الباحث القرآني

فَشَرَعَ سُبْحانَهُ يُقِيمُ الدَّلِيلَ عَلى بُطْلانِ قَوْلِهِمْ مِن أنَّهُ - مَعَ ما تَضَمَّنَهُ مِنَ البَعْثِ - سِحْرٌ، وعَلى حَقِيقَةِ أنَّهُ مِن عِنْدِهِ مِن غَيْرِ شُبْهَةٍ، وعَلى أنَّ الرِّسالَةَ لا عَجَبَ فِيها، لِأنَّهُ سُبْحانَهُ خَلَقَ الوُجُودَ كُلَّهُ وهو نافِذُ الأمْرِ فِيهِ، وقَدِ ابْتَلى مَن فِيهِ مِنَ العُقَلاءِ لِيَرُدَّهم إلَيْهِ ويُحاسِبَهُمْ؛ فَإنَّهُ لَمْ يَخْلُقْهم سُدًى؛ لِأنَّهُ حَكِيمٌ، فَلا بُدَّ مِن رَسُولٍ يُخْبِرُهم بِما يُرْضِيهِ وما يُغْضِبُهُ لِتَقُومَ بِذَلِكَ الحُجَّةُ فَقالَ: ﴿إنَّ رَبَّكُمُ﴾ أيِ المُوجِدَ لَكم والمُرَبِّيَ والمُحْسِنَ ﴿اللَّهُ﴾ أيْ مَن رَبّى شَيْئًا يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ حَكِيمًا وقادِرًا عَلى أسْبابِ (p-٦٩)صَلاحِهِ، فَأيْقِظُوا أنْفُسَكم مِن سِنَةِ غَفْلَتِها تَعْلَمُوا أنَّ هَذا الكِتابَ مِن عِنْدِ [الَّذِي] لَهُ العَظَمَةُ كُلُّها قَطْعًا، وأنَّهُ قادِرٌ عَلى بَعْثِكم لِأنَّهُ رَبُّكم ﴿الَّذِي﴾ بَدَأ الخَلْقَ بِأنْ ﴿خَلَقَ﴾ أيْ قَدَّرَ وأوْجَدَ ﴿السَّماواتِ والأرْضَ﴾ عَلى اتِّساعِهِما وكَثْرَةِ ما فِيهِما مِنَ المَنافِعِ ﴿فِي سِتَّةِ أيّامٍ﴾ لِحِكْمَةٍ أرادَها عَلى أنَّ ذَلِكَ وقْتٌ يَسِيرٌ لا يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ في مِثْلِهِ إلّا مَن لا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ. ولَمّا أوْجَدَ سُبْحانَهُ هَذا الخَلْقَ الكَثِيرَ المُتَباعِدَ الأقْطارِ الواسِعَ الِانْتِشارِ المُفْتَقِرَ إلى عَظِيمِ التَّدْبِيرِ ولَطِيفِ التَّصْرِيفِ والتَّقْدِيرِ، عَبَّرَ سُبْحانَهُ عَنْ عَمَلِهِ فِيهِ عَمَلَ المُلُوكِ في مَمالِكِهِمْ بِقَوْلِهِ مُشِيرًا إلى عَظَمَتِهِ بِأداةِ التَّراخِي: ﴿ثُمَّ اسْتَوى﴾ أيْ عَمِلَ في تَدْبِيرِهِ وإتْقانِ ما فِيهِ وإحْكامِهِ عَمَلَ المُعْتَنِي بِذَلِكَ ﴿عَلى العَرْشِ﴾ المُتَقَدِّمِ وصْفُهُ بِالعَظَمَةِ، ولَيْسَتْ ”ثُمَّ“ لِلتَّرْتِيبِ بَلْ كِنايَةً عَنْ عُلُوِّ الرُّتْبَةِ وبُعْدِ مَنالِها؛ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ الِاسْتِواءَ بِقَوْلِهِ: ﴿يُدَبِّرُ﴾ لِأنَّ التَّدْبِيرَ أعْدَلُ أحْوالِ المَلِكِ فالِاسْتِواءُ كِنايَةٌ عَنْهُ ﴿الأمْرَ﴾ كُلَّهُ؛ فَلا يَخْفى عَلَيْهِ عاقِبَةُ أمْرٍ مِنَ الأُمُورِ، فَحَصَلَ الأمْنُ بِهَذا مِن أنْ يُفْعَلَ شَيْءٌ بِغَيْرِ عِلْمِهِ، لِأنَّ التَّدْبِيرَ تَنْزِيلُ الأُمُورِ في مَراتِبِها عَلى إحْكامِ عَواقِبِها، وهو مَعَ ذَلِكَ مُنَزَّهٌ عَمّا تَعْرِفُونَهُ مِن أحْوالِ المُلُوكِ؛ مِن أنَّهُ يَكُونُ في مَمالِكِهِمْ مَن يَقْضِي بَعْضَ الأُمُورِ بِغَيْرِ إذْنٍ مِنهم وإنْ عَلِمُوا بِهِ لِعَجْزِهِمْ عَنِ المُجاهَرَةِ بِإدامَةِ دَفْعِهِ، (p-٧٠)بَلْ هو مُتَّصِفٌ بِأنَّهُ ﴿ما مِن شَفِيعٍ﴾ أيْ وإنْ كانَ بَلِيغَ الِاتِّصافِ بِذَلِكَ. ولَمّا كانَ تَمامُ قَهْرِهِ وعَظِيمُ سُلْطانِهِ لا يُفِيدُ أحَدًا عِنْدَ إذْنِهِ لَهُ إذْنًا عامًّا لِجَمِيعِ الأزْمانِ والأماكِنِ، أتى بِالجارِّ فَقالَ: ﴿إلا مِن بَعْدِ إذْنِهِ﴾ فَإذا لَمْ يَقْدِرْ شَفِيعٌ عَلى الكَلامِ في الشَّفاعَةِ إلّا بِإذْنِهِ فَكَيْفَ يَقْدِرُ أحَدٌ أنْ يَأْتِيَ بِشَيْءٍ مِنَ الأشْياءِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَكَيْفَ يَأْتِي بِكِتابٍ حَكِيمٍ لَيْسَ مِن عِنْدِهِ يَعْجِزُ الخَلْقُ عَنْ مُعارَضَتِهِ، فَحَصَلَ الأمْنُ أنْ يَكُونَ غَيْرُهُ قالَهُ أوْ شَفَعَ فِيمَن أبْلَغَهُ فَأبْلَغَهُ مِن غَيْرِ إرادَةٍ مِنهُ سُبْحانَهُ، فَتَحَرَّرَ أنَّهُ لَيْسَ إلّا مِن عِنْدِهِ وأنَّهُ أُمِرَ بِإبْلاغِهِ، وقَدْ عُرِفَ مِن هَذا أنَّ ﴿ما مِن شَفِيعٍ﴾ في مَوْضِعِ الدَّلالَةِ عَلى أنَّهُ لا يَخْرُجُ عَنْ تَدْبِيرِهِ أمْرٌ مِنَ الأُمُورِ ولا يَغْلِبُهُ شَيْءٌ أصْلًا فَبَطَلَ ما كانُوا يَقُولُونَ في الأصْنامِ مِنَ الشَّفاعَةِ وغَيْرِها. والشَّفِيعُ: السّائِلُ في غَيْرِهِ بِتَبْلِيغِ مَنزِلَتِهِ مِن عَفْوٍ أوْ زِيادَةِ مَنزِلَةٍ، وقَدْ وقَعَ ذِكْرُ الكِتابِ والرَّسُولِ والعَرْشِ مُرَتَّبًا في أوَّلِ هَذِهِ عَلى ما رُتِّبَ آخِرَ تِلْكَ؛ فَلَمّا تَقَرَّرَ ما وُصِفَ بِهِ مِنَ العَظَمَةِ الَّتِي لا يُشارِكُهُ فِيها أحَدٌ، وجَبَ أنْ يُعْبَدَ عِبادَةً لا يُشارِكُهُ [فِيها] شَيْءٌ، فَنَبَّهَ عَلى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿ذَلِكُمُ﴾ أيِ العَظِيمُ الشَّأْنِ العالِي المَراتِبِ ﴿اللَّهُ﴾ أيِ (p-٧١)المَلِكُ الأعْلى ﴿رَبَّكُمُ﴾ الَّذِي تَقَرَّرَ لَهُ مِنَ العَظَمَةِ والإحْسانِ بِالإيجادِ والتَّرْبِيَةِ ما لا يَبْلُغُهُ وصْفٌ ﴿فاعْبُدُوهُ﴾ أيْ فَخُصُّوهُ بِالعِبادَةِ؛ فَإنَّ عِبادَتَكم مَعَ الإشْراكِ لَيْسَتْ عِبادَةً، ولَوْلا فَضْلُهُ لَمْ يَكُنْ [لِمَن] زَلَّ أدْنى زَلَّةٍ طاعَةٌ. ولَمّا سَبَّبَ [سُبْحانَهُ] عَنْ أوْصافِهِ العُلى ما وجَبَ لَهُ مِنَ الأمْرِ بِالعِبادَةِ، تَسَبَّبَ عَنْ ذَلِكَ الإنْكارِ عَلَيْهِمْ في التَّوَقُّفِ عَنْها والِاحْتِياجِ فِيها إلى بُرُوزِ الأمْرِ بِها قامَ عَلى اسْتِحْقاقِهِ لِلْأفْرادِ بِها مِنَ الأدِلَّةِ الَّتِي فِيهِمْ شَواهِدُها فَقالَ: ﴿أفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ أيْ: ولَوْ بِأدْنى أنْواعِ التَّذَكُّرِ بِما أشارَ إلَيْهِ الإدْغامُ، ما أخْبَرَكم سُبْحانَهُ بِهِ ونَبَّهَكم عَلَيْهِ بِما يَعْلَمُهُ كُلُّ أحَدٍ مِن نَفْسِهِ مِن أنَّهُ لا يَقْدِرُ أحَدٌ أنْ يَعْمَلَ كُلَّ ما يُرِيدُهُ ويَعْمَلَ كَثِيرًا مِمّا لا غَرَضَ لَهُ فِيهِ ويَعْلَمَ أنَّهُ يَضُرُّهُ إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأُمُورِ لِيَعْلَمَ قَطْعًا أنَّ الفاعِلَ الحَقِيقِيَّ غَيْرُهُ [و] أنَّهُ لا بُدَّ لِهَذا الوُجُودِ مِن مُؤَثِّرٍ فِيهِ هو في غايَةِ العَظَمَةِ لا يَصِحُّ [بِوَجْهٍ] أنْ يُشارِكَهُ شَيْءٌ ولَوْ كانَ أعْظَمَ ما يُعْرَفُ مِنَ الأشْياءِ فَكَيْفَ بِجَمادٍ لا يَضُرُّ ولا يَنْفَعُ!.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب