الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ومَتِّعُوهُنَّ عَلى المُوسِعِ قَدَرُهُ وعَلى المُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعًا بِالمَعْرُوفِ حَقًّا عَلى المُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: ٢٣٦].
لا خلافَ في جوازِ تسريحِ المرأةِ قبلَ مَسِّها، ولذا رتَّب اللهُ الأحكامَ على الطلاقِ ولم يذكُرْهُ بشيءٍ.
حكمُ طلاقِ المرأةِ قبلَ الدخول بِها:
والمراد إمّا أن تطلَّقَ قبلَ الدخولِ بها، وإمّا بَعْدَه، وتقدَّم الكلامُ على أحكامِ الطلاقِ للمرأةِ المدخولِ بها وأحوالِه، وإنّما قُدِّمَتْ أحكامُ المدخولِ بها، لأنّ الحاجةَ لها أظهَرُ، والبلوى بها أعمُّ، والمرأةُ تطلَّقُ بعدَ الدخولِ أكثرَ.
وأمّا المطلَّقةُ قبلَ الدخولِ، فهي المبيَّنةُ هنا في هذه الآيةِ.
وقولُهُ تعالى: ﴿ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ﴾، المَسُّ هنا: الوَطْءُ والنِّكاحُ، وبهذا قال ابنُ عبّاسٍ وطاوسٌ والنَّخَعيُّ والحسَنُ البصريُّ[[«تفسير ابن أبي حاتم» (٢/٤٤٢).]].
وقولُه: ﴿تَمَسُّوهُنَّ أوْ تَفْرِضُوا﴾ فيه إشارةٌ إلى أنّ فرضَ المهرِ ابتداءً يكونُ مِن قِبَلِ الزوجِ، حيثُ جعَلَ المسَّ والفرضَ مِن الزوجِ، يبادِرُ بهما، لا تبادِرُ بهما المرأةُ، فكأنّ في الآيةِ تيسيرًا على الأزواجِ أنْ تَترُكَ الزوجةُ والأولياءُ فرضَ المهرِ للزوجِ فلا يشقُّ عليه، فيأتي مِن وُسْعِهِ وقُدْرَتِه، فلا يُفرَضُ عليه، وإنّما يُترَكُ الفرضُ له ابتداءً، ولهم بعدَ ذلك القبولُ أو الرفضُ.
والمرادُ بالآيةِ الطلاقُ قبلَ الدخولِ بها، وعبَّر عن الدخولِ بالمَسِّ، لأنّ الرجلَ يخلُو بامرأتِهِ لِيَمَسَّها، ومَن دخَلَ بامرأتِهِ ولم يُجامِعْها فالحكمُ في ذلك واحدٌ، وحكمُ المدخولِ بها لا يُفرَّقُ فيه بينَ المَسِّ وغيرِه، والآيةُ جرَتْ مجرى الغالبِ.
أحوالُ المطلَّقةِ قبلَ الدخولِ ومهرِها:
والمطلَّقةُ قبلَ الدخولِ بها لا تخلُو مِن حالتَيْنِ:
الحالةُ الأُولى: أنْ يكونَ ضرَبَ لها مهرًا محدَّدًا وفرَضَهُ لها، فهذه لها نِصْفُ المَهْرِ، ويعودُ لزوجِها النِّصْفُ الآخَرُ، وذلك للآيةِ التاليةِ: ﴿وإنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أنْ تَمَسُّوهُنَّ وقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ﴾ [البقرة: ٢٣٧].
الحالةُ الثانيةُ: أنْ يكونَ الزوجُ لم يَفرِضْ لها مهرًا، ولم يَضرِبْ لها قدرًا محدَّدًا، فحقُّها على زَوْجِها المتاعُ بالمعروفِ.
وهذا التشريعُ للمطلَّقةِ غيرِ المدخولِ بها، جبرًا لحقِّ المرأةِ، فلا يُكسَرُ خاطِرُها، وحِفْظًا لِكَرامتِها، وصونًا لها من أن تُبتذَلَ عندَ الرجالِ، فيتساهَلَ الرجالُ في الخِطْبةِ والعقدِ، والتركِ بلا دخولٍ.
وحتّى لا يفوتَ حقُّ المرأةِ بالنفقةِ عليها بلا زوجٍ، لانتظارِها الرجلَ الذي عقَدَ عليها.
وفي الآيةِ: نوعُ تأديبٍ للمطلِّقِ، فهو وإن لم يرتكِبْ إثمًا أو وِزْرًا، فإنّه ربَّما كسَرَ نفسَ الزَّوْجةِ، وزهَّد فيها غيرَهُ، والآيةُ قرينةٌ على التعويضِ عنِ الضررِ المعنويِّ، وهو محلُّ خلافٍ عندَ العلماءِ.
ولم يضيِّقِ اللهُ على الزوجِ الذي لم يَضرِبْ مهرًا لزوجتِهِ، فطَلَّقَها قبلَ الدخولِ بها، فجعَلَ حقَّها عليه المتاعَ حسَبَ ما يستطيعُ، فقال تعالى: ﴿ومَتِّعُوهُنَّ عَلى المُوسِعِ قَدَرُهُ وعَلى المُقْتِرِ قَدَرُهُ﴾.
لأنّ مَن لم يَضرِبْ مهرًا يُحتمَلُ يسارُهُ، ويُحتمَلُ عُسْرُهُ، فجعَلَ اللهُ الأمرَ بما لا يَضُرُّهُ، ولا يفوِّتُ حقَّ الزوجةِ.
وأمّا مَن ضرَبَ مهرًا، فهو لم يَضرِبِ المهرَ إلاَّ وهو قادرٌ على تسليمِه، فجعَلَ اللهُ لغيرِ المدخولِ بها نِصْفَ المهرِ.
والمتاعُ المذكورُ في الآيةِ يختلِفُ بحَسَبِ العُرْفِ، وحسَبِ قُدْرَةِ الزوجِ وسَعَتِهِ، روى عِكْرِمةُ، عن ابنِ عبّاسٍ، قال: «مُتْعةُ الطلاقِ أعلاهُ الخادِمُ، ودُونَ ذلك الوَرِقُ، ودونَ ذلك الكِسْوةُ»[[«تفسير الطبري» (٤/٢٩٠).]].
وصحَّ عن ابنِ عبّاسٍ، مِن حديثِ عليِّ بنِ أبي طَلْحةَ، عنه، قال: «إنْ كان موسِرًا مَتَّعَها بخادمٍ أو نحوِ ذلك، وإنْ كان مُعسِرًا أمتَعَها بثلاثةِ أثوابٍ»[[«تفسير الطبري» (٤/٢٩٠)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٢/٤٤٢).]].
وفي حالِ التنازُعِ في المُتْعةِ بين الزوجَيْنِ، فيَقضي القاضي بما يُقارِبُ مَهْرَ مِثْلِها في عُرْفِ أهلِ زَمانِها في بَلَدِها.
وبهذا قال أبو حنيفةَ.
ولم يَرَ بعضُ الفقهاءِ الإلزامَ بقَدْرٍ معيَّنٍ، لأنّ الآيةَ وسَّعَتْ، ولا يَسُوغُ التضييقُ بتقديرٍ، ولو شاء اللهُ، لجعَلَ نِصْفَ المهرِ لمِثْلِها للمطلَّقةِ بفَرْضٍ، والمطلَّقةِ بغيرِ فرضٍ، واللهُ فَرَّقَ لحِكْمةِ التيسيرِ على الزَّوْجِ، وبهذا الرأيِ يقولُ الشافعيُّ في الجديدِ.
وكان يَستحسِنُ في القديمِ المُتْعةَ بثلاثينَ دِرْهَمًا وما يُعادِلُها، لما رُوِيَ عنِ ابنِ عُمَرَ في هذا.
والقضاءُ بالمتعةِ بنِصْفِ مَهْرِ مِثْلِها يكونُ عند التنازُعِ بين الزوجَيْنِ، لأنّ أقربَ ضابطٍ شرعيٍّ يُشابِهُ المطلَّقةَ بغيرِ فرضٍ، ولم يُدخَلْ بها هي مَن كانت مِثْلَها وقد ضُرِبَ لها مهرٌ، فكان هذا فَيْصَلًا، ولكنْ لا يُصارُ إليه إلاَّ عندَ النِّزاعِ، والأصلُ: أنّ اللهَ فرَّق بين الحالتَيْنِ، مَن ضُرِبَ لها ومَن لم يُضرَبْ لها مهرٌ، فتلك نصفُ المَهْرِ، وهذه المتعةُ.
حكمُ متعةِ المطلَّقةِ:
وقد اختلَفَ الفقهاءُ في مشروعيَّةِ مُتْعةِ المطلَّقةِ عمومًا، فبعضُ الفقهاءِ خصَّصها بالمطلَّقةِ بلا مهرٍ ولا مَسِيسٍ، لهذه الآيةِ، وبعضُهم جعَلَها عامَّةً لكلِّ مطلَّقةٍ.
وخلافُهُمْ على أقوالٍ:
الأوَّلُ: أنّها عامَّةٌ لكلِّ مطلَّقةٍ، لقولِه تعالى: ﴿ولِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالمَعْرُوفِ حَقًّا عَلى المُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: ٢٤١]، وأنّ اللهَ خصَّص في آيةِ البابِ غيرَ المدخولِ بها بلا مهرٍ، للمناسَبةِ، ولأنّ المطلَّقةَ غيرَ المدخولِ بها يَغلِبُ الظنُّ أنْ لا حقَّ لها، فلم تَرَ زوجَها ولم يرَها، ولم يَسْلُبْها شيئًا حتّى تستحِقَّ عِوَضًا، فجاء القرآنُ بالبيانِ، وغيرُها مِن بابِ أولى، واللهُ تعالى قال عن زوجاتِ نبيِّه وهُنَّ في عِصْمَتِهِ وقد دخَلَ بِهِنَّ: ﴿ياأَيُّها النَّبِيُّ قُلْ لأَزْواجِكَ إنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الحَياةَ الدُّنْيا وزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وأُسَرِّحْكُنَّ سَراحًا جَمِيلًا ﴾ [الأحزاب: ٢٨].
وهذا قولُ أبي حنيفةَ وأحدُ قولَيِ الشافعيِّ، وقال به جماعةٌ مِن السلفِ، كابنِ جُبَيْرٍ وأبي العاليةِ والحسَنِ وغيرِهم.
ويَظهَرُ الوجوبُ في الآياتِ في قولِهِ: ﴿حَقًّا عَلى المُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: ٢٤١]، فسمّاه حَقًّا وأكَّدَهُ بـ﴿عَلى﴾، و«على»: مِن صِيَغِ الوجوبِ عندَ جماعةٍ مِن الأصوليِّينَ.
الثاني: قالوا: هي خاصَّةٌ بالمطلَّقةِ قبلَ المسيسِ، سواءٌ ضرَبَ لها مهرًا أو لم يَضرِبْ لها، وذلك ظاهرُ قولِهِ تعالى: ﴿ياأَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا إذا نَكَحْتُمُ المُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِن عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وسَرِّحُوهُنَّ سَراحًا جَمِيلًا ﴾ [الأحزاب: ٤٩].
وجعَلَ بعضُ المفسِّرينَ هذه الآيةَ ناسِخةً لآيةِ البابِ آيةِ البقرةِ، وبهذا قال سعيدُ بنُ المسيَّبِ، رواهُ عنه شُعْبةُ عَن قتادةَ.
واحتَجَّ لهذا القولِ بما ثبَتَ في البخاريِّ، مِن حديثِ سَهْلِ بنِ سعدٍ، وأبي أُسَيْدٍ، أنّهما قالا: تَزَوَّجَ رسولُ اللهِ ﷺ أُمَيْمَةَ بِنْتَ شَراحِيلَ، فلمّا أُدخِلَتْ عليه، بسَطَ يدَهُ إليها، فكأنّها كرِهَتْ ذلك، فأَمَرَ أبا أُسَيْدٍ أنْ يُجَهِّزَها ويَكْسُوَها ثوبَيْنِ رازِقِيَّيْنِ[[أخرجه البخاري (٥٢٥٦) (٧/٤١).]].
ولكنَّ فرضَ النبيِّ ﷺ لأميمةَ بنتِ شَراحِيلَ ـ وهي زَوْجةٌ مطلَّقةٌ يَظْهَرُ أنّه لم يدخُلْ بها ولم يَمَسَّها ـ لا يَعني نسخَ التنصيصِ الواردِ في المطلَّقةِ المفوَّضةِ، فالتنصيصُ شيءٌ، والتخصيصُ شيءٌ آخَرُ.
فآيةُ البقرةِ نَصَّتْ وما خَصَّتْ، والنصُّ يكونُ لمزيدِ اهتمامٍ، فالمطلَّقةُ بلا دخولٍ ولا فرضٍ يَغلِبُ على الظَّنِّ إسقاطُ حقِّها، وأنّ النفوسَ تَرى أنْ لا حَقَّ لأحدِ الزوجَيْنِ على الآخَرِ، فأَرادَتِ الآيةُ التنصيصَ عليها بالمُتْعةِ.
والشريعةُ تَنُصُّ على بعضِ المسائلِ بالذِّكْرِ لأمرَيْنِ:
أوَّلًا: لأهميَّتِها وفضلِها على غيرِها بنوعِ فَضْلٍ، أو خَصُوصِيَّةٍ بحُكْمٍ.
ثانيًا: أنّ مِثْلَها يَغلِبُ تفويتُهُ، فأرادَتِ التأكيدَ عليه، ولا يعني هذا فضلَ المذكورِ على غيرِه.
ولذا نَصَّتْ آيةُ البقرةِ على المطلَّقةِ المفوّضَةِ بلا مَسٍّ ولم تخصِّصْها.
والقولُ الثالثُ: أنّ المتعةَ خاصَّةٌ بالمطلَّقةِ غيرِ المدخولِ بها ولم يُفرَضْ لها صَداقٌ، لظاهرِ آيةِ البابِ، وبهذا يقولُ ابنُ عُمرَ ومجاهِدٌ وجماعةٌ، كأحمدَ وغيرِه.
والقـولُ الرابعُ: أنّ المُتْعةَ مستحَبَّةٌ لكلِّ مطلَّقةٍ، وليست واجبةً، ويُحمَلُ قولُهُ تعالى: ﴿ولِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالمَعْرُوفِ حَقًّا عَلى المُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: ٢٤١] على الاستحبابِ، لا على الوجوبِ، وهذا قولُ مالكٍ وشُرَيْحٍ واللَّيْثِ.
وقرينةُ الاستحبابِ عنْدَهم: أنّ آكَدَ المُتْعةِ متعةُ المفوَّضةِ، فلا مَهْرَ ولا دخولَ، وهي المذكورةُ في الآيةِ، ومع ذلك قال تعالى: ﴿حَقًّا عَلى المُحْسِنِينَ ﴾، فجعَل اللهُ ذلك على أهلِ الإحسانِ، والإحسانُ فضلٌ، فاللهُ يَقولُ: ﴿ما عَلى المُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ﴾ [التوبة: ٩١].
متعةُ المفوَّضةِ ومهرُها:
ومِنَ العلماءِ: مَن جعَلَ المتعةَ واجبةً في المفوَّضةِ بلا دخولٍ، وأمّا غيرُها مِن المطلَّقاتِ، فمُتْعَتُها مستحَبَّةٌ، وذلك أنّ الزوجةَ المطلَّقةَ قبلَ المَسيسِ والفَرْضِ تُشابِهُ المطلَّقةَ قبلَ المَسيسِ وقد فُرِضَ لها، فجعَلَ اللهُ لها نِصْفَ المفروضِ، ولا اختلافَ بينَهما إلاَّ في عدَمِ تسميةِ المهرِ، وتسامُحُ الزوجَيْنِ في عدَمِ تسميةِ المهرِ لا يُسقِطُ حقَّها، ولكنْ يُتَسامَحُ فيه فيُجعَلُ متعةً مفروضةً، كما جُعِلَ للأُخرى نصفٌ مفروضٌ، وهذا أقربُ إلى الصوابِ وإحكامِ الشارعِ.
ووجوبُ المُتْعةِ أوْلى ما تدخُلُ فيه المفوَّضةُ، للآيةِ التي خَصَّتْها، وبقيَّةُ الآياتِ عَمَّمَتْ، ولأنّها أحوَجُ مِن غيرِها، وتستحِقُّ شيئًا مَثيلًا لِمَن شابَهَها، وهي مَن طُلِّقَتْ بلا دخولٍ مع مَهْرٍ، ففرَضَ اللهُ لها النصفَ، وجعَلَ اللهُ حقَّ المفوَّضةِ المُتْعةَ، وذلك أنّ المهرَ حقٌّ لها، فجعَل اللهُ حقَّها منه المُتْعةَ، لأنّ مَهْرَها مفوَّضٌ، ورَضِيَتْ بعَدَمِ تسميتِهِ وتسامَحَتْ، فلها متعةٌ، لا فَرْضُ نصفِ مَهْرِ المِثْلِ.
وإنّما يسَّر اللهُ فيها ولم يشدِّدْ، وجعَلَ مُتْعةَ المفوَّضةِ على وُسْعِ المقتدِرِ والمقتِرِ، لأنّ عدَمَ تسميةِ المهرِ أمارةٌ على التسامُحِ بين الزوجَيْنِ، والنفوسُ التي تَبدَأُ متسامِحةً خروجُها متسامِحةً أقرَبُ، وتركُ الحقِّ المفروضِ ابتداءً بلا تسميةٍ شبيهٌ بإعذارِ الزوجِ وعَدَمِ التشديدِ عليه، ولذا كان السلفُ لا يُعاقِبونَ على تَرْكِه، ويَكِلُونَهُ إلى المروءةِ، ولم يَكُنِ القُضاةُ يَحبِسُونَ تاركَ مُتْعةِ النكاحِ، فقد روى ابنُ أبي حاتِمٍ، مِن حديثِ أبي إسحاقَ، عنِ الشَّعْبيِّ، قال: ذكَرُوا له المُتْعةَ، أيُحبَسُ فيها؟ فقرَأَ: ﴿عَلى المُوسِعِ قَدَرُهُ وعَلى المُقْتِرِ قَدَرُهُ﴾، قال الشَّعْبيُّ: «واللهِ، ما رأيتُ أحدًا حبَسَ فيها، واللهِ، لو كانت واجبةً، لَحَبَسَ فيها القُضاةُ»[[«تفسير ابن أبي حاتم» (٢/٤٤٣).]].
ولهذا، فالفقهاءُ لا يَضرِبونَ للمطلَّقةِ المفوَّضةِ بلا دخولٍ سَهْمًا مع الغُرَماءِ، وبعضُ الفقهاءِ المالكيِّينَ كمَكِّيِّ بنِ أبي طالبٍ يَحكي اتفاقَ السلفِ على ذلك، وفي هذا نظَرٌ، فعدَمُ ضَرْبِهم لها لا يعني إسقاطَ الحقِّ، لأنّ مِثْلَ هذه المسألةِ نادرةُ الوقوعِ، أن يَجتمعَ غُرَماءُ مع زوجةٍ لم يُدخَلْ بها، وطَلَّقَها زوجُها ولم يَفرِضْ لها، وبعضُ المسائلِ المشهورةِ يشقُّ على العالمِ أن يَحكِيَ الإجماعَ عندَ السلفِ فيها مع عدَمِ معرِفةِ الخلافِ عندَهم، فكيفَ بمسألةٍ ضيِّقةِ الحدوثِ؟! وتواطُؤُهُمْ على مِثْلِها لو حدَثَتْ بعيدٌ.
ومَن لم يُوجِبْ مُتْعةَ المفوَّضةِ، فالأَولى ألاَّ يُوجِبَ متعةَ غيرِها مِن المطلَّقاتِ، ومَن أوجَبَ متعةَ الطلاقِ كلِّه، فأوَّلُ ما يجِبُ منه مُتْعةُ المفوَّضةِ.
وفي الآيةِ إشارةٌ إلى وجوبِ المهرِ للزواجِ، وهو أولى مِن المُتْعةِ المختلَفِ فيها، وسمّاه اللهُ فريضةً.
وفي الآيةِ أيضًا: دليلٌ على صِحَّةِ الزواجِ بلا تسميةِ مهرٍ، وهو قولُ عامَّةِ الفقهاءِ، مع عدَمِ سقوطِه حقًّا للزوجةِ ولو بعدَ الدخولِ، ولها إسقاطُهُ عنِ الزوجِ، فاللهُ تعالى ذكَرَ طلاقَ المفوَّضةِ هنا، ولا يطلِّقُ إلاَّ زوجٌ صحيحُ الزواجِ.
ولا يجوزُ عندَ العقدِ الاتفاقُ على تركِ المهرِ، وإنّما الجائزُ تركُ تقديرِهِ.
ما يجبُ به المَهْرُ:
والمهرُ يجبُ بأحدِ أمرَيْنِ:
الأوَّلُ: بالفَرْضِ، فيجبُ كاملًا إذا مَسَّ ودخَلَ بالزوجةِ، ويجِبُ نِصْفُهُ إذا لم يدخُلْ بها.
الثاني: بالمَسيسِ ولو لم يَفْرِضْهُ، فيَجِبُ للزَّوْجةِ مهرُ المِثْلِ.
وللشافعيِّ قولٌ آخَرُ، أنّه يجبُ بمجرَّدِ العقدِ فقَطْ، والصوابُ: أنّه لا يجبُ بالعقدِ إلاَّ ما فُرِضَ وسُمِّيَ، وإلاَّ فتَجِبُ المُتْعةُ ما لم يدخُلْ بالزوجةِ، وهذا ظاهرُ القرآنِ، فلو وجَبَ المهرُ بالعقدِ، لَما أسقَطَهُ اللهُ بالطلاقِ قبلَ الدخولِ بالزوجةِ، وجعَلَهُ مُتْعةً لمَن لم يَفْرِضْهُ، وأسقَطَ نصفَهُ في حالِ فرضِهِ قبلَ الدخولِ، لقولِهِ: ﴿فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ﴾ [البقرة: ٢٣٧]، ولو كان المهرُ واجبًا بالعقدِ، لقالَ: «فنِصْفُ المَهْرِ»، وإنّما قال: ﴿فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ﴾، لأنّه لا وجودَ للمَهْرِ بلا فرضٍ أو مَسِيسٍ ولو تَمَّ العقدُ.
والسلفُ يتَّفِقونَ على أنّ الطَّلاقَ يُسقِطُ المَهْرَ، ما لم يُفرَضْ أو يُدخَلْ بالزوجةِ.
وأمّا إذا طلَبَتِ الزوجةُ مِن الزوجِ تحديدَ المهرِ قبلَ طلاقِهِ لها، فطَلَّقَ ولم يُسَمِّ لها شيئًا، فمِن الأئمَّةِ: مَن لم يُوجِبْ لها مَهْرًا، وقال: إنّ طلَبَها لا يكونُ كالفَرْضِ مِن الزوجِ، حتّى يَفرِضَ هو، وهذا قولُ الشافعيَّةِ والحنابلةِ والمالكيَّةِ.
صداقُ من توفِّي زوجُها قبل دخوله:
ولو تُوُفِّيَ الزوجُ عن زوجتِهِ قبلَ أن يَمَسَّها، ولم يَفرِضْ لها شيئًا، فهِيَ تَرِثُهُ، ولكنْ هل لها حقٌّ مِن الصداقِ؟ اختَلَفوا في ذلك على قولَيْن:
الأوَّلُ: أنْ لا صَداقَ لها، وحُكْمُها حكمُ المطلَّقةِ قبلَ الفرضِ والمَسِيسِ، وهذا قولُ أكثرِ الصحابةِ، كعليٍّ وابنِ عُمَرَ وزَيْدٍ، كما رواهُ البيهقيُّ وغيرُهُ.
روى نافعٌ عنِ ابنِ عُمرَ، أنّه قال: «ليس لها صَداقٌ، ولو كان لها صداقٌ، لم نَمْنَعْكُمُوهُ ولم نَظلِمْها»[[أخرجه مالك في «الموطأ» (عبد الباقي) (١٠) (٢/٥٢٧)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (٧/٢٤٦).]].
وبه قضى زيدٌ وابنُ عبّاسٍ.
وهو قولُ الشافعيَّةِ والحنابلةِ في المشهورِ عندَهم.
الثّاني: أنّ الصداقَ واجبٌ، وهو قولُ أبي حنيفةَ وأحمدَ، وقولٌ للشّافعيِّ.
وبه قضى ابنُ مسعودٍ، فقال: «لها صَداقُ امرأةٍ مِن نِسائِها، لا وكْسَ ولا شطَطَ، وعليها العِدَّةُ، ولها الميراثُ»[[أخرجه عبد الرزاق في «مصنفه» (١٠٨٩٨) (٦/٢٩٤)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (٧/٢٤٦).]].
وجاء في «المسنَدِ» و«السُّننِ»، مِن حديثِ مَعقِلِ بنِ يَسارٍ: «أنّ النبيَّ ﷺ قَضى لبِرْوَعَ بِنتِ واشِقٍ بالمَهْرِ حيثُ تُوُفِّيَ زَوْجُها، ولم يَفرِضْ لها»[[أخرجه أحمد (١٥٩٤٣) (٣/٤٨٠)، وأبو داود (٢١١٤) (٢/٢٣٧)، والترمذي (١١٤٥) (٣/٤٤٢)، والنسائي (٣٣٥٥) (٦/١٢١)، وابن ماجه (١٨٩١) (١/٦٠٩).]].
وفي بعضِ الرواياتِ يُذكَرُ الدخولُ، وفي بعضِها لا يُذكَرُ.
والمتوفّى عنها بعد الدخولِ بها بلا فرضٍ: لها المَهْرُ والميراثُ، لظواهرِ الأدلَّةِ.
{"ayah":"لَّا جُنَاحَ عَلَیۡكُمۡ إِن طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَاۤءَ مَا لَمۡ تَمَسُّوهُنَّ أَوۡ تَفۡرِضُوا۟ لَهُنَّ فَرِیضَةࣰۚ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى ٱلۡمُوسِعِ قَدَرُهُۥ وَعَلَى ٱلۡمُقۡتِرِ قَدَرُهُۥ مَتَـٰعَۢا بِٱلۡمَعۡرُوفِۖ حَقًّا عَلَى ٱلۡمُحۡسِنِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق