الباحث القرآني

وقال تعالى: ﴿إنَّ الُمْنافِقِينَ يَخادِعُونَ اللهَ وهو خادِعُهٌمْ﴾ [النساء: ١٤٢]. وقال في أهل العهد: ﴿وَإنْ يُرِيدُوا أنْ يَخْدَعُوكَ فَإنَّ حَسْبَكَ اللهُ﴾ [الأنفال: ٦٢]. فأخبر سبحانه وتعالى أن هؤلاء المخادعين مخدوعون، وهم لا يشعرون أن الله تعالى خادع من خدعه، وأنه يكفى المخدوع شر من خدعه. والمخادعة: هى الاحتيال والمراوغة بإظهار الخير مع إبطان خلافه، ليحصل مقصود المخادع. وهذا موافق لاشتقاق اللفظ في اللغة. فإنهم يقولون: طريق خيدع، إذا كان مخالفًا للقصد لا يشعر به ولا يفطن له، ويقال للسراب الخيدع، لأنه يغر من يراه، وضب خدَعِ، أي مراوغ. كما قالوا: أخدع من ضب، ومنه: "الحرب خدعة" وسوق خادعة، أي متلونة، وأصله: الإخفاء والستر. ومنه سميت الخزانة مخدعًا. فلما كان القائل "آمنت" مظهرًا لهذه الكلمة، غير مريد حقيقتها المرعية المطلوبة شرعًا، بل مريد لحكمها وثمرتها فقط مخادعًا، كان المتكلم بلفظ "بعت" و "اشتريت" و "طلقت" و "نكحت" و"خالعت" و "آجرت"، و "ساقيت" و "أو صيت" غير مريد لحقائقها الشرعية المطلوبة منها شرعًا، بل مريد لأمور أخرى غير ما شرعت له، أو ضد ما شرعت له مخادعًا. ذاك مخادع في أصل الإيمان، وهذا مخادع في أعماله وشرائعه. قال شيخنا: وهذا ضرب من النفاق في آيات الله تعالى وحدوده، كما أن الأول نفاق في أصل الدين. يؤيد ذلك: ما رواه سعيد بن منصور عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما "أنه جاءه رجل فقال: إن عمى طلق امرأته ثلاثا، أيحلها له رجل؟ فقال: من يخادع الله يخدعه". وعن أنس بن مالك: أنه سئل عن العينة، يعني بيع الحريرة؟ فقال: إن الله تعالى لا يخدع، هذا ما حرم الله تعالى ورسوله. رواه أبو جعفر محمد بن سليمان الحافظ المعروف بمُطَين في كتاب البيوع له. وعن ابن عباس: أنه سئل عن العِينة، يعني بيع الحريرة، فقال: إن الله لا يخدع، هذا مما حرم الله تعالى ورسوله، رواه الحافظ أبو محمد النخشى. فسمى الصحابة من أظهر عقد التبايع ومقصود به الربا خداعًا لله، وهم المرجوع إليهم في هذا الشأن والمعوّل عليهم في فهم القرآن. وقد تقدم عن عثمان، وعبد الله بن عمر، وغيرهما أنهما قالا في المطلقة ثلاثا: لا يحلها إلا نكاح رغبة، لا نكاح دِلسة. قال أهل اللغة: المدالسة: المخادعة. وقال أيوب السختياني في المحتالين: يخادعون الله كما يخادعون الصبيان، فلو أتوا الأمر عيانًا كان أهون علىّ. وقال شريك بن عبد الله القاضى في كتاب الحيل: هو كتاب المخادعة. وكذلك المعاهدون إذا أظهروا للرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم أنهم يريدون سلمه، وهم يقصدون بذلك المكر به من حيث لا يشعر. فيظهرون له أمانا ويبطنون له خلافه. كما أن المحلل والمرابى يظهران النكاح والبيع المقصودين، ومقصود هذا الطلاق بعد استفراش المرأة، ومقصود الآخر ما تواطآ عليه قبل إظهار العقد، من بيع الألف الحالة بالألف والمائتين إلى أجل، فمخالفة ما يدل عليه العقد شرعًا أو عرفًا خديعة. قال: وتلخيص ذلك أن مخادعة الله تعالى حرام، والحيل مخادعة لله. بيان الأول: أن الله تعالى ذم المنافقين بالمخادعة وأخبر أنه خادعهم، وخدعه للعبد عقوبة تستلزم فعله للمحرم. وبيان الثاني: أن ابن عباس وأنسًا وغيرهما من الصحابة والتابعين أفتوا أن التحليل ونحوه من الحيل مخادعة لله تعالى، وهم أعلم بكتاب الله تعالى. الثاني: أن المخادعة إظهار شيء من الخير وإبطان خلافه كما تقدم. الثالث: أن المنافق لما أظهر الإسلام، ومراده غيره، سمى مخادعا لله تعالى، وكذلك المرابى. فإن النفاق والربا من باب واحد. فإذا كان هذا الذي أظهر قولًا غير معتقد ولا مريد لما يفهم منه، وهذا الذي أظهر فعلًا غير معتقد ولا مريد لما شرع له مخادعًا. فالمحتال لا يخرج عن أحد القسمين: إما إظهار فعل لغير مقصوده الذي شرع له، أو إظهار قول لغير مقصوده الذي شرع له. وإذا كان مشاركًا لهما في المعنى الذي سميا به مخادعين وجب أن يشركهما في اسم الخداع، وعلم أن الخداع اسم لعموم الحيل لا لخصوص هذا النفاق. * (فائدة) لفظ الخداع، فإنه ينقسم إلى محمود ومذموم، فإن كان بحق فهو محمود، وإن كان بباطل فهو مذموم. ومن النوع المحمود: قوله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم "الحرب خدعة" وقوله في الحديث الذي رواه الترمذى وغيره: "كُلُّ الكَذِبِ يُكْتَبُ عَلى ابْنِ آدَمَ، إلا ثَلاثَ خِصالٍ: رَجُل كَذَبَ عَلى امْرَأتِهِ لِيُرْضِيَها، ورَجُلٌ كَذَبَ بَيْنَ اثْنَيْنِ لِيُصْلِجَ بَيْنَهُما، ورَجُلٌ كَذَبَ في خِدْعَةِ حَرْبٍ. ومن النوع المذموم قوله في حديث عياض بن جمار، الذي رواه مسلم في صحيحه: "أهْلُ النّارِ خَمْسَةٌ، ذَكَرَ مِنهم رَجُلًا لا يُصْبِحُ ولا يُمْسِي إلا وهْوَ يَخادِعُكَ عَنْ أهْلِكَ ومِالِكَ". وقوله تعالى: ﴿يُخادِعُونَ اللهَ والَّذِينَ آمَنُوا وما يَخْدَعُونَ إلا أنْفُسَهم وما يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: ٩] وقوله تعالى: ﴿وَإنْ يُرِيدُوا أنْ يَخْدَعُوكَ فَإنَّ حَسْبَكَ اللهُ﴾ [الأنفال: ٦٢]. ومن النوع المحمود: خدع كعب بن الأشراف وأبي رافع، عَدُوَّي رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم، حتى قتلا، وقتل خالد بن سفيان الهذلى. ومن أحسن ذلك: خديعة معبد بن أبي معبد الخزاعي لأبي سفيان وعسكر المشركين حين هموا بالرجوع ليستأصلوا المسلمين، وردهم من فورهم. ومن ذلك: خديعة نعيم بن مسعود الأشجعى ليهود بنى قريظة، ولكفار قريش والأحزاب، حتى ألقى الخلْف بينهم، وكان سبب تفرقهم ورجوعهم. ونظائر ذلك كثيرة.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب