الباحث القرآني

هي مَكِّيَّةٌ إلّا ثَلاثَ آياتٍ مِن قَوْلِهِ: ﴿فَإنْ كُنْتَ في شَكٍّ﴾ إلى آخِرِهِنَّ [يونس: ٩٤ - ٩٦]، هَكَذا رَوى القُرْطُبِيُّ في تَفْسِيرِهِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. وحُكِيَ عَنْ مُقاتِلٍ أنَّها مَكِّيَّةٌ إلّا آيَتَيْنِ، وهي قَوْلُهُ: ﴿فَإنْ كُنْتَ في شَكٍّ﴾ [يونس: ٩٤] فَإنَّها نَزَلَتْ في المَدِينَةِ. وحُكِيَ عَنِ الكَلْبِيِّ، أنَّها مَكِّيَّةٌ إلّا قَوْلَهُ: ﴿ومِنهم مَن لا يُؤْمِنُ بِهِ﴾ [يونس: ٤٠] فَإنَّها نَزَلَتْ بِالمَدِينَةِ. وحُكِيَ عَنِ الحَسَنَ، وعِكْرِمَةَ، وعَطاءٍ، وجابِرٍ، أنَّها مَكِّيَّةٌ مِن غَيْرِ اسْتِثْناءٍ. وأخْرَجَ النَّحّاسُ، وأبُو الشَّيْخِ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، قالَ: نَزَلَتْ سُورَةُ يُونُسَ بِمَكَّةَ. وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قالَ: كانَتْ سُورَةُ يُونُسَ بَعْدَ السّابِعَةِ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ أنَسٍ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - يَقُولُ: «إنَّ اللَّهَ أعْطانِي الرّائِيّاتِ إلى الطَّواسِينِ مَكانَ الإنْجِيلِ» . وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ في المُصَنَّفِ، عَنِ الأحْنَفِ قالَ: صَلَّيْتُ خَلْفَ عُمَرَ غَداةً فَقَرَأ يُونُسَ وهُودَ وغَيْرَهُما. * * * بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَوْلُهُ: ( الر ) قَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ مُسْتَوْفًى عَلى هَذِهِ الحُرُوفِ الواقِعَةِ في أوائِلِ السُّوَرِ في أوَّلِ سُورَةِ البَقَرَةِ فَلا نُعِيدُهُ، فَفِيهِ ما يُغْنِي عَنِ الإعادَةِ. وقَدْ قَرَأ بِالإمالَةِ أبُو عَمْرٍو وحَمْزَةُ وخَلَفٌ وغَيْرُهم. وقَرَأ جَماعَةٌ مِن غَيْرِ إمالَةٍ، وقَدْ قِيلَ: إنَّ مَعْنى ( الر ) أنا اللَّهُ أرى. قالَ النَّحّاسُ: ورَأيْتُ أبا إسْحاقَ يَمِيلُ إلى هَذا القَوْلِ، لِأنَّ سِيبَوَيْهِ قَدْ حَكى مِثْلَهُ عَنِ العَرَبِ، وأنْشَدَ: ؎بِالخَيْرِ خَيْراتٌ وإنْ شَرًّا فا أيْ وإنْ شَرًّا فَشَرٌّ. وقالَ الحَسَنُ وعِكْرِمَةُ ( الر ) قَسَمٌ، وقالَ سَعِيدٌ، عَنْ قَتادَةَ، ( الر ) اسْمٌ لِلسُّورَةِ، وقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِمّا فِيهِ تَكَلُّفٌ لِعِلْمِ ما اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، وقَدِ اتَّفَقَ القُرّاءُ عَلى أنَّ ( الر ) لَيْسَ بِآيَةٍ، وعَلى أنَّ طه آيَةٌ، وفي مُقْنِعِ أبِي عَمْرٍو الدّانِيِّ أنَّ العادِّينَ لِطه آيَةً هُمُ الكُوفِيُّونَ فَقَطْ، قِيلَ: ولَعَلَّ الفَرْقَ أنَّ ( الر ) لا يُشاكِلُ مَقاطِعَ الآيِ الَّتِي بَعْدَهُ، والإشارَةُ بِقَوْلِهِ: تِلْكَ إلى ما تَضَمَّنَتْهُ السُّورَةُ مِنَ الآياتِ، والتَّبْعِيدُ لِلتَّعْظِيمِ، واسْمُ الإشارَةِ مُبْتَدَأٌ وخَبَرُهُ ما بَعْدَهُ. وقالَ (p-٦١٠)مُجاهِدٌ وقَتادَةُ: أرادَ التَّوْراةَ والإنْجِيلَ وسائِرَ الكُتُبِ المُتَقَدِّمَةِ، فَإنَّ تِلْكَ إشارَةٌ إلى غائِبٍ مُؤَنَّثٍ، وقِيلَ: تِلْكَ بِمَعْنى هَذِهِ: أيْ هَذِهِ آياتُ الكِتابِ الحَكِيمِ، وهو القُرْآنُ، ويُؤَيِّدُ كَوْنَ الإشارَةِ إلى القُرْآنِ أنَّهُ لَمْ يَجْرِ لِلْكُتُبِ المُتَقَدِّمَةِ ذِكْرٌ، وأنَّ الحَكِيمَ مِن صِفاتِ القُرْآنِ لا مِن صِفاتِ غَيْرِهِ، والحَكِيمُ المُحْكَمُ بِالحَلالِ والحَرامِ والحُدُودِ والأحْكامِ، قالَهُ أبُو عُبَيْدَةَ وغَيْرُهُ، وقِيلَ: الحَكِيمُ مَعْناهُ الحاكِمُ فَهو فَعِيلٌ بِمَعْنى فاعِلٍ كَقَوْلِهِ: ﴿وأنْزَلَ مَعَهُمُ الكِتابَ بِالحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيما اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ [البقرة: ٢١٣]، وقِيلَ: الحَكِيمُ بِمَعْنى المَحْكُومِ فِيهِ، فَهو فَعِيلٌ بِمَعْنى مَفْعُولٍ أيْ: حَكَمَ اللَّهُ فِيهِ بِالعَدْلِ والإحْسانِ، قالَهُ الحَسَنُ وغَيْرُهُ، وقِيلَ: الحَكِيمُ ذُو الحِكْمَةِ لِاشْتِمالِهِ عَلَيْها. والِاسْتِفْهامُ في قَوْلِهِ: ﴿أكانَ لِلنّاسِ عَجَبًا﴾ لِإنْكارِ العَجَبِ مَعَ ما يُفِيدُهُ مِنَ التَّقْرِيعِ والتَّوْبِيخِ، واسْمُ كانَ ﴿أنْ أوْحَيْنا﴾ وخَبَرُها ( عَجَبًا ) أيْ أكانَ إيحاؤُنا عَجَبًا لِلنّاسِ. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ " عَجَبٌ " عَلى أنَّهُ اسْمُ كانَ، عَلى أنَّ كانَ تامَّةٌ، و﴿أنْ أوْحَيْنا﴾ بَدَلٌ مِن ( عَجَبٌ ) . وقُرِئَ بِإسْكانِ الجِيمِ مِن " رَجُلٍ " في قَوْلِهِ: ﴿إلى رَجُلٍ مِنهُمْ﴾ أيْ مِن جِنْسِهِمْ ولَيْسَ في هَذا الإيحاءِ إلى رَجُلٍ مِن جِنْسِهِمْ ما يَقْتَضِي العَجَبَ فَإنَّهُ لا يُلابِسُ الجِنْسَ ويُرْشِدُهُ ويُخْبِرُهُ عَنِ اللَّهِ سُبْحانَهُ إلّا مَن كانَ مِن جِنْسِهِ، ولَوْ كانَ مِن غَيْرِ جِنْسِهِمْ لَكانَ مِنَ المَلائِكَةِ أوْ مِنَ الجِنِّ، ويَتَعَذَّرُ المَقْصُودُ حِينَئِذٍ مِنَ الإرْسالِ، لِأنَّهم لا يَأْنَسُونَ إلَيْهِ ولا يُشاهِدُونَهُ، ولَوْ فَرَضْنا تَشَكُّلَهُ لَهم وظُهُورَهُ، فَإمّا أنْ يَظْهَرَ في غَيْرِ شَكْلِ النَّوْعِ الإنْسانِيِّ، وذَلِكَ أوْحَشُ لِقُلُوبِهِمْ وأبْعَدُ مِن أُنْسِهِمْ، أوْ في الشَّكْلِ الإنْسانِيِّ فَلا بُدَّ مِن إنْكارِهِمْ لِكَوْنِهِ في الأصْلِ غَيْرَ إنْسانٍ، هَذا إنْ كانَ العَجَبُ مِنهم لِكَوْنِهِ مِن جِنْسِهِمْ، وإنْ كانَ لِكَوْنِهِ يَتِيمًا أوْ فَقِيرًا، فَذَلِكَ لا يَمْنَعُ مِن أنْ يَكُونَ مَن كانَ كَذَلِكَ جامِعًا مِن خِصالِ الخَيْرِ والشَّرَفِ ما لا يَجْمَعُهُ غَيْرُهُ وبالِغًا في كَمالِ الصِّفاتِ إلى حَدٍّ يَقْصُرُ عَنْهُ مَن كانَ غَنِيًّا، أوْ كانَ غَيْرَ يَتِيمٍ، وقَدْ كانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - قَبْلَ أنْ يَصْطَفِيَهُ اللَّهُ بِإرْسالِهِ مِن خِصالِ الكَمالِ عِنْدَ قُرَيْشٍ ما هو أشْهَرُ مِنَ الشَّمْسِ وأظْهَرُ مِنَ النَّهارِ، حَتّى كانُوا يُسَمُّونَهُ الأمِينَ. قَوْلُهُ: ﴿أنْ أنْذِرِ النّاسَ﴾ في مَوْضِعِ نَصْبٍ بِنَزْعِ الخافِضِ أيْ: بِأنْ أنْذِرِ النّاسَ، وقِيلَ: هي المُفَسِّرَةُ لِأنَّ في الإيحاءِ مَعْنى القَوْلِ، وقِيلَ: هي المُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ. قَوْلُهُ: ﴿قَدَمَ صِدْقٍ﴾ أيْ مَنزِلَ صِدْقٍ، وقالَ الزَّجّاجُ: دَرَجَةٌ عالِيَةٌ. ومِنهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: ؎لَكم قَدَمٌ لا يُنْكِرُ النّاسُ أنَّها ∗∗∗ مَعَ الحَسَبِ العالِي طَمَتْ عَلى البَحْرِ وقالَ ابْنُ الأعْرابِيِّ: القَدَمُ المُتَقَدِّمُ في الشَّرَفِ، وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ والكِسائِيُّ: كُلُّ سابِقٍ مِن خَيْرٍ أوْ شَرٍّ، فَهو عِنْدَ العَرَبِ قَدَمٌ؛ يُقالُ: لِفُلانٍ قَدَمٌ في الإسْلامِ، ولَهُ عِنْدِي قَدَمُ صِدْقٍ، وقَدَمُ خَيْرٍ، وقَدَمُ شَرٍّ، ومِنهُ قَوْلُ العَجّاجِ: ؎زَلَّ بَنُو العَوّامِ عَنْ آلِ الحَكَمْ ∗∗∗ وتَرَكُوا المُلْكَ لِمُلْكٍ ذِي قَدَمْ وقالَ ثَعْلَبٌ: القَدَمُ كُلُّ ما قَدَّمْتَ مِن خَيْرٍ، وقالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: القَدَمُ كِنايَةٌ عَنِ العَمَلِ الَّذِي لا يَقَعُ فِيهِ تَأْخِيرٌ ولا إبْطاءٌ، وقالَ قَتادَةُ: سَلَفُ صِدْقٍ، وقالَ الرَّبِيعُ: ثَوابُ صِدْقٍ، وقالَ الحَسَنُ: هو مُحَمَّدٌ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -، وقالَ الحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ،: قَدَمُهُ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - في المَقامِ المَحْمُودِ، وقالَ مُقاتِلٌ: أعْمالًا قَدَّمُوها، واخْتارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، ومِنهُ قَوْلُ الوَضّاحِ: ؎صَلِّ لِذِي العَرْشِ واتَّخِذْ قَدَمًا ∗∗∗ يُنْجِيكَ يَوْمَ الخِصامِ والزَّلَلِ وقِيلَ غَيْرُ ما تَقَدَّمَ مِمّا لا حاجَةَ إلى التَّطْوِيلِ بِإيرادِهِ. قَوْلُهُ: ﴿قالَ الكافِرُونَ إنَّ هَذا لَساحِرٌ مُبِينٌ﴾ . قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ، وعاصِمٌ، وحَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وخَلَفٌ، والأعْمَشُ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ " لَساحِرٌ " عَلى أنَّهم أرادُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - بِاسْمِ الإشارَةِ. وقَرَأ الباقُونَ لَسِحْرٌ عَلى أنَّهم أرادُوا القُرْآنَ، وقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنى السِّحْرِ في البَقَرَةِ، وجُمْلَةُ ﴿قالَ الكافِرُونَ﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ كَأنَّهُ قِيلَ: ماذا صَنَعُوا بَعْدَ التَّعَجُّبِ؛ وقالَ القَفّالُ: فِيهِ إضْمارٌ، والتَّقْدِيرُ: فَلَمّا أنْذَرَهم قالَ الكافِرُونَ ذَلِكَ. ثُمَّ إنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ جاءَ بِكَلامٍ يُبْطِلُ بِهِ العَجَبَ الَّذِي حَصَلَ لِلْكُفّارِ مِنَ الإيحاءِ إلى رَجُلٍ مِنهم فَقالَ: ﴿إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ في سِتَّةِ أيّامٍ﴾ أيْ مَن كانَ لَهُ هَذا الِاقْتِدارُ العَظِيمُ الَّذِي تَضِيقُ العُقُولُ عَنْ تَصَوُّرِهِ، كَيْفَ يَكُونُ إرْسالُهُ لِرَسُولٍ إلى النّاسِ مِن جِنْسِهِمْ مَحَلًّا لِلتَّعَجُّبِ مَعَ كَوْنِ الكُفّارِ يَعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ، فَكَيْفَ لا يَعْتَرِفُونَ بِصِحَّةِ هَذِهِ الرِّسالَةِ بِهَذا الرَّسُولِ، وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الآيَةِ في الأعْرافِ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ في سِتَّةِ أيّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ﴾ فَلا نُعِيدُهُ هُنا، ثُمَّ ذَكَرَ ما يَدُلُّ عَلى مَزِيدِ قُدْرَتِهِ وعَظِيمِ شَأْنِهِ فَقالَ: ﴿يُدَبِّرُ الأمْرَ ما مِن شَفِيعٍ إلّا مِن بَعْدِ إذْنِهِ﴾ وتَرَكَ العاطِفَ، لِأنَّ جُمْلَةَ ( يُدَبِّرُ ) كالتَّفْسِيرِ والتَّفْصِيلِ لِما قَبْلَها، وقِيلَ: هي في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ مِن ضَمِيرِ اسْتَوى، وقِيلَ: مُسْتَأْنَفَةٌ جَوابُ سُؤالٍ مُقَدَّرٍ، وأصْلُ التَّدْبِيرِ النَّظَرُ في أدْبارِ الأُمُورِ وعَواقِبِها لِتَقَعَ عَلى الوَجْهِ المَقْبُولِ. وقالَ مُجاهِدٌ: يَقْضِيهِ ويُقَدِّرُهُ وحْدَهُ، وقِيلَ: يَبْعَثُ الأمْرَ، وقِيلَ: يُنَزِّلُ الأمْرَ، وقِيلَ: يَأْمُرُ بِهِ ويُمْضِيهِ، والمَعْنى مُتَقارِبٌ، واشْتِقاقُهُ مِنَ الدُّبُرِ، والأمْرُ: الشَّأْنُ، وهو أحْوالُ مَلَكُوتِ السَّماواتِ والأرْضِ والعَرْشِ وسائِرِ الخَلْقِ. قالَ الزَّجّاجُ: إنَّ الكُفّارَ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِهَذِهِ الآيَةِ كانُوا يَقُولُونَ: إنَّ الأصْنامَ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِأنَّهُ لَيْسَ لِأحَدٍ أنْ يَشْفَعَ إلَيْهِ في شَيْءٍ إلّا بَعْدَ إذْنِهِ، لِأنَّهُ أعْلَمُ بِمَوْضِعِ الحِكْمَةِ والصَّوابِ. وقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنى الشَّفاعَةِ في البَقَرَةِ، وفي هَذا بَيانٌ لِاسْتِبْدادِهِ بِالأُمُورِ في كُلِّ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وتَعالى، والإشارَةُ بِقَوْلِهِ: ذَلِكم إلى فاعِلِ هَذِهِ الأشْياءِ مِنَ الخَلْقِ والتَّدْبِيرِ: أيِ الَّذِي فَعَلَ هَذِهِ الأشْياءَ العَظِيمَةَ اللَّهُ رَبُّكم، واسْمُ الإشارَةِ مُبْتَدَأٌ، وخَبَرُهُ: الِاسْمُ الشَّرِيفُ، ورَبُّكم بَدَلٌ مِنهُ أوْ بَيانٌ لَهُ أوْ خَبَرٌ ثانٍ، وفي هَذِهِ الجُمْلَةِ زِيادَةُ تَأْكِيدٍ لِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ﴾ ثُمَّ أمَرَهم سُبْحانَهُ بِعِبادَتِهِ بَعْدَ أنْ بَيَّنَ لَهم أنَّهُ الحَقِيقُ بِها دُونَ غَيْرِهِ لِبَدِيعِ صُنْعِهِ وعَظِيمِ اقْتِدارِهِ، فَكَيْفَ يَعْبُدُونَ الجَماداتِ الَّتِي لا تَسْمَعُ ولا تُبْصِرُ ولا تَنْفَعُ ولا تَضُرُّ ؟ والِاسْتِفْهامُ في قَوْلِهِ: ( أفَلا تَذَكَّرُونَ ) لِلْإنْكارِ والتَّوْبِيخِ والتَّقْرِيعِ؛ لِأنَّ مَن لَهُ أدْنى تَذَكُّرٍ، وأقَلُّ اعْتِبارٍ يَعْلَمُ بِهَذا ولا يَخْفى عَلَيْهِ. ثُمَّ بَيَّنَ لَهم ما يَكُونُ آخِرَ (p-٦١١)أمْرِهِمْ بَعْدَ الحَياةِ الدُّنْيا، فَقالَ: ﴿إلَيْهِ مَرْجِعُكم جَمِيعًا﴾ وفي هَذا مِنَ التَّهْدِيدِ والتَّخْوِيفِ ما لا يَخْفى، وانْتِصابُ ( وعْدَ اللَّهِ ) عَلى المَصْدَرِ، لِأنَّ في قَوْلِهِ: ﴿إلَيْهِ مَرْجِعُكم جَمِيعًا﴾ مَعْنى الوَعْدِ أوْ هو مَنصُوبٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ، والمُرادُ بِالمَرْجِعِ الرُّجُوعُ إلَيْهِ سُبْحانَهُ إمّا بِالمَوْتِ أوْ بِالبَعْثِ أوْ بِكُلِّ واحِدٍ مِنهُما، ثُمَّ أكَّدَ ذَلِكَ الوَعْدَ بِقَوْلِهِ: حَقًّا فَهو تَأْكِيدٌ لِتَأْكِيدٍ فَيَكُونُ في الكَلامِ مِنَ الوِكادَةِ ما هو الغايَةُ في ذَلِكَ. وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ " وعْدُ اللَّهِ حَقٌّ " عَلى الِاسْتِئْنافِ. ثُمَّ عَلَّلَ سُبْحانَهُ ما تَقَدَّمَ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ أيْ: إنَّ هَذا شَأْنُهُ، يَبْتَدِئُ خَلْقَهُ مِنَ التُّرابِ ثُمَّ يُعِيدُهُ إلى التُّرابِ، أوْ مَعْنى الإعادَةِ الجَزاءُ يَوْمَ القِيامَةِ. قالَ مُجاهِدٌ: يُنْشِئُهُ ثُمَّ يُمِيتُهُ، ثُمَّ يُحْيِيهِ لِلْبَعْثِ؛ وقِيلَ: يُنْشِئُهُ مِنَ الماءِ ثُمَّ يُعِيدُهُ مِن حالٍ إلى حالٍ. وقَرَأ يَزِيدُ بْنُ القَعْقاعِ: " أنَّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ " بِفَتْحِ الهَمْزَةِ، فَتَكُونُ الجُمْلَةُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ بِما نُصِبَ بِهِ ( وعْدَ اللَّهِ ): أيْ وعَدَكم أنَّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ لِأنَّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ، وأجازَ الفَرّاءُ أنْ تَكُونَ ( أنَّ ) في مَوْضِعِ رَفْعٍ فَتَكُونَ اسْمًا. قالَ أحْمَدُ بْنُ يَحْيى بْنِ ثَعْلَبٍ: يَكُونُ التَّقْدِيرُ: حَقًّا إبْداؤُهُ الخَلْقَ، ثُمَّ ذَكَرَ غايَةَ ما يَتَرَتَّبُ عَلى الإعادَةِ فَقالَ: ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ بِالقِسْطِ﴾ أيْ بِالعَدْلِ الَّذِي لا جَوْرَ فِيهِ ﴿والَّذِينَ كَفَرُوا لَهم شَرابٌ مِن حَمِيمٍ وعَذابٌ ألِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ﴾ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المَوْصُولُ الآخَرُ مَعْطُوفًا عَلى المَوْصُولِ الأوَّلِ: أيْ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا ويَجْزِيَ الَّذِينَ كَفَرُوا، وتَكُونُ جُمْلَةُ ﴿لَهم شَرابٌ مِن حَمِيمٍ﴾ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ هي وما عُطِفَ عَلَيْها: أيْ وعَذابٌ ألِيمٌ ويَكُونُ التَّقْدِيرُ هَكَذا: ويَجْزِيَ الَّذِينَ كَفَرُوا حالَ كَوْنِهِمْ لَهم هَذا الشَّرابُ وهَذا العَذابُ، ولَكِنْ يُشْكِلُ عَلى ذَلِكَ أنَّ هَذا الشَّرابَ وهَذا العَذابَ الألِيمَ هُما مِنَ الجَزاءِ، ويُمْكِنُ أنْ يُقالَ: إنَّ المَوْصُولَ في والَّذِينَ كَفَرُوا مُبْتَدَأٌ وما بَعْدَهُ خَبَرُهُ، فَلا يَكُونُ مَعْطُوفًا عَلى المَعْطُوفِ الأوَّلِ، والباءُ في ﴿بِما كانُوا يَكْفُرُونَ﴾ لِلسَّبَبِيَّةِ: أيْ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ، والحَمِيمُ: الماءُ الحارُّ، وكُلُّ مُسَخَّنٍ عِنْدَ العَرَبِ، فَهو حَمِيمٌ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، في قَوْلِهِ: ( الر ) قالَ: فَواتِحُ أسْماءٍ مِن أسْماءِ اللَّهِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، والبَيْهَقِيُّ في الأسْماءِ والصِّفاتِ، وابْنُ النَّجّارِ في تارِيخِهِ عَنْهُ قالَ في قَوْلِهِ: الر أنا اللَّهُ أرى. وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، مِثْلَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ الضَّحّاكِ، مِثْلَهُ أيْضًا. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ أبِي مالِكٍ في قَوْلِهِ: ﴿تِلْكَ آياتُ الكِتابِ﴾ قالَ: يَعْنِي هَذِهِ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ قَتادَةَ، في قَوْلِهِ: ﴿تِلْكَ آياتُ الكِتابِ﴾ قالَ: الكُتُبُ الَّتِي خَلَتْ قَبْلَ القُرْآنِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، قالَ: لَمّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - رَسُولًا أنْكَرَتِ العَرَبُ ذَلِكَ أوْ مَن أنْكَرَ مِنهم، فَقالُوا: اللَّهُ أعْظَمُ مِن أنْ يَكُونَ رَسُولُهُ بَشَرًا مِثْلَ مُحَمَّدٍ، فَأنْزَلَ اللَّهُ: ﴿أكانَ لِلنّاسِ عَجَبًا أنْ أوْحَيْنا إلى رَجُلٍ مِنهم﴾ الآيَةَ يُؤْمِنُونَ ﴿وما أرْسَلْنا قَبْلَكَ إلّا رِجالًا نُوحِي إلَيْهِمْ﴾ [الأنبياء: ٧] الآيَةَ، فَلَمّا كَرَّرَ اللَّهُ سُبْحانَهُ عَلَيْهِمُ الحُجَّةَ قالُوا: وإذا كانَ بَشَرًا، فَغَيْرُ مُحَمَّدٍ كانَ أحَقَّ بِالرِّسالَةِ، ﴿لَوْلا نُزِّلَ هَذا القُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ [الزخرف: ٣١] يَقُولُ: أشْرَفِ مِن مُحَمَّدٍ، يَعْنُونَ الوَلِيدَ بْنَ المُغِيرَةِ مِن مَكَّةَ، ومَسْعُودَ بْنَ عَمْرٍو الثَّقَفِيَّ مِنَ الطّائِفِ، فَأنْزَلَ اللَّهُ رَدًّا عَلَيْهِمْ: ﴿أهم يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ﴾ [الزخرف: ٣٢] الآيَةَ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، عَنْهُ في قَوْلِهِ: ﴿وبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أنَّ لَهم قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ قالَ: ما سَبَقَ لَهم مِنَ السَّعادَةِ في الذِّكْرِ الأوَّلِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، عَنْهُ أيْضًا قالَ: أجْرًا حَسَنًا بِما قَدَّمُوا مِن أعْمالِهِمْ. وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: القَدَمُ هو العَمَلُ الَّذِي قَدَّمُوا. قالَ اللَّهُ سُبْحانَهُ: ﴿ونَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وآثارَهُمْ﴾ [يس: ١٢] والآثارُ مَمْشاهم. قالَ: مَشى رَسُولُ اللَّهِ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - بَيْنَ أُسْطُوانَتَيْنِ مِن مَسْجِدِهِمْ ثُمَّ قالَ: هَذا أثَرٌ مَكْتُوبٌ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ أبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ في قَوْلِهِ: ﴿قَدَمَ صِدْقٍ﴾ قالَ: مُحَمَّدٌ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - يَشْفَعُ لَهم. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ مِثْلَهُ. وأخْرَجَ الحاكِمُ وصَحَّحَهُ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قالَ: سَلَفُ صِدْقٍ. والرِّواياتُ عَنِ التّابِعِينَ وغَيْرِهِمْ في هَذا كَثِيرَةٌ، وقَدْ قَدَّمْنا أكْثَرَها. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، عَنْ مُجاهِدٍ في قَوْلِهِ: ﴿يُدَبِّرُ الأمْرَ﴾ قالَ: يَقْضِيهِ وحْدَهُ، وفي قَوْلِهِ: ﴿إنَّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ قالَ: يُحْيِيهِ ثُمَّ يُمِيتُهُ ثُمَّ يُحْيِيهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب