الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وعْدِهِ رُسُلَهُ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ﴾ . اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى قالَ في الآيَةِ الأُولى: ﴿ولا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمّا يَعْمَلُ الظّالِمُونَ﴾ [إبراهيم: ٤٢] وقالَ في هَذِهِ الآيَةِ: ﴿فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وعْدِهِ رُسُلَهُ﴾ والمَقْصُودُ مِنهُ التَّنْبِيهُ عَلى أنَّهُ تَعالى لَوْ لَمْ يُقِمِ القِيامَةَ ولَمْ يَنْتَقِمْ لِلْمَظْلُومِينَ مِنَ الظّالِمِينَ، لَزِمَ إمّا كَوْنُهُ غافِلًا وإمّا كَوْنُهُ مُخْلِفًا في الوَعْدِ، ولَمّا تَقَرَّرَ في العُقُولِ السَّلِيمَةِ أنَّ كُلَّ ذَلِكَ مُحالٌ كانَ القَوْلُ بِأنَّهُ لا يُقِيمُ القِيامَةَ باطِلًا. وقَوْلُهُ: ﴿مُخْلِفَ وعْدِهِ رُسُلَهُ﴾ يَعْنِي قَوْلَهُ: ﴿إنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا﴾ [غافر: ٥١] وقَوْلَهُ: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأغْلِبَنَّ أنا ورُسُلِي﴾ [المجادلة: ٢١] . فَإنْ قِيلَ: هَلّا قِيلَ: مُخْلِفَ رُسُلِهِ وعْدَهُ ؟ ولِمَ قَدَّمَ المَفْعُولَ الثّانِيَ عَلى الأوَّلِ ؟ قُلْنا: لِيُعْلَمَ أنَّهُ لا يُخْلِفُ الوَعْدَ أصْلًا، إنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ المِيعادَ، ثم قال: ﴿رُسُلَهُ﴾ لِيَدُلَّ بِهِ عَلى أنَّهُ تَعالى لَمّا لَمْ يُخْلِفْ وعْدَهُ أحَدًا ولَيْسَ مِن شَأْنِهِ إخْلافُ المَواعِيدِ فَكَيْفَ يُخْلِفُهُ رُسُلَهُ الَّذِينَ هم خِيرَتُهُ وصَفْوَتُهُ، وقُرِئَ: ”مُخْلِفَ وعْدَ رُسُلِهِ“ بِجَرِّ الرُّسُلِ ونَصْبِ الوَعْدِ، والتَّقْدِيرُ: مُخْلِفَ رُسُلِهِ وعْدَهُ، وهَذِهِ القِراءَةُ في الضَّعْفِ، كَمَن قَرَأ ”قَتْلُ أوْلادَهم شُرَكائِهِمْ“ ثم قال: ﴿إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ﴾ أيْ غالِبٌ لا يُماكِرُ ”ذُو انْتِقامٍ“ لِأوْلِيائِهِ. ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ والسَّماواتُ وبَرَزُوا لِلَّهِ الواحِدِ القَهّارِ﴾ ﴿وتَرى المُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ في الأصْفادِ﴾ ﴿سَرابِيلُهم مِن قَطِرانٍ وتَغْشى وُجُوهَهُمُ النّارُ﴾ ﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الحِسابِ﴾ ﴿هَذا بَلاغٌ لِلنّاسِ ولِيُنْذَرُوا بِهِ ولِيَعْلَمُوا أنَّما هو إلَهٌ واحِدٌ ولِيَذَّكَّرَ أُولُو الألْبابِ﴾ . اعْلَمْ أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا قالَ: ﴿عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ﴾ بَيَّنَ وقْتَ انْتِقامِهِ فَقالَ: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ﴾ وعَظَّمَ مِن حالِ ذَلِكَ اليَوْمِ؛ لِأنَّهُ لا أمْرَ أعْظَمُ في العُقُولِ والنُّفُوسِ مِن تَغْيِيرِ السَّماواتِ والأرْضِ، وفي الآيَةِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: ذَكَرَ الزَّجّاجُ في نَصْبِ ”يَوْمَ“ وجْهَيْنِ، إمّا عَلى الظَّرْفِ لِانْتِقامٍ أوْ عَلى البَدَلِ مِن قَوْلِهِ: ﴿يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العَذابُ﴾ . المسألة الثّانِيَةُ: اعْلَمْ أنَّ التَّبْدِيلَ يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنْ تَكُونَ الذّاتُ باقِيَةً وتَتَبَدَّلَ صِفَتُها بِصِفَةٍ أُخْرى. والثّانِي: أنْ تَفْنى الذّاتُ الأُولى وتَحْدُثَ ذاتٌ أُخْرى، والدَّلِيلُ عَلى أنَّ ذِكْرَ لَفْظِ التَّبَدُّلِ لِإرادَةِ التَّغَيُّرِ في الصِّفَةِ جائِزٌ أنَّهُ يُقالُ: بَدَّلْتُ الحَلْقَةَ خاتَمًا إذا أذَبْتَها وسَوَّيْتَها خاتَمًا فَنَقَلْتَها مِن شَكْلٍ إلى شَكْلٍ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ﴾ [الفرقان: ٧٠] ويُقالُ: بَدَّلْتُ قَمِيصِي جُبَّةً أيْ نَقَلْتُ العَيْنَ مِن (p-١١٦)صِفَةٍ إلى صِفَةٍ أُخْرى، ويُقالُ: تَبَدَّلَ زَيْدٌ إذا تَغَيَّرَتْ أحْوالُهُ، وأمّا ذِكْرُ لَفْظِ التَّبْدِيلِ عِنْدَ وُقُوعِ التَّبَدُّلِ في الذَّواتِ فَكَقَوْلِكَ بَدَّلْتُ الدَّراهِمَ دَنانِيرَ، ومِنهُ قَوْلُهُ: ﴿بَدَّلْناهم جُلُودًا غَيْرَها﴾ [النساء: ٥٦] وقَوْلُهُ: ﴿وبَدَّلْناهم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ﴾ [سبأ: ١٦] إذا عَرَفْتَ أنَّ اللَّفْظَ مُحْتَمِلٌ لِكُلِّ واحِدٍ مِن هَذَيْنِ المَفْهُومَيْنِ فَفي الآيَةِ قَوْلانِ: القَوْلُ الأوَّلُ: أنَّ المُرادَ تَبْدِيلُ الصِّفَةِ لا تَبْدِيلُ الذّاتِ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: هي تِلْكَ الأرْضُ إلّا أنَّها تَغَيَّرَتْ في صِفاتِها، فَتَسِيرُ عَنِ الأرْضِ جِبالُها وتُفَجَّرُ بِحارُها وتُسَوّى، فَلا يُرى فِيها عِوَجٌ ولا أمْتٌ. ورَوى أبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «”يُبَدِّلُ اللَّهُ الأرْضَ غَيْرَ الأرْضِ فَيَبْسُطُها ويَمُدُّها مَدَّ الأدِيمِ العُكاظِيِّ فَلا تَرى فِيها عِوَجًا ولا أمْتًا“» . وقَوْلُهُ: ﴿والسَّماواتُ﴾ أيْ تُبَدَّلُ السَّماواتُ غَيْرَ السَّماواتِ، وهو كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ: «”لا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكافِرٍ ولا ذُو عَهْدٍ في عَهْدِهِ“» والمَعْنى: ولا ذُو عَهْدٍ في عَهْدِهِ بِكافِرٍ، وتَبْدِيلُ السَّماواتِ بِانْتِثارِ كَواكِبِها وانْفِطارِها، وتَكْوِيرِ شَمْسِها، وخُسُوفِ قَمَرِها، وكَوْنِها أبْوابًا، وأنَّها تارَةً تَكُونُ كالمُهْلِ وتارَةً تَكُونُ كالدِّهانِ. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ المُرادَ تَبْدِيلُ الذّاتِ. قالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: تُبَدَّلُ بِأرْضٍ كالفِضَّةِ البَيْضاءِ النَّقِيَّةِ لَمْ يُسْفَكْ عَلَيْها دَمٌ ولَمْ تُعْمَلْ عَلَيْها خَطِيئَةٌ، فَهَذا شَرْحُ هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ. ومِنَ النّاسِ مَن رَجَّحَ القَوْلَ الأوَّلَ قالَ: لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ﴾ المُرادُ هَذِهِ الأرْضُ، والتَّبَدُّلُ صِفَةٌ مُضافَةٌ إلَيْها، وعِنْدَ حُصُولِ الصِّفَةِ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ المَوْصُوفُ مَوْجُودًا، فَلَمّا كانَ المَوْصُوفُ بِالتَّبَدُّلِ هو هَذِهِ الأرْضَ وجَبَ كَوْنُ هَذِهِ الأرْضِ باقِيَةً عِنْدَ حُصُولِ ذَلِكَ التَّبَدُّلِ، ولا يُمْكِنُ أنْ تَكُونَ هَذِهِ الأرْضُ باقِيَةً مَعَ صِفاتِها عِنْدَ حُصُولِ ذَلِكَ التَّبَدُّلِ، وإلّا لامْتَنَعَ حُصُولُ التَّبَدُّلِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ الباقِي هو الذّاتَ. فَثَبَتَ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ تَقْتَضِي كَوْنَ الذّاتِ باقِيَةً، والقائِلُونَ بِهَذا القَوْلِ هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: إنَّ عِنْدَ قِيامِ القِيامَةِ لا يُعْدِمُ اللَّهُ الذَّواتِ والأجْسامَ، وإنَّما يُعْدِمُ صِفاتِها وأحْوالَها. واعْلَمْ أنَّهُ لا يَبْعُدُ أنْ يُقالَ: المُرادُ مِن تَبْدِيلِ الأرْضِ والسَّماواتِ هو أنَّهُ تَعالى يَجْعَلُ الأرْضَ جَهَنَّمَ ويَجْعَلُ السَّماواتِ الجَنَّةَ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَلّا إنَّ كِتابَ الأبْرارِ لَفي عِلِّيِّينَ﴾ [المطففين: ١٨] وقَوْلُهُ: ﴿كَلّا إنَّ كِتابَ الفُجّارِ لَفي سِجِّينٍ﴾ [المطففين: ٧] . واللَّهُ أعْلَمُ. أما قوله تَعالى: ﴿وبَرَزُوا لِلَّهِ الواحِدِ القَهّارِ﴾ فَنَقُولُ: أمّا البُرُوزُ لِلَّهِ فَقَدْ فَسَّرْناهُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا﴾ [إبراهيم: ٢] وإنَّما ذَكَرَ الواحِدَ القَهّارَ هَهُنا لِأنَّ المُلْكَ إذا كانَ لِمالِكٍ واحِدٍ غَلّابٍ لا يُغالَبُ قَهّارٌ لا يُقْهَرُ فَلا مُسْتَغاثَ لِأحَدٍ إلى غَيْرِهِ فَكانَ الأمْرُ في غايَةِ الصُّعُوبَةِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ: ﴿لِمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ لِلَّهِ الواحِدِ القَهّارِ﴾ [غافر: ١٦] ولَمّا وصَفَ نَفْسَهُ سُبْحانَهُ بِكَوْنِهِ قَهّارًا بَيْنَ عَجْزِهِمْ وذِلَّتِهِمْ، فَقالَ: ﴿وتَرى المُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ﴾ . * * * واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ في صِفاتِ عَجْزِهِمْ وذِلَّتِهِمْ أُمُورًا: فالصِّفَةُ الأُولى: كَوْنُهم مُقَرَّنِينَ في الأصْفادِ. يُقالُ: قَرَنْتُ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ إذا شَدَدْتَهُ بِهِ ووَصَلْتَهُ. والقِرانُ اسْمٌ لِلْحَبْلِ الَّذِي يُشَدُّ بِهِ شَيْئانِ. وجاءَ هَهُنا عَلى التَّكْثِيرِ لِكَثْرَةِ أُولَئِكَ القَوْمِ. والأصْفادُ جَمْعُ صَفَدٍ وهو القَيْدُ. إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: في قَوْلِهِ: ﴿مُقَرَّنِينَ﴾ ثَلاثَةُ أوْجُهٍ: أحَدُها: قالَ الكَلْبِيُّ: ”مُقَرَّنِينَ“: كُلُّ كافِرٍ مَعَ شَيْطانٍ في غُلٍّ، وقالَ عَطاءٌ: هو مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿وإذا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ [التكوير: ٧] أيْ قُرِنَتْ فَيَقْرِنُ اللَّهُ تَعالى نُفُوسَ المُؤْمِنِينَ بِالحُورِ العِينِ، ونُفُوسَ الكافِرِينَ بِقُرَنائِهِمْ مِنَ الشَّياطِينِ، وأقُولُ: حَظُّ البحث العَقْلِيِّ مِنهُ أنَّ (p-١١٧)الإنْسانَ إذا فارَقَ الدُّنْيا، فَإمّا أنْ يَكُونَ قَدْ راضَ نَفْسَهُ وهَذَّبَها ودَعاها إلى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعالى وطاعَتِهِ ومَحَبَّتِهِ، أوْ ما فَعَلَ ذَلِكَ، بَلْ تَرَكَها مُتَوَغِّلَةً في اللَّذّاتِ الجَسَدانِيَّةِ مُقْبِلَةً عَلى الأحْوالِ الوَهْمِيَّةِ والخَيالِيَّةِ، فَإنْ كانَ الأوَّلَ فَتِلْكَ النَّفْسُ تُفارِقُ مَعَ تِلْكَ الجِهَةِ بِالحَضْرَةِ الإلَهِيَّةِ، والسَّعادَةِ بِالعِنايَةِ الصَّمَدانِيَّةِ، وإنْ كانَ الثّانِيَ فَتِلْكَ النَّفْسُ تُفارِقُ مَعَ الأسَفِ والحُزْنِ والبَلاءِ الشَّدِيدِ، بِسَبَبِ المَيْلِ إلى عالَمِ الجِسْمِ، وهَذا هو المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿وإذا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ﴾ [التكوير: ٧] وشَيْطانُ النَّفْسِ الكافِرَةِ هي المَلَكاتُ الباطِلَةُ، والحَوادِثُ الفاسِدَةُ، وهو المُرادُ مِن قَوْلِ عَطاءٍ: إنَّ كُلَّ كافِرٍ مَعَ شَيْطانِهِ يَكُونُ مَقْرُونًا في الأصْفادِ. والقَوْلُ الثّانِي في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: ﴿مُقَرَّنِينَ في الأصْفادِ﴾: هو قَرْنُ بَعْضِ الكُفّارِ بِبَعْضٍ، والمُرادُ أنَّ تِلْكَ النُّفُوسَ الشَّقِيَّةَ والأرْواحَ المُكَدَّرَةَ الظُّلْمانِيَّةَ لِكَوْنِها مُتَجانِسَةً مُتَشاكِلَةً يَنْضَمُّ بَعْضُها إلى بَعْضٍ، وتُنادِي ظُلْمَةُ كُلِّ واحِدَةٍ مِنها إلى الأُخْرى، فانْحِدارُ كُلِّ واحِدَةٍ مِنها إلى الأُخْرى في تِلْكَ الظُّلُماتِ والخَساراتِ هي المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿مُقَرَّنِينَ في الأصْفادِ﴾ . والقَوْلُ الثّالِثُ: قالَ زَيْدُ بْنُ أرْقَمَ: قُرِنَتْ أيْدِيهِمْ وأرْجُلُهم إلى رِقابِهِمْ بِالأغْلالِ، وحَظُّ العَقْلِ مِن ذَلِكَ أنَّ المَلَكاتِ الحاصِلَةَ في جَوْهَرِ النَّفْسِ إنَّما تَحْصُلُ بِتَكْرِيرِ الأفْعالِ الصّادِرَةِ مِنَ الجَوارِحِ والأعْضاءِ، فَإذا كانَتْ تِلْكَ المَلَكاتُ ظُلْمانِيَّةً كَدِرَةً، صارَتْ في المِثالِ كَأنَّ أيْدِيَها وأرْجُلَها قُرِنَتْ وغُلَّتْ في رِقابِها. وأما قوله: ﴿فِي الأصْفادِ﴾ فَفِيهِ وجْهانِ: أحَدُها: أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُتَعَلِّقًا بِمُقَرَّنِينَ، والمَعْنى: يُقَرَّنُونَ بِالأصْفادِ. والثّانِي: أنْ لا يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِهِ، والمَعْنى: أنَّهم مُقَرَّنُونَ مُقَيَّدُونَ، وحَظُّ العَقْلِ مَعْلُومٌ مِمّا سَلَفَتِ الإشارَةُ إلَيْهِ. الصِّفَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿سَرابِيلُهم مِن قَطِرانٍ﴾ السَّرابِيلُ جَمْعُ سِرْبالٍ وهو القَمِيصُ، والقَطِرانُ فِيهِ ثَلاثُ لُغاتٍ: قَطْرانٌ وقِطْرانٌ وقَطِرانٌ، بِفَتْحِ القافِ وكَسْرِها مَعَ سُكُونِ الطّاءِ، وبِفَتْحِ القافِ وكَسْرِ الطّاءِ، وهو شَيْءٌ يَتَحَلَّبُ مِن شَجَرٍ يُسَمّى الأبْهَلَ فَيُطْبَخُ ويُطْلى بِهِ الإبِلُ الجَرِبُ فَيَحْرِقُ الجَرَبَ بِحَرارَتِهِ وحِدَّتِهِ، وقَدْ تَصِلُ حَرارَتُهُ إلى داخِلِ الجَوْفِ، ومِن شَأْنِهِ أنْ يَتَسارَعَ فِيهِ اشْتِعالُ النّارِ، وهو أسْوَدُ اللَّوْنِ مُنْتِنُ الرِّيحِ فَتُطْلى بِهِ جُلُودُ أهْلِ النّارِ حَتّى يَصِيرَ ذَلِكَ الطَّلْيُ كالسَّرابِيلِ، وهي القُمُصُ فَيَحْصُلُ بِسَبَبِها أرْبَعَةُ أنْواعٍ مِنَ العَذابِ: لَذْعُ القَطِرانِ وحُرْقَتُهُ، وإسْراعُ النّارِ في جُلُودِهِمْ، واللَّوْنُ الوَحْشُ، ونَتْنُ الرِّيحِ. وأيْضًا التَّفاوُتُ بَيْنَ قَطِرانِ القِيامَةِ وقَطِرانِ الدُّنْيا كالتَّفاوُتِ بَيْنَ النّارَيْنِ. وأقُولُ: حَظُّ العَقْلِ مِن هَذا أنَّ جَوْهَرَ الرُّوحِ جَوْهَرٌ مُشْرِقٌ لامِعٌ مِن عالَمِ القُدُسِ وغَيْبَةِ الجَلالِ، وهَذا البَدَنُ جارٍ مَجْرى السِّرْبالِ والقَمِيصِ لَهُ، وكُلُّ ما يَحْصُلُ لِلنَّفْسِ مِنَ الآلامِ والغُمُومِ فَإنَّما يَحْصُلُ بِسَبَبِ هَذا البَدَنِ، فَلِهَذا البَدَنِ لَذْعٌ وحُرْقَةٌ في جَوْهَرِ النَّفْسِ؛ لِأنَّ الشَّهْوَةَ والحِرْصَ والغَضَبَ إنَّما تَتَسارَعُ إلى جَوْهَرِ الرُّوحِ بِسَبَبِهِ وكَوْنِهِ لِلْكَثافَةِ والكُدُورَةِ والظُّلْمَةِ هو الَّذِي يُخْفِي لَمَعانَ الرُّوحِ وضَوْءَهُ، وهو سَبَبٌ لِحُصُولِ النَّتْنِ والعُفُونَةِ، فَتَشَبَّهَ هَذا الجَسَدُ بِسَرابِيلَ مِنَ القَطِرانِ والقِطْرِ، وقَرَأ بَعْضُهم: ”مِن قِطْرٍ آنٍ“ والقِطْرُ النُّحاسُ أوِ الصُّفْرُ المُذابُ والآنِي المُتَناهِي حَرُّهُ. قالَ أبُو بَكْرِ بْنُ الأنْبارِيِّ: وتِلْكَ النّارُ لا تُبْطِلُ ذَلِكَ القَطِرانَ ولا تُفْنِيهِ كَما لا تُهْلِكُ النّارُ أجْسادَهم والأغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ. الصِّفَةُ الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وتَغْشى وُجُوهَهُمُ النّارُ﴾ ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ العَذابِ يَوْمَ القِيامَةِ﴾ [الزمر: ٢٤] وقَوْلُهُ: ﴿يَوْمَ يُسْحَبُونَ في النّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ﴾ [القمر: ٤٨] . واعْلَمْ أنَّ مَوْضِعَ المَعْرِفَةِ والنَّكِرَةِ والعِلْمِ والجَهْلِ هو القَلْبُ، ومَوْضِعَ الفِكْرِ والوَهْمِ والخَيالِ هو (p-١١٨)الرَّأْسُ. وأثَرُ هَذِهِ الأحْوالِ إنَّما تَظْهَرُ في الوجه، فَلِهَذا السَّبَبِ خَصَّ اللَّهُ تَعالى هَذَيْنِ العُضْوَيْنِ بِظُهُورِ آثارِ العِقابِ فِيهِما فَقالَ في القَلْبِ: ﴿نارُ اللَّهِ المُوقَدَةُ﴾ ﴿الَّتِي تَطَّلِعُ عَلى الأفْئِدَةِ﴾ [الهمزة: ٦] وقالَ في الوجه: ﴿وتَغْشى وُجُوهَهُمُ النّارُ﴾ بِمَعْنى تَتَغَشّى، ولَمّا ذَكَرَ تَعالى هَذِهِ الصِّفاتِ الثَّلاثَةَ قالَ: ﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ﴾ قالَ الواحِدِيُّ: المُرادُ مِنهُ أنْفُسُ الكُفّارِ لِأنَّ ما سَبَقَ ذِكْرُهُ لا يَلِيقُ أنْ يَكُونَ جَزاءً لِأهْلِ الإيمانِ، وأقُولُ: يُمْكِنُ إجْراءُ اللَّفْظِ عَلى عُمُومِهِ؛ لِأنَّ لَفْظَ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى يَجْزِي كُلَّ شَخْصٍ بِما يَلِيقُ بِعَمَلِهِ وكَسْبِهِ ولَمّا كانَ كَسْبُ هَؤُلاءِ الكُفّارِ الكُفْرَ والمَعْصِيَةَ، كانَ جَزاؤُهم هو هَذا العِقابَ المَذْكُورَ، ولَمّا كانَ كَسْبُ المُؤْمِنِينَ الإيمانَ والطّاعَةَ، كانَ اللّائِقُ بِهِمْ هو الثَّوابَ، وأيْضًا أنَّهُ تَعالى لَمّا عاقَبَ المُجْرِمِينَ بِجُرْمِهِمْ فَلِأنْ يُثِيبَ المُطِيعِينَ عَلى طاعَتِهِمْ كانَ أوْلى. ثم قال تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الحِسابِ﴾ والمُرادُ أنَّهُ تَعالى لا يَظْلِمُهم ولا يَزِيدُ عَلى عِقابِهِمُ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَهُ. وحَظُّ العَقْلِ مِنهُ أنَّ الأخْلاقَ الظُّلْمانِيَّةَ هي المَبادِئُ لِحُصُولِ الآلامِ الرُّوحانِيَّةِ، وحُصُولُ تِلْكَ الأخْلاقِ في النَّفْسِ عَلى قَدْرِ صُدُورِ تِلْكَ الأعْمالِ مِنهم في الحَياةِ الدُّنْيا، فَإنَّ المَلَكاتِ النَّفْسانِيَّةَ إنَّما تَحْصُلُ في جَوْهَرِ النَّفْسِ بِسَبَبِ الأفْعالِ المُتَكَرِّرَةِ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ فَتِلْكَ الآلامُ تَتَفاوَتُ بِحَسَبِ تِلْكَ الأفْعالِ في كَثْرَتِها وقِلَّتِها وشِدَّتِها وضَعْفِها وذَلِكَ يُشْبِهُ الحِسابَ. * * * ثم قال تَعالى: ﴿هَذا بَلاغٌ لِلنّاسِ﴾ أيْ هَذا التَّذْكِيرُ والمَوْعِظَةُ بَلاغٌ لِلنّاسِ، أيْ كِفايَةٌ في المَوْعِظَةِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ: إنَّ قَوْلَهُ ”هَذا“ إشارَةٌ إلى كُلِّ القُرْآنِ، وقِيلَ: بَلْ إشارَةٌ إلى كُلِّ هَذِهِ السُّورَةِ، وقِيلَ: بَلْ إشارَةٌ إلى المَذْكُورِ مِن قَوْلِهِ: ﴿ولا تَحْسَبَنَّ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿سَرِيعُ الحِسابِ﴾ وأما قوله: ﴿ولِيُنْذَرُوا بِهِ﴾ فَهو مَعْطُوفٌ عَلى مَحْذُوفٍ أيْ لِيَنْتَصِحُوا: ﴿ولِيُنْذَرُوا بِهِ﴾ أيْ بِهَذا البَلاغِ. ثم قال: ﴿ولِيَعْلَمُوا أنَّما هو إلَهٌ واحِدٌ ولِيَذَّكَّرَ أُولُو الألْبابِ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: قَدْ ذَكَرْنا في هَذا الكِتابِ مِرارًا أنَّ النَّفْسَ الإنْسانِيَّةَ لَها شُعْبَتانِ: القُوَّةُ النَّظَرِيَّةُ وكَمالُ حالِها في مَعْرِفَةِ المَوْجُوداتِ بِأقْسامِها وأجْناسِها وأنْواعِها حَتّى تَصِيرَ النَّفْسُ كالمِرْآةِ الَّتِي يَتَجَلّى فِيها قُدْسُ المَلَكُوتِ ويَظْهَرَ فِيها جَلالُ اللّاهُوتِ، ورَئِيسُ هَذِهِ المَعارِفِ والجَلاءِ مَعْرِفَةُ تَوْحِيدِ اللَّهِ بِحَسَبِ ذاتِهِ وصِفاتِهِ وأفْعالِهِ. والشُّعْبَةُ الثّانِيَةُ: القُوَّةُ العَمَلِيَّةُ وسَعادَتُها في أنْ تَصِيرَ مَوْصُوفَةً بِالأخْلاقِ الفاضِلَةِ الَّتِي تَصِيرُ مَبادِئَ لِصُدُورِ الأفْعالِ الكامِلَةِ عَنْها، ورَئِيسُ سَعاداتِ هَذِهِ القُوَّةِ طاعَةُ اللَّهِ وخِدْمَتُهُ. إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: ﴿ولِيَعْلَمُوا أنَّما هو إلَهٌ واحِدٌ﴾ إشارَةٌ إلى ما يَجْرِي مَجْرى الرَّئِيسِ لِكَمالِ حالِ القُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ، وقَوْلُهُ: ﴿ولِيَذَّكَّرَ أُولُو الألْبابِ﴾ إشارَةٌ إلى ما يَجْرِي مَجْرى الرَّئِيسِ لِكَمالِ حالِ القُوَّةِ العَمَلِيَّةِ فَإنَّ الفائِدَةَ في هَذا التَّذَكُّرِ إنَّما هو الإعْراضُ عَنِ الأعْمالِ الباطِلَةِ والإقْبالُ عَلى الأعْمالِ الصّالِحَةِ، وهَذِهِ الخاتِمَةُ كالدَّلِيلِ القاطِعِ في أنَّهُ لا سَعادَةَ لِلْإنْسانِ إلّا مِن هاتَيْنِ الجِهَتَيْنِ. المسألة الثّانِيَةُ: هَذِهِ الآياتُ مُشْعِرَةٌ بِأنَّ التَّذْكِيرَ بِهَذِهِ المَواعِظِ والنَّصائِحِ يُوجِبُ الوُقُوفَ عَلى التَّوْحِيدِ والإقْبالَ عَلى العَمَلِ الصّالِحِ، والوجه فِيهِ أنَّ المَرْءَ إذا سَمِعَ هَذِهِ التَّخْوِيفاتِ والتَّحْذِيراتِ عَظُمَ خَوْفُهُ واشْتَغَلَ بِالنَّظَرِ والتَّأمُّلِ، فَوَصَلَ إلى مَعْرِفَةِ التَّوْحِيدِ والنُّبُوَّةِ واشْتَغَلَ بِالأعْمالِ الصّالِحَةِ. (p-١١٩)المسألة الثّالِثَةُ: قالَ القاضِي: أوَّلُ هَذِهِ السُّورَةِ وآخِرُها يَدُلُّ عَلى أنَّ العَبْدَ مُسْتَقِلٌّ بِفِعْلِهِ إنْ شاءَ أطاعَ وإنْ شاءَ عَصى. أمّا أوَّلُ هَذِهِ السُّورَةِ فَهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِتُخْرِجَ النّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إلى النُّورِ﴾ [إبراهيم: ١] فَإنّا قَدْ ذَكَرْنا هُناكَ أنَّ هَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ المَقْصُودَ مِن إنْزالِ الكِتابِ إرْشادُ الخَلْقِ كُلِّهِمْ إلى الدِّينِ والتَّقْوى ومَنعُهم عَنِ الكُفْرِ والمَعْصِيَةِ، وأمّا آخِرُ السُّورَةِ فَلِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿ولِيَذَّكَّرَ أُولُو الألْبابِ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى إنَّما أنْزَلَ هَذِهِ السُّورَةَ، وإنَّما ذَكَرَ هَذِهِ النَّصائِحَ والمَواعِظَ لِأجْلِ أنْ يَنْتَفِعَ الخَلْقُ بِها فَيَصِيرُوا مُؤْمِنِينَ مُطِيعِينَ ويَتْرُكُوا الكُفْرَ والمَعْصِيَةَ، فَظَهَرَ أنَّ أوَّلَ هَذِهِ السُّورَةِ وآخِرَها مُتَطابِقانِ في إفادَةِ هَذا المَعْنى. واعْلَمْ أنَّ الجَوابَ المُسْتَقْصى عَنْهُ مَذْكُورٌ في أوَّلِ السُّورَةِ فَلا فائِدَةَ في الإعادَةِ. المسألة الرّابِعَةُ: هَذِهِ الآيَةُ دالَّةٌ عَلى أنَّهُ لا فَضِيلَةَ لِلْإنْسانِ ولا مَنقَبَةَ لَهُ إلّا بِسَبَبِ عَقْلِهِ، لِأنَّهُ تَعالى بَيَّنَ أنَّهُ إنَّما أنْزَلَ هَذِهِ الكُتُبَ، وإنَّما بَعَثَ الرُّسُلَ لِتَذْكِيرِ أُولِي الألْبابِ، فَلَوْلا الشَّرَفُ العَظِيمُ والمَرْتَبَةُ العالِيَةُ لِأُولِي الألْبابِ لَما كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ. قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى ورَضِيَ عَنْهُ: تَمَّ تَفْسِيرُ هَذِهِ السُّورَةِ يَوْمَ الجُمُعَةِ في أواخِرِ شَعْبانَ سَنَةَ إحْدى وسِتِّمِائَةٍ، خُتِمَ بِالخَيْرِ والغُفْرانِ في صَحْراءِ بَغْدادَ، ونَسْألُ اللَّهَ الخَلاصَ مِنَ الغُمُومِ والأحْزانِ، والفَوْزَ بِدَرَجاتِ الجِنانِ، والخَلاصَ مِن دَرَكاتِ النِّيرانِ، إنَّهُ المَلِكُ المَنّانُ، الرَّحِيمُ الدَّيّانُ، بِحَمْدِ اللَّهِ وحُسْنِ تَوْفِيقِهِ، وصَلاتُهُ وسَلامُهُ عَلى خاتَمِ النَّبِيِّينَ مُحَمَّدٍ وآلِهِ وسَلَّمَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب