الباحث القرآني

ولَمّا طالَ التَّنْفِيرُ عَمّا اتَّخَذَ مِن دُونِهِ مِنَ الأنْدادِ والبَناتِ؛ لِأنَّها أقَلُّ مِن ذَلِكَ وأحْقَرُ - كانَ ذَلِكَ رُبَّما كانَ داعِيَةً إلى سَبِّها، فَنَهى عَنْهُ لِمَفْسَدَةٍ يَجُرُّها السَّبُّ كَبِيرَةٌ جِدًّا، فَقالَ عاطِفًا عَلى قَوْلِهِ ﴿وأعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: ١٠٦] غَيْرَ مُواجِهٍ لَهُ وحْدَهُ ﷺ إكْرامًا لَهُ: ﴿ولا تَسُبُّوا﴾ ولَمّا كانَتْ الأصْنامُ لا تَعْقِلُ، وكانَ المُشْرِكُونَ (p-٢٢٧)يَزْعُمُونَ بِها العَقْلَ والعِلْمَ، ويُسْنِدُونَ إلَيْها الأفْعالَ، أجْرى الكَلامَ عَلى زَعْمِهِمْ لِأنَّهُ في الكَفِّ عَنْها، فَقالَ: ﴿الَّذِينَ يَدْعُونَ﴾ أيْ: دُعاءَ عِبادَةٍ مِنَ الأصْنامِ أوْ غَيْرِهِمْ بِذِكْرِ ما فِيهِمْ مِنَ النَّقْصِ، ثُمَّ بَيَّنَ دَفْعًا لِتَوَهُّمِ إكْرامِهِمْ أنَّهم في سُفُولٍ بِقَوْلِهِ: ﴿مِن دُونِ اللَّهِ﴾ أيْ: المَلِكِ الأعْلى الَّذِي لا كُفُؤَ لَهُ عَدْلًا، بِعِلْمٍ مِنكم بِما لَهم مِنَ المَعايِبِ، بَلْ أعْرَضُوا عَنْ غَيْرِ دُعائِهِمْ إلى اللَّهِ حَتّى عَنْ سَبِّ آلِهَتِهِمْ بِما تَسْتَحِقُّهُ، فَإنّا زَيَّنّا لَهم أعْمالَهم فَغَرِقُوا مَعَ غَزارَةِ عُقُولِهِمْ فِيما لا يَرْتَضِيهِ عاقِلٌ، وكَذَّبُوا بِجَمِيعِ الآياتِ المُوجِبَةِ لِلْإيمانِ، فَرُبَّما جَرَّهم سَبُّكم لَها - لِما عِنْدَهم مِن حَمِيَّةِ الجاهِلِيَّةِ - إلى ما لا يَلِيقُ ﴿فَيَسُبُّوا﴾ أيْ: فَيَتَسَبَّبُ عَنْ ذَلِكَ أنْ يَسُبُّوا ﴿اللَّهِ﴾ أيْ: الَّذِي تَدْعُونَهُ ولَهُ الإحاطَةُ بِصِفاتِ الكَمالِ، وأظْهَرَ تَصْرِيحًا بِالمَقْصُودِ وإعْظامًا لِهَذا وتَهْوِيلًا لَهُ وتَنْفِيرًا مِنهُ. ولَمّا كانَ الخنو يُوجِبُ الإسْراعَ - أشارَ إلَيْهِ - سُبْحانَهُ - بِقَوْلِهِ: ﴿عَدْوًا﴾ أيْ: جَرْيًا إلى السَّبِّ؛ ولَمّا كانَ العَدْوُ قَدْ يَكُونُ مَعَ عِلْمٍ، قالَ مُبَيِّنًا لِأنَّهُ يُرادُ بِهِ مَعَ الإسْراعِ أنَّهُ مُجاوِزٌ لِلْحَدِّ: ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ لِأنّا زَيَّنّا لَهم عَمَلَهم، فالطّاعَةُ إذا اسْتَلْزَمَتْ وُجُودَ مُنْكَرٍ عَظِيمٍ احْتُرِزَ مِنهُ ولَوْ أدّى الحالُ إلى تَرْكِها وقْتًا ما، لِتَحْصُلَ القُوَّةُ عَلى دَفْعِ ذَلِكَ المُنْكَرِ، فَحُكْمُ الآيَةِ باقٍ ولَيْسَ بِمَنسُوخٍ. (p-٢٢٨)ولَمّا كانَ ذَلِكَ شَدِيدًا عَلى النَّفْسِ ضائِقًا بِهِ الصَّدْرُ، اقْتَضى الحالُ أنْ يُقالَ: هَلْ هَذا التَّزْيِينُ مُخْتَصٌّ بِهَؤُلاءِ المُجْرِمِينَ أمْ كانَ لِغَيْرِهِمْ مِنَ الأُمَمِ مِثْلُهُ؟ فَقِيلَ: ﴿كَذَلِكَ﴾ أيْ: بَلْ كانَ لِغَيْرِهِمْ، فَإنّا مِثْلُ ذَلِكَ التَّزْيِينِ الَّذِي زَيَّنّا لِهَؤُلاءِ ﴿زَيَّنّا لِكُلِّ أُمَّةٍ﴾ أيْ: طائِفَةٍ عَظِيمَةٍ مَقْصُودَةٍ ﴿عَمَلَهُمْ﴾ أيْ: القَبِيحَ الَّذِي أقْدَمُوا عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ بِما خَلَقَهُ في قُلُوبِهِمْ مِنَ المَحَبَّةِ لَهُ، رَدًّا مِنّا لَهم بَعْدَ العَقْلِ الرَّصِينِ أسْفَلَ سافِلِينَ، حَتّى رَأوْا حَسَنًا ما لَيْسَ بِالحَسَنِ لِتَبِينَ قُدْرَتُنا؛ فَكانَ في ذَلِكَ أعْظَمُ تَسْلِيَةٍ وتَأْسِيَةٍ وتَعْزِيَةٍ، والآيَةُ مِنَ الِاحْتِباكِ: إثْباتُ ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ أوَّلًا دالٌّ عَلى حَذْفِهِ ثانِيًا، وإثْباتُ التَّزْيِينِ ثانِيًا دَلِيلٌ عَلى حَذْفِهِ أوَّلًا. ولَمّا كانَ - سُبْحانَهُ - طَوِيلَ الأناةِ عَظِيمَ الحِلْمِ، وكانَ الإمْهالُ رُبَّما كانَ مِن جَهْلٍ بِعَمَلِ العاصِي - نَفى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ﴾ أيْ: بَعْدَ طُولِ الإمْهالِ ﴿إلى رَبِّهِمْ﴾ أيْ: المُحْسِنِ إلَيْهِمْ بِالحِلْمِ عَنْهم وهم يَتَقَوَّوْنَ بِنِعَمِهِ عَلى مَعاصِيهِ، لا إلى غَيْرِهِ ﴿مَرْجِعُهُمْ﴾ أيْ: بِالحَشْرِ الأعْظَمِ ﴿فَيُنَبِّئُهُمْ﴾ أيْ: يُخْبِرُهم إخْبارًا عَظِيمًا بَلِيغًا ﴿بِما﴾ أيْ: بِجَمِيعِ ما ﴿كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ أيْ: عَلى سَبِيلِ التَّجَدُّدِ والِاسْتِمْرارِ بِما في جِبِلّاتِهِمْ مِنَ الدّاعِيَةِ إلَيْهِ [وإنْ ادَّعَوْا أنَّهم عامِلُونَ عَلى مُقْتَضى العِلْمِ] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب