الباحث القرآني
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يُخادِعُونَ اللَّهَ والَّذِينَ آمَنُوا﴾ هو مَجازٌ في اللُّغَةِ؛ لِأنَّ الخَدِيعَةَ في الأصْلِ هي الإخْفاءُ؛ وكَأنَّ المُنافِقَ أخْفى الإشْراكَ وأظْهَرَ الإيمانَ عَلى وجْهِ الخِداعِ والتَّمْوِيهِ والغُرُورِ لِمَن يُخادِعُهُ واللَّهُ تَعالى لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ ولا يَصِحُّ أنْ يُخادَعَ في الحَقِيقَةِ.
ولَيْسَ يَخْلُو هَؤُلاءِ القَوْمُ الَّذِينَ وصَفَهُمُ اللَّهُ تَعالى بِذَلِكَ مِن أحَدِ وجْهَيْنِ: إمّا أنْ يَكُونُوا عارِفِينَ بِاللَّهِ تَعالى، قَدْ عَلِمُوا أنَّهُ لا يُخادَعُ بِتَساتُرِ شَيْءٍ، أوْ غَيْرَ عارِفِينَ، فَذَلِكَ أبْعَدُ؛ إذْ لا يَصِحُّ أنْ يَقْصِدَهُ لِذَلِكَ، ولَكِنَّهُ أطْلَقَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ؛ لِأنَّهم عَمِلُوا عَمَلَ المُخادِعِ، ووَبالُ الخِداعِ راجِعٌ عَلَيْهِمْ، فَكَأنَّهم إنَّما يُخادِعُونَ أنْفُسَهم وقِيلِ: إنَّ المُرادَ: يُخادِعُونَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَحُذِفَ ذِكْرُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ كَما قالَ: ﴿إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ﴾ [الأحزاب: ٥٧] والمُرادُ يُؤْذُونَ أوْلِياءَ اللَّهِ وأيَّ الوَجْهَيْنِ كانَ فَهو مَجازٌ ولَيْسَ بِحَقِيقَةٍ، ولا يَجُوزُ اسْتِعْمالُهُ إلّا في مَوْضِعٍ يَقُومُ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ.
وإنَّما خادَعُوا رَسُولَ اللَّهِ تَقِيَّةً لِتَزُولَ عَنْهم أحْكامُ سائِرِ المُشْرِكِينَ الَّذِينَ أُمِرَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلامُ والمُؤْمِنُونَ بِقَتْلِهِمْ؛ وجائِزٌ أنْ يَكُونُوا أظْهَرُوا الإيمانَ لِلْمُؤْمِنِينَ لِيُوالُوهم كَما يُوالِي المُؤْمِنُونَ بَعْضُهم بَعْضًا ويَتَواصَلُونَ فِيما بَيْنَهم؛ وجائِزٌ أنْ يَكُونُوا يُظْهِرُونَ لَهُمُ الإيمانَ لِيُفْشُوا إلَيْهِمْ أسْرارَهم (p-٣١)فَيَنْقُلُوا ذَلِكَ إلى أعْدائِهِمْ، وكَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعالى: ﴿اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ﴾ [البقرة: ١٥] مَجازٌ؛ وقَدْ قِيلَ فِيهِ وُجُوهٌ:
أحَدُها: عَلى جِهَةِ مُقابَلَةِ الكَلامِ بِمِثْلِهِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ في مَعْناهُ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها﴾ [الشورى: ٤٠]
والثّانِيَةُ: لَيْسَتْ بِسَيِّئَةٍ بَلْ حَسَنَةٍ، ولَكِنَّهُ لَمّا قابَلَ بِها السَّيِّئَةَ أجْرى عَلَيْها اسْمَها وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكم فاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ ما اعْتَدى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٤]
والثّانِي لَيْسَ بِاعْتِداءٍ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ [النحل: ١٢٦] والأوَّلُ لَيْسَ بِعِقابٍ، وإنَّما هو عَلى مُقابَلَةِ اللَّفْظِ بِمِثْلِهِ ومُزاوَجَتِهِ وتَقُولُ العَرَبُ: الجَزاءُ بِالجَزاءِ، والأوَّلُ لَيْسَ بِجَزاءٍ، ومِنهُ قَوْلُ الشّاعِرِ:
؎ألا لا يَجْهَلَنْ أحَدٌ عَلَيْنا فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجاهِلِينا
ومَعْلُومٌ أنَّهُ لَمْ يُمْتَدَحْ بِالجَهْلِ، ولَكِنَّهُ جَرى عَلى عادَتِهِمْ في ازْدِواجِ الكَلامِ ومُقابَلَتِهِ.
وقِيلَ: إنَّ ذَلِكَ أطْلَقَهُ اللَّهُ تَعالى عَلى طَرِيقِ التَّشْبِيهِ؛ وهو أنَّهُ لَمّا كانَ وبالُ الِاسْتِهْزاءِ راجِعًا عَلَيْهِمْ ولاحِقًا لَهم كانَ كَأنَّهُ اسْتَهْزَأ بِهِمْ.
وقِيلَ: لَمّا كانُوا قَدْ أُمْهِلُوا في الدُّنْيا ولَمْ يُعاجَلُوا بِالعُقُوبَةِ والقَتْلِ كَسائِرِ المُشْرِكِينَ وأخَّرَ عِقابَهم فاغْتَرُّوا بِالإمْهالِ كانُوا كالمُسْتَهْزَإ بِهِمْ.
ولَمّا كانَتْ أجْرامُ المُنافِقِينَ أعْظَمَ مِن أجْرامِ سائِرِ الكُفّارِ المُبادِينَ بِالكُفْرِ؛ لِأنَّهم جَمَعُوا الِاسْتِهْزاءَ والمُخادَعَةَ بِقَوْلِهِ: ﴿يُخادِعُونَ اللَّهَ﴾ وقَوْلِهِمْ ﴿إنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ [البقرة: ١٤] وذَلِكَ زِيادَةٌ في الكُفْرِ، وكَذَلِكَ أخْبَرَ اللَّهُ تَعالى أنَّهم في الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النّارِ ومَعَ ما أخْبَرَ بِذَلِكَ مِن عِقابِهِمْ وما يَسْتَحِقُّونَهُ في الآخِرَةِ، خالَفَ بَيْنَ أحْكامِهِمْ في الدُّنْيا وأحْكامِ سائِرِ المُظْهِرِينَ لِلشِّرْكِ في رَفْعِ القَتْلِ عَنْهم بِإظْهارِهِمُ الإيمانَ وأجْراهم مَجْرى المُسْلِمِينَ في التَّوارُثِ وغَيْرِهِ.
ثَبَتَ أنَّ عُقُوباتِ الدُّنْيا لَيْسَتْ مَوْضُوعَةً عَلى مَقادِيرِ الأجْرامِ، وإنَّما هي عَلى ما يَعْلَمُ اللَّهُ مِنَ المَصالِحِ فِيها وعَلى هَذا أجْرى اللَّهُ تَعالى أحْكامَهُ فَأوْجَبَ رَجْمَ الزّانِي المُحْصَنِ ولَمْ يُزِلْ عَنْهُ الرَّجْمَ بِالتَّوْبَةِ ألا تَرى إلى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ في ماعِزٍ بَعْدَ رَجْمِهِ وفي الغامِدِيَّةِ بَعْدَ رَجْمِها: «لَقَدْ تابَ تَوْبَةً لَوْ تابَها صاحِبُ مُكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ» .
والكُفْرُ أعْظَمُ مِنَ الزِّنا، ولَوْ كَفَرَ رَجُلٌ ثُمَّ تابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ، وقالَ تَعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهم ما قَدْ سَلَفَ﴾ [الأنفال: ٣٨] وحَكَمَ في القاذِفِ بِالزِّنا بِجَلْدِ ثَمانِينَ ولَمْ يُوجِبْ عَلى القاذِفِ بِالكُفْرِ الحَدَّ، وهو أعْظَمُ مِنَ الزِّنا، وأوْجَبَ عَلى شارِبِ الخَمْرِ الحَدَّ، ولَمْ يُوجِبْ عَلى شارِبِ الدَّمِ وآكِلِ المَيْتَةِ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ عُقُوباتِ الدُّنْيا غَيْرُ مَوْضُوعَةِ عَلى مَقادِيرِ الأجْرامِ، ولِأنَّهُ لَمّا كانَ جائِزًا (p-٣٢)فِي العَقْلِ أنْ لا يُوجِبَ في الزِّنا والقَذْفِ والسَّرِقَةِ حَدًّا رَأْسًا ويَكِلَ أمْرَهم إلى عُقُوباتِ الآخِرَةِ، جازَ أنْ يُخالِفَ بَيْنَها فَيُوجِبَ في بَعْضِها أغْلَظَ مِمّا يُوجِبُ في بَعْضٍ، ولِذَلِكَ قالَ أصْحابُنا: لا يَجُوزُ إثْباتُ الحُدُودِ مِن طَرِيقِ المَقايِيسِ.
وإنَّما طَرِيقُ إثْباتِها التَّوْقِيفُ أوِ الِاتِّفاقُ، وما ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعالى مِن أمْرِ المُنافِقِينَ في هَذِهِ الآيَةِ وإقْرارِهِمْ مِن غَيْرِ أمْرٍ لَنا بِقِتالِهِمْ أصْلٌ فِيما ذَكَرْنا ولِأنَّ الحُدُودَ والعُقُوباتِ الَّتِي أوْجَبَها مِن فِعْلِ الإمامِ ومَن قامَ بِأُمُورِ الشَّرِيعَةِ جارِيَةٌ مَجْرى ما يَفْعَلُهُ هو تَعالى مِنَ الآلامِ عَلى وجْهِ العُقُوبَةِ فَلَمّا جازَ أنْ لا يُعاقِبَ المُنافِقَ في الدُّنْيا بِالآلامِ مِن جِهَةِ الأمْراضِ والأسْقامِ والفَقْرِ والفاقَةِ، بَلْ يَفْعَلُ بِهِ أضْدادَ ذَلِكَ، ويَكُونُ عِقابُهُ المُسْتَحَقُّ بِكُفْرِهِ ونِفاقِهِ مُؤَجَّلًا إلى الآخِرَةِ، جازَ أنْ لا يَتَعَبَّدَنا بِقَتْلِهِ في الدُّنْيا وتَعْجِيلِ عُقُوبَةِ كُفْرِهِ ونِفاقِهِ وقَدْ غَبَرَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلامُ بِمَكَّةَ بَعْدَ ما بَعَثَهُ اللَّهُ تَعالى ثَلاثَ عَشْرَةَ سَنَةً يَدْعُو المُشْرِكِينَ إلى اللَّهِ وتَصْدِيقِ رُسُلِهِ غَيْرَ مُتَعَبِّدٍ بِقِتالِهِمْ، بَلْ كانَ مَأْمُورًا بِدُعائِهِمْ في ذَلِكَ بِلْيَنِ القَوْلِ وألْطَفِهِ.
فَقالَ تَعالى: ﴿ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ والمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وجادِلْهم بِالَّتِي هي أحْسَنُ﴾ [النحل: ١٢٥] وقالَ: ﴿وإذا خاطَبَهُمُ الجاهِلُونَ قالُوا سَلامًا﴾ [الفرقان: ٦٣] وقالَ: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هي أحْسَنُ فَإذا الَّذِي بَيْنَكَ وبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأنَّهُ ولِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصلت: ٣٤] ﴿وما يُلَقّاها إلا الَّذِينَ صَبَرُوا وما يُلَقّاها إلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ [فصلت: ٣٥] في نَظائِرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ الَّتِي فِيها الأمْرُ بِالدُّعاءِ إلى الدِّينِ بِأحْسَنِ الوُجُوهِ.
ثُمَّ فَرَضَ القِتالَ بَعْدَ الهِجْرَةِ لِعِلْمِهِ تَعالى بِالمَصْلَحَةِ مِن كِلا الحالَيْنِ بِما تَعَبَّدَ بِهِ، فَجازَ مِن أصْلِ ما وصَفْنا أنْ يَكُونَ الأمْرُ بِالقَتْلِ والقِتالِ خاصًّا في بَعْضِ الكُفّارِ وهُمُ المُجاهِرُونَ بِالكُفْرِ دُونَ مِن يُظْهِرُ الإيمانَ ويُسِرُّ الكُفْرَ، وإنْ كانَ المُنافِقُ أعْظَمَ جُرْمًا مِن غَيْرِهِ.
{"ayah":"یُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَمَا یَخۡدَعُونَ إِلَّاۤ أَنفُسَهُمۡ وَمَا یَشۡعُرُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق