الباحث القرآني
قوله عزّ وجلّ:
﴿إنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَماواتِ والأرْضَ في سِتَّةِ أيّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ يُدَبِّرُ الأمْرَ ما مِن شَفِيعٍ إلا مِن بَعْدِ إذْنِهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبَّكُمُ فاعْبُدُوهُ أفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ ﴿إلَيْهِ مَرْجِعُكم جَمِيعًا وعْدَ اللهِ حَقًّا إنَّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصالِحاتِ بِالقِسْطِ والَّذِينَ كَفَرُوا لَهم شَرابٌ مِن حَمِيمٍ وعَذابٌ ألِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ﴾
هَذا ابْتِداءُ دُعاءٍ إلى عِبادَةِ اللهِ عَزَّ وجَلَّ وإعْلامٍ بِصِفاتِهِ، والخِطابُ بِها لِجَمِيعِ الناسِ، و﴿خَلَقَ السَماواتِ والأرْضَ﴾ هو عَلى ما تَقَرَّرَ أنَّ اللهَ عَزَّ وجَلَّ خَلَقَ الأرْضَ ثُمَّ اسْتَوى إلى السَماءِ وهي دُخانٌ فَخَلَقَها ثُمَّ دَحى الأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ. وقَوْلُهُ: ﴿فِي سِتَّةِ أيّامٍ﴾ قِيلَ: هي مِن أيّامِ الآخِرَةِ، وقالَ الجُمْهُورُ -وَهُوَ الصَوابُ-: بَلْ مِن أيّامِ الدُنْيا.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وذَلِكَ في التَقْدِيرِ، لِأنَّ الشَمْسَ وجَرْيَها لَمْ يَتَقَدَّمْ حِينَئِذٍ، وقَوْلُ النَبِيِّ ﷺ في خَلْقِ اللهِ المَخْلُوقاتِ: "إنَّ اللهَ ابْتَدَأ يَوْمَ الأحَدِ كَذا ويَوْمَ كَذا كَذا" إنَّما هو عَلى أنْ نُقَدِّرَ ذَلِكَ الزَمانَ ونَعْكِسَ إلَيْهِ التَجْرِبَةَ مِن حِينِ ابْتَدَأ تَرْتِيبُ اليَوْمِ واللَيْلَةِ. والمَشْهُورُ أنَّ اللهَ ابْتَدَأ بِالخَلْقِ يَوْمَ الأحَدِ، ووَقَعَ في بَعْضِ الأحادِيثِ في كَتابِ مُسْلِمٍ، وفي الدَلائِلِ أنَّ البُداءَةَ وقَعَتْ يَوْمَ السَبْتِ، وذَكَرَ بَعْضُ الناسِ أنَّ الحِكْمَةَ في خَلْقِ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى هَذِهِ الأشْياءَ في مُدَّةٍ مَحْدُودَةٍ مُمْتَدَّةٍ وفي القُدْرَةِ أنْ يَقُولَ كُنْ فَيَكُونُ إنَّما هو لِيُعَلِّمَ عِبادَهُ التُؤَدَةَ والتَماهُلَ في الأُمُورِ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهَذا مِمّا لا يُوصَلُ تَعْلِيلُهُ، وعَلى هَذا هي الأجِنَّةُ في البُطُونِ وخَلْقُ الثِمارِ (p-٤٤٩)وَغَيْرُ ذَلِكَ، واللهِ عَزَّ وجَلَّ قَدْ جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا وهو أعْلَمُ بِوَجْهِ الحِكْمَةِ في ذَلِكَ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ﴾ قَدْ تَقَدَّمَ القَوْلُ فِيهِ في ﴿المص﴾ [الأعراف: ١]. وقَوْلُهُ: ﴿يُدَبِّرُ الأمْرَ﴾ يَصِحُّ أنْ يُرِيدَ بِـ "الأمْرَ" اسْمَ الجِنْسِ مِنَ الأُمُورِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ الأمْرَ الَّذِي هو مَصْدَرُ أمَرَ يَأْمُرُ أمْرًا، وتَدْبِيرُهُ لا إلَهَ إلّا هو إنَّما هو الإنْفاذُ لِأنَّهُ قَدْ أحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا. وقالَ مُجاهِدٌ: ﴿يُدَبِّرُ الأمْرَ﴾ مَعْناهُ: يَقْضِيهِ وحْدَهُ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ما مِن شَفِيعٍ إلا مِن بَعْدِ إذْنِهِ﴾ رَدٌّ عَلى العَرَبِ في اعْتِقادِها أنَّ الأصْنامَ تَشْفَعُ لَها، وقَوْلُهُ: ﴿ذَلِكُمُ﴾ إشارَةٌ إلى اللهِ تَبارَكَ وتَعالى، أيْ هَذا الَّذِي هَذِهِ صِفاتُهُ فاعْبُدُوهُ، ثُمَّ قَرَّرَهم عَلى هَذِهِ الآياتِ والعِبَرِ فَقالَ: ﴿أفَلا تَذَكَّرُونَ﴾ أيْ: فَيَكُونُ التَذَكُّرُ سَبَبًا لِلِاهْتِداءِ.
واخْتِصارُ القَوْلِ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿ثُمَّ اسْتَوى عَلى العَرْشِ﴾ أنْ يَكُونَ اسْتَوى بِقَهْرِهِ وغَلَبَتِهِ / وإمّا أنْ يَكُونَ "اسْتَوى" بِمَعْنى اسْتَوْلى إنْ صَحَّتِ اللَفْظَةُ في اللِسانِ، فَقَدْ قِيلَ في قَوْلِ الشاعِرِ:
؎ قَدِ اسْتَوى بِشْرٌ عَلى العِراقِ ∗∗∗ مِن غَيْرِ سَيْفٍ ودَمٍ مُهْراقِ
إنَّهُ بَيْتٌ مَصْنُوعٌ وإمّا أنْ يَكُونَ فَعَلَ فِعْلًا في العَرْشِ سَمّاهُ اسْتَوى. واسْتِيعابُ القَوْلِ قَدْ تَقَدَّمَ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إلَيْهِ مَرْجِعُكم جَمِيعًا﴾ الآيَةُ آيَةُ إنْباءٍ بِالبَعْثِ مِنَ القُبُورِ، وهي مِنَ الأُمُورِ الَّتِي جَوَّزَها العَقْلُ وأثْبَتَ وُقُوعَها الشَرْعُ. وقَوْلُهُ: "جَمِيعًا" حالٌ مِنَ الضَمِيرِ في "مَرْجِعُكُمْ"، "وَعْدَ اللهِ" نَصْبٌ عَلى المَصْدَرِ، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: "حَقًّا"، وقالَ أبُو الفَتْحِ: "حَقًّا" نَعْتٌ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: "إنَّهُ" بِكَسْرِ الألِفِ عَلى القَطْعِ والِاسْتِئْنافِ، وقَرَأ أبُو جَعْفَرِ بْنُ القَعْقاعِ، والأعْمَشُ، وسَهْلُ بْنُ شُعَيْبٍ، وعَبْدُ اللهِ: "أنَّهُ" بِفَتْحِ الألِفِ، ومَوْضِعُها النَصْبُ عَلى تَقْدِيرِ: أُحِقُّ أنَّهُ، وقالَ الفَرّاءُ: مَوْضِعُها رَفْعٌ عَلى تَقْدِيرِ: يَحِقُّ أنَّهُ.
(p-٤٥٠)قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
يَجُوزُ عِنْدِي أنْ يَكُونَ "أنَّهُ" بَدَلًا مِن قَوْلِهِ: ﴿وَعْدَ اللهِ﴾، قالَ أبُو الفَتْحِ: إنْ شِئْتَ قَدَّرْتَ: لِأنَّهُ يَبْدَأُ الخَلْقَ، أيْ: فَمَن في قُدْرَتِهِ هَذا فَهو غَنِيٌّ عن إخْلافِ الوَعْدِ، وإنْ شِئْتَ قَدَّرْتَهُ: وعَدَ اللهُ حَقًّا أنَّهُ، ولا يَعْمَلُ فِيهِ المَصْدَرُ الَّذِي هو "وَعْدَ" لِأنَّهُ قَدْ وُصِفَ فَآذَنَ ذَلِكَ بِتَمامِهِ وقَطَعَ عَمَلَهُ. وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ "حَقٌّ" بِالرَفْعِ، فَهو ابْتِداءٌ وخَبَرُهُ "أنَّهُ"، وقَوْلُهُ: ﴿يَبْدَأُ الخَلْقَ﴾ يُرِيدُ النَشْأةَ الأُولى، والإعادَةُ هي البَعْثُ مِنَ القُبُورِ، وقَرَأ طَلْحَةُ: "يُبْدِئُ الخَلْقَ" بِضَمِّ الياءِ وكَسْرِ الدالِ، وقَوْلُهُ: "لِيَجْزِيَ" هي لامُ كَيْ، والمَعْنى أنَّ الإعادَةَ إنَّما هي لِيَقَعَ الجَزاءُ عَلى الأعْمالِ، وقَوْلُهُ: "بِالقِسْطِ" أيْ بِالعَدْلِ في رَحْمَتِهِمْ وحُسْنِ جَزائِهِمْ، وقَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ابْتِداءٌ، والحَمِيمُ: الحارُّ المُسَخَّنُ، وهو فَعِيلٌ بِمَعْنى مَفْعُولٍ، ومِنهُ الحُمامُ والحُمَّةُ، ومِنهُ قَوْلُ المُرَقَّشِ:
؎ في كُلِّ يَوْمٍ لَها مِقْطَرَةٌ ∗∗∗ ∗∗∗ وكِباءٌ مُعَدَّةٌ وحَمِيمُ
وحَمِيمُ النارِ -فِيما ذُكِرَ عن رَسُولِ اللهِ ﷺ- إذا أدْناهُ الكافِرُ مِن فِيهِ تَساقَطَتْ فَرْوَةُ رَأْسِهِ، وهو كَما وصَفَهُ اللهُ تَعالى: ﴿يَشْوِي الوُجُوهَ﴾ [الكهف: ٢٩].
{"ayahs_start":3,"ayahs":["إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِی سِتَّةِ أَیَّامࣲ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ یُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَۖ مَا مِن شَفِیعٍ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ إِذۡنِهِۦۚ ذَ ٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُوهُۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ","إِلَیۡهِ مَرۡجِعُكُمۡ جَمِیعࣰاۖ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقًّاۚ إِنَّهُۥ یَبۡدَؤُا۟ ٱلۡخَلۡقَ ثُمَّ یُعِیدُهُۥ لِیَجۡزِیَ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَمِلُوا۟ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ بِٱلۡقِسۡطِۚ وَٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لَهُمۡ شَرَابࣱ مِّنۡ حَمِیمࣲ وَعَذَابٌ أَلِیمُۢ بِمَا كَانُوا۟ یَكۡفُرُونَ"],"ayah":"إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِی سِتَّةِ أَیَّامࣲ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ یُدَبِّرُ ٱلۡأَمۡرَۖ مَا مِن شَفِیعٍ إِلَّا مِنۢ بَعۡدِ إِذۡنِهِۦۚ ذَ ٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُوهُۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق