الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهم ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهم فَيُنَبِّئُهم بِما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ اعْلَمْ أنَّ هَذا الكَلامَ أيْضًا مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِمْ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلامُ: إنَّما جَمَعْتَ هَذا القُرْآنَ مِن مُدارَسَةِ النّاسِ ومُذاكَرَتِهِمْ، فَإنَّهُ لا يَبْعُدُ أنَّ بَعْضَ المُسْلِمِينَ إذا سَمِعُوا ذَلِكَ الكَلامَ مِنَ الكُفّارِ غَضِبُوا وشَتَمُوا آلِهَتَهم عَلى سَبِيلِ المُعارَضَةِ، فَنَهى اللَّهُ تَعالى عَنْ هَذا العَمَلِ؛ لِأنَّكَ مَتى شَتَمْتَ آلِهَتَهم غَضِبُوا فَرُبَّما ذَكَرُوا اللَّهَ تَعالى بِما لا يَنْبَغِي مِنَ القَوْلِ، فَلِأجْلِ الِاحْتِرازِ عَنْ هَذا المَحْذُورِ وجَبَ الِاحْتِرازُ عَنْ ذَلِكَ المَقالِ، وبِالجُمْلَةِ فَهو تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ خَصْمَكَ إذا شافَهَكَ بِجَهْلٍ وسَفاهَةٍ لَمْ يَجُزْ لَكَ أنْ تَقْدُمَ عَلى مُشافَهَتِهِ بِما يَجْرِي مَجْرى كَلامِهِ، فَإنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ فَتْحَ بابِ المُشاتَمَةِ والسَّفاهَةِ وذَلِكَ لا يَلِيقُ بِالعُقَلاءِ، وفي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: ذَكَرُوا في سَبَبِ نُزُولِ الآيَةِ وُجُوهًا: الأوَّلُ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: «لَمّا نَزَلَ ﴿إنَّكم وما تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ [الأنبياء: ٩٨] قالَ المُشْرِكُونَ: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ عَنْ سَبِّ آلِهَتِنا وشَتْمِها لَنَهْجُوَنَّ إلَهَكَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ»، أقُولُ: لِي هاهُنا إشْكالانِ: الأوَّلُ: أنَّ النّاسَ اتَّفَقُوا عَلى أنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ دَفْعَةً واحِدَةً فَكَيْفَ يُمْكِنُ أنْ يُقالَ: إنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ كَذا وكَذا. الثّانِي: أنَّ الكُفّارَ كانُوا مُقِرِّينَ بِالإلَهِ تَعالى وكانُوا يَقُولُونَ: إنَّما حَسُنَتْ عِبادَةُ الأصْنامِ لِتَصِيرَ شُفَعاءَ لَهم عِنْدَ اللَّهِ تَعالى، وإذا كانَ كَذَلِكَ، فَكَيْفَ يُعْقَلُ إقْدامُهم عَلى شَتْمِ اللَّهِ تَعالى وسَبِّهِ.(p-١١٥) والقَوْلُ الثّانِي: في سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ: قالَ السُّدِّيُّ: «لَمّا قَرُبَتْ وفاةُ أبِي طالِبٍ قالَتْ قُرَيْشٌ: نَدْخُلُ عَلَيْهِ ونَطْلُبُ مِنهُ أنْ يَنْهى ابْنَ أخِيهِ عَنّا فَإنّا نَسْتَحِي أنْ نَقْتُلَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَتَقُولُ العَرَبُ: كانَ يَمْنَعُهُ فَلَمّا ماتَ قَتَلُوهُ، فانْطَلَقَ أبُو سُفْيانَ وأبُو جَهْلٍ والنَّضْرُ بْنُ الحارِثِ مَعَ جَماعَةٍ إلَيْهِ، وقالُوا لَهُ: أنْتَ كَبِيرُنا وخاطَبُوهُ بِما أرادُوا، فَدَعا مُحَمَّدًا عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وقالَ: هَؤُلاءِ قَوْمُكَ وبَنُو عَمِّكَ يَطْلُبُونَ مِنكَ أنْ تَتْرُكَهم عَلى دِينِهِمْ، وأنْ يَتْرُكُوكَ عَلى دِينِكَ، فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: قُولُوا لا إلَهَ إلّا اللَّهُ فَأبَوْا فَقالَ أبُو طالِبٍ: قُلْ غَيْرَ هَذِهِ الكَلِمَةِ فَإنَّ قَوْمَكَ يَكْرَهُونَها؛ فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ما أنا بِالَّذِي أقُولُ غَيْرَها حَتّى تَأْتُونِي بِالشَّمْسِ فَتَضَعُوها في يَدِي فَقالُوا لَهُ: اتْرُكْ شَتْمَ آلِهَتِنا وإلّا شَتَمْناكَ، ومَن يَأْمُرُكَ بِذَلِكَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ»﴾ ) . واعْلَمْ أنّا قَدْ دَلَّلْنا عَلى أنَّ القَوْمَ كانُوا مُقِرِّينَ بِوُجُودِ الإلَهِ تَعالى، فاسْتَحالَ إقْدامُهم عَلى شَتْمِ الإلَهِ بَلْ هاهُنا احْتِمالاتٌ: أحَدُها: أنَّهُ رُبَّما كانَ بَعْضُهم قائِلًا بِالدَّهْرِ ونَفْيِ الصّانِعِ، فَما كانَ يُبالِي بِهَذا النَّوْعِ مِنَ السَّفاهَةِ. وثانِيها: أنَّ الصَّحابَةَ مَتى شَتَمُوا الأصْنامَ فَهم كانُوا يَشْتُمُونَ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فاللَّهُ تَعالى أجْرى شَتْمَ الرَّسُولِ مَجْرى شَتْمِ اللَّهِ تَعالى كَما في قَوْلِهِ: ﴿إنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ﴾ [الفتح: ١٠] وكَقَوْلِهِ: ﴿إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ﴾ [الأحزاب: ٥٧] . وثالِثُها: أنَّهُ رُبَّما كانَ في جُهّالِهِمْ مَن كانَ يَعْتَقِدُ أنَّ شَيْطانًا يَحْمِلُهُ عَلى ادِّعاءِ النُّبُوَّةِ والرِّسالَةِ، ثُمَّ إنَّهُ لِجَهْلِهِ كانَ يُسَمِّي ذَلِكَ الشَّيْطانَ بِأنَّهُ إلَهُ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فَكانَ يَشْتُمُ إلَهَ مُحَمَّدٍ بِناءً عَلى هَذا التَّأْوِيلِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: لِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: إنَّ شَتْمَ الأصْنامِ مِن أُصُولِ الطّاعاتِ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ مِنَ اللَّهِ تَعالى أنْ يَنْهى عَنْها. والجَوابُ: أنَّ هَذا الشَّتْمَ، وإنْ كانَ طاعَةً، إلّا أنَّهُ إذا وقَعَ عَلى وجْهٍ يَسْتَلْزِمُ وُجُودَ مُنْكَرٍ عَظِيمٍ، وجَبَ الِاحْتِرازُ مِنهُ، والأمْرُ هاهُنا كَذَلِكَ؛ لِأنَّ هَذا الشَّتْمَ كانَ يَسْتَلْزِمُ إقْدامَهم عَلى شَتْمِ اللَّهِ وشَتْمِ رَسُولِهِ، وعَلى فَتْحِ بابِ السَّفاهَةِ، وعَلى تَنْفِيرِهِمْ عَنْ قَبُولِ الدِّينِ، وإدْخالِ الغَيْظِ والغَضَبِ في قُلُوبِهِمْ، فَلِكَوْنِهِ مُسْتَلْزِمًا لِهَذِهِ المُنْكَراتِ، وقَعَ النَّهْيُ عَنْهُ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قَرَأ الحَسَنُ: ”فَيَسُبُّوا اللَّهَ عُدُوًّا“ بِضَمِّ العَيْنِ وتَشْدِيدِ الواوِ، ويُقالُ: عَدا فُلانٌ عَدْوًا وعُدُوًّا وعُدْوانًا وعِدًا؛ أيْ ظَلَمَ ظُلْمًا جاوَزَ القَدْرَ، قالَ الزَّجّاجُ: وعَدْوًا مَنصُوبٌ عَلى المَصْدَرِ؛ لِأنَّ المَعْنى فَيَعْدُوا عَدْوًا. قالَ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ بِإرادَةِ اللّامِ، والمَعْنى: فَيَنْسُبُوا اللَّهَ لِلظُّلْمِ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: قالَ الجُبّائِيُّ: دَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى أنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يُفْعَلَ بِالكَفّارِ ما يَزْدادُونَ بِهِ بُعْدًا عَنِ الحَقِّ ونُفُورًا، إذْ لَوْ جازَ أنْ يَفْعَلَهُ لَجازَ أنْ يَأْمُرَ بِهِ، وكانَ لا يَنْهى عَمّا ذَكَرْنا، وكانَ لا يَأْمُرُ بِالرِّفْقِ بِهِمْ عِنْدَ الدُّعاءِ، كَقَوْلِهِ لِمُوسى وهارُونَ: ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أوْ يَخْشى﴾ [طه: ٤٤] وذَلِكَ يُبَيِّنُ بُطْلانَ مَذْهَبِ المُجْبِرَةِ. المَسْألَةُ الخامِسَةُ: قالُوا هَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ الأمْرَ بِالمَعْرُوفِ قَدْ يُقَبَّحُ إذا أدّى إلى ارْتِكابِ مُنْكَرٍ، والنَّهْيَ عَنِ المُنْكَرِ يُقَبَّحُ إذا أدّى إلى زِيادَةِ مُنْكَرٍ، وغَلَبَةُ الظَّنِّ قائِمَةٌ مَقامَ العِلْمِ في هَذا البابِ، وفِيهِ تَأْدِيبٌ لِمَن (p-١١٦)يَدْعُو إلى الدِّينِ، لِئَلّا يَتَشاغَلَ بِما لا فائِدَةَ لَهُ في المَطْلُوبِ؛ لِأنَّ وصْفَ الأوْثانِ بِأنَّها جَماداتٌ لا تَنْفَعُ ولا تَضُرُّ، يَكْفِي في القَدْحِ في إلَهِيَّتِها، فَلا حاجَةَ مَعَ ذَلِكَ إلى شَتْمِها. * * * وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَذَلِكَ زَيَّنّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ﴾ فاحْتَجَّ أصْحابُنا بِهَذا عَلى أنَّهُ تَعالى هو الَّذِي زَيَّنَ لِلْكافِرِ الكُفْرَ، ولِلْمُؤْمِنِ الإيمانَ، ولِلْعاصِي المَعْصِيَةَ، ولِلْمُطِيعِ الطّاعَةَ. قالَ الكَعْبِيُّ: حَمْلُ الآيَةِ عَلى هَذا المَعْنى مُحالٌ؛ لِأنَّهُ تَعالى هو الَّذِي يَقُولُ: ﴿الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ﴾ [محمد: ٢٥] ويَقُولُ: ﴿والَّذِينَ كَفَرُوا أوْلِياؤُهُمُ الطّاغُوتُ يُخْرِجُونَهم مِنَ النُّورِ إلى الظُّلُماتِ﴾ [البقرة: ٢٥٧] ثُمَّ إنَّ القَوْمَ ذَكَرُوا في الجَوابِ وُجُوهًا: الأوَّلُ: قالَ الجُبّائِيُّ: المُرادُ زَيَّنّا لِكُلِّ أُمَّةٍ تَقَدَّمَتْ ما أمَرْناهم بِهِ مِن قَبُولِ الحَقِّ. والكَعْبِيُّ أيْضًا ذَكَرَ عَيْنَ هَذا الجَوابِ فَقالَ: المُرادُ أنَّهُ تَعالى زَيَّنَ لَهم ما يَنْبَغِي أنْ يَعْمَلُوا وهم لا يَنْتَهُونَ. الثّانِي: قالَ آخَرُونَ: المُرادُ زَيَّنّا لِكُلِّ أُمَّةٍ مِن أُمَمِ الكُفّارِ سُوءَ عَمَلِهِمْ، أيْ خَلَّيْناهم وشَأْنَهم وأمْهَلْناهم حَتّى حَسُنَ عِنْدَهم سُوءُ عَمَلِهِمْ. والثّالِثُ: أمْهَلْنا الشَّيْطانَ حَتّى زَيَّنَ لَهم. والرّابِعُ: زَيَّنّاهُ في زَعْمِهِمْ وقَوْلِهِمْ: إنَّ اللَّهَ أمَرَنا بِهَذا وزَيَّنَّهُ لَنا، هَذا مَجْمُوعُ التَّأْوِيلاتِ المَذْكُورَةِ في هَذِهِ الآيَةِ، والكُلُّ ضَعِيفٌ، وذَلِكَ لِأنَّ الدَّلِيلَ العَقْلِيَّ القاطِعَ دَلَّ عَلى صِحَّةِ ما أشْعَرَ بِهِ ظاهِرُ هَذا النَّصِّ، وذَلِكَ لِأنّا بَيَّنّا غَيْرَ مَرَّةٍ أنَّ صُدُورَ الفِعْلِ عَنِ العَبْدِ يَتَوَقَّفُ عَلى حُصُولِ الدّاعِي، وبَيَّنّا أنَّ تِلْكَ الدّاعِيَةَ لا بُدَّ وأنْ تَكُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعالى، ولا مَعْنى لِتِلْكَ الدّاعِيَةِ إلّا عِلْمُهُ واعْتِقادُهُ أوْ ظَنُّهُ بِاشْتِمالِ ذَلِكَ الفِعْلِ عَلى نَفْعٍ زائِدٍ، ومَصْلَحَةٍ راجِحَةٍ، وإذا كانَتْ تِلْكَ الدّاعِيَةُ حَصَلَتْ بِفِعْلِ اللَّهِ تَعالى، وتِلْكَ الدّاعِيَةُ لا مَعْنى لَها إلّا كَوْنُهُ مُعْتَقِدًا لِاشْتِمالِ ذَلِكَ الفِعْلِ عَلى النَّفْعِ الزّائِدِ والمَصْلَحَةِ الرّاجِحَةِ، ثَبَتَ أنَّهُ يَمْتَنِعُ أنْ يَصْدُرَ عَنِ العَبْدِ فِعْلٌ، ولا قَوْلٌ ولا حَرَكَةٌ ولا سُكُونٌ، إلّا إذا زَيَّنَ اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ الفِعْلَ في قَلْبِهِ وضَمِيرِهِ واعْتِقادِهِ، وأيْضًا الإنْسانُ لا يَخْتارُ الكُفْرَ والجَهْلَ ابْتِداءً مَعَ العِلْمِ بِكَوْنِهِ كُفْرًا وجَهْلًا، والعِلْمُ بِذَلِكَ ضَرُورِيٌّ، بَلْ إنَّما يَخْتارُهُ لِاعْتِقادِهِ كَوْنَهُ إيمانًا وعِلْمًا وصِدْقًا وحَقًّا فَلَوْلا سابِقَةُ الجَهْلِ الأوَّلِ لَما اخْتارَ هَذا الجَهْلَ. الثّانِي: ثُمَّ إنّا نَنْقُلُ الكَلامَ إلى أنَّهُ لِمَ اخْتارَ ذَلِكَ الجَهْلَ السّابِقَ، فَإنْ كانَ ذَلِكَ لِسابِقَةِ جَهْلٍ آخَرَ فَقَدْ لَزِمَ أنْ يَسْتَمِرَّ ذَلِكَ إلى ما لا نِهايَةَ لَهُ مِنَ الجَهالاتِ وذَلِكَ مُحالٌ، ولَمّا كانَ ذَلِكَ باطِلًا وجَبَ انْتِهاءُ تِلْكَ الجَهالاتِ إلى جَهْلٍ أوَّلَ يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعالى فِيهِ ابْتِداءً، وهو بِسَبَبِ ذَلِكَ الجَهْلِ ظَنَّ في الكُفْرِ كَوْنَهُ إيمانًا وحَقًّا وعِلْمًا وصِدْقًا، فَثَبَتَ أنَّهُ يَسْتَحِيلُ مِنَ الكافِرِ اخْتِيارُ الجَهْلِ والكُفْرِ إلّا إذا زَيَّنَ اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ الجَهْلَ في قَلْبِهِ، فَثَبَتَ بِهَذَيْنِ البُرْهانَيْنِ القاطِعَيْنِ القَطْعِيَّيْنِ أنَّ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ ظاهِرُ هَذِهِ الآيَةِ، هو الحَقُّ الَّذِي لا مَحِيدَ عَنْهُ، وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ، فَقَدْ بَطَلَتِ التَّأْوِيلاتُ المَذْكُورَةُ بِأسْرِها؛ لِأنَّ المَصِيرَ إلى التَّأْوِيلِ إنَّما يَكُونُ عِنْدَ تَعَذُّرِ حَمْلِ الكَلامِ عَلى ظاهِرِهِ، أمّا لَمّا قامَ الدَّلِيلُ عَلى أنَّهُ لا يُمْكِنُ العُدُولُ عَنِ الظّاهِرِ، فَقَدْ سَقَطَتْ هَذِهِ التَّكْلِيفاتُ بِأسْرِها واللَّهُ أعْلَمُ. وأيْضًا فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَذَلِكَ زَيَّنّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ﴾ بَعْدَ قَوْلِهِ: ﴿فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ مُشْعِرٌ بِأنَّ إقْدامَهم عَلى ذَلِكَ المُنْكَرِ، إنَّما كانَ بِتَزْيِينِ اللَّهِ تَعالى، فَأمّا أنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ تَعالى زَيَّنَ الأعْمالَ الصّالِحَةَ في قُلُوبِ الأُمَمِ، فَهَذا كَلامٌ مُنْقَطِعٌ عَمّا قَبْلَهُ، وأيْضًا فَقَوْلُهُ: ﴿كَذَلِكَ زَيَّنّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ﴾ يَتَناوَلُ الأُمَمَ الكافِرَةَ والمُؤْمِنَةَ، فَتَخْصِيصُ هَذا الكَلامِ بِالأُمَّةِ المُؤْمِنَةِ تَرْكٌ لِظاهِرِ العُمُومِ، وأمّا سائِرُ التَّأْوِيلاتِ، فَقَدْ ذَكَرَها صاحِبُ ”الكَشّافِ“، وسُقُوطُها لا يَخْفى، واللَّهُ أعْلَمُ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهم فَيُنَبِّئُهم بِما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ فالمَقْصُودُ مِنهُ أنَّ أمْرَهم مُفَوَّضٌ إلى (p-١١٧)اللَّهِ تَعالى، وإنَّ اللَّهَ تَعالى عالِمٌ بِأحْوالِهِمْ، مُطَّلِعٌ عَلى ضَمائِرِهِمْ، ورُجُوعِهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ إلى اللَّهِ، فَيُجازِي كُلَّ أحَدٍ بِمُقْتَضى عَمَلِهِ إنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وإنْ شَرًّا فَشَرٌّ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب