الباحث القرآني
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ في سِتَّةِ أيّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ يُدَبِّرُ الأمْرَ ما مِن شَفِيعٍ إلّا مِن بَعْدِ إذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكم فاعْبُدُوهُ أفَلا تَذَكَّرُونَ﴾
اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا حَكى عَنِ الكُفّارِ أنَّهم تَعَجَّبُوا مِنَ الوَحْيِ والبَعْثَةِ والرِّسالَةِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى أزالَ ذَلِكَ التَّعَجُّبَ بِأنَّهُ لا يَبْعُدُ البَتَّةَ في أنْ يَبْعَثَ خالِقُ الخَلْقِ إلَيْهِمْ رَسُولًا يُبَشِّرُهم عَلى الأعْمالِ الصّالِحَةِ بِالثَّوابِ، وعَلى الأعْمالِ الباطِلَةِ الفاسِدَةِ بِالعِقابِ، كانَ هَذا الجَوابُ إنَّما يَتِمُّ ويَكْمُلُ بِإثْباتِ أمْرَيْنِ، أحَدُهُما: إثْباتُ أنَّ لِهَذا العالَمِ إلَهًا قاهِرًا قادِرًا نافِذَ الحُكْمِ بِالأمْرِ والنَّهْيِ والتَّكْلِيفِ. والثّانِي: إثْباتُ الحَشْرِ والنَّشْرِ والبَعْثِ والقِيامَةِ، حَتّى يَحْصُلَ الثَّوابُ والعِقابُ اللَّذانِ أخْبَرَ الأنْبِياءُ عَنْ حُصُولِهِما، فَلا جَرَمَ أنَّهُ سُبْحانَهُ ذَكَرَ في هَذا المَوْضِعِ ما يَدُلُّ عَلى تَحْقِيقِ هَذَيْنِ المَطْلُوبَيْنِ.
أمّا الأوَّلُ: وهو إثْباتُ الإلَهِيَّةِ، فَبِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ﴾ .
وأمّا الثّانِي: وهو إثْباتُ المَعادِ والحَشْرِ والنَّشْرِ. فَبِقَوْلِهِ: ﴿إلَيْهِ مَرْجِعُكم جَمِيعًا وعْدَ اللَّهِ حَقًّا﴾ [يونس: ٤] فَثَبَتَ أنَّ هَذا التَّرْتِيبَ في غايَةِ الحُسْنِ ونِهايَةِ الكَمالِ. وفي الآيَةِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قَدْ ذَكَرْنا في هَذا الكِتابِ وفي الكُتُبِ العَقْلِيَّةِ أنَّ الدَّلِيلَ الدّالَّ عَلى وُجُودِ الصّانِعِ تَعالى، إمّا الإمْكانُ وإمّا الحُدُوثُ، وكِلاهُما إمّا في الذَّواتِ وإمّا في الصِّفاتِ، فَيَكُونُ مَجْمُوعُ الطُّرُقِ الدّالَّةِ عَلى وُجُودِ الصّانِعِ أرْبَعَةً، وهي: إمْكانُ الذَّواتِ، وإمْكانُ الصِّفاتِ، وحُدُوثُ الذَّواتِ، وحُدُوثُ الصِّفاتِ. وهَذِهِ الأرْبَعَةُ مُعْتَبَرَةٌ تارَةً في العالَمِ العُلْوِيِّ وهو عالَمُ السَّماواتِ والكَواكِبِ، وتارَةً في العالَمِ السُّفْلِيِّ، والأغْلَبُ مِنَ الدَّلائِلِ المَذْكُورَةِ في الكُتُبِ الإلَهِيَّةِ التَّمَسُّكُ بِإمْكانِ الصِّفاتِ وحُدُوثِها تارَةً في أحْوالِ العالَمِ العُلْوِيِّ، وتارَةً في أحْوالِ العالَمِ السُّفْلِيِّ، والمَذْكُورُ في هَذا المَوْضِعِ هو التَّمَسُّكُ بِإمْكانِ الأجْرامِ العُلْوِيَّةِ في مَقادِيرِها وصِفاتِها، وتَقْرِيرُهُ مِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّ أجْرامَ الأفْلاكِ لا شَكَّ أنَّها مُرَكَّبَةٌ مِنَ الأجْزاءِ الَّتِي لا تَتَجَزّى، ومَتى كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ كانَتْ لا مَحالَةَ مُحْتاجَةً إلى الخالِقِ والمُقَدِّرِ.
أمّا بَيانُ المَقامِ الأوَّلِ: فَهو أنَّ أجْرامَ الأفْلاكِ لا شَكَّ أنَّها قابِلَةٌ لِلْقِسْمَةِ الوَهْمِيَّةِ، وقَدْ دَلَّلْنا في الكُتُبِ (p-٩)العَقْلِيَّةِ عَلى أنَّ كُلَّ ما كانَ قابِلًا لِلْقِسْمَةِ الوَهْمِيَّةِ، فَإنَّهُ يَكُونُ مُرَكَّبًا مِنَ الأجْزاءِ والأبْعاضِ. ودَلَّلْنا عَلى أنَّ الَّذِي تَقُولُهُ الفَلاسِفَةُ مِن أنَّ الجِسْمَ قابِلٌ لِلْقِسْمَةِ، ولَكِنَّهُ يَكُونُ في نَفْسِهِ شَيْئًا واحِدًا، كَلامٌ فاسِدٌ باطِلٌ. فَثَبَتَ بِما ذَكَرْنا أنَّ أجْرامَ الأفْلاكِ مُرَكَّبَةٌ مِنَ الأجْزاءِ الَّتِي لا تَتَجَزّى، وإذا ثَبَتَ هَذا وجَبَ افْتِقارُها إلى خالِقٍ ومُقَدِّرٍ، وذَلِكَ لِأنَّها لَمّا تَرَكَّبَتْ فَقَدْ وقَعَ بَعْضُ تِلْكَ الأجْزاءِ في داخِلِ ذَلِكَ الجِرْمِ، وبَعْضُها حَصَلَتْ عَلى سَطْحِها، وتِلْكَ الأجْزاءُ مُتَساوِيَةٌ في الطَّبْعِ والماهِيَّةِ والحَقِيقَةِ، والفَلاسِفَةُ أقَرُّوا لَنا بِصِحَّةِ هَذِهِ المُقَدِّمَةِ حَيْثُ قالُوا: إنَّها بَسائِطُ، ويَمْتَنِعُ كَوْنُها مُرَكَّبَةً مِن أجْزاءَ مُخْتَلِفَةِ الطَّبائِعِ.
وإذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: حُصُولُ بَعْضِها في الدّاخِلِ، وحُصُولُ بَعْضِها في الخارِجِ أمْرٌ مُمْكِنُ الحُصُولِ جائِزُ الثُّبُوتِ، يَجُوزُ أنْ يَنْقَلِبَ الظّاهِرُ باطِنًا والباطِنُ ظاهِرًا. وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ وجَبَ افْتِقارُ هَذِهِ الأجْزاءِ حالَ تَرْكِيبِها إلى مُدَبِّرٍ وقاهِرٍ، يُخَصَّصُ بَعْضُها بِالدّاخِلِ وبَعْضُها بِالخارِجِ، فَدَلَّ هَذا عَلى أنَّ الأفْلاكَ مُفْتَقِرَةٌ في تَرْكِيبِها وأشْكالِها وصِفاتِها إلى مُدَبِّرٍ قَدِيرٍ عَلِيمٍ حَكِيمٍ.
الوَجْهُ الثّانِي في الِاسْتِدْلالِ بِصِفاتِ الأفْلاكِ عَلى وُجُودِ الإلَهِ القادِرِ أنْ نَقُولَ: حَرَكاتُ هَذِهِ الأفْلاكِ لَها بِدايَةٌ، ومَتى كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ افْتَقَرَتْ هَذِهِ الأفْلاكُ في حَرَكاتِها إلى مُحَرِّكٍ ومُدَبِّرٍ قاهِرٍ.
أمّا المَقامُ الأوَّلُ: فالدَّلِيلُ عَلى صِحَّتِهِ أنَّ الحَرَكَةَ عِبارَةٌ عَنِ التَّغَيُّرِ مِن حالٍ إلى حالٍ، وهَذِهِ الماهِيَّةُ تَقْتَضِي المَسْبُوقِيَّةَ بِالحالَةِ المُنْتَقَلِ عَنْها، والأزَلُ يُنافِي المَسْبُوقِيَّةَ بِالغَيْرِ، فَكانَ الجَمْعُ بَيْنَ الحَرَكَةِ وبَيْنَ الأزَلِ مُحالًا، فَثَبَتَ أنَّ لِحَرَكاتِ الأفْلاكِ أوَّلًا، وإذا ثَبَتَ هَذا وجَبَ أنْ يُقالَ: هَذِهِ الأجْرامُ الفَلَكِيَّةُ كانَتْ مَعْدُومَةً في الأزَلِ وإنْ كانَتْ مَوْجُودَةً، لَكِنَّها كانَتْ واقِفَةً وساكِنَةً وما كانَتْ مُتَحَرِّكَةً. وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ فَلِحَرَكاتِها أوَّلٌ وبِدايَةٌ.
وأمّا المَقامُ الثّانِي: وهو أنَّهُ لَمّا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ وجَبَ افْتِقارُها إلى مُدَبِّرٍ قاهِرٍ، فالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّ ابْتِداءَ هَذِهِ الأجْرامِ بِالحَرَكَةِ في ذَلِكَ الوَقْتِ المُعَيَّنِ دُونَ ما قَبْلَهُ ودُونَ ما بَعْدَهُ، لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ لِتَخْصِيصِ مُخَصِّصٍ وتَرْجِيحِ مُرَجِّحٍ. وذَلِكَ المُرَجِّحُ يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ مُوجِبًا بِالذّاتِ، وإلّا لَحَصَلَتْ تِلْكَ الحَرَكَةُ قَبْلَ ذَلِكَ الوَقْتِ؛ لِأجْلِ أنْ مُوجِبِ تِلْكَ الحَرَكَةِ كانَ حاصِلًا قَبْلَ ذَلِكَ الوَقْتِ، ولَمّا بَطَلَ هَذا ثَبَتَ أنَّ ذَلِكَ المُرَجِّحَ قادِرٌ مُخْتارٌ، وهو المَطْلُوبُ.
الوَجْهُ الثّالِثُ في الِاسْتِدْلالِ بِصِفاتِ الأفْلاكِ عَلى وُجُودِ الإلَهِ المُخْتارِ، وهو أنَّ أجْزاءَ الفَلَكِ حاصِلَةٌ فِيهِ لا في الفَلَكِ الآخَرِ، وأجْزاءَ الفَلَكِ الآخَرِ حاصِلَةٌ فِيهِ لا في الفَلَكِ الأوَّلِ. فاخْتِصاصُ كُلِّ واحِدٍ مِنها بِتِلْكَ الأجْزاءِ أمْرٌ مُمْكِنٌ، ولا بُدَّ لَهُ مِن مُرَجِّحٍ، ويَعُودُ التَّقْرِيرُ الأوَّلُ فِيهِ. فَهَذا تَقْرِيرُ هَذا الدَّلِيلِ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ، وفي الآيَةِ سُؤالاتٌ:
السُّؤالُ الأوَّلُ: أنَّ كَلِمَةَ ﴿الَّذِي﴾ كَلِمَةٌ وُضِعَتْ لِلْإشارَةِ إلى شَيْءٍ مُفْرَدٍ عِنْدَ مُحاوَلَةِ تَعْرِيفِهِ بِقَضِيَّةٍ مَعْلُومَةٍ، كَمّا إذا قِيلَ لَكَ: مَن زَيْدٌ ؟ فَتَقُولُ: الَّذِي أبَوْهُ مُنْطَلِقٌ، فَهَذا التَّعْرِيفُ إنَّما يَحْسُنُ لَوْ كانَ كَوْنُ أبِيهِ مُنْطَلِقًا أمْرًا مَعْلُومًا عِنْدَ السّامِعِ، فَهُنا لَمّا قالَ: ﴿إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ في سِتَّةِ أيّامٍ﴾ فَهَذا إنَّما يَحْسُنُ لَوْ كانَ كَوْنُهُ سُبْحانَهُ وتَعالى خالِقًا لِلسَّماواتِ والأرْضِ في سِتَّةِ أيّامٍ أمْرًا مَعْلُومًا عِنْدَ السّامِعِ، والعَرَبُ ما كانُوا عالِمِينَ بِذَلِكَ، فَكَيْفَ يَحْسُنُ هَذا التَّعْرِيفُ ؟ (p-١٠)
وجَوابُهُ أنْ يُقالَ: هَذا الكَلامُ مَشْهُورٌ عِنْدَ اليَهُودِ والنَّصارى؛ لِأنَّهُ مَذْكُورٌ في أوَّلِ ما يَزْعُمُونَ أنَّهُ هو التَّوْراةُ. ولَمّا كانَ ذَلِكَ مَشْهُورًا عِنْدَهم والعَرَبُ كانُوا يُخالِطُونَهم، فالظّاهِرُ أنَّهم أيْضًا سَمِعُوهُ مِنهم، فَلِهَذا السَّبَبِ حَسُنَ هَذا التَّعْرِيفُ.
السُّؤالُ الثّانِي: ما الفائِدَةُ في بَيانِ الأيّامِ الَّتِي خَلَقَها اللَّهُ فِيها ؟
والجَوابُ: أنَّهُ تَعالى قادِرٌ عَلى خَلْقِ جَمِيعِ العالَمِ في أقَلَّ مِن لَمْحِ البَصَرِ. والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّ العالَمَ مُرَكَّبٌ مِنَ الأجْزاءِ الَّتِي لا تَتَجَزّى، والجُزْءُ الَّذِي لا يَتَجَزّى لا يُمْكِنُ إيجادُهُ إلّا دُفْعَةً؛ لِأنّا لَوْ فَرَضْنا أنَّ إيجادَهُ إنَّما يَحْصُلُ في زَمانٍ، فَذَلِكَ الزَّمانُ مُنْقَسِمٌ لا مَحالَةَ مِن آناتٍ مُتَعاقِبَةٍ، فَهَلْ حَصَلَ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ الإيجادِ في الآنِ الأوَّلِ أوْ لَمْ يَحْصُلْ ؟ فَإنْ لَمْ يَحْصُلْ مِنهُ شَيْءٌ في الآنِ الأوَّلِ فَهو خارِجٌ عَنْ مُدَّةِ الإيجادِ، وإنْ حَصَلَ في ذَلِكَ الآنِ إيجادُ شَيْءٍ وحَصَلَ في الآنِ الثّانِي إيجادُ شَيْءٍ آخَرَ، فَهُما إنْ كانا جُزْأيْنِ مِن ذَلِكَ الجُزْءِ الَّذِي لا يَتَجَزّى، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الجُزْءُ الَّذِي لا يَتَجَزّى مُتَجَزِّئًا. وهو مُحالٌ. وإنْ كانَ شَيْئًا آخَرَ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ إيجادُ الجُزْءِ الَّذِي لا يَتَجَزّى لا يُمْكِنُ إلّا في آنٍ واحِدٍ دُفْعَةً واحِدَةً، وكَذا القَوْلُ في إيجادِ جَمِيعِ الأجْزاءِ. فَثَبَتَ أنَّهُ تَعالى قادِرٌ عَلى إيجادِ جَمِيعِ العالَمِ دُفْعَةً واحِدَةً، ولا شَكَّ أيْضًا أنَّهُ تَعالى قادِرٌ عَلى إيجادِهِ وتَكْوِينِهِ عَلى التَّدْرِيجِ.
وإذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: هاهُنا مَذْهَبانِ:
الأوَّلُ: قَوْلُ أصْحابِنا، وهو أنَّهُ يَحْسُنُ مِنهُ كُلُّ ما أرادَ، ولا يُعَلَّلُ شَيْءٌ مِن أفْعالِهِ بِشَيْءٍ مِنَ الحِكْمَةِ والمَصالِحِ، وعَلى هَذا القَوْلِ يَسْقُطُ قَوْلُ مَن يَقُولُ: لِمَ خَلَقَ العالَمَ في سِتَّةِ أيّامٍ وما خَلَقَهُ في لَحْظَةٍ واحِدَةٍ ؟ لِأنّا نَقُولُ: كُلُّ شَيْءٍ صَنَعَهُ ولا عِلَّةَ لِصُنْعِهِ فَلا يُعَلَّلُ شَيْءٌ مِن أحْكامِهِ ولا شَيْءٌ مِن أفْعالِهِ بِعِلَّةٍ، فَسَقَطَ هَذا السُّؤالُ.
الثّانِي: قَوْلُ المُعْتَزِلَةِ وهو أنَّهم يَقُولُونَ: يَجِبُ أنْ تَكُونَ أفْعالُهُ تَعالى مُشْتَمِلَةً عَلى المَصْلَحَةِ والحِكْمَةِ. فَعِنْدَ هَذا قالَ القاضِي: لا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ خَلْقُ اللَّهِ تَعالى السَّماواتِ والأرْضِ في هَذِهِ المُدَّةِ المَخْصُوصَةِ، أدْخَلَ في الِاعْتِبارِ في حَقِّ بَعْضِ المُكَلَّفِينَ. ثُمَّ قالَ القاضِي:
فَإنْ قِيلَ: فَمَنِ المُعْتَبَرُ، وما وجْهُ الِاعْتِبارِ ؟ ثُمَّ أجابَ وقالَ: أمّا المُعْتَبَرُ فَهو أنَّهُ لا بُدَّ مِن مُكَلَّفٍ أوْ غَيْرِ مُكَلَّفٍ مِنَ الحَيَوانِ، خَلَقَهُ اللَّهُ تَعالى قَبْلَ خَلْقِهِ لِلسَّماواتِ والأرَضِينَ، أوْ مَعَهُما، وإلّا لَكانَ خَلْقُهُما عَبَثًا.
فَإنْ قِيلَ: فَهَلّا جازَ أنْ يَخْلُقَهُما لِأجْلِ حَيَوانٍ يَخْلُقُهُ مِن بَعْدُ ؟ !
قُلْنا: إنَّهُ تَعالى لا يَخافُ الفَوْتَ، فَلا يَجُوزُ أنْ يُقَدِّمَ خَلْقَ ما لا يَنْتَفِعُ بِهِ أحَدٌ لِأجْلِ حَيَوانٍ سَيَحْدُثُ بَعْدَ ذَلِكَ، وإنَّما يَصِحُّ مِنّا ذَلِكَ في مُقَدَّماتِ الأُمُورِ لِأنّا نَخْشى الفَوْتَ ونَخافُ العَجْزَ والقُصُورَ. قالَ: وإذا ثَبَتَ هَذا فَقَدَ صَحَّ ما رُوِيَ في الخَبَرِ أنَّ خَلْقَ المَلائِكَةِ كانَ سابِقًا عَلى خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ.
فَإنْ قِيلَ: أُولَئِكَ المَلائِكَةُ لا بُدَّ لَهم مِن مَكانٍ، فَقَبْلَ خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ لا مَكانَ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ وُجُودُهم بِلا مَكانٍ ؟
قُلْنا: الَّذِي يَقْدِرُ عَلى تَسْكِينِ العَرْشِ والسَّماواتِ والأرْضِ في أمْكِنَتِها كَيْفَ يَعْجَزُ عَنْ تَسْكِينِ أُولَئِكَ المَلائِكَةِ في أحْيازِها بِقُدْرَتِهِ وحِكْمَتِهِ ؟ وأمّا وجْهُ الِاعْتِبارِ في ذَلِكَ فَهو أنَّهُ لَمّا حَصَلَ هُناكَ مُعْتَبَرٌ، لَمْ يَمْتَنِعْ أنْ يَكُونَ اعْتِبارُهُ بِما يُشاهِدُهُ حالًا بَعْدَ حالٍ أقْوى. والدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أنَّ ما يَحْدُثُ عَلى هَذا الوَجْهِ، فَإنَّهُ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ صادِرٌ مِن فاعِلٍ حَكِيمٍ. وأمّا المَخْلُوقُ دُفْعَةً واحِدَةً فَإنَّهُ لا يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ.
(p-١١)والسُّؤالُ الثّالِثُ: فَهَلْ هَذِهِ الأيّامُ كَأيّامِ الدُّنْيا، أوْ كَما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: إنَّها سِتَّةُ أيّامٍ مِن أيّامِ الآخِرَةِ، كُلُّ يَوْمٍ مِنها ألْفُ سَنَةٍ مِمّا تَعُدُّونَ ؟
والجَوابُ: قالَ القاضِي: الظّاهِرُ في ذَلِكَ أنَّهُ تَعْرِيفٌ لِعِبادِهِ مُدَّةَ خَلْقِهِ لَهُما، ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ تَعْرِيفًا إلّا والمُدَّةُ هَذِهِ الأيّامُ المَعْلُومَةُ.
ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: لَمّا وقَعَ التَّعْرِيفُ بِالأيّامِ المَذْكُورَةِ في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ، وكانَ المَذْكُورُ هُناكَ أيّامَ الآخِرَةِ لا أيّامَ الدُّنْيا، لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قادِحًا في صِحَّةِ التَّعْرِيفِ.
السُّؤالُ الرّابِعُ: هَذِهِ الأيّامُ إنَّما تَتَقَدَّرُ بِحَسَبِ طُلُوعِ الشَّمْسِ وغُرُوبِها، وهَذا المَعْنى مَفْقُودٌ قَبْلَ خَلْقِها، فَكَيْفَ يُعْقَلُ هَذا التَّعْرِيفُ ؟
والجَوابُ: التَّعْرِيفُ يَحْصُلُ بِما أنَّهُ لَوْ وقَعَ حُدُوثُ السَّماواتِ والأرْضِ في مُدَّةٍ، لَوْ حَصَلَ هُناكَ أفْلاكٌ دائِرَةٌ وشَمْسٌ وقَمَرٌ، لَكانَتْ تِلْكَ المُدَّةُ مُساوِيَةً لِسِتَّةِ أيّامٍ.
ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: فَهَذا يَقْتَضِي حُصُولَ مُدَّةٍ قَبْلَ خَلْقِ العالَمِ، يَحْصُلُ فِيها حُدُوثُ العالَمِ، وذَلِكَ يُوجِبُ قِدَمَ المُدَّةِ.
وجَوابُهُ: أنَّ تِلْكَ المُدَّةَ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ بَلْ هي مَفْرُوضَةٌ مَوْهُومَةٌ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّ تِلْكَ المُدَّةَ المُعَيَّنَةَ حادِثَةٌ، وحُدُوثُها لا يَحْتاجُ إلى مُدَّةٍ أُخْرى، وإلّا لَزِمَ إثْباتُ أزْمِنَةٍ لا نِهايَةَ لَها، وذَلِكَ مُحالٌ، فَكُلُّ ما يَقُولُونَ في حُدُوثِ المُدَّةِ فَنَحْنُ نَقُولُهُ في حُدُوثِ العالَمِ.
السُّؤالُ الخامِسُ: أنَّ اليَوْمَ قَدْ يُرادُ بِهِ اليَوْمُ مَعَ لَيْلَتِهِ، وقَدْ يُرادُ بِهِ النَّهارُ وحْدَهُ. فالمُرادُ بِهَذِهِ الآيَةِ أيُّهُما ؟ .
والجَوابُ: الغالِبُ في اللُّغَةِ أنَّهُ يُرادُ بِاليَوْمِ اليَوْمُ بِلَيْلَتِهِ.
* * *
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: أمّا قَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ﴾ فَفِيهِ مَباحِثُ:
الأوَّلُ: أنَّ هَذا يُوهِمُ كَوْنَهُ تَعالى مُسْتَقِرًّا عَلى العَرْشِ، والكَلامُ المُسْتَقْصى فِيهِ مَذْكُورٌ في أوَّلِ سُورَةِ طه، ولَكِنّا نَكْتَفِي هَهُنا بِعِبارَةٍ وجِيزَةٍ، فَنَقُولُ: هَذِهِ الآيَةُ لا يُمْكِنُ حَمْلُها عَلى ظاهِرِها، ويَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ:
الأوَّلُ: أنَّ الِاسْتِواءَ عَلى العَرْشِ مَعْناهُ: كَوْنُهُ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِ مُسْتَقِرًّا عَلَيْهِ، بِحَيْثُ لَوْلا العَرْشُ لَسَقَطَ ونَزَلَ، كَما أنّا إذا قُلْنا: إنَّ فُلانًا مُسْتَوٍ عَلى سَرِيرِهِ، فَإنَّهُ يُفْهَمُ مِنهُ هَذا المَعْنى. إلّا أنَّ إثْباتَ هَذا المَعْنى يَقْتَضِي كَوْنَهُ مُحْتاجًا إلى العَرْشِ، وأنَّهُ لَوْلا العَرْشُ لَسَقَطَ ونَزَلَ، وذَلِكَ مُحالٌ؛ لِأنَّ المُسْلِمِينَ أطْبَقُوا عَلى أنَّ اللَّهَ تَعالى هو المُمْسِكُ لِلْعَرْشِ والحافِظُ لَهُ، ولا يَقُولُ أحَدٌ أنَّ العَرْشَ هو المُمْسِكُ لِلَّهِ تَعالى والحافِظُ لَهُ.
والثّانِي: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ﴾ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ قَبْلَ ذَلِكَ ما كانَ مُسْتَوِيًا عَلَيْهِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى يَتَغَيَّرُ مِن حالٍ إلى حالٍ، وكُلُّ مَن كانَ مُتَغَيِّرًا كانَ مُحْدَثًا، وذَلِكَ بِالِاتِّفاقِ باطِلٌ.
الثّالِثُ: أنَّهُ لَمّا حَدَثَ الِاسْتِواءُ في هَذا الوَقْتِ، فَهَذا يَقْتَضِي أنَّهُ تَعالى كانَ قَبْلَ هَذا الوَقْتِ مُضْطَرِبًا مُتَحَرِّكًا، وكُلُّ ذَلِكَ مِن صِفاتِ المُحْدَثاتِ.
الرّابِعُ: أنَّ ظاهِرَ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى إنَّما اسْتَوى عَلى العَرْشِ بَعْدَ أنْ خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ لِأنَّ كَلِمَةَ (ثَّمَ) تَقْتَضِي التَّراخِيَ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى كانَ قَبْلَ خَلْقِ العَرْشِ غَنِيًّا عَنِ العَرْشِ، فَإذا خَلَقَ العَرْشَ امْتَنَعَ أنْ تَنْقَلِبَ حَقِيقَتُهُ وذاتُهُ مِن (p-١٢)الِاسْتِغْناءِ إلى الحاجَةِ. فَوَجَبَ أنْ يَبْقى بَعْدَ خَلْقِ العَرْشِ غَنِيًّا عَنِ العَرْشِ، ومَن كانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ أنْ يَكُونَ مُسْتَقِرًّا عَلى العَرْشِ. فَثَبَتَ بِهَذِهِ الوُجُوهِ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ لا يُمْكِنُ حَمْلُها عَلى ظاهِرِها بِالِاتِّفاقِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ امْتَنَعَ الِاسْتِدْلالُ بِها في إثْباتِ المَكانِ والجِهَةِ لِلَّهِ تَعالى.
* * *
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: اتَّفَقَ المُسْلِمُونَ عَلى أنَّ فَوْقَ السَّماواتِ جِسْمًا عَظِيمًا هو العَرْشُ.
إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: العَرْشُ المَذْكُورُ في هَذِهِ الآيَةِ هَلِ المُرادُ مِنهُ ذَلِكَ العَرْشُ أوْ غَيْرُهُ ؟ فِيهِ قَوْلانِ:
القَوْلُ الأوَّلُ وهو الَّذِي اخْتارَهُ أبُو مُسْلِمٍ الأصْفَهانِيُّ، أنَّهُ لَيْسَ المُرادُ مِنهُ ذَلِكَ، بَلِ المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ﴾ أنَّهُ لَمّا خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ سَطَحَها ورَفَعَ سَمْكَها، فَإنَّ كُلَّ بِناءٍ فَإنَّهُ يُسَمّى عَرْشًا، وبانِيهِ يُسَمّى عارِشًا، قالَ تَعالى: ﴿ومِنَ الشَّجَرِ ومِمّا يَعْرِشُونَ﴾ [النحل: ٦٨] أيْ: يَبْنُونَ، وقالَ في صِفَةِ القَرْيَةِ ﴿فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها﴾ [الحج: ٤٥] والمُرادُ أنَّ تِلْكَ القَرْيَةَ خَلَتْ مِنهم مَعَ سَلامَةِ بِنائِها وقِيامِ سُقُوفِها، وقالَ: ﴿وكانَ عَرْشُهُ عَلى الماءِ﴾ [هود: ٧] أيْ: بِناؤُهُ، وإنَّما ذَكَرَ اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ لِأنَّهُ أعْجَبُ في القُدْرَةِ، فالبانِي يَبْنِي البِناءَ مُتَباعِدًا عَنِ الماءِ عَلى الأرْضِ الصُّلْبَةِ لِئَلّا يَنْهَدِمَ، واللَّهُ تَعالى بَنى السَّماواتِ والأرْضَ عَلى الماءِ لِيَعْرِفَ العُقَلاءُ قُدْرَتَهُ وكَمالَ جَلالَتِهِ، والِاسْتِواءُ عَلى العَرْشِ هو الِاسْتِعْلاءُ عَلَيْهِ بِالقَهْرِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وجَعَلَ لَكم مِنَ الفُلْكِ والأنْعامِ ما تَرْكَبُونَ﴾ ﴿لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكم إذا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ﴾ [الزخرف: ١٢، ١٣] قالَ أبُو مُسْلِمٍ: فَثَبَتَ أنَّ اللَّفْظَ يَحْتَمِلُ هَذا الَّذِي ذَكَرْناهُ. فَنَقُولُ: وجَبَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَيْهِ، ولا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلى العَرْشِ الَّذِي في السَّماءِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ هو أنَّ الِاسْتِدْلالَ عَلى وُجُودِ الصّانِعِ تَعالى يَجِبُ أنْ يَحْصُلَ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ مُشاهَدٍ، والعَرْشُ الَّذِي في السَّماءِ لَيْسَ كَذَلِكَ، وأمّا أجْرامُ السَّماواتِ والأرَضِينَ فَهي مُشاهَدَةٌ مَحْسُوسَةٌ، فَكانَ الِاسْتِدْلالُ بِأحْوالِها عَلى وُجُودِ الصّانِعِ الحَكِيمِ جائِزًا صَوابًا حَسَنًا. ثُمَّ قالَ: ومِمّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ في سِتَّةِ أيّامٍ﴾ إشارَةٌ إلى تَخْلِيقِ ذَواتِها، وقَوْلَهُ: ﴿ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ﴾ يَكُونُ إشارَةً إلى تَسْطِيحِها وتَشْكِيلِها بِالأشْكالِ المُوافِقَةِ لِمَصالِحِها، وعَلى هَذا الوَجْهِ تَصِيرُ هَذِهِ الآيَةُ مُوافِقَةً لِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿أأنْتُمْ أشَدُّ خَلْقًا أمِ السَّماءُ بَناها﴾ ﴿رَفَعَ سَمْكَها فَسَوّاها﴾ [النازعات: ٢٧، ٢٨] فَذَكَرَ أوَّلًا أنَّهُ بَناها، ثُمَّ ذَكَرَ ثانِيًا أنَّهُ رَفَعَ سَمْكَها فَسَوّاها. وكَذَلِكَ هاهُنا. ذَكَرَ بِقَوْلِهِ: ﴿خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ﴾ أنَّهُ خَلَقَ ذَواتِها ثُمَّ ذَكَرَ بِقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ﴾ أنَّهُ قَصَدَ إلى تَعْرِيشِها وتَسْطِيحِها وتَشْكِيلِها بِالأشْكالِ المُوافِقَةِ لَها.
والقَوْلُ الثّانِي: وهو القَوْلُ المَشْهُورُ لِجُمْهُورِ المُفَسِّرِينَ: أنَّ المُرادَ مِنَ العَرْشِ المَذْكُورِ في هَذِهِ الآيَةِ: الجِسْمُ العَظِيمُ الَّذِي في السَّماءِ، وهَؤُلاءِ قالُوا: إنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ﴾ لا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ مَعْناهُ أنَّهُ تَعالى خَلَقَ العَرْشَ بَعْدَ خَلْقِ السَّماواتِ والأرَضِينَ، بِدَلِيلِ أنَّهُ تَعالى قالَ في آيَةٍ أُخْرى: ﴿وكانَ عَرْشُهُ عَلى الماءِ﴾ [هود: ٧] وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ تَكْوِينَ العَرْشِ سابِقٌ عَلى تَخْلِيقِ السَّماواتِ والأرَضِينَ. بَلْ يَجِبُ تَفْسِيرُ هَذِهِ الآيَةِ بِوُجُوهٍ أُخَرَ. وهو أنْ يَكُونَ المُرادُ: ثُمَّ يُدَبِّرُ الأمْرَ وهو مُسْتَوٍ عَلى العَرْشِ.
والقَوْلُ الثّالِثُ: أنَّ المُرادَ مِنَ العَرْشِ المُلْكُ، يُقالُ: فُلانٌ ولِيَ عَرْشَهُ؛ أيْ: مُلْكَهُ، فَقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ﴾ المُرادُ أنَّهُ تَعالى لَمّا خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ واسْتَدارَتِ الأفْلاكُ والكَواكِبُ، وجَعَلَ بِسَبَبِ دَوَرانِها الفُصُولَ الأرْبَعَةَ والأحْوالَ المُخْتَلِفَةَ مِنَ المَعادِنِ والنَّباتِ والحَيَواناتِ، فَفي هَذا الوَقْتِ قَدْ حَصَلَ وُجُودُ هَذِهِ (p-١٣)المَخْلُوقاتِ والكائِناتِ. والحاصِلُ أنَّ العَرْشَ عِبارَةٌ عَنِ المُلْكِ، ومُلْكُ اللَّهِ تَعالى عِبارَةٌ عَنْ وُجُودِ مَخْلُوقاتِهِ، ووُجُودُ مَخْلُوقاتِهِ إنَّما حَصَلَ بَعْدَ تَخْلِيقِ السَّماواتِ والأرْضِ، لا جَرَمَ صَحَّ إدْخالُ حَرْفِ (ثَّمَ) الَّذِي يُفِيدُ التَّراخِيَ عَلى الِاسْتِواءِ عَلى العَرْشِ. واللَّهُ أعْلَمُ بِمُرادِهِ.
* * *
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: أمّا قَوْلُهُ: ﴿يُدَبِّرُ الأمْرَ﴾ مَعْناهُ أنَّهُ يَقْضِي ويُقَدِّرُ عَلى حَسَبِ مُقْتَضى الحِكْمَةِ ويَفْعَلُ ما يَفْعَلُهُ المُصِيبُ في أفْعالِهِ، النّاظِرُ في أدْبارِ الأُمُورِ وعَواقِبِها، كَيْ لا يَدْخُلَ في الوُجُودِ ما لا يَنْبَغِي. والمُرادُ مِن ﴿الأمْرَ﴾ الشَّأْنُ، يَعْنِي: يُدَبِّرُ أحْوالَ الخَلْقِ وأحْوالَ مَلَكُوتِ السَّماواتِ والأرْضِ.
فَإنْ قِيلَ: ما مَوْقِعُ هَذِهِ الجُمْلَةِ ؟
قُلْنا: قَدْ دَلَّ بِكَوْنِهِ خالِقًا لِلسَّماواتِ والأرْضِ في سِتَّةِ أيّامٍ وبِكَوْنِهِ مُسْتَوِيًا عَلى العَرْشِ، عَلى نِهايَةِ العَظَمَةِ وغايَةِ الجَلالَةِ. ثُمَّ أتْبَعَها بِهَذِهِ الجُمْلَةِ؛ لِيَدُلَّ عَلى أنَّهُ لا يَحْدُثُ في العالَمِ العُلْوِيِّ ولا في العالَمِ السُّفْلِيِّ أمْرٌ مِنَ الأُمُورِ ولا حادِثٌ مِنَ الحَوادِثِ إلّا بِتَقْدِيرِهِ وتَدْبِيرِهِ وقَضائِهِ وحُكْمِهِ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلى نِهايَةِ القُدْرَةِ والحِكْمَةِ والعِلْمِ والإحاطَةِ والتَّدْبِيرِ، وأنَّهُ سُبْحانَهُ مُبْدِعُ جَمِيعِ المُمْكِناتِ، وإلَيْهِ تَنْتَهِي الحاجاتُ.
* * *
وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ما مِن شَفِيعٍ إلّا مِن بَعْدِ إذْنِهِ﴾ فَفِيهِ قَوْلانِ:
القَوْلُ الأوَّلُ وهو المَشْهُورُ، أنَّ المُرادَ مِنهُ أنَّ تَدْبِيرَهُ لِلْأشْياءِ وصُنْعَهُ لَها لا يَكُونُ بِشَفاعَةِ شَفِيعٍ وتَدْبِيرِ مُدَبِّرٍ. ولا يَسْتَجْرِئُ أحَدٌ أنْ يَشْفَعَ إلَيْهِ في شَيْءٍ إلّا بَعْدَ إذْنِهِ؛ لِأنَّهُ تَعالى أعْلَمُ بِمَوْضِعِ الحِكْمَةِ والصَّوابِ، فَلا يَجُوزُ لَهم أنْ يَسْألُوهُ ما لا يَعْلَمُونَ أنَّهُ صَوابٌ وصَلاحٌ.
فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ يَلِيقُ ذِكْرُ الشَّفِيعِ بِصِفَةِ مَبْدَئِيَّةِ الخَلْقِ، وإنَّما يَلِيقُ ذِكْرُهُ بِأحْوالِ القِيامَةِ ؟
والجَوابُ مِن وُجُوهٍ:
الوَجْهُ الأوَّلُ ما ذَكَرَهُ الزَّجّاجُ، وهو أنَّ الكُفّارَ الَّذِينَ كانُوا مُخاطَبِينَ بِهَذِهِ الآيَةِ كانُوا يَقُولُونَ: إنَّ الأصْنامَ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ، فالمُرادُ مِنهُ: الرَّدُّ عَلَيْهِمْ في هَذا القَوْلِ وهو كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ والمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إلّا مَن أذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ﴾ [النبأ: ٣٨] .
والوَجْهُ الثّانِي: وهو يُمْكِنُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ كَوْنَهُ إلَهًا لِلْعالَمِ مُسْتَقِلًّا بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ مِن غَيْرِ شَرِيكٍ ولا مُنازِعٍ، بَيَّنَ أمْرَ المَبْدَأِ بِقَوْلِهِ: ﴿يُدَبِّرُ الأمْرَ﴾ وبَيَّنَ حالَ المَعادِ بِقَوْلِهِ: ﴿ما مِن شَفِيعٍ إلّا مِن بَعْدِ إذْنِهِ﴾ .
والوَجْهُ الثّالِثُ: يُمْكِنُ أيْضًا أنْ يُقالَ: إنَّهُ تَعالى وضَعَ تَدْبِيرَ الأُمُورِ في أوَّلِ خَلْقِ العالَمِ عَلى أحْسَنِ الوُجُوهِ وأقْرَبِها مِن رِعايَةِ المَصالِحِ، مَعَ أنَّهُ ما كانَ هُناكَ شَفِيعٌ يَشْفَعُ في طَلَبِ تَحْصِيلِ المَصالِحِ، فَدَلَّ هَذا عَلى أنَّ إلَهَ العالَمِ ناظِرٌ لِعِبادِهِ مُحْسِنٌ إلَيْهِمْ مُرِيدٌ لِلْخَيْرِ والرَّأْفَةِ بِهِمْ، ولا حاجَةَ في كَوْنِهِ سُبْحانَهُ كَذَلِكَ إلى حُضُورِ شَفِيعٍ يَشْفَعُ فِيهِ.
والقَوْلُ الثّانِي في تَفْسِيرِ هَذا الشَّفِيعِ ما ذَكَرَهُ أبُو مُسْلِمٍ الأصْفَهانِيُّ، فَقالَ: الشَّفِيعُ هَهُنا هو الثّانِي، وهو مَأْخُوذٌ مِنَ الشَّفْعِ الَّذِي يُخالِفُ الوَتْرَ، كَما يُقالُ: الزَّوْجُ والفَرْدُ، فَمَعْنى الآيَةِ: خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ وحْدَهُ (p-١٤)ولا حَيَّ مَعَهُ ولا شَرِيكَ يُعِينُهُ، ثُمَّ خَلَقَ المَلائِكَةَ والجِنَّ والبَشَرَ، وهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿إلّا مِن بَعْدِ إذْنِهِ﴾ أيْ: لَمْ يَحْدُثْ أحَدٌ ولَمْ يَدْخُلْ في الوُجُودِ، إلّا مِن بَعْدِ أنْ قالَ لَهُ: كُنْ، حَتّى كانَ وحَصَلَ.
واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ هَذِهِ الدَّلائِلَ وشَرَحَ هَذِهِ الأحْوالَ، خَتَمَها بَعْدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكم فاعْبُدُوهُ﴾ مُبَيِّنًا بِذَلِكَ أنَّ العِبادَةَ لا تَصْلُحُ إلّا لَهُ، ومُنَبِّهًا عَلى أنَّهُ سُبْحانَهُ هو المُسْتَحِقُّ لِجَمِيعِ العِباداتِ لِأجْلِ أنَّهُ هو المُنْعِمُ بِجَمِيعِ النِّعَمِ الَّتِي ذَكَرَها ووَصَفَها.
ثُمَّ قالَ بَعْدَهُ: ﴿أفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ دالًّا بِذَلِكَ عَلى وُجُوبِ التَّفَكُّرِ في تِلْكَ الدَّلائِلِ القاهِرَةِ الباهِرَةِ، وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ التَّفَكُّرَ في مَخْلُوقاتِ اللَّهِ تَعالى والِاسْتِدْلالَ بِها عَلى جَلالَتِهِ وعِزَّتِهِ وعَظَمَتِهِ، أعْلى المَراتِبِ وأكْمَلُ الدَّرَجاتِ.
{"ayah":"إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِی سِتَّةِ أَیَّامࣲ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ یُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَۖ مَا مِن شَفِیعٍ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ إِذۡنِهِۦۚ ذَ ٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُوهُۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق