصانًا في البَدَنِ؛ وهَذا مُنْكَرٌ؛ غَيْرُ مَعْرُوفٍ؛ فَهَذِهِ الوُجُوهُ كُلُّها تَدُلُّ عَلى اعْتِبارِ حالِ المَرْأةِ مَعَهُ.
وقالَ أصْحابُنا: إنَّهُ إذا طَلَّقَها قَبْلَ الدُّخُولِ؛ ولَمْ يُسَمِّ لَها؛ وكانَتْ مُتْعَتُها أكْثَرَ مِن نِصْفِ مَهْرِ مِثْلِها؛ فَإنَّها لا تُجاوِزُ بِها نِصْفَ مَهْرِ مِثْلِها؛ فَيَكُونَ لَها الأقَلُّ؛ مِن نِصْفِ مَهْرِ مِثْلِها؛ ومِنَ المُتْعَةِ؛ لِأنَّ اللَّهَ (تَعالى) لَمْ يَجْعَلْ لِلْمُسَمّى لَها أكْثَرَ مِن نِصْفِ التَّسْمِيَةِ؛ مَعَ الطَّلاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ؛ فَغَيْرُ جائِزٍ أنْ يُعْطِيَها عِنْدَ عَدَمِ التَّسْمِيَةِ أكْثَرَ مِن نِصْفِ مَهْرِ المِثْلِ؛ ولَمّا كانَ المُسَمّى؛ مَعَ ذَلِكَ؛ أكْثَرَ مِن مَهْرِ المِثْلِ - فَلَمْ تَسْتَحِقَّ بَعْدَ الطَّلاقِ أكْثَرَ مِنَ النِّصْفِ - فَفي مَهْرِ المِثْلِ أوْلى.
ولَمْ يُقَدِّرْ أصْحابُنا لَها مِقْدارًا مَعْلُومًا لا يُتَجاوَزُ بِهِ؛ ولا يُقْصَرُ عَنْهُ؛ وقالُوا: هي عَلى قَدْرِ المُعْتادِ؛ المُتَعارَفِ في كُلِّ وقْتٍ؛ وقَدْ ذُكِرَ عَنْهُمْ: ثَلاثَةُ أثْوابٍ: دِرْعٌ؛ وخِمارٌ؛ وإزارٌ؛ والإزارُ هو الَّذِي تَسْتَتِرُ بِهِ بَيْنَ النّاسِ عِنْدَ الخُرُوجِ.
وقَدْ ذُكِرَ عَنِ السَّلَفِ في مِقْدارِها أقاوِيلُ مُخْتَلِفَةٌ؛ عَلى حَسَبِ ما غَلَبَ في رَأْيِ كُلِّ واحِدٍ مِنهُمْ؛ فَرَوى إسْماعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ؛ عَنْ عِكْرِمَةَ؛ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: "أعْلى المُتْعَةِ الخادِمُ؛ ثُمَّ دُونَ ذَلِكَ النَّفَقَةُ؛ ثُمَّ دُونَ ذَلِكَ الكِسْوَةُ"؛ ورَوى إياسُ بْنُ مُعاوِيَةَ؛ عَنْ أبِي مُجَلَّزٍ قالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: أخْبِرْنِي عَلى قَدْرِي؛ فَإنِّي مُوسِرٌ؛ أكْسُو كَذا.. أكْسُو كَذا.. فَحَسَبْتُ ذَلِكَ فَوَجَدْتُهُ قِيمَةَ ثَلاثِينَ دِرْهَمًا؛ ورَوى عَمْرٌو؛ عَنِ الحَسَنِ قالَ: لَيْسَ في المُتْعَةِ شَيْءٌ يُوَقَّتُ عَلى قَدْرِ المَيْسَرَةِ؛ وكانَ حَمّادٌ يَقُولُ: يُمَتِّعُها بِنِصْفِ مَهْرِ مِثْلِها؛ وقالَ عَطاءٌ: أوْسَعُ المُتْعَةِ دِرْعٌ؛ وخِمارٌ؛ ومِلْحَفَةٌ؛ وقالَ الشَّعْبِيُّ: كِسْوَتُها في بَيْتِها دِرْعٌ؛ وخِمارٌ؛ ومِلْحَفَةٌ؛ وجِلْبابٌ؛ ورَوى يُونُسُ؛ عَنِ الحَسَنِ قالَ: كانَ مِنهم مَن يُمَتِّعُ بِالخادِمِ؛ والنَّفَقَةِ؛ ومِنهم مَن يُمَتِّعُ بِالكِسْوَةِ؛ والنَّفَقَةِ؛ ومَن كانَ دُونَ ذَلِكَ فَثَلاثَةُ أثْوابٍ: دِرْعٌ؛ وخِمارٌ؛ ومِلْحَفَةٌ؛ ومَن كانَ دُونَ ذَلِكَ مَتَّعَ بِثَوْبٍ واحِدٍ؛ ورَوى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ؛ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ قالَ: أفْضَلُ المُتْعَةِ خِمارٌ؛ وأوْضَعُها ثَوْبٌ؛ ورَوى الحَجّاجُ؛ عَنْ أبِي إسْحاقَ أنَّهُ سَألَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ عَنْها؛ فَقالَ: لَها المُتْعَةُ عَلى قَدْرِ مالِهِ؛ وهَذِهِ المَقادِيرُ كُلُّها صَدَرَتْ عَنِ اجْتِهادِ آرائِهِمْ؛ ولَمْ يُنْكِرْ بَعْضُهم عَلى بَعْضٍ ما صارَ إلَيْهِ مِن مُخالَفَتِهِ فِيهِ؛ فَدَلَّ عَلى أنَّها عِنْدَهم مَوْضُوعَةٌ عَلى ما يُؤَدِّيهِ إلَيْهِ اجْتِهادُهُ؛ وهي بِمَنزِلَةِ تَقْوِيمِ المُتْلَفاتِ؛ وأُرُوشِ الجِناياتِ؛ الَّتِي لَيْسَ لَها مَقادِيرُ مَعْلُومَةٌ في النُّصُوصِ.
قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿وإنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أنْ تَمَسُّوهُنَّ وقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ (p-١٤٥)ما فَرَضْتُمْ﴾ [البقرة: ٢٣٧]؛ قِيلَ: إنَّ أصْلَ الفَرْضِ: اَلْحَزُّ في القِداحِ؛ عَلامَةً لَها تُمَيِّزُ بَيْنَها؛ والفُرْضَةُ: اَلْعَلامَةُ في قَسْمِ الماءِ؛ عَلى خَشَبٍ؛ أوْ جَصٍّ؛ أوْ حِجارَةٍ؛ يَعْرِفُ بِها كُلُّ ذِي حَقٍّ نَصِيبَهُ مِنَ الشُّرْبِ؛ وقَدْ سُمِّيَ الشَّطُّ الَّذِي تَرْفَأُ فِيهِ السُّفُنُ "فُرْضَةً"؛ لِحُصُولِ الأثَرِ فِيهِ بِالنُّزُولِ إلى السُّفُنِ؛ والصُّعُودِ مِنها؛ ثُمَّ صارَ اسْمُ الفَرْضِ في الشَّرْعِ واقِعًا عَلى المِقْدارِ؛ وعَلى ما كانَ في أعْلى مَراتِبِ الإيجابِ مِنَ الواجِباتِ؛ وقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿إنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ القُرْآنَ﴾ [القصص: ٨٥]؛ مَعْناهُ: أنْزَلَ؛ وأوْجَبَ عَلَيْكَ أحْكامَهُ؛ وتَبْلِيغَهُ؛ وقَوْلُهُ (تَعالى) - عِنْدَ ذِكْرِ المَوارِيثِ -: ﴿فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ﴾ [النساء: ١١]؛ يَنْتَظِمُ الأمْرَيْنِ؛ مِن مَعْنى الإيجابِ لِمَقادِيرِ الأنْصِباءِ الَّتِي بَيَّنَها لِذَوِي المِيراثِ؛ وقَوْلُهُ (تَعالى): ﴿وإنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أنْ تَمَسُّوهُنَّ وقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ [البقرة: ٢٣٧]؛ اَلْمُرادُ بِالفَرْضِ هَهُنا تَقْدِيرُ المَهْرِ؛ وتَسْمِيَتُهُ في العَقْدِ؛ ومِنهُ: فَرائِضُ الإبِلِ؛ وهي المَقادِيرُ الواجِبَةُ فِيها عَلى اعْتِبارِ أعْدادِها؛ وأسْنانِها؛ فَسَمّى التَّقْدِيرَ فَرْضًا؛ تَشْبِيهًا لَهُ بِالحَزِّ الواقِعِ في القِداحِ؛ الَّتِي تَتَمَيَّزُ بِهِ مِن غَيْرِها؛ وكَذَلِكَ سَبِيلُ ما كانَ مُقَدَّرًا مِنَ الأشْياءِ؛ فَقَدْ حَصَلَ التَّمْيِيزُ بِهِ بَيْنَهُ وبَيْنَ غَيْرِهِ؛ والدَّلِيلُ عَلى أنَّ المُرادَ بِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿وقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾ [البقرة: ٢٣٧]؛ تَسْمِيَةُ المِقْدارِ في العَقْدِ؛ أنَّهُ قَدَّمَ ذِكْرَ المُطَلَّقَةِ الَّتِي لَمْ يُسَمَّ لَها؛ بِقَوْلِهِ (تَعالى): ﴿لا جُناحَ عَلَيْكم إنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً﴾؛ ثُمَّ عَقَّبَهُ بِذِكْرِ مَن فُرِضَ لَها؛ وطُلِّقَتْ بَعْدَ الدُّخُولِ؛ فَلَمّا كانَ الأوَّلُ عَلى نَفْيِ التَّسْمِيَةِ؛ كانَ الثّانِي عَلى إثْباتِها؛ فَأوْجَبَ اللَّهُ (تَعالى) لَها نِصْفَ المَفْرُوضِ؛ بِنَصِّ التَّنْزِيلِ.
وقَدِ اخْتُلِفَ فِيمَن سُمِّيَ لَها بَعْدَ العَقْدِ ثُمَّ طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ؛ فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ: "لَها مَهْرُ مِثْلِها"؛ وهو قَوْلُ مُحَمَّدٍ؛ وكانَ أبُو يُوسُفَ يَقُولُ: "لَها نِصْفُ الفَرْضِ"؛ ثُمَّ رَجَعَ إلى قَوْلِهِما؛ وقالَ مالِكٌ؛ والشّافِعِيُّ: "لَها نِصْفُ الفَرْضِ"؛ والدَّلِيلُ عَلى أنَّ لَها مَهْرَ مِثْلِها أنَّ مُوجَبَ هَذا العَقْدِ مَهْرُ المِثْلِ؛ وقَدِ اقْتَضى وُجُوبُ مَهْرِ المِثْلِ بِالعَقْدِ وُجُوبَ المُتْعَةِ بِالطَّلاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ؛ فَلَمّا تَراضَيا عَلى تَسْمِيَةٍ لَمْ يَنْتَفِ مُوجَبُ العَقْدِ مِنَ المُتْعَةِ؛ والدَّلِيلُ عَلى ذَلِكَ أنَّ هَذا الفَرْضَ لَمْ يَكُنْ مُسَمًّى في العَقْدِ كَما لَمْ يَكُنْ مَهْرُ المِثْلِ مُسَمًّى فِيهِ؛ وإنْ كانَ واجِبًا بِهِ؛ فَلَمّا كانَ وُرُودُ الطَّلاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ مُسْقِطًا لِمَهْرِ المِثْلِ بَعْدَ وُجُوبِهِ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ مُسَمًّى في العَقْدِ؛ وجَبَ أنْ يَكُونَ كَذَلِكَ حُكْمُ المَفْرُوضِ بَعْدَهُ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ مُسَمًّى فِيهِ.
فَإنْ قِيلَ: مَهْرُ المِثْلِ لَمْ يُوجِبْهُ العَقْدُ؛ وإنَّما وجَبَ بِالدُّخُولِ؛ قِيلَ لَهُ: هَذا غَلَطٌ؛ لِأنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ اسْتِباحَةُ البُضْعِ بِغَيْرِ بَدَلٍ؛ والدَّلِيلُ عَلى ذَلِكَ أنَّهُ لَوْ شَرَطَ في العَقْدِ أنَّهُ لا مَهْرَ لَها لَوَجَبَ لَها المَهْرُ؛ فَلَمّا كانَ المَهْرُ بَدَلًا مِنَ اسْتِباحَةِ البُضْعِ؛ ولَمْ يَجُزْ نَفْيُهُ بِالشَّرْطِ؛ وجَبَ أنْ يَكُونَ؛ (p-١٤٦)مِن حَيْثُ اسْتَباحَ البُضْعَ؛ أنْ يَلْزَمَهُ المَهْرُ؛ ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ أنَّ الدُّخُولَ؛ بَعْدَ صِحَّةِ العَقْدِ؛ إنَّما هو تَصَرُّفٌ فِيما قَدْ مَلَكَهُ؛ وتَصَرُّفُ الإنْسانِ في مِلْكِهِ لا يُلْزِمُهُ بَدَلًا؛ ألا تَرى أنَّ تَصَرُّفَ المُشْتَرِي في السِّلْعَةِ لا يُوجِبُ عَلَيْهِ بَدَلًا بِالتَّصَرُّفِ؟ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى اسْتِحْقاقِها لِمَهْرِ المِثْلِ بِالعَقْدِ؛ ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ أيْضًا اتِّفاقُ الجَمِيعِ عَلى أنَّ لَها أنْ تَمْنَعَ نَفْسَها بِمَهْرِ المِثْلِ؛ ولَوْ لَمْ تَكُنْ قَدِ اسْتَحَقَّتْهُ بِالعَقْدِ فَكَيْفَ كانَ يَجُوزُ لَها أنْ تَمْنَعَ نَفْسَها بِما لَمْ يَجِبْ بَعْدُ؟ ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ أيْضًا أنَّ لَها المُطالَبَةَ بِهِ؛ ولَوْ خاصَمَتْهُ إلى القاضِي لَقَضى بِهِ لَها؛ والقاضِي لا يَبْتَدِئُ إيجابَ مَهْرٍ لَمْ تَسْتَحِقَّهُ كَما يَبْتَدِئُ إيجابَ سائِرِ الدُّيُونِ؛ إذا لَمْ تَكُنْ مُسْتَحَقَّةً؛ وذَلِكَ كُلُّهُ دَلِيلٌ عَلى أنَّ الَّتِي لَمْ يُفْرَضْ لَها مَهْرٌ قَدِ اسْتَحَقَّتْ مَهْرَ المِثْلِ بِالعَقْدِ؛ ومَلَكَتْهُ عَلى الزَّوْجِ؛ حَسَبَ مِلْكِها لِلْمُسَمّى؛ لَوْ كانَتْ في العَقْدِ تَسْمِيَةٌ.
فَإنْ قِيلَ: لَوْ كانَ مَهْرُ المِثْلِ واجِبًا بِالعَقْدِ لَما سَقَطَ كُلُّهُ بِالطَّلاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ؛ كَما لا يَسْقُطُ جَمِيعُ المُسَمّى؛ قِيلَ لَهُ: لَمْ يَسْقُطْ كُلُّهُ؛ لِأنَّ المُتْعَةَ بَعْضُهُ؛ عَلى ما قَدَّمْنا؛ وهي بِإزاءِ نِصْفِ المُسَمّى لِمَن طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ؛ وزَعَمَ إسْماعِيلُ بْنُ إسْحاقَ أنَّ المَهْرَ لا يَجِبُ بِالعَقْدِ؛ وإنِ اسْتَباحَ الزَّوْجُ البُضْعَ؛ قالَ: "لِأنَّ الزَّوْجَ بِإزاءِ الزَّوْجَةِ كالثَّمَنِ بِإزاءِ المَبِيعِ"؛ فَإنْ كانَ كَما قالَ فَواجِبٌ ألّا يَلْزَمَهُ المَهْرُ بِالدُّخُولِ؛ لِأنَّ الوَطْءَ كانَ مُسْتَحَقًّا لَها عَلى الزَّوْجِ؛ كَما اسْتَحَقَّ هو التَّسْلِيمَ عَلَيْها؛ إذْ ما اسْتَباحَهُ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما بِإزاءِ ما اسْتَباحَهُ الآخَرُ؛ فَمِن أيْنَ صارَ الزَّوْجُ مَخْصُوصًا بِإيجابِ المَهْرِ إذا دَخَلَ بِها؟ ويَنْبَغِي ألّا يَكُونَ لَها أنْ تَحْبِسَ نَفْسَها بِالمَهْرِ إذا لَمْ تَسْتَحِقَّ ذَلِكَ بِالعَقْدِ؛ وواجِبٌ أيْضًا ألّا تَصِحَّ تَسْمِيَةُ المَهْرِ؛ لِأنَّهُ قَدْ صَحَّ مِن جِهَتِهِ بِما عَقَدَ عَلَيْهِ؛ كَما صَحَّ مِن جِهَتِها؛ فَلا يَلْزَمُهُ المَهْرُ؛ كَما لا يَلْزَمُها لَهُ شَيْءٌ؛ وواجِبٌ عَلى هَذا ألّا يُقَوَّمَ البُضْعُ عَلَيْها بِالدُّخُولِ؛ وبِالوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ؛ وألّا يَصِحَّ أخْذُ البَدَلِ مِنها لِسُقُوطِ حَقِّهِ عَنْ بُضْعِها؛ وهَذا كُلُّهُ - مَعَ ما عَقَلَتِ الأُمَّةُ مِن أنَّ الزَّوْجَ يَجِبُ عَلَيْهِ المَهْرُ بَدَلًا مِنَ اسْتِباحَةِ البُضْعِ - يَدُلُّ عَلى سُقُوطِ قَوْلِ هَذا القائِلِ.
وقَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ «فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السّاعِدِيِّ؛ حِينَ قالَ لِلرَّجُلِ الَّذِي خَطَبَ إلَيْهِ المَرْأةَ الَّتِي وهَبَتْ نَفْسَها لَهُ: "قَدْ مَلَكْتَها بِما مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ"؛» يَدُلُّ عَلى أنَّ الزَّوْجَ في مَعْنى المالِكِ لِبُضْعِها؛ ومِنَ الدَّلِيلِ عَلى أنَّ الفَرْضَ الواقِعَ بَعْدَ العَقْدِ يُسْقِطُهُ الطَّلاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ؛ أنَّ الفَرْضَ إنَّما أُقِيمَ مَقامَ مَهْرِ المِثْلِ؛ لِأنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ إيجابُهُ مَعَ مَهْرِ المِثْلِ؛ ولَمّا كانَ كَذَلِكَ وجَبَ أنْ يُسْقِطَهُ الطَّلاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ؛ كَما يَسْقُطُ مَهْرُ المِثْلِ؛ ومِن جِهَةٍ أُخْرى أنَّ الفَرْضَ إنَّما أُلْحِقَ بِالعَقْدِ؛ ولَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا فِيهِ؛ فَمِن حَيْثُ بَطَلَ العَقْدُ بَطَلَ (p-١٤٧)ما أُلْحِقَ بِهِ.
فَإنْ قِيلَ: فالمُسَمّى في العَقْدِ ثُبُوتُهُ كانَ بِالعَقْدِ؛ ولا يَبْطُلُ بِبُطْلانِهِ؛ قِيلَ لَهُ: قَدْ كانَ أبُو الحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: "إنَّ المُسَمّى قَدْ بَطَلَ؛ وإنَّما يَجِبُ نِصْفُ المَهْرِ حَسَبَ وُجُوبِ المُتْعَةِ "؛ وكَذَلِكَ قالَ إبْراهِيمُ النَّخَعِيُّ: "هَذا مُتْعَتُها"؛ ومِنَ النّاسِ مَن يَحْتَجُّ بِهَذِهِ الآيَةِ في أنَّ المَهْرَ قَدْ يَكُونُ أقَلَّ مِن عَشَرَةِ دَراهِمَ؛ لِأنَّ اللَّهَ (تَعالى) قالَ: ﴿وإنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أنْ تَمَسُّوهُنَّ وقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ﴾ [البقرة: ٢٣٧]؛ فَإذا سَمّى دِرْهَمَيْنِ في العَقْدِ وجَبَ بِقَضِيَّةِ الآيَةِ ألّا تَسْتَحِقَّ بَعْدَ الطَّلاقِ أكْثَرَ مِن دِرْهَمٍ؛ وهَذا لا يَدُلُّ عِنْدَنا عَلى ما قالُوا؛ وذَلِكَ لِأنَّ تَسْمِيَةَ الدِّرْهَمَيْنِ عِنْدَنا تَسْمِيَةُ العَشَرَةِ؛ لِأنَّ العَشَرَةَ لا تَتَبَعَّضُ في العَقْدِ؛ والتَّسْمِيَةُ لِبَعْضِها تَسْمِيَةٌ لِجَمِيعِها؛ كَما أنَّ الطَّلاقَ لَمّا لَمْ يَتَبَعَّضْ؛ كانَ إيقاعُهُ لِنِصْفِ تَطْلِيقَةٍ إيقاعًا لِجَمِيعِها؛ والَّذِي قَدْ فَرَضَ أقَلَّ مِن عَشَرَةٍ قَدْ فَرَضَ العَشَرَةَ عِنْدَنا؛ فَيَجِبُ نِصْفُها بَعْدَ الطَّلاقِ؛ وأيْضًا فَإنَّ الَّذِي اقْتَضَتْهُ الآيَةُ وُجُوبُ نِصْفِ المَفْرُوضِ؛ ونَحْنُ نُوجِبُ نِصْفَ المَفْرُوضِ ثُمَّ نُوجِبُ الزِّيادَةَ إلى تَمامِ خَمْسَةِ دَراهِمَ بِدَلالَةٍ أُخْرى؛ واللَّهُ أعْلَمُ.
{"ayah":"لَّا جُنَاحَ عَلَیۡكُمۡ إِن طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَاۤءَ مَا لَمۡ تَمَسُّوهُنَّ أَوۡ تَفۡرِضُوا۟ لَهُنَّ فَرِیضَةࣰۚ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى ٱلۡمُوسِعِ قَدَرُهُۥ وَعَلَى ٱلۡمُقۡتِرِ قَدَرُهُۥ مَتَـٰعَۢا بِٱلۡمَعۡرُوفِۖ حَقًّا عَلَى ٱلۡمُحۡسِنِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق