الباحث القرآني

﴿يُخادِعُونَ اللَّهَ والَّذِينَ آمَنُوا وما يَخْدَعُونَ إلا أنْفُسَهم وما يَشْعُرُونَ﴾ أصْلُ الخَدْعِ بِفَتْحِ الخاءِ، وكَسْرِها الإخْفاءُ والإيهامُ وقِيلَ: بِالكَسْرِ اسْمُ مَصْدَرٍ، ومِنهُ المَخْدَعُ لِلْخِزانَةِ والأخْدَعانِ لِعِرْقَيْنِ خَفِيَّيْنِ في مَوْضِعِ المَحْجَمَةِ، وخَدَعَ الضَّبُّ إذا تَوارى واخْتَفى، ويُسْتَعْمَلُ في إظْهارِ ما يُوهِمُ السَّلامَةَ، وإبْطالِ ما يَقْتَضِي الإضْرارَ بِالغَيْرِ، أوِ التَّخَلُّصِ مِنهُ، كَما قالَهُ الإمامُ، وقالَ السَّيِّدُ: هو أنْ يُوهِمَ صاحِبَهُ خِلافَ ما يُرِيدُ بِهِ مِنَ المَكْرُوهِ، وتُصِيبَهُ بِهِ، وفي الكَشْفِ التَّحْقِيقُ أنَّ الخَدْعَ صِفَةٌ فِعْلِيَّةٌ قائِمَةٌ بِالنَّفْسِ عَقِيبَ اسْتِحْضارِ مُقَدِّماتٍ في الذِّهْنِ مُتَوَصِّلٍ بِها تَوَصُّلًا (p-146)يُسْتَهْجَنُ شَرْعًا أوْ عَقْلًا أوْ عادَةً إلى اسْتِجْرارِ مَنفَعَةٍ مِن نَيْلِ مَعْرُوفٍ لِنَفْسِهِ أوْ إصابَةِ مَكْرُوهٍ لِغَيْرِهِ، مَعَ خَفائِهِما عَلى المُوَجَّهِ نَحْوَهُ القَصْدُ، بِحَيْثُ لا يَتَأتّى ذَلِكَ النَّيْلُ أوِ الإصابَةُ بِدُونِهِ، أوْ لَوْ تَأتّى لَزِمَ فَوْتُ غَرَضٍ آخَرَ حَسَبَ تَصَوُّرِهِ، وعَلَيْهِ يَكُونُ: (الحَرْبُ خُدْعَةٌ) مَجازًا، ولا تَخْفى غَرابَتُهُ، والمُخادَعَةُ مُفاعَلَةٌ، والمَعْرُوفُ فِيها أنْ يَفْعَلَ كُلُّ أحَدٍ بِالآخَرِ مِثْلَ ما يَفْعَلُهُ بِهِ، فَيَقْتَضِي هُنا أنْ يَصْدُرَ مِن كُلِّ واحِدٍ مِنَ اللَّهِ ومِنَ المُؤْمِنِينَ، ومِنَ المُنافِقِينَ فِعْلٌ يَتَعَلَّقُ بِالآخَرِ، وظاهِرُ هَذا مُشْكِلٌ، لِأنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ لا يَخْدَعُ، ولا يُخْدَعُ، أمّا عَلى التَّحْقِيقِ، فَلِأنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ كُلِّ نَيْلٍ وإصابَةٍ واسْتِجْرارِ مَنفَعَةٍ لِنَفْسِهِ، وهو أيْضًا مُتَعالٍ عَلى التَّعَمُّلِ، واسْتِحْضارِ المُقَدِّماتِ، ولِأنَّهُ جَلَّ عَنْ أنْ يَحُومَ حَوْلَ سُرادِقاتِ جَلالِهِ نَقْصُ الِانْفِعالِ وخَفاءٌ مَعْلُومٌ ما عَلَيْهِ، وأمّا عَلى ما ذَكَرَهُ السَّيِّدُ فَلِأنَّهُ جَلَّ شَأْنُهُ أجَلُّ مِن أنْ تَخْفى عَلَيْهِ خافِيَةٌ أوْ يُصِيبَهُ مَكْرُوهٌ، فَكَيْفَ يُمْكِنُ لِلْمُنافِقِينَ أنْ يَخْدَعُوهُ، ويُوقِعُوا في عِلْمِهِ خِلافَ ما يُرِيدُونَ مِنَ المَكْرُوهِ، ويُصِيبُونَهُ بِهِ مَعَ أنَّهم لِكَوْنِهِمْ مِن أهْلِ الكِتابِ عالِمُونَ بِاسْتِحالَةِ ذَلِكَ، والعاقِلُ لا يَقْصِدُ ما تَحَقَّقَ لَدَيْهِ امْتِناعُهُ، وأمّا أنَّهُ لا يُخْدَعُ، فَلِأنَّهُ وإنْ جازَ عِنْدَنا أنْ يُوقَعَ سُبْحانَهُ في أوْهامِ المُنافِقِينَ خِلافُ ما يُرِيدُهُ مِنَ المَكارِهِ لِيَغْتَرُّوا، ثُمَّ يُصِيبُهم بِهِ، لَكِنْ يَمْتَنِعُ أنْ يُنْسَبَ إلَيْهِ لِما يُوهِمُهُ مِن أنَّهُ إنَّما يَكُونُ عَنْ عَجْزٍ عَنِ المُكافَحَةِ، وإظْهارِ المَكْتُومِ، لِأنَّهُ المَعْهُودُ مِنهُ في الإطْلاقِ، كَما في الِانْتِصافِ، ولِذا زِيدَ في تَفْسِيرِهِ مَعَ اسْتِشْعارِ خَوْفٍ، أوِ اسْتِحْياءٍ مِنَ المُجاهَرَةِ، وأمّا المُؤْمِنُونَ، وإنْ جازَ أنْ يَخْدَعُوا إلّا أنَّهُ يَبْعُدُ أنْ يَقْصِدُوا خُدَعَ المُنافِقِينَ، لِأنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحْسَنٍ، بَلْ مَذْمُومٌ مُسْتَهْجَنٌ، وهي أشْبَهُ شَيْءٍ بِالنِّفاقِ، وهم في غِنًى عَنْهُ، عَلى أنَّ الِانْخِداعَ المُتَمَدَّحَ بِهِ، هو التَّخادُعُ بِمَعْنى إظْهارِ التَّأثُّرِ دُونَهُ كَرَمًا كَما يُشِيرُ إلَيْهِ قَوْلُهُ ﷺ: «(المُؤْمِنُ غِرٌّ كَرِيمٌ)،» لا الِانْخِداعُ الدّالُّ عَلى البَلَهِ، ولِذا قالَتْ عائِشَةُ في عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما: كانَ أعْقَلَ مِن أنْ يَخْدَعَ، وأفْضَلَ مِن أنْ يُخْدَعَ، ويُجابَ عَنْ ذَلِكَ بِأنَّ صُورَةَ صَنِيعِهِمْ مَعَ اللَّهِ تَعالى حَيْثُ يَتَظاهَرُونَ بِالإيمانِ وهم كافِرُونَ، وصُورَةُ صَنِيعِ اللَّهِ تَعالى مَعَهم حَيْثُ أمَرَ بِإجْراءِ أحْكامِ المُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ، وهم عِنْدَهُ أهْلُ الدَّرْكِ الأسْفَلِ، وصُورَةُ صَنِيعِ المُؤْمِنِينَ مَعَهم حَيْثُ امْتَثَلُوا أمْرَ اللَّهِ تَعالى فِيهِمْ، فَأجْرَوْا ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، تُشْبِهُ صُورَةَ المُخادَعَةِ، فَفي الكَلامِ إمّا اسْتِعارَةٌ تَبَعِيَّةٌ في يُخادِعُونَ وحْدَهُ، أوْ تَمْثِيلِيَّةٌ في الجُمْلَةِ، وحَيْثُ إنَّ ابْتِداءَ الفِعْلِ في بابِ المُفاعَلَةِ مِن جانِبِ الفاعِلِ صَرِيحًا، وكَوْنَ المَفْعُولِ آتِيًا بِمِثْلِ فِعْلِهِ مَدْلُولٌ عَلَيْهِ مِن عَرْضِ الكَلامِ حَسُنَ إيرادُ ذَلِكَ في مَعْرِضِ الذَّمِّ لَمّا أُسْنِدَ إلَيْهِ الفِعْلُ صَرِيحًا، وكَوْنُ مُقْتَضى المَقامِ إيرادَ حالِهِمْ خاصَّةً كَما قالَهُ مَوْلانا مُفْتِي الدِّيارِ الرُّومِيَّةِ مِمّا لا يَخْدِشُ هَذا الوَجْهَ الحَسَنَ، أوْ يُجابُ كَما قِيلَ: بِأنَّ المُرادَ مُخادَعَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ سَلَّمَ، وأُوقِعَ الفِعْلُ عَلى غَيْرِ ما يُوقَعُ عَلَيْهِ لِلْمُلابَسَةِ بَيْنَهُما، وهي الخِلافَةُ، فَهُناكَ مَجازٌ عَقْلِيٌّ في النِّسْبَةِ الإيقاعِيَّةِ، وهَذا ظاهِرٌ عَلى رَأْيِ مَن يَكْتَفِي بِالمُلابَسَةِ بَيْنَ ما هو لَهُ، وغَيْرِ ما هو لَهُ، وأمّا عَلى رَأْيِ مَن يَعْتَبِرُ مُلابَسَةَ الفِعْلِ بِغَيْرِ ما هو لَهُ بِأنْ يَكُونَ مِن مَعْمُولاتِهِ فَلا، عَلى أنَّهُ يَبْقى مِنَ الإشْكالِ أنْ لا خَدْعَ مِنَ الرَّسُولِ والمُؤْمِنِينَ، ولا مَجالَ لِأنْ يَكُونَ الخَدْعُ مِن أحَدِ الجانِبَيْنِ حَقِيقَةً، ومِنَ الآخَرِ مَجازًا، لِاتِّحادِ اللَّفْظِ، وكَأنَّ المُجِيبَ إمّا قائِلٌ بِجَوازِ الجَمْعِ بَيْنَ الحَقِيقَةِ والمَجازِ، أوْ غَيْرُ قائِلٍ بِامْتِناعِ صُدُورِ الخَدْعِ مِنَ الرَّسُولِ والمُؤْمِنِينَ حَتّى يَتَأتّى لَهم ما يُرِيدُونَ مِن إعْلاءِ الدِّينِ، ومَصالِحِ المُسْلِمِينَ، وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ وأبُو حَيْوَةَ (يَخْدَعُونَ)، والجَوابُ عَمّا يَلْزَمُ هو الجَوابُ فِيما لَزِمَ، وقَدْ تَأتّى (p-147)فاعَلَ بِمَعْنى فَعَلَ، كَعافانِي اللَّهُ تَعالى وعاقَبْتُ اللِّصَّ فَلا بُعْدَ في حَمْلِ قِراءَةِ الجُمْهُورِ عَلى ذَلِكَ، ويَكُونُ إيثارُ صِيغَةِ المُفاعَلَةِ لِإفادَةِ المُبالَغَةِ في الكَيْفِيَّةِ، فَإنَّ الفِعْلَ مَتى غُولِبَ فِيهِ بُولِغَ بِهِ، أوْ في الكَمِّيَّةِ، كَما في المُمارَسَةِ والمُزاوَلَةِ، فَإنَّهم كانُوا مُداوِمِينَ عَلى الخَدْعِ (ويُخادِعُونَ) إمّا بَيانٌ لِـ(يَقُولُ) لا عَلى وجْهِ العَطْفِ إذْ لا يَجْرِي عَطْفُ البَيانِ في الجُمَلِ عِنْدَ النُّحاةِ، وإنْ أوْهَمَهُ كَلامُ أهْلِ المَعانِي، وإمّا اسْتِئْنافٌ بَيانِيٌّ، كَأنَّهُ قِيلَ: لِمَ يَدَّعُونَ الإيمانَ كاذِبِينَ وماذا نَفَعَهُمْ؟ فَقِيلَ: يُخادِعُونَ إلَخْ، وهَذا في المَآلِ كالأوَّلِ، ولَعَلَّ الأوَّلَ أوْلى، وجَوَّزَ أبُو حَيّانَ كَوْنَ هَذِهِ الجُمْلَةِ بَدَلًا مِن صِلَةِ (مَن) بَدَلَ اشْتِمالٍ أوْ حالًا مِنَ الضَّمِيرِ المُسْتَكِنِّ في (يَقُولُ)، أيْ مُخادِعِينَ، وأبُو البَقاءِ: أنْ يَكُونَ حالًا مِنَ الضَّمِيرِ المُسْتَتِرِ في (مُؤْمِنِينَ)، ولَعَلَّ النَّفْيَ مُتَوَجِّهٌ لِلْمُقارَنَةِ، لا لِنَفْسِ الحالِ، كَما فِي: ما جاءَنِي زَيْدٌ، وقَدْ طَلَعَ الفَجْرُ، ﴿وما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهم وأنْتَ فِيهِمْ وما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهم وهم يَسْتَغْفِرُونَ﴾ عَلى أنَّهُ قَدْ تُجْعَلُ الحالُ ونَحْوُها في مِثْلِ ذَلِكَ قَيْدًا لِلنَّفْيِ لا لِلْمَنفِيِّ كَما قَرَّرُوهُ في لَمْ أُبالِغْ في اخْتِصارِهِ تَقْرِيبًا، وجَعْلُ الجُمْلَةِ صِفَةً لِلْمُؤْمِنِينَ مَمْنُوعٌ لِمَكانِ النَّفْيِ والقَيْدِ، ولَيْسَتْ حالُ الصِّفَةِ كَصِفَةِ الحالِ، فَلا عَجَبَ في تَجْوِيزِ إحْداهُما، ومَنعِ الأُخْرى، كَما تَوَهَّمَهُ أبُو حَيّانَ في بَحْرِهِ، نَعَمِ التَّعَجُّبُ مِن كَوْنِ الجُمْلَةِ بَيانًا لِلتَّعَجُّبِ مِن كَوْنِهِمْ مِنَ النّاسِ كَما لا يَخْفى، ثُمَّ إنَّ الغَرَضَ مِن مُخادَعَةِ هَؤُلاءِ لِمَن خادَعُوهُ كالغَرَضِ مِن نِفاقِهِمْ طِبْقَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ، فَقَدْ قَصَدُوا تَعْظِيمَهم عِنْدَ المُؤْمِنِينَ، والتَّطَلُّعَ عَلى أسْرارِهِمْ لِيُفْشُوها، ورَفْعَ القَتْلِ عَنْهُمْ، أوْ ضَرْبَ الجِزْيَةِ عَلَيْهِمْ، والفَوْزَ بِسَهْمٍ مِنَ الغَنائِمِ ونَحْوَ ذَلِكَ، وثَمَرَةُ مُخادَعَةِ مَن خادَعُوهُ إيّاهم إنْ كانَتْ حِكَمًا إلَهِيَّةً ومَصالِحَ دِينِيَّةً رُبَّما يُؤَدِّي تَرْكُها إلى مَفاسِدَ لا تُحْصى، ومَحاذِيرَ لا تُسْتَقْصى، وقَرَأ الحَرَمِيّانِ وأبُو عَمْرٍو (وما يُخادِعُونَ) وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ (وما يَخْدَعُونَ)، وقَرَأ الجارُودُ وأبُو طالُوتَ (وما يُخْدَعُونَ) بِضَمِّ الياءِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وقَرَأ بَعْضُهُمْ: (وما يُخادَعُونَ) بِفَتْحِ الدّالِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ أيْضًا، وقَرَأ قَتادَةُ والعِجْلِيُّ: (وما يُخَدِّعُونَ) مِن خَدَّعَ، مُضاعَفًا مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ، وبَعْضُهم بِفَتْحِ الياءِ، والخاءِ وتَشْدِيدِ الدّالِ المَكْسُورَةِ، وما عَدا القِراءَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ شاذَّةٌ وعَلَيْهِما نُصِبَ (أنْفُسَهُمْ) عَلى المَفْعُولِيَّةِ الصِّرْفَةِ، أوْ مَعَ الفاعِلِيَّةِ مَعْنًى، وأمّا عَلى قِراءَةِ بِناءِ الفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ، فَهو إمّا عَلى إسْقاطِ الجارِّ أيْ في أنْفُسِهِمْ، أوْ عَنْ أنْفُسِهِمْ، أوْ عَلى التَّمْيِيزِ، عَلى رَأْيِ الكُوفِيِّينَ، أوِ التَّشْبِيهِ بِالمَفْعُولِ عَلى زَعْمِ بَعْضِهِمْ، أوْ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ بِتَضْمِينِ الفِعْلِ يَتَنَقَّصُونَ مَثَلًا، ولا يُشْكِلُ عَلى قِراءَةِ (يُخادِعُونَ) أنَّهُ كَيْفَ يَصِحُّ حَصْرُ الخِداعِ عَلى أنْفُسِهِمْ، وذَلِكَ يَقْتَضِي نَفْيَهُ عَنِ اللَّهِ تَعالى والمُؤْمِنِينَ، وقَدْ أُثْبِتَ أوَّلًا، وإنَّ المُخادَعَةَ إنَّما تَكُونُ في الظّاهِرِ بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَكَيْفَ يُخادِعُ أحَدٌ نَفْسَهُ، لِأنّا نَقُولُ: المُرادُ أنَّ دائِرَةَ الخِداعِ راجِعَةٌ إلَيْهِمْ، وضَرَرَها عائِدٌ عَلَيْهِمْ، فالخِداعُ هُنا هو الخِداعُ الأوَّلُ، والحَصْرُ بِاعْتِبارِ أنَّ ضَرَرَهُ عائِدٌ إلى أنْفُسِهِمْ، فَتَكُونُ العِبارَةُ الدّالَّةُ عَلَيْهِ مَجازًا أوْ كِنايَةً عَنِ انْحِصارِ ضَرَرِها فِيهِمْ، أوْ نَجْعَلُ لَفْظَ الخِداعِ مَجازًا مُرْسَلًا عَنْ ضَرَرِهِ في المَرْتَبَةِ الثّانِيَةِ، وكَوْنُهُ مَجازًا بِاعْتِبارِ الأوَّلِ كَما قالَهُ السَّعْدُ غَيْرُ ظاهِرٍ، وقَدْ يُقالُ: إنَّهم خَدَعُوا أنْفُسَهم لَمّا غَرُّوها بِذَلِكَ، وخَدَعَتْهم حَيْثُ حَدَّثَتْهم بِالأمانِي الخالِيَةِ، فالمُرادُ بِالخِداعِ غَيْرُ الأوَّلِ، والمُخادِعُ والمُخادَعُ مُتَغايِرانِ بِالِاعْتِبارِ، فالخِداعُ عَلى هَذا مَجازٌ عَنْ إيهامِ الباطِلِ، وتَصْوِيرِهِ بِصُورَةِ الحَقِّ، وحَمْلُهُ عَلى حَقِيقَتِهِ بَعِيدٌ، وكَوْنُ ذَلِكَ مِنَ التَّجْرِيدِ كَقَوْلِهِ: ؎لا خَيْلَ عِنْدَكَ تُهْدِيها ولا مالٌ فَلْيُسْعِدِ النُّطْقُ إنْ لَمْ يُسْعِدِ الحالُ لا يَرْتَضِيهِ الذَّوْقُ السَّلِيمُ، كالقَوْلِ بِأنَّ الكَلامَ مِن بابِ المُبالَغَةِ في امْتِناعِ خِداعِهِمْ لِلَّهِ تَعالى ولِلْمُؤْمِنِينَ، لِأنَّهُ كَما لا يَخْفى خِداعُ المُخادِعِ لِنَفْسِهِ، فَيَمْتَنِعُ خِداعُهُ لَها، يَمْتَنِعُ خِداعُ اللَّهِ تَعالى لِعِلْمِهِ، والمُؤْمِنُونَ لِاطِّلاعِهِمْ بِإعْلامِهِ تَعالى، أوِ الكِنايَةُ عَنْ أنَّ مُخالَفَتَهم ومُعاداتَهم لِلَّهِ تَعالى وأحْبابِهِ مُعامَلَةٌ مَعَ أنْفُسِهِمْ، لِأنَّ اللَّهَ تَعالى والمُؤْمِنِينَ يَنْفَعُونَهم كَأنْفُسِهِمْ، (p-148)وبَعْضُهم يَجْعَلُ التَّعْبِيرَ هُنا بِالمُخادَعَةِ لِلْمُشاكَلَةِ، مَعَ كَوْنِ كُلٍّ مِنَ المُشاكِلِ والمُشاكَلِ مَجازًا، وكُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ، (والنَّفْسُ) حَقِيقَةُ الشَّيْءِ، وعَيْنُهُ، ولا اخْتِصاصَ لَها بِالأجْسامِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ ﴿ويُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾ وتُطْلَقُ عَلى الجَوْهَرِ البُخارِيِّ اللَّطِيفِ الحامِلِ لِقُوَّةِ الحَياةِ والحِسِّ والحَرَكَةِ الإرادِيَّةِ، وسَمّاها الحَكِيمُ الرُّوحَ الحَيَوانِيَّةَ، وأوَّلُ عُضْوٍ تَحُلُّهُ القَلْبُ، إذْ هو أوَّلُ ما يُخْلَقُ عَلى المَشْهُورِ، ومِنهُ تَفِيضُ إلى الدِّماغِ، والكَبِدِ، وسائِرِ الأعْضاءِ، ولا يَلْزَمُ مِن ذَلِكَ أنْ يَكُونَ مَنبَتَ الأعْصابِ، إذْ مِنَ الجائِزِ أنْ يَكُونَ العُضْوُ المُسْتَفِيدُ مُنْبِتًا لِآلَةِ الِاسْتِفادَةِ، وقِيلَ: الدِّماغُ، لِأنَّهُ المَنبَتُ ولَمْ تَقُمْ دِلالَةٌ قَطْعِيَّةٌ عَلى ذَلِكَ، كَما في شَرْحِ القانُونِ لِلْإمامِ الرّازِيِّ، وكَثِيرًا ما تُطْلَقُ عَلى الجَوْهَرِ المُجَرَّدِ المُتَعَلِّقِ بِالبَدَنِ تَعَلُّقَ التَّدْبِيرِ والتَّصَرُّفِ، وهي الرُّوحُ الأمْرِيَّةُ، المُرادَّةُ فِيمَن عَرَفَ نَفْسَهُ فَقَدْ عَرَفَ رَبَّهُ، وتُسَمّى النَّفْسَ النّاطِقَةَ وبِتَنَوُّعِ صِفاتِها تَخْتَلِفُ أسْماؤُها، وأحْظى الأعْضاءِ بِإشْراقِ أنْوارِها المَعْنَوِيَّةِ القَلْبُ أيْضًا، ولِذَلِكَ الشَّرَفِ قَدْ يُسَمّى نَفْسًا، وبَعْضُهم يُسَمِّي الرَّأْيَ بِها، والظّاهِرُ في الآيَةِ عَلى ما قِيلَ: المَعْنى الأوَّلُ، إذِ المَقْصُودُ بَيانُ أنَّ ضَرَرَ مُخادَعَتِهِمْ راجِعٌ إلَيْهِمْ، ولا يَتَخَطّاهم إلى غَيْرِهِمْ، ولَيْسَ بِالمُتَعَيِّنِ كَما لا يَخْفى، وتُطْلَقُ عَلى مَعانٍ أُخَرَ سَتَسْمَعُها مَعَ تَحْقِيقِ هَذا المَبْحَثِ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى. وجُمْلَةُ ﴿وما يَشْعُرُونَ﴾ مُسْتَأْنَفَةٌ أوْ مَعْطُوفَةٌ عَلى ﴿وما يَخْدَعُونَ إلا أنْفُسَهُمْ﴾ ومَفْعُولُ (يَشْعُرُونَ) مَحْذُوفٌ أيْ: وما يَشْعُرُونَ أنَّهم يَخْدَعُونَها، أوْ أنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وما يُعْلِنُونَ، أوْ إطْلاعَ اللَّهِ تَعالى نَبِيَّهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَلى خِداعِهِمْ وكَذِبِهِمْ، كَما رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، أوْ هَلاكَ أنْفُسِهِمْ، وإيقاعَها في الشَّقاءِ الأبَدِيِّ بِكُفْرِهِمْ ونِفاقِهِمْ، كَما رُوِيَ عَنْ زَيْدٍ أوِ المُرادُ: لا يَشْعُرُونَ بِشَيْءٍ، ويَحْتَمِلُ كَما في البَحْرِ أنْ يَكُونَ ﴿وما يَشْعُرُونَ﴾ جُمْلَةٌ حالِيَّةٌ أيْ: وما يَخْدَعُونَ إلّا أنْفُسَهم غَيْرَ شاعِرِينَ بِذَلِكَ، ولَوْ شَعَرُوا لَما خادَعُوا، والشُّعُورُ الإدْراكُ بِالحَواسِّ الخَمْسِ الظّاهِرَةِ، ويَكُونُ بِمَعْنى العِلْمِ قالَ الرّاغِبُ: شَعَرْتُ كَذا، يُسْتَعْمَلُ بِوَجْهَيْنِ، بِأنْ يُؤْخَذَ مِن مَسِّ الشَّعْرِ ويُعَبَّرَ عَنْهُ عَنِ اللَّمْسِ، ومِنهُ اسْتُعْمِلَ المَشاعِرُ لِلْحَواسِّ، فَإذا قِيلَ: فُلانٌ لا يَشْعُرُ، فَذَلِكَ أبْلَغُ في الذَّمِّ مِن أنَّهُ لا يَسْمَعُ، ولا يُبْصِرُ، لِأنَّ حِسَّ اللَّمْسِ أعَمُّ مِن حِسِّ السَّمْعِ والبَصَرِ، وتارَةً يُقالُ: شَعَرْتُ كَذا، أيْ أدْرَكْتُ شَيْئًا دَقِيقًا مِن قَوْلِهِمْ: شَعَرْتُهُ أيْ أصَبْتُ شَعْرَهُ نَحْوَ أذَنْتُهُ، ورَأسْتُهُ، وكانَ ذَلِكَ إشارَةً إلى قَوْلِهِمْ: فُلانٌ يَشُقُّ الشَّعْرَ، إذا دَقَّ النَّظَرُ، ومِنهُ أُخِذَ الشّاعِرُ لِإدْراكِ دَقائِقِ المَعانِي انْتَهى، والآيَةُ تَحْتَمِلُ نَفْيَ الشُّعُورِ بِمَعْنى العِلْمِ، فَمَعْنى ﴿لا يَشْعُرُونَ﴾ لا يَعْلَمُونَ، وكَثِيرًا ما ورَدَ بِهَذا المَعْنى، وفي اللَّحاقِ نَوْعُ إشارَةٍ إلَيْهِ، ويُحْتَمَلُ نَفْيُهُ بِمَعْنى الإدْراكِ بِالحَواسِّ، فَيُجْعَلُ مُتَعَلِّقُ الفِعْلِ كالمَحْسُوسِ الَّذِي لا يَخْفى إلّا عَلى فاقِدِ الحَواسِّ، ونَفْيُ ذَلِكَ نِهايَةُ الذَّمِّ، لِأنَّ مَن لا يَشْعُرُ بِالبَدِيهِيِّ المَحْسُوسِ مَرْتَبَتُهُ أدْنى مِن مَرْتَبَةِ البَهائِمِ، فَهم كالأنْعامِ بَلْ هم أضَلُّ، ولَعَلَّ هَذا أوْلى لِما فِيهِ مِنَ التَّهَكُّمِ بِهِمْ، مَعَ الدِّلالَةِ عَلى نَفْيِ العِلْمِ بِالطَّرِيقِ الأوْلى، وهو أيْضًا أنْسَبُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وعَلى سَمْعِهِمْ وعَلى أبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ﴾ كَما لا يَخْفى
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب