الباحث القرآني

﴿يَوْم يَقُومُ النّاسُ لِرَبِّ العالَمِينَ﴾ [المطففين: ٦] . ﴿ولا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمّا يَعْمَلُ الظّالِمُونَ إنَّما يُؤَخِّرُهم لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصارُ﴾ [إبراهيم: ٤٢] ﴿مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إلَيْهِمْ طَرْفُهم وأفْئِدَتُهم هَواءٌ﴾ [إبراهيم: ٤٣]: الخِطابُ بِقَوْلِهِ: ولا تَحْسَبَنَّ، لِلسّامِعِ الَّذِي يُمْكِنُ مِنهُ حُسْبانُ مِثْلِ هَذا لِجَهْلِهِ بِصِفاتِ اللَّهِ، لا لِلرَّسُولِ، فَإنَّهُ مُسْتَحِيلٌ ذَلِكَ في حَقِّهِ. وفي هَذِهِ الآيَةِ وعِيدٌ عَظِيمٌ لِلظّالِمِينَ، وتَسْلِيَةٌ لِلْمَظْلُومِينَ. وقَرَأ طَلْحَةُ: ولا تَحْسَبْ، بِغَيْرِ نُونِ التَّوْكِيدِ، وكَذا: فَلا تَحْسَبِ اللَّهَ مُخْلِفَ وعْدِهِ. والمُرادُ بِالنَّهْيِ عَنْ حُسْبانِهِ: غافِلًا الإيذانُ بِأنَّهُ عالِمٌ بِما يَفْعَلُ الظّالِمُونَ، لا يَخْفى عَلَيْهِ مِنهُ شَيْءٌ، وأنَّهُ مُعاقِبُهم عَلى قَلِيلِهِ وكَثِيرِهِ عَلى سَبِيلِ الوَعِيدِ والتَّهْدِيدِ، كَقَوْلِهِ: ﴿واللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٨٣] يُرِيدُ الوَعِيدَ. ويَجُوزُ أنْ يُرادَ: ولا تَحْسَبَنَّهُ يُعامِلُهم مُعامَلَةَ الغافِلِ عَمّا يَعْمَلُونَ، ولَكِنْ مُعامَلَةَ الرَّقِيبِ عَلَيْهِمُ المُحاسِبِ عَلى النَّقِيرِ والقِطْمِيرِ. وقَرَأ السُّلَمِيُّ والحَسَنُ، والأعْرَجُ، والمُفَضَّلُ، عَنْ عاصِمٍ وعَبّاسِ بْنِ الفَضْلِ، وهارُونَ العَتَكِيِّ، ويُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ، عَنْ أبِي عُمَرَ: ونُؤَخِّرُهم، بِنُونِ العَظْمَةِ، والجُمْهُورُ بِالياءِ، أيْ: يُؤَخِّرُهُمُ اللَّهُ. مُهْطِعِينَ مُسْرِعِينَ، قالَهُ: ابْنُ جُبَيْرٍ وقَتادَةُ. وذَلِكَ بِذِلَّة واسْتِكانَةٍ، كَإسْراعِ الأسِيرِ والخائِفِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، وأبُو الضُّحى: شَدِيدِي النَّظَرِ مِن غَيْرِ أنْ يَطْرُقُوا. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: غَيْرَ رافِعِي رُءُوسِهِمْ. وقالَ مُجاهِدٌ: مَدَّ يَمِينِ النَّظَرِ. وقالَ الأخْفَشُ: مُقْبِلِينَ لِلْإصْغاءِ، وأنْشَدَ: ؎بـِدِجْاَـةَ دارُهُـمْ ولَقَـدْ أراهُـمْ بِدِجْلَةَ مُهْطِعِينَ إلى السَّماعِ وقالَ الحَسَنُ: مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ: وُجُوهُ النّاسِ يَوْمَئِذٍ إلى السَّماءِ، لا يَنْظُرُ أحَدٌ إلى أحَدٍ؛ انْتَهى. وقالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هَواءٌ: صُفْرٌ مِنَ الخَيْرِ خاوِيَةٌ مِنهُ. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: جَوْفٌ لا عُقُولَ لَهم. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ، وابْنُ زَيْدٍ: خَرِبَةٌ خاوِيَةٌ لَيْسَ فِيها خَيْرٌ ولا عَقْلٌ. وقالَ سُفْيانُ: خالِيَةٌ إلّا مِن فَزَعِ ذَلِكَ اليَوْمِ، كَقَوْلِهِ: ﴿وأصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغًا﴾ [القصص: ١٠]، أيْ: إلّا مِن هَمِّ مُوسى. وهَواءٌ: تَشْبِيهٌ مَحْضٌ، لِأنَّها لَيْسَتْ بِهَواءٍ حَقِيقَةً، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ التَّشْبِيهُ في فَراغِها مِنَ الرَّجاءِ والطَّمَعِ في الرَّحْمَةِ، فَهي مُنْخَرِقَةٌ مُشْبِهَةُ الهَواءِ في تَفَرُّغِهِ مِنَ الأشْياءِ وانْخِراقِهِ، وأنْ يَكُونَ في اضْطِرابِ أفْئِدَتِهِمْ وجَيَشانِها في الصُّدُورِ، وأنَّها تَجِيءُ وتَذْهَبُ وتَبْلُغُ عَلى ما رَوى حَناجِرَهم، فَهي في ذَلِكَ كالهَواءِ الَّذِي هو أبَدًا في اضْطِرابٍ. وحُصُولُ هَذِهِ الصِّفاتِ الخَمْسِ لِلظّالِمِينَ قَبْلَ المُحاسَبَةِ بِدَلِيلِ ذِكْرِها عَقِيبَ قَوْلِهِ: يَوْمَ يَقُومُ الحِسابُ. وقِيلَ: عِنْدَ إجابَةِ الدّاعِي، والقِيامِ مِنَ القُبُورِ. وقِيلَ: عِنْدَ ذَهابِ السُّعَداءِ إلى الجَنَّةِ، والأشْقِياءِ إلى النّارِ. (p-٤٣٦)﴿وأنْذِرِ النّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أخِّرْنا إلى أجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ ونَتَّبِعِ الرُّسُلَ أوَلَمْ تَكُونُوا أقْسَمْتُمْ مِن قَبْلُ مالَكم مِن زَوالٍ﴾ ﴿وسَكَنْتُمْ في مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنْفُسَهم وتَبَيَّنَ لَكم كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وضَرَبْنا لَكُمُ الأمْثالَ﴾: هَذا خِطابٌ لِلرَّسُولِ ﷺ . ويَوْمَ: مَنصُوبٌ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ ثانٍ لِأنْذِرِ، ولا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ ظَرْفًا، لِأنَّ ذَلِكَ اليَوْمَ لَيْسَ بِزَمانٍ لِلْإنْذارِ، وهَذا اليَوْمُ هو يَوْمُ القِيامَةِ؛ والمَعْنى: وأنْذِرِ النّاسَ الظّالِمِينَ، ويُبَيِّنُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا، لِأنَّ المُؤْمِنِينَ يُبَشِّرُونَ ولا يُنْذِرُونَ. وقِيلَ: اليَوْمُ يَوْمُ هَلاكِهِمْ بِالعَذابِ العاجِلِ، أوْ يَوْمُ مَوْتِهِمْ مُعَذَّبِينَ بِشِدَّةِ السَّكَراتِ، ولِقاءِ المَلائِكَةِ بِلا بُشْرى، كَقَوْلِهِ: ﴿لَوْلا أخَّرْتَنِي إلى أجَلٍ قَرِيبٍ فَأصَّدَقَ﴾ [المنافقون: ١٠] ومَعْنى التَّأخُّرِ إلى أجَلٍ قَرِيبٍ الرَّدُّ إلى الدُّنْيا؛ قالَهُ الضَّحّاكُ، إذِ الإمْهالُ إلى أمَدٍ وحَدٍّ مِنَ الزَّمانِ قَرِيبٌ، قالَهُ السُّدِّيُّ، أيْ: لِتَدارُكِ ما فَرَّطُوا مِن إجابَةِ الدَّعْوَةِ، واتِّباعِ الرُّسُلِ. أوْ لَمْ تَكُونُوا: هو عَلى إضْمارِ القَوْلِ والظّاهِرُ أنَّ التَّقْدِيرَ: فَيُقالُ لَهم، والقائِلُ المَلائِكَةُ، أوِ القائِلُ اللَّهُ تَعالى. يُوَبِّخُونَ بِذَلِكَ، ويَذْكُرُونَ مَقالَتَهم في إنْكارِ البَعْثِ، وإقْسامَهم عَلى ذَلِكَ كَما قالَ تَعالى: ﴿وأقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ﴾ [النحل: ٣٨] ومَعْنى ما لَكم مِن زَوالٍ، مِنَ الأرْضِ بَعْدَ المَوْتِ؛ أيْ: لا نُبْعَثُ مِنَ القُبُورِ. وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: إنَّ هَذا القَوْلَ يَكُونُ مِنهم، وهم في النّارِ، ويَرُدُّ عَلَيْهِمْ: أوْ لَمْ تَكُونُوا، ومَعْناهُ التَّوْبِيخُ والتَّقْرِيعُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ أوْ لَمْ تَكُونُوا أقْسَمْتُمْ عَلى إرادَةِ القَوْلِ، وفِيهِ وجْهانِ: أنْ يَقُولُوا ذَلِكَ بَطَرًا وأشَرًا، ولِما اسْتَوْلى عَلَيْهِمْ مِن عادَةِ الجَهْلِ والسَّفَهِ. وأنْ يَقُولُوا بِلِسانِ الحالِ حَيْثُ بَنَوْا شَدِيدًا، وأمْلَوْا بَعِيدًا. وما لَكم: جَوابُ القَسَمِ، وإنَّما جاءَ بِلَفْظِ الخِطابِ، لِقَوْلِهِ: أقْسَمْتُمْ، ولَوْ حَكى لَفْظَ المُقْسِمِينَ لَقِيلَ: ما لَنا مِن زَوالٍ، والمَعْنى: أقْسَمْتُمْ أنَّكم باقُونَ في الدُّنْيا لا تَزُولُونَ بِالمَوْتِ والفَناءِ، وقِيلَ: لا تَنْتَقِلُونَ إلى دارٍ أُخْرى؛ انْتَهى. فَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ (أوْ لَمْ تَكُونُوا) مَحْكِيًّا بِقَوْلِهِمْ، وهو مُخالِفٌ لِما قَدْ بَيَّنّاهُ مِن أنَّهُ يُقالُ لَهم ذَلِكَ، وقَوْلُهُ: لا يَزُولُونَ بِالمَوْتِ والفَناءِ لَيْسَ بِجَيِّدٍ، لِأنَّهم مُقِرُّونَ بِالمَوْتِ والفَناءِ. وقَوْلُهُ هو قَوْلُ مُجاهِدٍ. وسَكَنْتُمْ: إنْ كانَ مِنَ السُّكُونِ، فالمَعْنى: أنَّهم قَرُّوا فِيها واطْمَأنُّوا طَيِّبِي النُّفُوسِ سائِرِينَ بِسَيْرَةِ مَن قَبْلَهم في الظُّلْمِ والفَسادِ، لا يُحَدِّثُونَها بِما لَقِيَ الظّالِمُونَ قَبْلَهم. وإنْ كانَ مِنَ السُّكْنى، فَإنَّ السُّكْنى مِنَ السُّكُونِ الَّذِي هو اللُّبْثُ، والأصْلُ تَعْدِيَتُهُ بفي، كَما يُقالُ: أقامَ في الدّارِ وقَرَّ فِيها، ولَكِنَّهُ لَمّا أُطْلِقَ عَلى سُكُونٍ خاصٍّ تَصَرَّفَ فِيهِ، فَقِيلَ: سَكَنَ الدّارَ، كَما قِيلَ: تَبَوَّأها، وتَبَيَّنَ لَكم بِالخَبَرِ وبِالمُشاهَدَةِ ما فَعَلْنا بِهِمْ مِنَ الهَلاكِ والِانْتِقامِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: وتَبَيَّنَ: فِعْلًا ماضِيًا، وفاعِلُهُ مُضْمَرٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ الكَلامُ، أيْ: وتَبَيَّنَ لَكم هو، أيْ: حالُهم، ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ الفاعِلُ كَيْفَ، لِأنَّ (كَيْفَ) إنَّما تَأْتِي اسْمَ اسْتِفْهامٍ أوْ شَرْطٍ، وكِلاهُما لا يَعْمَلُ فِيهِ ما قَبْلَهُ، إلّا ما رُوِيَ شاذًّا مِن دُخُولِ (عَلى) عَلى (كَيْفَ) في قَوْلِهِمْ: عَلى كَيْفَ تَبِيعُ الأحْمَرَيْنِ، و(إلى) في قَوْلِهِمْ: أنْظُرُ إلى كَيْفَ تَصْنَعُ، وإنَّما كَيْفَ هُنا سُؤالٌ عَنْ حالٍ في مَوْضِعِ نَصْبٍ بِفَعَلْنا. وقَرَأ السُّلَمِيُّ فِيما حَكى عَنْهُ أبُو عَمْرٍو الدّانِيُّ: ونُبَيِّنُ، بِضَمِّ النُّونِ، ورَفْعِ النُّونِ الأخِيرَةِ مُضارِعُ بَيَّنَ، وحَكاها صاحِبُ اللَّوامِحِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وذَلِكَ عَلى إضْمارِ (ونَحْنُ نُبَيِّنُ)، والجُمْلَةُ حالِيَّةٌ. وقالَ الَمَهَدَوِيُّ عَنِ السُّلَمِيِّ: إنَّهُ قَرَأ كَذَلِكَ، إلّا أنَّهُ جَزَمَ النُّونَ عَطْفًا عَلى ﴿أوَلَمْ تَكُونُوا﴾ أيْ: ولَمْ نُبَيِّنْ، فَهو مُشارِكٌ في التَّقْرِيرِ. ﴿وضَرَبْنا لَكُمُ الأمْثالَ﴾، أيْ: صِفاتِ ما فَعَلُوا وما فُعِلَ بِهِمْ، وهي في الغَرابَةِ كالأمْثالِ المَضْرُوبَةِ لِكُلِّ ظالِمٍ. ﴿وقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهم وعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهم وإنْ كانَ مَكْرُهم لِتَزُولَ مِنهُ الجِبالُ﴾ ﴿فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وعْدِهِ رُسُلَهُ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ﴾ ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرْضُ غَيْرَ الأرْضِ والسَّماواتُ وبَرَزُوا لِلَّهِ الواحِدِ القَهّارِ﴾ ﴿وتَرى المُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ في الأصْفادِ﴾ ﴿سَرابِيلُهم مِن قَطِرانٍ وتَغْشى وُجُوهَهُمُ النّارُ﴾ ﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الحِسابِ﴾ ﴿هَذا بَلاغٌ لِلنّاسِ ولِيُنْذَرُوا بِهِ ولِيَعْلَمُوا أنَّما هو إلَهٌ واحِدٌ ولِيَذَّكَّرَ أُولُو الألْبابِ﴾ (p-٤٣٧)الظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ في مَكَرُوا عائِدٌ عَلى المُخاطِبِينَ في قَوْلِهِ: ﴿أوَلَمْ تَكُونُوا أقْسَمْتُمْ مِن قَبْلُ﴾ أيْ مَكَرُوا بِالشِّرْكِ بِاللَّهِ، وتَكْذِيبِ الرُّسُلِ. وقِيلَ: الضَّمِيرُ عائِدٌ عَلى قَوْمِ الرَّسُولِ كَقَوْلِهِ: ﴿وأنْذِرِ النّاسَ﴾ أيْ: وقَدْ مَكَرَ قَوْمُكَ يا مُحَمَّدُ، وهو الَّذِي في قَوْلِهِ: ﴿وإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [الأنفال: ٣٠] الآيَةَ؛ ومَعْنى مَكْرُهم، أيِ: المَكْرُ العَظِيمُ الَّذِي اسْتَفْرَغُوا فِيهِ جُهْدَهم، والظّاهِرُ أنَّ هَذا إخْبارٌ مِنَ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ بِما صَدَرَ مِنهم في الدُّنْيا، ولَيْسَ مَقُولًا في الآخِرَةِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِمّا يُقالُ يَوْمَ القِيامَةِ لِلظَّلَمَةِ الَّذِينَ سَكَنَ في مَنازِلِهِمْ. وعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهم، أيْ: عِلْمُ مَكْرِهِمْ فَهو مُطَّلِعٌ عَلَيْهِ، فَلا يُنَفِّذُ لَهم فِيهِ قَصْدًا، ولا يُبَلِّغُهم فِيهِ أمَلًا أوْ جَزاءَ مَكْرِهِمْ، وهو عَذابُهُ لَهم. والظّاهِرُ إضافَةُ مَكْرٍ - وهو المَصْدَرُ - إلى الفاعِلِ، كَما هو مُضافٌ في الأوَّلِ إلَيْهِ، كَأنَّهُ قِيلَ: وعِنْدَ اللَّهِ ما مَكَرُوا، أيْ: مَكْرُهم. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أوْ يَكُونُ مُضافًا إلى المَفْعُولِ عَلى مَعْنى: وعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمُ الَّذِي يَمْكُرُهم بِهِ، وهو عَذابُهُمُ الَّذِي يَسْتَحِقُّونَهُ، يَأْتِيهِمْ بِهِ مِن حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ ولا يَحْتَسِبُونَ؛ انْتَهى. وهَذا لا يَصِحُّ إلّا إنْ كانَ مَكْرٌ يَتَعَدّى بِنَفْسِهِ كَما قالَ هو، إذْ قُدِّرَ: يَمْكُرُهم بِهِ، والمَحْفُوظُ أنَّ (مَكَرَ) لا يَتَعَدّى إلى مَفْعُولٍ بِهِ بِنَفْسِهِ. قالَ تَعالى: ﴿وإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [الأنفال: ٣٠] وتَقُولُ: زَيْدٌ مَمْكُورٌ بِهِ، ولا يُحْفَظُ زَيْدٌ مَمْكُورٌ بِسَبَبِ كَذا. وقَرَأ الجُمْهُورُ: وإنْ كانَ بِالنُّونِ. وقَرَأ عَمْرٌو، وعَلِيٌّ، وعَبْدُ اللَّهِ، وأُبَيٌّ، وأبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وأبُو إسْحاقَ السَّبِيعِيُّ، وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: وإنْ (كادَ) بِدالٍ مَكانَ النُّونِ (لَتَزُولُ) بِفَتْحِ اللّامِ الأُولى ورَفْعِ الثّانِيَةِ، ورُوِيَ كَذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ (p-٤٣٨)ومُجاهِدٌ، وابْنُ وثّابٍ، والكِسائِيُّ كَذَلِكَ، إلّا أنَّهم قَرَءُوا (وإنْ كانَ) بِالنُّونِ، فَعَلى هاتَيْنِ القِراءَتَيْنِ تَكُونُ (إنْ) هي المُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، واللّامُ هي الفارِقَةُ، وذَلِكَ عَلى مَذْهَبِ البَصْرِيِّينَ. وأمّا عَلى مَذْهَبِ الكُوفِيِّينَ فَإنْ نافِيَةٌ، واللّامُ بِمَعْنى إلّا. فَمَن قَرَأ (كادَ) بِالدّالِ فالمَعْنى: أنَّهُ يَقْرُبُ زَوالُ الجِبالِ بِمَكْرِهِمْ، ولا يَقَعُ الزَّوالُ. وعَلى قِراءَةِ (كانَ) بِالنُّونِ، يَكُونُ زَوالُ الجِبالِ قَدْ وقَعَ، ويَكُونُ في ذَلِكَ تَعْظِيمُ مَكْرِهِمْ وشِدَّتُهُ، وهو بِحَيْثُ يَزُولُ مِنهُ الجِبالُ وتَنْقَطِعُ عَنْ أماكِنِها. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَعْنى لِتَزُولَ لَيَقْرُبُ زَوالُها، فَيَصِيرُ المَعْنى كَمَعْنى قِراءَةِ كادَ. ويُؤَيِّدُ هَذا التَّأْوِيلَ ما ذَكَرَهُ أبُو حاتِمٍ مِن أنَّ في قِراءَةِ أُبَيٍّ: ولَوْلا كَلِمَةُ اللَّهِ لَزالَ مِن مَكْرِهِمُ الجِبالُ، ويَنْبَغِي أنْ تُحْمَلَ هَذِهِ القِراءَةُ عَلى التَّفْسِيرِ لِمُخالَفَتِها لِسَوادِ المُصْحَفِ المُجْمَعِ عَلَيْهِ. وقَرَأ الجُمْهُورُ وباقِي السَّبْعَةِ: ﴿وإنْ كانَ﴾ بِالنُّونِ، ﴿مَكْرُهم لِتَزُولَ﴾، بِكَسْرِ اللّامِ، ونَصْبِ الأخِيرَةِ. ورُوِيَتْ هَذِهِ القِراءَةُ عَنْ عَلِيٍّ، واخْتُلِفَ في تَخْرِيجِها. فَعَنِ الحَسَنِ وجَماعَةٍ أنَّ (إنْ) نافِيَةٌ، و(كانَ) تامَّةٌ، والمَعْنى: وتَحْقِيرُ مَكْرِهِمْ، وأنَّهُ ما كانَ لِتَزُولَ مِنهُ الشَّرائِعُ والنُّبُوّاتُ وأقْدارُ اللَّهِ الَّتِي هي كالجِبالِ في ثُبُوتِها وقُوَّتِها، ويُؤَيِّدُ هَذا التَّأْوِيلَ ما رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أنَّهُ قَرَأ: (وما كانَ) بِما النّافِيَةِ: لَكِنَّ هَذا التَّأْوِيلَ، وما رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِن قِراءَةِ (وما) بِالنَّفْيِ، يُعارِضُ ما تَقَدَّمَ مِنَ القِراءاتِ، لِأنَّ فِيها تَعْظِيمَ مَكْرِهِمْ، وفي هَذا تَحْقِيرُهُ. ويُحْتَمَلُ عَلى تَقْدِيرِ أنَّها نافِيَةٌ أنْ تَكُونَ كانَ ناقِصَةً، واللّامُ لامُ الجُحُودِ، وخَبَرُ كانَ عَلى الخِلافِ الَّذِي بَيْنَ البَصْرِيِّينَ والكُوفِيِّينَ: أهْوَ مَحْذُوفٌ ؟ أوْ هو الفِعْلُ الَّذِي دَخَلَتْ عَلَيْهِ اللّامُ ؟ وعَلى أنَّ (إنْ) نافِيَةٌ وكانَ ناقِصَةٌ، واللّامُ في لِتَزُولَ مُتَعَلِّقَة بِفِعْلٍ في مَوْضِعِ خَبَرِ كانَ، خَرَّجَهُ الحَوْفِيُّ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وإنْ كانَ مَكْرُهم لِتَزُولَ مِنهُ الجِبالُ، وإنْ عَظُمَ مَكْرُهم، وتَتابَعَ في الشِّدَّةِ بِضَرْبِ زَوالِ الجِبالِ مِنهُ مَثَلًا لِتَفاقُمِهِ وشِدَّتِهِ؛ أيْ: وإنْ كانَ مَكْرُهم مُسْتَوٍ لِإزالَةِ الجِبالِ مُعَدًّا لِذَلِكَ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويُحْتَمَلُ عِنْدِي هَذِهِ القِراءَةَ أنْ تَكُونَ بِمَعْنى تَعْظِيمِ مَكْرِهِمْ؛ أيْ: وإنْ كانَ شَدِيدًا بِما يَفْعَلُ لِيَذْهَبَ بِهِ عِظامُ الأُمُورِ؛ انْتَهى. وعَلى تَخْرِيجِ هَذَيْنِ تَكُونُ (إنْ) هي المُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وكانَ هي النّاقِصَةُ. وعَلى هَذا التَّخْرِيجِ تَتَّفِقُ مَعانِي القِراءاتِ أوْ تَتَقارَبُ، وعَلى تَخْرِيجِ النَّفْيِ تَتَعارَضُ، كَما ذَكَرْنا. وقُرِئَ (لِتَزُولَ) بِفَتْحِ اللّامِ الأُولى ونَصْبِ الثّانِيَةِ، وذَلِكَ عَلى لُغَةِ مَن فَتَحَ لامَ كَيْ. والَّذِي يَظْهَرُ أنَّ زَوالَ الجِبالِ مَجازٌ ضُرِبَ مَثَلًا لِمَكْرِ قُرَيْشٍ، وعِظَمِهِ والجِبالُ لا تَزُولُ، وهَذا مِن بابِ الغُلُوِّ والإيغالِ والمُبالَغَةِ في ذَمِّ مَكْرِهِمْ. وأمّا ما رُوِيَ أنَّ جَبَلًا زالَ بِحَلِفِ امْرَأةٍ اتَّهَمَها زَوْجُها، وكانَ ذَلِكَ الجَبَلُ مَن حَلَفَ عَلَيْهِ كاذِبًا ماتَ، فَحَمَلَها لِلْحَلِفِ، فَمَكَرَتْ بِأنْ رَمَتْ نَفْسَها عَنِ الدّابَّةِ، وكانَتْ وعَدَتْ مَنِ اتُّهِمَتْ بِهِ أنْ يَكُونَ في المَكانِ الَّذِي وقَعَتْ فِيهِ عَنِ الدّابَّةِ، فَأرْكَبَها زَوْجُها وذَلِكَ الرَّجُلُ، وحَلَفَتْ عَلى الجَبَلِ أنَّها ما مَسَّها غَيْرُهُما، فَنَزَلَتْ سالِمَةً، وأصْبَحَ الجَبَلُ قَدِ انْدَكَّ، وكانَتِ المَرْأةُ مِن عَدْنانَ. وما رُوِيَ مِن قِصَّةِ النَّمْرُودِ أوْ بُخْتُ نَصَّرَ، واتِّخاذُ الأنْسَرِ وصُعُودُهُما عَلَيْها إلى قُرْبِ السَّماءِ في قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ. وما تَأوَّلَ بَعْضُهم أنَّهُ عَبَّرَ بِالجِبالِ عَنِ الإسْلامِ، والقُرْآنِ لِثُبُوتِهِ ورُسُوخِهِ، وعَبَّرَ بِمَكْرِهِمْ عَنِ اخْتِلافِهِمْ فِيهِ مِن قَوْلِهِمْ: هَذا سِحْرٌ، هَذا شِعْرٌ، هَذا إفْكٌ، فَأقْوالٌ يَنْبُو عَنْها ظاهِرُ اللَّفْظِ، وبِعِيدٌ جِدًّا قِصَّةُ الأنْسَرِ. والنَّهْيُ عَنِ الحُسْبانِ كَهَوَ في قَوْلِهِ: ﴿ولا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا﴾ [إبراهيم: ٤٢] وأطْلَقَ الحُسْبانَ عَلى الأمْرِ المُتَحَقِّقِ هُنا؛ كَما قالَ الشّاعِرُ: ؎فَلا تَحْسَبَنَّ أنِّي أضِلُّ مَنِيَّتِي ∗∗∗ فَكُلُّ امْرِئٍ كَأْسَ الحِمامِ يَذُوقُ وهَذا الوَعْدُ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا﴾ [غافر: ٥١]، ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأغْلِبَنَّ أنا ورُسُلِي﴾ [المجادلة: ٢١]، وقَرَأ الجُمْهُورُ بِإضافَةِ مُخْلِفَ إلى وعْدِهِ، ونَصْبِ رُسُلَهُ. واخْتُلِفَ في إعْرابِهِ فَقالَ الجُمْهُورُ: الفَرّاءُ، وقُطْرُبٌ، والحَوْفِيُّ، والزَّمَخْشَرِيُّ، وابْنُ عَطِيَّةَ، وأبُو البَقاءِ: إنَّهُ مِمّا أُضِيفَ فِيهِ اسْمُ الفاعِلِ إلى المَفْعُولِ الثّانِي، كَقَوْلِهِمْ: هَذا مُعْطِي دِرْهَمٍ (p-٤٣٩)زَيْدًا، لَمّا كانَ يَتَعَدّى إلى اثْنَيْنِ جازَتْ إضافَتُهُ إلى كُلِّ واحِدٍ مِنهُما، فَيَنْتَصِبُ ما تَأخَّرَ. وأنْشَدَ بَعْضُهم نَظِيرًا لَهُ قَوْلَ الشّاعِرِ: ؎تَرى الثَّوْرَ فِيها مُدْخِلَ الظِّلِّ رَأْسَهُ ∗∗∗ وسائِرُهُ بادٍ إلى الشَّمْسِ أجْمَعَ . وقالَ أبُو البَقاءِ: هو قَرِيبٌ مِن قَوْلِهِمْ: يا سارِقَ اللَّيْلَةِ أهْلَ الدّارِ. وقالَ الفَرّاءُ وقُطْرُبٌ: لَمّا تَعَدّى الفِعْلُ إلَيْهِما جَمِيعًا لَمْ يُبالِ بِالتَّقْدِيمِ والتَّأْخِيرِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإنْ قُلْتَ): هَلّا قِيلَ: مُخْلِفَ رُسُلِهِ وعْدَهُ، ولِمَ قَدَّمَ المَفْعُولَ الثّانِيَ عَلى الأوَّلِ ؟ (قُلْتُ): قَدَّمَ الوَعْدَ لِيُعْلَمَ أنَّهُ لا يُخْلِفُ الوَعْدَ أصْلًا، لِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ المِيعادَ﴾ [الرعد: ٣١] ثُمَّ قالَ: رُسُلَهُ، لِيُؤْذِنَ أنَّهُ إذا لَمْ يُخْلِفْ وعْدَهُ أحَدًا، ولَيْسَ مِن شَأْنِهِ إخْلافُ المَواعِيدِ، كَيْفَ يَخْلُفُهُ رُسُلُهُ الَّذِينَ هم خِيرَتُهُ وصَفْوَتُهُ ؟؛ انْتَهى. وهو جَوابٌ عَلى طَرِيقَةِ الِاعْتِزالِ في أنَّ وعْدَ اللَّهِ واقِعٌ لا مَحالَةَ، فَمَن وعَدَهُ بِالنّارِ مِنَ العُصاةِ لا يَجُوزُ أنْ يَغْفِرَ لَهُ أصْلًا. ومَذْهَبُ أهْلِ السُّنَّةِ أنَّ كُلَّ ما وعَدَ مِنَ العَذابِ لِلْعُصاةِ المُؤْمِنِينَ هو مَشْرُوطٌ إنْفاذُهُ بِالمَشِيئَةِ. وقِيلَ: مُخْلِفُ هُنا مُتَعَدٍّ إلى واحِدٍ، كَقَوْلِهِ: ﴿لا يُخْلِفُ المِيعادَ﴾ [الرعد: ٣١] فَأُضِيفَ إلَيْهِ، وانْتَصَبَ رُسُلَهُ بِوَعْدِهِ إذْ هو مَصْدَرٌ يَنْحَلُّ بِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ، والفِعْلِ كَأنَّهُ قالَ: مُخْلِفَ ما وعَدَ رُسُلَهُ، وما مَصْدَرِيَّةٌ، لا بِمَعْنى الَّذِي. وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: مُخْلِفَ وعْدَهُ رُسُلِهِ، بِنَصْبِ وعْدَهُ، وإضافَةِ مُخْلِفَ إلى رُسُلِهِ، فَفَصَلَ بَيْنَ المُضافِ والمُضافِ إلَيْهِ بِالمَفْعُولِ، وهو كَقِراءَةِ: قَتْلُ أوْلادِهِمْ شُرَكائِهِمْ، وتَقَدَّمَ الكَلامُ عَلَيْهِ مُشَبَّعًا في الأنْعامِ. وهَذِهِ القِراءَةُ تُؤَيَّدُ إعْرابَ الجُمْهُورِ في القِراءَةِ الأُولى، وأنَّهُ مِمّا تَعَدّى فِيهِ مُخْلِفَ إلى مَفْعُولَيْنِ. إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ شَيْءٌ ولا يُغالَبُ ذُو انْتِقامٍ مِنَ الكَفَرَةِ لا يَعْفُو عَنْهم. والتَّبْدِيلُ يَكُونُ في الذّاتِ؛ أيْ: تَزُولُ ذاتٌ وتَجِيءُ أُخْرى. ومِنهُ: ﴿بَدَّلْناهم جُلُودًا غَيْرَها﴾ [النساء: ٥٦] ﴿وبَدَّلْناهم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ﴾ [سبإ: ١٦] ويَكُونُ في الصِّفاتِ كَقَوْلِكَ: بَدَّلْتُ الحَلَقَةَ خاتَمًا، فالذّاتُ لَمْ تُفْقَدْ لَكِنَّها انْتَقَلَتْ مِن شَكْلٍ إلى شَكْلٍ. واخْتَلَفُوا في التَّبْدِيلِ هُنا، أهْوَ في الذّاتِ، أوْ في الصِّفاتِ، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: تُمَدُّ كَما يُمَدُّ الأدِيمُ، وتُزالُ عَنْها جِبالُها وآكامُها وشَجَرُها، وجَمِيعُ ما فِيها حَتّى تَصِيرَ مُسْتَوِيَةً لا تَرى فِيها عِوَجًا ولا أمْتًا، وتُبَدَّلُ السَّماواتُ بِتَكْوِيرِ شَمْسِها، وانْتِثارِ كَواكِبها، وانْشِقاقِها، وخُسُوفِ قَمَرِها. وقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: تُبَدَّلُ الأرْضُ بِأرْضٍ كالفِضَّةِ نَقِيَّةٍ لَمْ يُسْفَكْ فِيها دَمٌ، ولَمْ يُعْمَلْ فِيها خَطِيئَةٌ. وقالَ: عَلى تِلْكَ الأرْضِ مِن فِضَّةٍ والجَنَّةِ مِن ذَهَبٍ. وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وابْنُ جُبَيْرٍ: هي أرْضٌ مِن خُبْزٍ يَأْكُلُ مِنها المُؤْمِنُونَ مِن تَحْتِ أقْدامِهِمْ، وجاءَ هَذا مَرْفُوعًا. وقِيلَ: تَصِيرُ نارًا والجَنَّةُ مِن ورائِها تَرى أكْوابَها وكَواعِبَها. وقالَ أُبَيٌّ: تَصِيرُ السَّماواتُ حِقابًا. وقِيلَ: تَبْدِيلُها طَيُّها. وقِيلَ: مَرَّةً كالمُهْلِ، ومَرَّةً ورْدَةٌ كالدِّهانِ، قالَهُ ابْنُ الأنْبارِيِّ. وقِيلَ: بِانْشِقاقِها فَلا تَظَلُّ. وفي الحَدِيثِ: (إنَّ اللَّهَ يُبَدِّلُ هَذِهِ الأرْضَ بِأرْضٍ عَفْراءَ بَيْضاءَ كَأنَّها قُرْصَةُ نَقِيٍّ) وفي كِتابِ الزَّمَخْشَرِيِّ، وعَنْ عَلِيٍّ: تُبَدَّلُ أرْضًا مِن فِضَّةٍ، وسَماواتٍ مِن ذَهَبٍ. وعَنِ الضَّحّاكِ: أرْضًا مِن فِضَّةٍ بَيْضاءَ كالصَّحائِفِ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: هي تِلْكَ الأرْضُ وإنَّما تُغَيَّرُ، وأنْشَدَ: ؎وما النّاسُ بِالنّاسِ الَّذِينَ عَهِدْتَهم ∗∗∗ ولا الدّارُ بِالدّارِ الَّتِي كُنْتَ تَعْلَمُ قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وسَمِعْتُ مِن أُبَيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - رَوى أنَّ التَّبْدِيلَ يَقَعُ في الأرْضِ، ولَكِنْ تُبَدَّلُ لِكُلِّ فَرِيقٍ بِما يَقْتَضِيهِ حالُهُ، فالمُؤْمِنُ يَكُونُ عَلى خُبْزٍ يَأْكُلُ مِنهُ بِحَسَبِ حاجَتِهِ إلَيْهِ، وفَرِيقٌ يَكُونُونَ عَلى فِضَّةٍ إنْ صَحَّ السَّنَدُ بِها، وفَرِيقُ الكَفَرَةِ يَكُونُونَ عَلى نارٍ ونَحْوِ هَذا، وكُلُّهُ واقِعٌ تَحْتَ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعالى. وفي الحَدِيثِ: ”المُؤْمِنُونَ وقْتَ التَّبْدِيلِ في ظِلِّ العَرْشِ، وفِيهِ أنَّهم ذَلِكَ الوَقْتَ عَلى الصِّراطِ“ وقالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ الرّازِيُّ: المُرادُ مِن تَبْدِيلِ الأرْضِ والسَّماواتِ هو أنَّهُ تَعالى يَجْعَلُ الأرْضَ جَهَنَّمَ، ويَجْعَلُ (p-٤٤٠)السَّماواتِ الجَنَّةَ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَلّا إنَّ كِتابَ الفُجّارِ لَفي سِجِّينٍ﴾ [المطففين: ٧] وقَوْلُهُ: ﴿كَلّا إنَّ كِتابَ الأبْرارِ لَفي عِلِّيِّينَ﴾ [المطففين: ١٨]؛ انْتَهى. وكَلامُهُ هَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ الجَنَّةَ والنّارَ غَيْرُ مَخْلُوقَتَيْنِ، وظاهِرُ القُرْآنِ والحَدِيثِ أنَّهُما قَدْ خُلِقَتا، وصَحَّ في الحَدِيثِ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ اطَّلَعَ عَلَيْهِما، ولا يُمْكِنُ أنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِما حَقِيقَةً إلّا بَعْدَ خَلْقِهِما. وبَرَزُوا: أيْ: ظَهَرُوا. لا يُوارِيهِمْ بِناءٌ ولا حِصْنٌ، وانْتِصابُ (يَوْمَ) عَلى أنَّهُ بَدَلٌ مِن ﴿يَوْمَ يَأْتِيهِمْ﴾ قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ، أوْ مَعْمُولًا لِـ ﴿مُخْلِفَ وعْدِهِ﴾ . وإنَّ وما بَعْدَها اعْتِراضٌ؛ قالَهُ الحَوْفِيُّ. وقالَ أبُو البَقاءِ: لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ ظَرْفًا فالمُخْلِفُ ولا لِوَعْدِهِ، لِأنَّ ما قَبْلَ (أنْ) لا يَعْمَلُ فِيما بَعْدَها، ولَكِنْ جُوِّزَ أنْ يَلْحَقَ مِن مَعْنى الكَلامِ ما يَعْمَلُ في الظَّرْفِ؛ أيْ: لا يُخْلِفُ وعْدَهُ يَوْمَ تُبَدَّلُ؛ انْتَهى. وإذا كانَ (إنَّ) وما بَعْدَها اعْتِراضًا، لَمْ يُبالِ أنَّهُ فَصْلًا بَيْنَ العامِلِ والمَعْمُولِ، أوْ مَعْمُولًا لِانْتِقامٍ؛ قالَهُ: الزَّمَخْشَرِيُّ، والحَوْفِيُّ، وأبُو البَقاءِ، أوَّلًا ذَكَرَ؛ قالَهُ أبُو البَقاءِ. وقُرِئَ: (نُبَدِّلُ) بِالنُّونِ (الأرْضَ) بِالنَّصْبِ، و(السَّماواتِ) مَعْطُوفٌ عَلى الأرْضِ، و (ثُمَّ) مَحْذُوفٌ؛ أيْ: غَيْرَ السَّماواتِ، حُذِفَ لِدَلالَةِ ما قَبْلَهُ عَلَيْهِ. والظّاهِرُ اسْتِئْنافٌ. وبَرَزُوا. وقالَ أبُو البَقاءِ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ حالًا مِنَ الأرْضِ، و(قَدْ) مَعَهُ مُزادَةٌ. ومَعْنى لِلَّهِ: لِحُكْمِ اللَّهِ، أوْ لِمَوْعُودِهِ مِنَ الجَنَّةِ والنّارِ. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: وبُرِزُوا؛ بِضَمِّ الباءِ وكَسْرِ الرّاءِ مُشَدَّدَةً، جَعَلَهُ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ عَلى سَبِيلِ التَّكْثِيرِ بِالنِّسْبَةِ إلى العالَمِ وكَثْرَتِهِمْ، لا بِالنِّسْبَةِ إلى تَكْرِيرِ الفِعْلِ. وجِيءَ بِهَذَيْنِ الوَصْفَيْنِ وهُما: الواحِدُ: وهو الواحِدُ الَّذِي لا يُشْرِكُهُ أحَدٌ في أُلُوهِيَّتِهِ، ونَبَّهَ بِهِ عَلى أنَّ آلِهَتَهم في ذَلِكَ اليَوْمِ لا تَنْفَعُ. والقَهّارُ: وهو الغالِبُ لِكُلِّ شَيْءٍ، وهَذا نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لِمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ لِلَّهِ الواحِدِ القَهّارِ﴾ [غافر: ١٦] . وتَرى المُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ يَوْمَ إذْ تُبَدَّلُ، وبَرَزُوا، مُقَرَّنِينَ، مَشْدُودِينَ في القَرْنِ؛ أيْ: مَقْرُونٌ بَعْضُهم مَعَ بَعْضٍ في القُيُودِ والأغْلالِ، أوْ مَعَ شَياطِينِهِمْ، كُلُّ كافِرٍ مَعَ شَيْطانِهِ في غُلٍّ أوْ تُقْرَنُ أيْدِيهِمْ إلى أرْجُلِهِمْ مُغَلَّلِينَ. والظّاهِرُ تَعَلُّقٌ في الأصْفادِ بِقَوْلِهِ: مُقَرَّنِينَ؛ أيْ: يُقْرَنُونَ في الأصْفادِ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِـ (مُقَرَّنِينَ)، وفي مَوْضِعِ الحالِ، فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، كَأنَّهُ قِيلَ: مُسْتَقِرِّينَ في الأصْفادِ. وقالَ الحَسَنُ: ما في جَهَنَّمَ وادٍ، ولا مَفازَةٌ، ولا قَيْدٌ، ولا سِلْسِلَةٌ، إلّا اسْمُ صاحِبِهِ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ. وقَرَأ عَلِيٌّ، وأبُو هُرَيْرَةَ، وابْنُ عَبّاسٍ، وعِكْرِمَةُ، وابْنُ جُبَيْرٍ، وابْنُ سِيرِينَ، والحَسَنُ، بِخِلافٍ عَنْهُ. وسِنانُ بْنُ سَلَمَةَ بْنِ المُحْنِقِ، وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وقَتادَةُ، وأبُو صالِحٍ، والكَلْبِيُّ، وعِيسى الهَمْدانِيُّ، وعَمْرُو بْنُ فائِدٍ، وعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ: مِن قَطِرٍ، بِفَتْحِ القافِ وكَسْرِ الطّاءِ وتَنْوِين الرّاء، أنَّ اسْمَ فاعِلٍ مِن أنّى صِفَةٌ لِقِطْرٍ. قِيلَ: وهو القَصْدِيرُ، وقِيلَ: النُّحاسُ. وعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنَّهُ قالَ: لَيْسَ بِالقَطِرانِ، ولَكِنَّهُ النُّحاسُ يَصِيرُ بِلَوْنِهِ. والآنِيُّ: الذّائِبُ الحارُّ الَّذِي قَدْ تَناهى حَرُّهُ. قالَ الحَسَنُ: قَدْ سُعِّرَتْ عَلَيْهِ جَهَنَّمُ مُنْذُ خُلِقَتْ، فَتَناهى حَرُّهُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: أيْ: آنَ أنْ يُعَذَّبُوا بِهِ، يَعْنِي: حانَ تَعْذِيبُهم بِهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ومِن شَأْنِهِ. أيِ: القَطْرانُ، أنْ يُسْرِعَ فِيهِ اشْتِعالُ النّارِ، وقَدْ يَسْتَسْرِجُ بِهِ، وهو أسْوَدُ اللَّوْنِ مُنْتِنُ الرِّيحِ، فَيُطْلى بِهِ جُلُودُ أهْلِ النّارِ حَتّى يَعُودَ طِلاؤُهُ لَهم كالسَّرابِيلِ وهي القُمُصُ، لِتَجْتَمِع عَلَيْهِمُ الأرْبَعُ: لَذْعُ القَطِرانِ وحُرْقَتُهُ، وإسْراعُ النّارِ في جُلُودِهِمْ، واللَّوْنُ الوَحْشُ، ونَتَنُ الرِّيحِ. عَلى أنَّ التَّفاوُتَ بَيْنَ القَطِرانَيْنِ كالتَّفاوُتِ بَيْنَ النّارَيْنِ. وكُلُّ ما وعَدَهُ اللَّهُ، أوْ أوْعَدَ بِهِ في الآخِرَةِ، فَبَيْنَهُ وبَيْنَ ما يُشاهِدُهُ مِن جِنْسِهِ ما لا يُقادِرُ قَدْرَهُ، وكَأنَّهُ ما عِنْدَنا مِنهُ إلّا الأسامِيَ والمُسَمَّياتِ ثَمَّةَ، فَبِكَرَمِهِ الواسِعِ نَعُوذُ مِن سُخْطِهِ ونَسْألُهُ التَّوْفِيقَ فِيما يُنْجِينا مِن عَذابِهِ؛ انْتَهى. وقَرَأ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ، وعَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ: مِن قَطْرانٍ، بِفَتْحِ القافِ وإسْكانِ الطّاءِ، وهو في شِعْرِ أبِي النَّجْمِ؛ قالَ: ؎لَبِسْنَهُ القَطْرانَ والمُسُوحا وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿وتَغْشى وُجُوهَهُمْ﴾، بِالنَّصْبِ، وقُرِئَ بِالرَّفْعِ، فالأوَّلُ عَلى نَحْوِ قَوْلِهِ: ﴿واللَّيْلِ إذا يَغْشى﴾ [الليل: ١] فَهي عَلى (p-٤٤١)حَقِيقَةِ الغَشَيانِ، والثّانِيَةُ عَلى التَّجَوُّزِ، جَعَلَ وُرُودَ الوَجْهِ عَلى النّارِ غَشَيانًا. وقُرِئَ: وتَغْشى وُجُوهَهم، بِمَعْنى تَتَغَشّى، وخَصَّ الوُجُوهَ هُنا. وفي قَوْلِهِ: ﴿أفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ العَذابِ يَوْمَ القِيامَةِ﴾ [الزمر: ٢٤]، و﴿يَوْمَ يُسْحَبُونَ في النّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ﴾ [القمر: ٤٨] لِأنَّ الوَجْهَ أعَزُّ مَوْضِعٍ في ظاهِرِ البَدَنِ وأشْرَفِهِ كالقَلْبِ في باطِنِهِ، ولِذَلِكَ قالَ: ﴿تَطَّلِعُ عَلى الأفْئِدَةِ﴾ [الهمزة: ٧] . ولِيَجْزِيَ، مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: يَفْعَلُ بِالمُجْرِمِينَ ما يَفْعَلُ، لِيَجْزِيَ كُلَّ نَفْسٍ؛ أيْ: مُجْرِمَةٍ بِما كَسَبَتْ، أوْ كُلَّ نَفْسٍ مِن مُجْرِمَةٍ ومُطِيعَةٍ: لِأنَّهُ إذا عاقَبَ المُجْرِمِينَ لِإجْرامِهِمْ عُلِمَ أنَّهُ يُثِيبُ المُطِيعِينَ لِطاعَتِهِمْ، قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. ويَظْهَرُ أنَّها تَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: وبَرَزُوا؛ أيِ: الخَلْقُ كُلُّهم، ويَكُونُ كُلُّ نَفْسٍ عامًّا؛ أيْ: مُطِيعَةٌ ومُجْرِمَةٌ، والجُمْلَةُ مِن قَوْلِهِ: وتَرى، مُعْتَرِضَةٌ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: اللّامُ مُتَعَلِّقَة بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ: فَعَلَ هَذا، أوْ أنْفَذَ هَذا العِقابَ عَلى المُجْرِمِينَ لِيَجْزِيَ في ذَلِكَ المُسِيءَ عَلى إساءَتِهِ؛ انْتَهى. والإشارَةُ بِهَذا إلى ما ذُكِرَ بِهِ تَعالى مِن قَوْلِهِ: ﴿ولا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا﴾ [إبراهيم: ٤٢] إلى قَوْلِهِ: ﴿سَرِيعُ الحِسابِ﴾ وقِيلَ: الإشارَةُ إلى القُرْآنِ، وقِيلَ: إلى السُّورَةِ. ومَعْنى بَلاغٌ: كِفايَةٌ في الوَعْظِ والتَّذْكِيرِ، ولِيُنْذَرُوا بِهِ. قالَ الماوَرْدِيُّ: الواوُ زائِدَةٌ، وعَنِ المُبَرِّدِ: هو عَطْفٌ مُفْرَدٌ؛ أيْ: هَذا بَلاغٌ وإنْذارٌ؛ انْتَهى. وهَذا تَفْسِيرُ مَعْنًى لا تَفْسِيرُ إعْرابٍ. وقِيلَ: هو مَحْمُولٌ عَلى المَعْنى؛ أيْ: لِيُبَلِّغُوا ولِيُنْذِرُوا. وقِيلَ: اللّامُ لامُ الأمْرِ. قالَ بَعْضُهم: وهو حَسَنٌ لَوْلا قَوْلُهُ: ولِيَذَّكَّرَ، فَإنَّهُ مَنصُوبٌ لا غَيْرُ؛ انْتَهى. ولا يَخْدِشُ ذَلِكَ، إذْ يَكُونُ (ولِيَذَّكَّرَ) لَيْسَ مَعْطُوفًا عَلى الأمْرِ، بَلْ يُضْمِرُ لَهُ فِعْلٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: المَعْنى هَذا بَلاغٌ لِلنّاسِ، وهو لِيُنْذَرُوا بِهِ؛ انْتَهى. فَجَعَلَهُ في مَوْضِعِ رَفْعٍ خَبَرًا لِهو المَحْذُوفَةِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ولِيُنْذَرُوا، مَعْطُوفٌ عَلى مَحْذُوفٍ؛ أيْ: لِيُنْصَحُوا ولِيُنْذَرُوا بِهِ بِهَذا البَلاغِ؛ انْتَهى. وقَرَأ مُجاهِدٌ، وحُمَيْدٌ، بِتاءٍ مَضْمُومَةٍ وكَسْرِ الذّالِ، كانَ البَلاغُ العُمُومَ، والإنْذارُ لِلْمُخاطِبِينَ. وقَرَأ يَحْيَـى بْنُ عُمارَةَ: الذَّرّاعُ عَنْ أبِيهِ، وأحْمَدُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أُسَيْدٍ السُّلَمِيُّ: ولِيَنْذَرُوا، بِفَتْحِ الياءِ والذّالِ، مُضارِعُ نَذَرَ بِالشَّيْءِ إذا عَلِمَ بِهِ فاسْتَعَدَّ لَهُ. قالُوا: ولَمْ يُعْرَفْ لِهَذا الفِعْلِ مَصْدَرٌ، فَهو مِثْلُ عَسى وغَيْرِهِ مِمّا اسْتُعْمِلَ مِنَ الأفْعالِ ولَمْ يُعْرَفْ لَهُ أصْلٌ. ولِيَعْلَمُوا لِأنَّهم إذا خافُوا ما أنْذَرُوا بِهِ دَعاهم ذَلِكَ إلى النَّظَرِ، فَيَتَوَصَّلُونَ إلى تَوْحِيدِ اللَّهِ وإفْرادِهِ بِالعِبادَةِ، إذِ الخَشْيَةُ أصْلُ الخَيْرِ. ولِيَذَّكَّرَ؛ أيْ: يَتَّعِظَ ويُراجِعَ نَفْسَهُ بِما سَمِعَ مِنَ المَواعِظِ. وأسْنَدَ التَّذَكُّرَ والِاتِّعاظَ إلى مَن لَهُ لُبٌّ، لِأنَّهم هُمُ الَّذِينَ يُجْدِي فِيهِمُ التَّذَكُّرُ. وقِيلَ: هي في أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ. وناسَبَ مُخْتَتَمُ هَذِهِ السُّورَة مُفْتَتَحَها، وكَثِيرًا ما جاءَ في سُوَرِ القُرْآنِ، حَتّى إنَّ بَعْضهمْ زَعَمَ أنَّ قَوْلَهُ: ولِيُنْذَرُوا بِهِ، مَعْطُوفٌ عَلى قَوْله: لِتُخْرِجَ النّاسَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب