الباحث القرآني
بابُ ذِكْرُ اخْتِلافِ أهْلِ العِلْمِ في حاضِرِي المَسْجِدِ الحَرامِ
قالَ أبُو بَكْرٍ: اخْتَلَفَ النّاسُ في ذَلِكَ عَلى أرْبَعَةِ أوْجُهٍ: فَقالَ عَطاءٌ ومَكْحُولٌ: " مِن دُونِ المَواقِيتِ إلى مَكَّةَ " وهو قَوْلُ أصْحابِنا، إلّا أنَّ أصْحابَنا يَقُولُونَ: " أهْلُ المَواقِيتِ بِمَنزِلَةِ مَن دُونَها " . وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٍ هم أهْلُ الحَرَمِ " وقالَ الحَسَنُ وطاوُسٌ ونافِعٌ وعَبْدُ الرَّحْمَنِ الأعْرَجُ هم أهْلُ مَكَّةَ " وهو قَوْلُ مالِكِ بْنِ أنَسٍ. وقالَ الشّافِعِيُّ هم مَن كانَ أهْلُهُ دُونَ لَيْلَتَيْنِ وهو حِينَئِذٍ أقْرَبُ المَواقِيتِ، وما كانَ وراءَهُ فَعَلَيْهِمُ المُتْعَةُ " .
قالَ أبُو بَكْرٍ: لَمّا كانَ أهْلُ المَواقِيتِ فَمَن دُونَها إلى مَكَّةَ لَهم أنْ يَدْخُلُوها بِغَيْرِ إحْرامٍ، وجَبَ أنْ يَكُونُوا بِمَنزِلَةِ أهْلِ مَكَّةَ، ألا تَرى أنَّ مَن خَرَجَ مِن مَكَّةَ فَما لَمْ يُجاوِزِ المِيقاتَ فَلَهُ الرُّجُوعُ ودُخُولُها بِغَيْرِ إحْرامٍ وكانَ تَصَرُّفُهم في المِيقاتِ فَما دُونَهُ بِمَنزِلَةِ تَصَرُّفِهِمْ في مَكَّةَ ؟ فَوَجَبَ أنْ يَكُونُوا بِمَنزِلَةِ أهْلِ مَكَّةَ في حُكْمِ المُتْعَةِ. ويَدُلُّ عَلى أنَّ الحَرَمَ وما قَرُبَ مِنهُ أهْلُهُ مِن حاضِرِي المَسْجِدِ الحَرامِ قَوْلُهُ تَعالى: (p-٣٦١)﴿إلا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ ولَيْسَ أهْلُ مَكَّةَ مِنهم؛ لِأنَّهم كانُوا قَدْ أسْلَمُوا حِينَ فُتِحَتْ، فَإنَّما نَزَلَتِ الآيَةُ بَعْدَ الفَتْحِ في حَجَّةِ أبِي بَكْرٍ وهم بَنُو مُدْلِجٍ وبَنُو الدِّئْلِ، وكانَتْ مَنازِلُهم خارِجَ مَكَّةَ في الحَرَمِ وما قَرُبَ مِنهُ.
فَإنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ أهْلُ ذِي الحُلَيْفَةِ مِن حاضِرِي المَسْجِدِ الحَرامِ وبَيْنَهم وبَيْنَها مَسِيرَةُ عَشْرِ لَيالٍ ؟ قِيلَ لَهُ: إنَّهم وإنْ لَمْ يَكُونُوا مِن حاضِرِي المَسْجِدِ الحَرامِ فَهم في حُكْمِهِمْ في بابِ جَوازِ دُخُولِهِمْ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرامٍ، وفي بابِ أنَّهم مَتى أرادُوا الإحْرامَ أحْرَمُوا مِن مَنازِلِهِمْ، كَما أنَّ أهْلَ مَكَّةَ إذا أرادُوا الإحْرامِ أحْرَمُوا مِن مَنازِلِهِمْ؛ فَيَدُلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ المَعْنى حاضِرُو المَسْجِدِ الحَرامِ ومَن في حُكْمِهِمْ؛ وقالَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ في شَأْنِ البُدْنِ: ﴿ثُمَّ مَحِلُّها إلى البَيْتِ العَتِيقِ﴾ [الحج: ٣٣] وقالَ ﷺ «مِنًى مَنحَرٌ وفِجاجُ مَكَّةَ مَنحَرٌ» .
فَكانَ مُرادُ اللَّهِ تَعالى بِذِكْرِ البَيْتِ ما قَرُبَ مِن مَكَّةَ وإنْ كانَ خارِجًا مِنها. وقالَ تَعالى: ﴿والمَسْجِدِ الحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنّاسِ سَواءً العاكِفُ فِيهِ والبادِ﴾ [الحج: ٢٥] وهي مَكَّةُ وما قَرُبَ مِنها. فَهاتانِ المُتْعَتانِ قَدْ بَيَّنّا حُكْمَهُما، وهُما القِرانُ والتَّمَتُّعُ.
وأمّا المُتْعَةُ الثّالِثَةُ فَإنَّها عَلى قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ وعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ " أنْ يُحْصَرَ الحاجُّ المُفْرِدُ بِمَرَضٍ أوْ أمْرٍ يَحْبِسُهُ فَيَقْدُمُ فَيَجْعَلُها عُمْرَةً ويَتَمَتَّعُ بِحَجَّةٍ إلى العامِ المُقْبِلِ ويَحُجُّ "، فَهَذا المُتَمَتِّعُ بِالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ؛ فَكانَ مِن مَذْهَبِهِ أنَّ المُحْصَرَ لا يُحِلُّ ولَكِنَّهُ يَبْقى عَلى إحْرامِهِ حَتّى يَذْبَحَ عَنْهُ الهَدْيَ يَوْمَ النَّحْرِ يَوْمَ يَحْلِقُ، ويَبْقى عَلى إحْرامِهِ حَتّى يَقْدُمَ مَكَّةَ فَيَتَحَلَّلُ مِن حَجِّهِ بِعَمَلِ عُمْرَةٍ.
وهَذا خِلافُ قَوْلِ اللَّهِ تَعالى: ﴿وأتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإنْ أُحْصِرْتُمْ فَما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ﴾ [البقرة: ١٩٦] ثُمَّ قالَ: ﴿ولا تَحْلِقُوا رُءُوسَكم حَتّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾ [البقرة: ١٩٦] ولَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الحَجِّ والعُمْرَةِ فِيما أباحَ مِنَ الإحْلالِ بِالحَلْقِ، ولا خِلافَ أنَّ هَذا الحَلْقَ لِلْإحْلالِ مِنَ العُمْرَةِ فَكَذَلِكَ الحَجُّ؛ «والنَّبِيُّ ﷺ وأصْحابُهُ حِينَ أُحْصِرُوا بِالحُدَيْبِيَةِ حَلَقَ هو وحَلَّ وأمَرَهم بِالإحْلالِ» .
ومَعَ ذَلِكَ فَإنَّ عَمَلَ العُمْرَةِ الَّذِي يَلْزَمُ بِالفَواتِ لَيْسَ بِعُمْرَةٍ وإنَّما هو عَمَلُ عُمْرَةٍ مَفْعُولٌ بِإحْرامِ الحَجِّ، واللَّهُ سُبْحانَهُ إنَّما قالَ: ﴿فَمَن تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ﴾ [البقرة: ١٩٦] ولَيْسَ الَّذِي يَفُوتُهُ الحَجُّ بِالمُعْتَمِرِ، وأيْضًا فَإنَّهُ قالَ: ﴿فَمَن تَمَتَّعَ بِالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ فَما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ﴾ [البقرة: ١٩٦] وهو إنَّما أوْجَبَ عَلَيْهِ الهَدْيُ لِيَصِلَ بِهِ إلى الحَلْقِ يَوْمَ النَّحْرِ، سَواءٌ حَجَّ بَعْدَ ذَلِكَ أوْ لَمْ يَحُجَّ، ألا تَرى أنَّهُ لَوْ لَمْ يَحُجَّ إلّا بَعْدَ عَشْرِ سِنِينَ لَكانَ الهَدْيُ قائِمًا ؟ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ المُتَمَتِّعَ المَذْكُورَ في الآيَةِ لَيْسَ هو ما ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ الزُّبَيْرِ؛ لِأنَّ ما في الآيَةِ مِن ذَلِكَ إنَّما يَتَعَلَّقُ الهَدْيُ فِيهِ بِفِعْلِ العُمْرَةِ والحَجِّ، والدَّمُ الَّذِي يَلْزَمُهُ (p-٣٦٢)بِالإحْصارِ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ بِوُجُودِ الحَجِّ بَعْدَ العُمْرَةِ.
وهَذِهِ المُتْعَةُ هي الإحْلالُ إلى النِّساءِ، إلّا عَلى الوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْناهُ مِنَ الجَمْعِ بَيْنَ العُمْرَةِ والحَجِّ في أشْهُرِ الحَجِّ. وأمّا المُتْعَةُ الرّابِعَةُ فَهي فَسْخُ الحاجِّ إذا طافَ لَهُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ؛ وما نَعْلَمُ أحَدًا مِنَ الصَّحابَةِ قالَ بِذَلِكَ غَيْرَ ابْنِ عَبّاسٍ فَإنَّهُ حَدَّثَنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الواسِطِيُّ قالَ: حَدَّثَنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ اليَمانِ قالَ: حَدَّثَنا أبُو عُبَيْدٍ قالَ: حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ سَعِيدٍ عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قالَ: أخْبَرَنِي عَطاءٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: " لا يَطُوفُ بِالبَيْتِ أحَدٌ إلّا أحَلَّ " قالَ: قُلْتُ: إنَّما هَذا بَعْدَ المَعْرُوفِ، قالَ: كانَ ابْنُ عَبّاسٍ يَراهُ قَبْلُ وبَعْدُ، قالَ: قُلْتُ: مِن أيْنَ كانَ يَأْخُذُ هَذا ؟ فَقالَ: مِن أمْرِ رَسُولٍ اللَّهِ ﷺ في حَجَّةِ الوَداعِ، أمَرَهم أنْ يَحُلُّوا، ومِن قَوْلِ اللَّهِ: ﴿ثُمَّ مَحِلُّها إلى البَيْتِ العَتِيقِ﴾ [الحج: ٣٣]
قالَ أبُو عُبَيْدٍ: وحَدَّثَنا حَجّاجُ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتادَةَ قالَ: سَمِعْتُ أبا حَسّانَ الأعْرَجَ يَقُولُ: قالَ رَجْلٌ لِابْنِ عَبّاسٍ: ما هَذِهِ الفُتْيا الَّتِي قَدْ شَعَّبَتِ النّاسَ يَعْنِي: فَرَّقَتْ بَيْنَهم في الفُتْيا أنَّهُ مَن طافَ فَقَدْ حَلَّ ؟ فَقالَ: «سُنَّةُ نَبِيِّكم ﷺ وإنْ رُغِمْتُمْ» .
قالَ أبُو بَكْرٍ وقَدْ ورَدَتْ آثارٌ مُتَواتِرَةٌ في أمْرِ النَّبِيِّ ﷺ أصْحابَهُ في حَجَّةِ الوَداعِ بِفَسْخِ الحَجِّ، ولَمْ يَكُنْ مَعَهُ مِنهم هَدْيٌ ولَمْ يُحِلَّ هو ﷺ وقالَ: «إنِّي سُقْتُ الهَدْيَ ولا أُحِلُّ إلى يَوْمِ النَّحْرِ» .
ثُمَّ أمَرَهم فَأحْرَمُوا بِالحَجِّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ حِينَ أرادُوا الخُرُوجَ إلى مِنًى؛ وهي إحْدى المُتْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ: " مُتْعَتانِ كانَتا عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنا أنْهى عَنْهُما وأضْرِبُ عَلَيْهِما مُتْعَةُ الحَجِّ، ومُتْعَةُ النِّساءِ " . وقالَ طارِقُ بْنُ شِهابٍ عَنْ أبِي مُوسى في قِصَةِ نَهْيِ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ عَنْ هَذِهِ المُتْعَةِ قالَ: فَقُلْتُ يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ ما هَذا الَّذِي أحْدَثْتَ في شَأْنِ النِّساءِ ؟ فَقالَ: إنْ نَأْخُذْ بِكِتابِ اللَّهِ فَإنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿وأتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ [البقرة: ١٩٦] وإنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ «فَإنَّهُ ﷺ ما حَلَّ حَتّى نَحَرَ الهَدْيَ» .
فَأخْبَرَ عُمَرُ أنَّ هَذِهِ المُتْعَةَ مَنسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: ﴿وأتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ [البقرة: ١٩٦] وهَذا مِن قَوْلِهِ يَدُلَّ عَلى جَوازِ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالقُرْآنِ. وقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّ ذَلِكَ كانَ خاصًّا لِأُولَئِكَ؛ حَدَّثَنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الواسِطِيُّ قالَ: حَدَّثَنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ بْنِ اليَمانِ قالَ: حَدَّثَنا أبُو عُبَيْدٍ قالَ: حَدَّثَنا نُعَيْمٌ عَنْ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ الحارِثِ بْنِ بِلالِ بْنِ الحارِثِ، عَنْ أبِيهِ بِلالِ بْنِ الحارِثِ المُزَنِيِّ قالَ قُلْتُ يا رَسُولَ اللَّهِ «فَسْخُ الحَجِّ لَنا أوْ لِمَن بَعْدَنا ؟ قالَ: لا بَلْ لَنا خاصَّةً» .
وقالَ أبُو ذَرِّ: " لَمْ يَكُنْ فَسْخُ الحَجِّ بِعُمْرَةٍ إلّا لِأصْحابِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ " . ورُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وعُثْمانَ وجَماعَةٍ مِنَ الصَّحابَةِ إنْكارُ فَسْخِ الحَجِّ بَعْدَ النَّبِيِّ ﷺ . وفي قَوْلِ عُمَرَ «مُتْعَتانِ كانَتا عَلى عَهْدِ (p-٣٦٣)رَسُولِ اللَّهِ ﷺ» .
وعِلْمُ الصَّحابَةِ بِها ما يُوجِبُ أنْ يَكُونُوا قَدْ عَلِمُوا مِن نَسْخِها مِثْلَ عِلْمِهِ، لَوْلا ذَلِكَ ما أقَرُّوهُ عَلى النَّهْيِ عَنْ سُنَّةِ النَّبِيِّ ﷺ وعِلْمُ الصَّحابَةِ مِن غَيْرِ ثُبُوتِ النَّسْخِ. وقَدْ رُوِيَ عَنْ جابِرٍ مِن طُرُقٍ صَحِيحَةٍ «أنَّ سُراقَةَ بْنَ مالِكٍ قالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ أعُمْرَتَنا هَذِهِ لِعامِنا أمْ لِلْأبَدِ ؟ فَقالَ: هي لِأبَدِ الأبَدِ، دَخَلَتِ العُمْرَةُ في الحَجِّ إلى يَوْمِ القِيامَةِ» فَأخْبَرَ في هَذا الحَدِيثِ أنَّ العُمْرَةَ الَّتِي فَسَخُوا بِها الحَجَّ كانَتْ خاصَّةً في تِلْكَ الحالِ، وأنَّ مِثْلَها لا يَكُونُ.
وأمّا قَوْلُهُ: «دَخَلَتِ العُمْرَةُ في الحَجِّ إلى يَوْمِ القِيامَةِ» فَإنَّهُ مِمّا حَدَّثَنا بِهِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الواسِطِيُّ قالَ: حَدَّثَنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ اليَمانِ قالَ: حَدَّثَنا أبُو عُبَيْدٍ قالَ: حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ جَعْفَرٍ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أبِيهِ، عَنْ جابِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ . قالَ أبُو عُبَيْدٍ: وقَوْلُهُ: «دَخَلَتِ العُمْرَةُ في الحَجِّ إلى يَوْمِ القِيامَةِ» .
يُفَسَّرُ تَفْسِيرَيْنِ:
أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ دُخُولُ العُمْرَةِ في الحَجِّ هو الفَسْخَ بِعَيْنِهِ، وذَلِكَ أنَّهُ يُهِلُّ الرَّجُلُ بِالحَجِّ ثُمَّ يُحِلُّ مِنهُ بِعُمْرَةٍ إذا طافَ بِالبَيْتِ. والآخَرُ: أنْ يَكُونَ دُخُولُ العُمْرَةِ في الحَجِّ هو المُتْعَةَ نَفْسَهُ، وذَلِكَ أنْ يُفْرِدَ الرَّجُلُ العُمْرَةَ في أشْهُرِ الحَجِّ ثُمَّ يُحِلُّ مِنها بِحَجٍّ مِن عامِهِ.
قالَ أبُو بَكْرٍ: وكِلا الوَجْهَيْنِ مُلْبِسٌ غَيْرُ لائِقٍ بِاللَّفْظِ، والَّذِي يَقْتَضِيهِ ظاهِرُهُ أنَّ الحَجَّ نائِبٌ عَنِ العُمْرَةِ والعُمْرَةُ داخِلَةٌ فِيهِ، فَمَن فَعَلَ الحَجَّ فَقَدْ كَفاهُ عَنِ العُمْرَةِ، كَما تَقُولُ: " الواحِدُ داخِلٌ في العَشَرَةِ " يَعْنِي أنَّ العَشَرَةَ مُغْنِيَةٌ عَنْهُ ومُوفِيَةٌ عَلَيْهِ فَلا يَحْتاجُ إلى اسْتِئْنافِ حُكْمِهِ ولا ذِكْرِهِ. وقَدْ قِيلَ في أمْرِ النَّبِيِّ ﷺ أصْحابَهُ بِالإحْلالِ مَعْنًى آخَرُ، وهو ما رَواهُ عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ عَنْ مُجاهِدٍ في قِصَّةِ إحْلالِ النَّبِيِّ ﷺ وقالَ في آخِرِهِ: قُلْتُ لِمُجاهِدٍ: أكانُوا فَرَضُوا الحَجَّ وأمَرَهم أنْ يُهِلُّوا أوْ يَنْتَظِرُونَ ما يُؤْمَرُونَ بِهِ ؟ قالَ: أهَلُّوا بِإهْلالِ النَّبِيِّ ﷺ وانْتَظَرُوا ما يُؤْمَرُونَ بِهِ. وكَذَلِكَ قالَ كُلُّ واحِدٍ مِن عَلِيٍّ وأبِي مُوسى: " أهْلَلْتُ بِإهْلالٍ كَإهْلالِ النَّبِيِّ ﷺ " . وكَذَلِكَ كانَ إحْرامُ النَّبِيِّ ﷺ بَدِيًّا. ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِن أمْرِي ما اسْتَدْبَرْتُ ما سُقْتُ الهَدْيَ ولَجَعَلْتُها عُمْرَةً» فَكَأنَّهُ خَرَجَ يَنْتَظِرُ ما يُؤْمَرُ بِهِ، وبِهِ أمَرَ أصْحابَهُ.
ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: «أتانِي آتٍ مِن رَبِّي في هَذا الوادِي المُبارَكِ وهو وادِي العَقِيقِ فَقالَ: صَلِّ في هَذا الوادِي المُبارَكِ وقُلْ حَجَّةٌ في عُمْرَةٍ» فَهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ النَّبِيَّ ﷺ خَرَجَ يَنْتَظِرُ ما يُؤْمَرُ بِهِ، فَلَمّا بَلَغَ الوادِيَ أُمِرَ بِحَجَّةٍ في عُمْرَةٍ؛ ثُمَّ أهَلَّ أصْحابُ النَّبِيِّ ﷺ بِالحَجِّ وظَنُّوا أنَّ النَّبِيَّ ﷺ أحْرَمَ بِذَلِكَ، فَجازَ لَهم مِثْلُهُ، فَلَمّا أحْرَمَ مِنهم مَن أحْرَمَ بِالحَجِّ لَمْ يَكُنْ إحْرامُهُ صَحِيحًا وكانَ مَوْقُوفًا كَما كانَ إحْرامُ عَلِيٍّ وأبِي مُوسى مَوْقُوفًا. ونَزَلَ الوَحْيُ وأُمِرُوا بِالمُتْعَةِ بِأنْ يَطُوفُوا بِالبَيْتِ ويُحِلُّوا ويَعْمَلُوا عَمَلَ (p-٣٦٤)العُمْرَةِ ويُحْرِمُوا بِالحَجِّ، كَما يُؤْمَرُ مَن يُحْرِمُ بِشَيْءٍ لا يُسَمِّيهِ؛ لأنَّهُ يَجْعَلُهُ عُمْرَةً إنْ شاءَ، وإنْ لَمْ تَكُنْ تَسْمِيَتُهُمُ الحَجَّ تَسْمِيَةً صَحِيحَةً؛ إذْ كانُوا مَأْمُورِينَ بِانْتِظارِ أمْرِ النَّبِيِّ ﷺ فَكانَ وجْهُ الخُصُوصِ لِأُولَئِكَ الصَّحابَةِ أنَّهم أحْرَمُوا بِالحَجِّ ولَمْ يَصِحَّ تَعْيِينُهم لَهُ، فَكانُوا بِمَنزِلَةِ مَن أحْرَمَ بِشَيْءٍ لا يَنْوِيهِ بِعَيْنِهِ إذْ كانُوا مَأْمُورِينَ بِانْتِظارِ أمْرِهِ ﷺ وغَيْرُهم مِن سائِرِ النّاسِ مَن أحْرَمَ بِشَيْءٍ بِعَيْنِهِ لَزِمَهُ حُكْمُهُ ولَيْسَ لَهُ صَرْفُهُ إلى غَيْرِهِ، وقَدْ أنْكَرَ قَوْمٌ أنْ يَكُونَ النَّبِيُّ ﷺ أمَرَ بِفَسْخِ الحَجِّ عَلى حالٍ، واحْتَجُّوا بِما رَوى زَيْدُ بْنُ هارُونَ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ عَنْ يَحْيى بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حاطِبٍ أنَّ عائِشَةَ قالَتْ: " خَرَجْنا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنْواعًا، فَمِنّا مَن أهَلَّ بِحَجٍّ مُفْرِدًا ومِنّا مَن أهَلَّ بِعُمْرَةٍ ومِنّا مَن أهَلَّ بِحَجِّ وعُمْرَةٍ، فَمَن أهَلَّ بِالحَجِّ مُفْرِدًا لَمْ يُحِلَّ مِمّا أحْرَمَ عَلَيْهِ حَتّى يَقْضِيَ مَناسِكَ الحَجِّ.
ومَن أهَلَّ بِعُمْرَةٍ فَطافَ بِالبَيْتِ وسَعى بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ وحَلَّ مِن حَرَمِهِ حَتّى يَسْتَقْبِلَ حَجًّا " . وحَدَّثَنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الواسِطِيُّ قالَ: حَدَّثَنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ بْنُ اليَمانِ قالَ: حَدَّثَنِي أبُو عُبَيْدٍ قالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ مالِكِ بْنِ أنَسٍ، عَنْ أبِي الأسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عائِشَةَ قالَتْ: " خَرَجْنا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَمِنّا مَن أهَلَّ بِالحَجِّ ومِنّا مَن أهَلَّ بِالحَجِّ والعُمْرَةِ ومِنّا مَن أهَلَّ بِالعُمْرَةِ " قالَتْ: " وأهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِالحَجِّ؛ فَأمّا مَن أهَلَّ بِالعُمْرَةِ فَطافَ بِالبَيْتِ وسَعى وأحَلَّ، وأمّا مَن أهَلَّ بِالحَجِّ أوْ بِالحَجِّ والعُمْرَةِ فَلَمْ يُحِلَّ إلى يَوْمِ النَّحْرِ " . قالَ: وحَدَّثَنا أبُو عُبَيْدِ قالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ، عَنْ مالِكٍ، عَنْ أبِي الأسْوَدِ، عَنْ سُلَيْمانَ بْنِ يَسارٍ، مِثْلُ ذَلِكَ، إلّا أنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ إهْلالَ النَّبِيِّ ﷺ . وقَدْ رُوِيَ عَنْ عائِشَةَ خِلافُ ذَلِكَ؛ حَدَّثَنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قالَ: حَدَّثَنا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ اليَمانِ قالَ: حَدَّثَنا أبُو عُبَيْدٍ قالَ: حَدَّثَنا يَزِيدُ عَنْ يَحْيى بْنِ سَعِيدٍ: أنَّ عَمْرَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أخْبَرَتْهُ أنَّها سَمِعَتْ عائِشَةَ تَقُولُ: " خَرَجْنا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لِخَمْسٍ بَقَيْنَ مِن ذِي القِعْدَةِ ونَحْنُ لا نَرى إلّا الحَجَّ، فَلَمّا قَرُبْنا أوْ دَنَوْنا أمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ مَن لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ أنْ يَجْعَلَها عُمْرَةً.
قالَتْ: فَأحَلَّ النّاسُ كُلُّهم إلّا مَن كانَ مَعَهُ هَدْيٌ " . قالَ: وحَدَّثَنا أبُو عُبَيْدٍ قالَ: حَدَّثَنا ابْنُ صالِحٍ، عَنِ اللَّيْثِ، عَنْ يَحْيى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مِثْلَ ذَلِكَ، وزادَ فِيهِ: قالَ يَحْيى: فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلْقاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، فَقالَ: جاءَتْكَ بِالحَدِيثِ عَلى وجْهِهِ. وهَذا هو الصَّحِيحُ لِما ورَدَ فِيهِ مِنَ الآثارِ المُتَواتِرَةِ في أمْرِ النَّبِيِّ ﷺ أصْحابَهُ بِفَسْخِ الحَجِّ، وقَوْلُ عُمَرَ بِحَضْرَةِ الصَّحابَةِ " مُتْعَتانِ كانَتا عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أنا أنْهى عَنْهُما وأضْرِبُ عَلَيْهِما (p-٣٦٥)مُتْعَةُ النِّساءِ ومُتْعَةُ الحَجِّ " وهو يَعْنِي هَذِهِ المُتْعَةَ، فَلَمْ يَظْهَرْ مِن أحَدٍ مِنهم إنْكارُهُ ولا الخِلافُ عَلَيْهِ. ولَوْ تَعارَضَتْ أخْبارُ عائِشَةَ لَكانَ سَبِيلُها أنْ تَسْقُطَ كَأنَّهُ لَمْ يُرْوَ عَنْها شَيْءٌ وتَبْقى الأخْبارُ الأُخَرُ في أمْرِ النَّبِيِّ ﷺ أصْحابَهُ بِفَسْخِ الحَجِّ مِن غَيْرِ مُعارِضٍ، ويَكُونُ مَنسُوخًا بِقَوْلِهِ: ﴿وأتِمُّوا الحَجَّ والعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ [البقرة: ١٩٦] عَلى ما رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وقَوْلُهُ: ﴿فَما اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ﴾ [البقرة: ١٩٦]
قالَ أبُو بَكْرٍ: الهَدْيُ المَذْكُورَ هاهُنا مِثْلُ الهَدْيِ المَذْكُورِ لِلْإحْصارِ؛ وقَدْ بَيَّنّا أنَّ أدْناهُ شاةٌ، وأنَّ مَن شاءَ جَعَلَهُ بَقَرَةً أوْ بَعِيرًا فَيَكُونُ أفْضَلَ.
وهَذا الهَدْيُ لا يُجْزِي إلّا يَوْمَ النَّحْرِ، لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهم ويَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ في أيّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهم مِن بَهِيمَةِ الأنْعامِ فَكُلُوا مِنها وأطْعِمُوا البائِسَ الفَقِيرَ﴾ [الحج: ٢٨] ﴿ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهم ولْيُوفُوا نُذُورَهم ولْيَطَّوَّفُوا بِالبَيْتِ العَتِيقِ﴾ [الحج: ٢٩] وقَضاءُ التَّفَثِ وطَوافُ الزِّيارَةِ لا يَكُونُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ ولَمّا رَتَّبَ هَذِهِ الأفْعالَ عَلى ذَبْحِ هَذِهِ البُدْنِ دَلَّ عَلى أنَّها بُدُنُ القِرانِ والتَّمَتُّعِ؛ لِاتِّفاقِ الجَمِيعِ عَلى أنَّ سائِرَ الهَدايا لا تَتَرَتَّبُ عَلَيْها هَذِهِ الأفْعالُ وأنَّ لَهُ أنْ يَنْحَرَها مَتى شاءَ، فَثَبَتَ أنَّ هَدْيَ المُتْعَةِ غَيْرُ مُجْزِئٍ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا قَوْلُهُ ﷺ: «لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِن أمْرِي ما اسْتَدْبَرْتُ ما سُقْتُ الهَدْيَ ولَجَعَلْتُها عُمْرَةً» وقَدْ كانَ عَلَيْهِ السَّلامُ قارِنًا، وقَدْ ساقَ الهَدْيَ وأخْبَرَ أنَّهُ لَوِ اسْتَقْبَلَ مِن أمْرِهِ ما اسْتَدْبَرَ ما ساقَ الهَدْيَ، ولَوْ جازَ ذَبْحُ هَدْيِ المُتْعَةِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ لَذَبَحَهُ وحَلَّ كَما أمَرَ أصْحابَهُ، وكانَ لا يَكُونُ مُسْتَدْرِكًا في المُسْتَدْبِرِ شَيْئًا قَدْ فاتَهُ. وقالَ لِعَلِيٍّ حِينَ قالَ أهْلَلْتَ بِإهْلالٍ كَإهْلالِ النَّبِيِّ ﷺ: " إنِّي سُقْتُ الهَدْيَ وإنِّي لا أُحِلُّ إلى يَوْمِ النَّحْرِ " ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ﷺ: «خُذُوا عَنِّي مَناسِكَكم» وهو ﷺ نَحَرَ بَدَنَةً يَوْمَ النَّحْرِ فَلَزِمَ اتِّباعَهُ ولَمْ يَجُزْ تَقْدِيمُهُ عَلى وقْتِهِ. واللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى أعْلَمُ.
* * *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وعِنْدَ رَسُولِهِ إلا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرامِ﴾ قالَ أبُو بَكْرٍ ابْتِداءُ السُّورَةِ يَذْكُرُ قَطْعَ العَهْدِ بَيْنَ النَّبِيِّ ﷺ وبَيْنَ المُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ: ﴿بَراءَةٌ مِنَ (p-٢٧٤)اللَّهِ ورَسُولِهِ إلى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ [التوبة: ١] وقَدْ قِيلَ: إنَّ هَؤُلاءِ قَدْ كانَ بَيْنَهم وبَيْنَ النَّبِيِّ عَهْدٌ فَغَدَرُوا وأسَرُّوا وهَمُّوا بِهِ فَأمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ بِالنَّبْذِ إلَيْهِمْ ظاهِرًا، وفَسَح لَهم في مُدَّةٍ أرْبَعَةِ أشْهُرٍ بِقَوْلِهِ: ﴿فَسِيحُوا في الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ﴾ [التوبة: ٢] وقِيلَ: إنَّهُ أرادَ العَهْدَ الَّذِي كانَ بَيْنَهُ وبَيْنَ المُشْرِكِينَ عامَّةً في أنْ لا يُمْنَعَ أحَدٌ مِنَ المُشْرِكِينَ مِن دُخُولِهِ مَكَّةَ لِلْحَجِّ، وأنْ لا يُقاتِلُوا، ولا يَقْتُلُوا في الشَّهْرِ الحَرامِ، فَكانَ قَوْلُهُ: ﴿بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ﴾ [التوبة: ١] في أحَدِ هَذَيْنِ الفَرِيقَيْنِ، ثُمَّ اسْتَثْنى مِن هَؤُلاءِ قَوْمًا كانَ بَيْنَهم وبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ عَهْدٌ خاصٌّ، ولَمْ يَغْدِرُوا، ولَمْ يَهُمُّوا بِهِ فَقالَ: ﴿إلا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكم شَيْئًا ولَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكم أحَدًا فَأتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهم إلى مُدَّتِهِمْ﴾ [التوبة: ٤] فَفَرَّقَ بَيْنَ حُكْمِ هَؤُلاءِ الَّذِينَ ثَبَتُوا عَلى عَهْدِهِمْ، ولَمْ يَنْقُصُوهم، ولَمْ يُعاوِنُوا أعْداءَهم عَلَيْهِمْ، وأمَرَ بِإتْمامِ عَهْدِهِمْ إلى مُدَّتِهِمْ، وأمَرَ بِالنَّبْذِ إلى الأوَّلِينَ، وهم أحَدُ فَرِيقَيْنِ مَن غادَرَ قاصِدًا إلَيْهِ أوْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وبَيْنَ النَّبِيِّ ﷺ عَهْدٌ خاصٌّ في سائِرِ أحْوالِهِ بَلْ في دُخُولِ مَكَّةَ لِلْحَجِّ والأمانِ في الأشْهُرِ الحُرُمِ الَّذِي كانَ يَأْمَنُ فِيهِ جَمِيعُ النّاسُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكم أحَدًا﴾ [التوبة: ٤] يَدُلُّ عَلى أنَّ المُعاهَدَ مَتى عاوَنَ عَلَيْنا عَدُوًّا لَنا فَقَدْ نَقَضَ عَهْدَهُ. ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَإذا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ﴾ [التوبة: ٥] فَرَفَعَ بَعْدَ انْقِضاءِ أشْهُرِ الحُرُمِ عَهْدَ كُلِّ ذِي عَهْدٍ مِن خاصٍّ ومِن عامٍّ، ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وعِنْدَ رَسُولِهِ﴾ لِأنَّهم غَدَرُوا، ولَمْ يَسْتَقِيمُوا؛ ثُمَّ اسْتَثْنى مِنهُمُ الَّذِينَ عاهَدُوهم عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرامِ، قالَ أبُو إسْحاقَ { هم قَوْمٌ مِن بَنِي كِنانَةَ }، وقالَ ابْنِ عَبّاسٍ هم مِن قُرَيْشٍ، وقالَ مُجاهِدٌ هم خُزاعَةُ، فَأمَرَ المُسْلِمِينَ بِالوَفاءِ بِعَهْدِهِمْ ما اسْتَقامُوا لَهم في الوَفاءِ بِهِ. وجائِزٌ أنْ تَكُونَ مُدَّةُ هَؤُلاءِ في العَهْدِ دُونَ مُضِيِّ أشْهُرِ الحُرُمِ؛ لِأنَّهُ قالَ: ﴿فَإذا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُمُ فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وجَدْتُمُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥] وعُمُومُهُ يَقْتَضِي رَفْعَ سائِرِ العُهُودِ الَّتِي كانَتْ بَيْنَ المُسْلِمِينَ والكُفّارِ. وجائِزٌ أنْ تَكُونَ مُدَّةُ عَهْدِهِمْ بَعْدَ انْقِضاءِ الأشْهُرِ الحُرُمِ، وكانُوا مَخْصُوصِينَ مِمَّنْ أُمِرُوا بِقَتْلِهِمْ بَعْدَ انْسِلاخِ الأشْهُرِ الحُرُمِ، وأنَّ ذَلِكَ إنَّما كانَ خاصًّا في قَوْمٍ مِنهم كانُوا أهْلَ غَدْرٍ وخِيانَةٍ لِأنَّهُ قالَ: ﴿فَما اسْتَقامُوا لَكم فاسْتَقِيمُوا لَهُمْ﴾ ولَمْ يَحْصُرْهُ بِمُدَّةٍ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإنْ تابُوا وأقامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكاةَ فَإخْوانُكم في الدِّينِ﴾ [التوبة: ١١] يَدُلُّ عَلى أنَّ مَن أظْهَرَ لَنا الإيمانَ وأقامَ الصَّلاةَ وآتى الزَّكاةَ فَعَلَيْنا مُوالاتُهُ في الدِّينِ عَلى ظاهِرِ أمْرِهِ مَعَ وُجُودِ أنْ يَكُونَ اعْتِقادُهُ في المَغِيبِ خِلافَهُ
{"ayah":"كَیۡفَ یَكُونُ لِلۡمُشۡرِكِینَ عَهۡدٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِۦۤ إِلَّا ٱلَّذِینَ عَـٰهَدتُّمۡ عِندَ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِۖ فَمَا ٱسۡتَقَـٰمُوا۟ لَكُمۡ فَٱسۡتَقِیمُوا۟ لَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ یُحِبُّ ٱلۡمُتَّقِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق