الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإنْ أحَدٌ مِنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأجِرْهُ حَتّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأنَّهم قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ﴾ . فِي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: في تَقْرِيرِ وجْهِ النَّظْمِ: نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: إنَّ رَجُلًا مِنَ المُشْرِكِينَ قالَ لِعَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ: إنْ أرَدْنا أنْ نَأْتِيَ الرَّسُولَ بَعْدَ انْقِضاءِ هَذا الأجَلِ لِسَماعِ كَلامِ اللَّهِ أوْ لِحاجَةٍ أُخْرى فَهَلْ نُقْتَلُ ؟ فَقالَ عَلِيٌّ: ”لا“ إنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ: ﴿وإنْ أحَدٌ مِنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأجِرْهُ﴾ أيْ فَأمِّنْهُ حَتّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ، وتَقْرِيرُ هَذا الكَلامِ: أنْ نَقُولَ: إنَّهُ تَعالى لَمّا أوْجَبَ بَعْدَ انْسِلاخِ الأشْهُرِ الحُرُمِ قَتْلَ المُشْرِكِينَ دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ حُجَّةَ اللَّهِ تَعالى قَدْ قامَتْ عَلَيْهِمْ وأنَّ ما ذَكَرَهُ الرَّسُولُ قَبْلَ ذَلِكَ مِن أنْواعِ الدَّلائِلِ والبَيِّناتِ كَفى في إزاحَةِ عُذْرِهِمْ وعِلَّتِهِمْ، وذَلِكَ يَقْتَضِي أنَّ أحَدًا مِنَ المُشْرِكِينَ لَوْ طَلَبَ الدَّلِيلَ والحُجَّةَ لا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ، بَلْ يُطالَبُ إمّا بِالإسْلامِ وإمّا بِالقَتْلِ، فَلَمّا كانَ هَذا الكَلامُ واقِعًا في القَلْبِ لا جَرَمَ ذَكَرَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ إزالَةً لِهَذِهِ الشُّبْهَةِ، والمَقْصُودُ مِنهُ بَيانُ أنَّ الكافِرَ إذا جاءَ طالِبًا لِلْحُجَّةِ والدَّلِيلِ، أوْ جاءَ طالِبًا لِاسْتِماعِ القُرْآنِ، فَإنَّهُ يَجِبُ إمْهالُهُ ويَحْرُمُ قَتْلُهُ ويَجِبُ إيصالُهُ إلى مَأْمَنِهِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ المَقْصُودَ مِن شَرْعِ القَتْلِ قَبُولُ الدِّينِ والإقْرارُ بِالتَّوْحِيدِ، ويَدُلُّ أيْضًا عَلى أنَّ النَّظَرَ في دِينِ اللَّهِ أعْلى المَقاماتِ وأعْلى الدَّرَجاتِ، فَإنَّ الكافِرَ الَّذِي صارَ دَمُهُ مُهْدَرًا لَمّا أظْهَرَ مِن نَفْسِهِ كَوْنَهُ طالِبًا لِلنَّظَرِ والِاسْتِدْلالِ زالَ ذَلِكَ الإهْدارُ، ووَجَبَ عَلى الرَّسُولِ أنْ يُبْلِغَهُ مَأْمَنَهُ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: أحَدٌ مُرْتَفِعٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ يُفَسِّرُهُ الظّاهِرُ، وتَقْدِيرُهُ: وإنِ اسْتَجارَكَ أحَدٌ، ولا يَجُوزُ أنْ يَرْتَفِعَ بِالِابْتِداءِ؛ لِأنَّ ”إنْ“ مِن عَوامِلِ الفِعْلِ لا يَدْخُلُ عَلى غَيْرِهِ. فَإنْ قِيلَ: لَمّا كانَ التَّقْدِيرُ ما ذَكَرْتُمْ فَما الحِكْمَةُ في تَرْكِ هَذا التَّرْتِيبِ الحَقِيقِيِّ ؟ قُلْنا: الحِكْمَةُ فِيهِ ما ذَكَرَهُ سِيبَوَيْهِ، وهو أنَّهم يُقَدِّمُونَ الأهَمَّ والَّذِي هم بِشَأْنِهِ أعْنى، وقَدْ بَيَّنّا هَهُنا أنَّ ظاهِرَ الدَّلِيلِ يَقْتَضِي إباحَةَ دَمِ المُشْرِكِينَ، فَقُدِّمَ ذِكْرُهُ لِيَدُلَّ ذَلِكَ عَلى مَزِيدِ العِنايَةِ بِصَوْنِ دَمِهِ عَنِ الإهْدارِ، قالَ الزَّجّاجُ: المَعْنى إنْ طَلَبَ مِنكَ أحَدٌ مِنهم أنْ تُجِيرَهُ مِنَ القَتْلِ إلى أنْ يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ فَأجِرْهُ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَتِ المُعْتَزِلَةُ: هَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ كَلامَ اللَّهِ يَسْمَعُهُ الكافِرُ والمُؤْمِنُ والزِّنْدِيقُ والصِّدِّيقُ والَّذِي يَسْمَعُهُ جُمْهُورُ الخَلْقِ لَيْسَ إلّا هَذِهِ الحُرُوفَ والأصْواتَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ كَلامَ اللَّهِ لَيْسَ إلّا هَذِهِ الحُرُوفَ والأصْواتَ، ثُمَّ مِنَ المَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أنَّ الحُرُوفَ والأصْواتَ لا تَكُونُ قَدِيمَةً؛ لِأنَّ تَكَلُّمَ اللَّهِ بِهَذِهِ الحُرُوفِ إمّا أنْ يَكُونَ مَعًا أوْ عَلى التَّرْتِيبِ، فَإنْ تَكَلَّمَ بِها مَعًا لَمْ يَحْصُلْ مِنهُ هَذا الكَلامُ المُنْتَظِمُ؛ لِأنَّ الكَلامَ لا يَحْصُلُ مُنْتَظِمًا إلّا عِنْدَ دُخُولِ هَذِهِ الحُرُوفِ في الوُجُودِ عَلى التَّعاقُبِ، فَلَوْ حَصَلَتْ مَعًا لا مُتَعاقِبَةً لَما حَصَلَ الِانْتِظامُ، فَلَمْ يَحْصُلِ الكَلامُ، وأمّا إنْ حَصَلَتْ مُتَعاقِبَةً، لَزِمَ أنْ يَنْقَضِيَ المُتَقَدِّمُ ويَحْدُثَ المُتَأخِّرُ، (p-١٨٢)وذَلِكَ يُوجِبُ الحُدُوثَ، فَدَلَّ هَذا عَنْ أنَّ كَلامَ اللَّهِ مُحْدَثٌ، قالُوا: فَإنْ قُلْتُمْ: إنَّ كَلامَ اللَّهِ شَيْءٌ مُغايِرٌ لِهَذِهِ الحُرُوفِ والأصْواتِ، فَهَذا باطِلٌ لِأنَّ الرَّسُولَ ما كانَ يُشِيرُ بِقَوْلِهِ: كَلامُ اللَّهِ إلّا لِهَذِهِ الحُرُوفِ والأصْواتِ، وأمّا الحَشْوِيَّةُ والحَمْقى مِنَ النّاسِ، فَقالُوا: ثَبَتَ بِهَذِهِ الآيَةِ أنَّ كَلامَ اللَّهِ لَيْسَ إلّا هَذِهِ الحُرُوفَ والأصْواتَ، وثَبَتَ أنَّ كَلامَ اللَّهِ قَدِيمٌ، فَوَجَبَ القَوْلُ بِقِدَمِ الحُرُوفِ والأصْواتِ. واعْلَمْ أنَّ الأُسْتاذَ أبا بَكْرِ بْنَ فُورَكَ زَعَمَ أنّا إذا سَمِعْنا هَذِهِ الحُرُوفَ والأصْواتَ فَقَدْ سَمِعْنا مَعَ ذَلِكَ كَلامَ اللَّهِ تَعالى، وأمّا سائِرُ الأصْحابِ فَقَدْ أنْكَرُوا عَلَيْهِ هَذا القَوْلَ؛ وذَلِكَ لِأنَّ ذَلِكَ الكَلامَ القَدِيمَ إمّا أنْ يَكُونَ نَفْسَ هَذِهِ الحُرُوفِ والأصْواتِ، وإمّا أنْ يَكُونَ شَيْئًا آخَرَ مُغايِرًا لَها، والأوَّلُ: هو قَوْلُ الرَّعاعِ والحَشْوِيَّةِ وذَلِكَ لا يَلِيقُ بِالعُقَلاءِ. وأمّا الثّانِي فَباطِلٌ؛ لِأنّا عَلى هَذا التَّقْدِيرِ لَمّا سَمِعْنا هَذِهِ الحُرُوفَ والأصْواتَ، فَقَدْ سَمِعْنا شَيْئًا آخَرَ يُخالِفُ ماهِيَّةَ هَذِهِ الحُرُوفِ والأصْواتِ، لَكِنّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أنَّ عِنْدَ سَماعِ هَذِهِ الحُرُوفِ والأصْواتِ لَمْ نَسْمَعْ شَيْئًا آخَرَ سِواها ولَمْ نُدْرِكْ بِحاسَّةِ السَّمْعِ أمْرًا آخَرَ مُغايِرًا لَها فَسَقَطَ هَذا الكَلامُ. والجَوابُ الصَّحِيحُ عَنْ كَلامِ المُعْتَزِلَةِ أنْ نَقُولَ: هَذا الَّذِي نَسْمَعُهُ لَيْسَ عَيْنَ كَلامِ اللَّهِ عَلى مَذْهَبِكم؛ لِأنَّ كَلامَ اللَّهِ لَيْسَ إلّا الحُرُوفَ والأصْواتَ الَّتِي خَلَقَها أوَّلًا، بَلْ تِلْكَ الحُرُوفُ والأصْواتُ انْقَضَتْ وهَذِهِ الَّتِي نَسْمَعُها حُرُوفٌ وأصْواتٌ فَعَلَها الإنْسانُ، فَما ألْزَمْتُمُوهُ عَلَيْنا فَهو لازِمٌ عَلَيْكم. واعْلَمْ أنَّ أبا عَلِيٍّ الجُبّائِيَّ لِقُوَّةِ هَذا الإلْزامِ ارْتَكَبَ مَذْهَبًا عَجِيبًا فَقالَ: كَلامُ اللَّهِ شَيْءٌ مُغايِرٌ لِلْحُرُوفِ والأصْواتِ وهو باقٍ مَعَ قِراءَةِ كُلِّ قارِئٍ، وقَدْ أطْبَقَ المُعْتَزِلَةُ عَلى سُقُوطِ هَذا المَذْهَبِ واللَّهُ أعْلَمُ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: اعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ تَدُلُّ عَلى أنَّ التَّقْلِيدَ غَيْرُ كافٍ في الدِّينِ وأنَّهُ لا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ والِاسْتِدْلالِ؛ وذَلِكَ لِأنَّهُ لَوْ كانَ التَّقْلِيدُ كافِيًا، لَوَجَبَ أنْ لا يُمْهَلَ هَذا الكافِرُ، بَلْ يُقالُ لَهُ إمّا أنْ تُؤْمِنَ، وإمّا أنْ نَقْتُلَكَ فَلَمّا لَمْ يُقَلْ لَهُ ذَلِكَ، بَلْ أمْهَلْناهُ وأزَلْنا الخَوْفَ عَنْهُ ووَجَبَ عَلَيْنا أنْ نُبْلِغَهُ مَأْمَنَهُ عَلِمْنا أنَّ ذَلِكَ إنَّما كانَ لِأجْلِ أنَّ التَّقْلِيدَ في الدِّينِ غَيْرُ كافٍ، بَلْ لا بُدَّ مِنَ الحُجَّةِ والدَّلِيلِ فَأمْهَلْناهُ وأخَّرْناهُ لِيَحْصُلَ لَهُ مُهْلَةُ النَّظَرِ والِاسْتِدْلالِ. إذا ثَبَتَ هَذا فَنَقُولُ: لَيْسَ في الآيَةِ ما يَدُلُّ عَلى أنَّ مِقْدارَ هَذِهِ المُهْلَةِ كَمْ يَكُونُ ولَعَلَّهُ لا يُعْرَفُ مِقْدارُهُ إلّا بِالعُرْفِ، فَمَتى ظَهَرَ عَلى المُشْرِكِ عَلاماتُ كَوْنِهِ طالِبًا لِلْحَقِّ باحِثًا عَنْ وجْهِ الِاسْتِدْلالِ أُمْهِلَ وتُرِكَ، ومَتّى ظَهَرَ عَلَيْهِ كَوْنُهُ مُعْرِضًا عَنِ الحَقِّ دافِعًا لِلزَّمانِ بِالأكاذِيبِ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَيْهِ، واللَّهُ أعْلَمُ. المَسْألَةُ الخامِسَةُ: المَذْكُورُ في هَذِهِ الآيَةِ كَوْنُهُ طالِبًا لِسَماعِ القُرْآنِ فَنَقُولُ: ويَلْتَحِقُ بِهِ كَوْنُهُ طالِبًا لِسَماعِ الدَّلائِلِ، وكَوْنُهُ طالِبًا لِلْجَوابِ عَنِ الشُّبُهاتِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّهُ تَعالى عَلَّلَ وُجُوبَ تِلْكَ الإجارَةِ بِكَوْنِهِ غَيْرَ عالِمٍ؛ لِأنَّهُ قالَ: ذَلِكَ بِأنَّهم قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ وكانَ المَعْنى فَأجِرْهُ لِكَوْنِهِ طالِبًا لِلْعِلْمِ مُسْتَرْشِدًا لِلْحَقِّ وكُلُّ مَن حَصَلَتْ فِيهِ هَذِهِ العِلَّةُ وجَبَتْ إجارَتُهُ. المَسْألَةُ السّادِسَةُ: في قَوْلِهِ: ﴿حَتّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ﴾ وُجُوهٌ: قِيلَ: أرادَ سَماعَ جَمِيعِ القُرْآنِ، لِأنَّ تَمامَ الدَّلِيلِ والبَيِّناتِ فِيهِ، وقِيلَ: أرادَ سَماعَ سُورَةِ بَراءَةَ؛ لِأنَّها مُشْتَمِلَةٌ عَلى كَيْفِيَّةِ المُعامَلَةِ مَعَ المُشْرِكِينَ، وقِيلَ: (p-١٨٣)أرادَ سَماعَ كُلِّ الدَّلائِلِ، وإنَّما خَصَّ القُرْآنَ بِالذِّكْرِ؛ لِأنَّهُ الكِتابُ الجارِي لِمُعْظَمِ الدَّلائِلِ، وقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ أبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ﴾ مَعْناهُ أوْصِلْهُ إلى دِيارِ قَوْمِهِ الَّتِي يَأْمَنُونَ فِيها عَلى أنْفُسِهِمْ وأمْوالِهِمْ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ يَجُوزُ قِتالُهم وقَتْلُهم. المَسْألَةُ السّابِعَةُ: قالَ الفُقَهاءُ: الكافِرُ الحَرْبِيُّ إذا دَخَلَ دارَ الإسْلامِ كانَ مَغْنُومًا مَعَ مالِهِ إلّا أنْ يَدْخُلَ مُسْتَجِيرًا لِغَرَضٍ شَرْعِيٍّ كاسْتِماعِ كَلامِ اللَّهِ رَجاءَ الإسْلامِ، أوْ دَخَلَ لِتِجارَةٍ، فَإنْ دَخَلَ بِأمانِ صَبِيٍّ أوْ مَجْنُونٍ فَأمانُهُما شُبْهَةُ أمانٍ، فَيَجِبُ تَبْلِيغُهُ مَأْمَنَهُ، وهو أنْ يَبْلُغَ مَحْرُوسًا في نَفْسِهِ ومالِهِ إلى مَكانِهِ الَّذِي هو مَأْمَنٌ لَهُ، ومَن دَخَلَ مِنهم دارَ الإسْلامِ رَسُولًا فالرِّسالَةُ أمانٌ، ومَن دَخَلَ لِيَأْخُذَ مالًا في دارِ الإسْلامِ ولِمالِهِ أمانٌ فَأمانٌ لَهُ، واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب