الباحث القرآني

افتتح سبحانه بذكر الذين أخلصوا دينهم للَّه وواطأت فيه قلوبهم ألسنتهم ووافق سرهم علنهم وفعلهم قولهم. ثم ثنى بالذين محضوا الكفر ظاهراً وباطناً قلوبا وألسنة. ثم ثلث بالذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم وأبطنوا خلاف ما أظهروا وهم الذين قال فيهم: (مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ، لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ) وسماهم المنافقين، وكانوا أخبث الكفرة وأبغضهم إليه وأمقتهم عنده لأنهم خلطوا بالكفر تمويهاً وتدليساً، وبالشرك استهزاء وخداعا. ولذلك أنزل فيهم (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) ووصف حال الذين كفروا في آيتين، وحال الذين نافقوا في ثلاث عشرة آية، نعى عليهم فيها خبثهم ومكرهم، وفضحهم وسفههم، واستجهلهم واستهزأ بهم، وتهكم بفعلهم، وسجل بطغيانهم، وعمههم ودعاهم صما بكما عمياً، وضرب لهم الأمثال الشنيعة. وقصة المنافقين عن آخرها معطوفة على قصة الذين كفروا كما تعطف الجملة على الجملة. وأصل (ناس) أناس، حذفت همزته تخفيفاً كما قيل: لوقة، في ألوقة [[قوله «كما قيل لوقة في ألوقة» اللوقة والألوقة: الزبدة. أفاده الصحاح (ع)]] . وحذفها مع لام التعريف كاللازم لا يكاد يقال الأناس. ويشهد لأصله إنسان وأناس وأناسى وإنس. وسموا لظهورهم وأنهم يؤنسون أى يبصرون، كما سمى الجنّ لاجتنانهم. ولذلك سموا بشراً. ووزن ناس فعال لأن الزنة على الأصول. ألا تراك تقول في وزن «قه» افعل، وليس معك إلا العين وحدها؟ وهو من أسماء الجمع كرخال [[قوله «من أسماء الجمع كرخال» الرخل- بالكسر-: الأنثى من ولد الضأن، والجمع رخال بالكسر، وبالضم كذا في الصحاح. (ع)]] . وأما نويس فمن المصغر الآتي على خلاف مكبره كأنيسيان ورويجل. ولام التعريف فيه للجنس. ويجوز أن تكون للعهد، والإشارة إلى الذين كفروا المارّ ذكرهم كأنه قيل: ومن هؤلاء من يقول. وهم عبد اللَّه بن أبىّ وأصحابه ومن كان في حالهم من أهل التصميم على النفاق. ونظير موقعه موقع القوم في قولك: نزلت ببني فلان فلم يقرونى والقوم لئام. ومن في مَنْ يَقُولُ موصوفة، كأنه قيل: ومن الناس ناس يقولون كذا، كقوله (من المؤمنين رجال) إن جعلت اللام للجنس. وإن جعلتها للعهد فموصولة، كقوله: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ) . فإن قلت: كيف يجعلون بعض أولئك والمنافقون غير المختوم على قلوبهم؟ قلت: الكفر جمع الفريقين معاً وصيرهم جنساً واحداً. وكون المنافقين نوعا من نوعي هذا الجنس- مغايراً للنوع الآخر بزيادة زادوها على الكفر الجامع بينهما من الخديعة والاستهزاء- لا يخرجهم من أن يكونوا بعضا من الجنس فإن الأجناس إنما تنوّعت لمغايرات وقعت بين بعضها وبعض. وتلك المغايرات إنما تأتى بالنوعية ولا تأبى الدخول تحت الجنسية. فإن قلت: لم اختص بالذكر الإيمان باللَّه والإيمان باليوم الآخر؟ قلت: اختصاصهما بالذكر كشف عن إفراطهم في الخبث وتماديهم في الدعارة لأن القوم كانوا يهوداً، وإيمان اليهود باللَّه ليس بإيمان، لقولهم: (عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ) . وكذلك إيمانهم باليوم الآخر، لأنهم يعتقدونه على خلاف صفته، فكان قولهم: (آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) خبثاً مضاعفاً وكفراً موجهاً، لأن قولهم هذا لو صدر عنهم لا على وجه النفاق وعقيدتهم عقيدتهم، فهو كفر لا إيمان. فإذا قالوه على وجه النفاق خديعة للمسلمين واستهزاء بهم، وأروهم أنهم مثلهم في الإيمان الحقيقي، كان خبثا إلى خبث، وكفراً إلى كفر. وأيضا فقد أوهموا في هذا المقال أنهم اختاروا الإيمان [[قوله «اختاروا الايمان» لعله احتازوا- بالحاء المهملة والزاى- كما في عبارة البيضاوي (ع)]] من جانبيه، واكتنفوه من قطريه، وأحاطوا بأوّله وآخره. وفي تكرير الباء أنهم ادعوا كل واحد من الإيمانين على صفة الصحة والاستحكام. فإن قلت: كيف طابق قوله: (وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) قولهم (آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ) والأول في ذكر شأن الفعل لا الفاعل، والثاني في ذكر شأن الفاعل لا الفعل؟ قلت: القصد إلى إنكار ما ادعوه ونفيه، فسلك في ذلك طريق أدّى إلى الغرض المطلوب. وفيه من التوكيد والمبالغة ما ليس في غيره، وهو إخراج ذواتهم وأنفسهم من أن تكون طائفة من طوائف المؤمنين، لما علم من حالهم المنافية لحال الداخلين في الإيمان. وإذا شهد عليهم بأنهم في أنفسهم على هذه الصفة، فقد انطوى تحت الشهادة عليهم بذلك نفى ما انتحلوا إثباته لأنفسهم على سبيل البت والقطع. ونحوه قوله تعالى: (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها) هو أبلغ من قولك: وما يخرجون منها. فإن قلت: فلم جاء الإيمان مطلقا في الثاني وهو مقيد في الأوّل؟ قلت: يحتمل أن يراد التقييد ويترك لدلالة المذكور عليه، وأن يراد بالإطلاق أنهم ليسوا من الإيمان في شيء قط، لا من الإيمان باللَّه وباليوم الآخر، ولا من الإيمان بغيرهما. فإن قلت: ما المراد باليوم الآخر؟ قلت: يجوز أن يراد به الوقت الذي لا حدّ له وهو الأبد الدائم الذي لا ينقطع، لتأخره عن الأوقات المنقضية. وأن يراد الوقت المحدود من النشور إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، لأنه آخر الأوقات المحدودة الذي لا حدّ للوقت بعده. والخدع: أن يوهم صاحبه خلاف ما يريد به من المكروه. من قولهم: ضب خادع وخدع، إذا أمر الحارش يده على باب جحره أو همه إقباله عليه ثم خرج من باب آخر. فإن قلت: كيف ذلك ومخادعة اللَّه والمؤمنين لا تصح [[قال محمود رحمه اللَّه: «فان قلت كيف ذلك ومخادعة اللَّه والمؤمنين لا تصح ... الخ» ؟ قال أحمد رحمه اللَّه: هذا الفصل من كلام الزمخشري جمع فيه بين الغث والسمين. ونحن ننبه على ما فيه من الزبد، ليتم للناظر أخذ ما فيه من السنة، آمنا من التورط في وضر البدعة، مستعينين باللَّه وهو خير معين. فمما خالف فيه السنة قوله: إن اللَّه تعالى عالم بذاته، يريد لا يعلم. وهذا مما وسمت به المعتزلة في المقدمة من أنهم يجحدون صفات الكمال الإلهي، يبغون بذلك زعمهم التوحيد والتنزيه. ومعتقد أهل السنة أن اللَّه تعالى عالم بعلم قديم أزلى، متعلق بكل معلوم واجب أو ممكن أو مستحيل ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين. وحسبك هذه الآية مصدقة لمعتقدهم في ثبوت صفة العلم له تعالى وفي عموم نعلقه بالكليات والجزئيات إلى ما وراءها من البراهين الكلامية على ذلك. ولسنا بصدد ذكرها في هذا الكتاب. ومما خالف فيه السنة: اعتقاده أن في الكائنات ما ليس مخلوقا للَّه تعالى لأنه قبيح على زعمه كالمفهوم من الخداع في هذه الآية. وما جره إلى هاتين النزغتين إلا اعتقاده أنه لا يتم استحالة كونه تعالى مخدوعا، إلا بأنه عالم بذاته حتى تعم عالميته كل كائن فلا يخدع إذ نسبة الذات إلى الكائنات نسبة واحدة، ولا يتم استحالة كونه تعالى خادعا إلا باستحالة صدور بعض الكائنات عنه لأنه قبيح على زعمهم. ولقد وقف هذا التنزيه على ما لا توقف عليه ولا شرط فيه. فنحن معاشر أهل السنة نعتقد أن اللَّه تعالى عالم بعلم، ومع ذلك نعتقد استحالة كونه مخدوعا لأن علمه عندنا عام التعلق كما وصفنا. ونعتقد أنه لا يصدر كائن في الوجود إلا عن قدرته لا غير، ومع ذلك نمنع أن ينسب الخداع إلى اللَّه تعالى لما يوهم ظاهره من أنه إنما يكون عن عجز عن المكافحة وإظهار المكتوم. هذا هو الموهوم منه في الإطلاق، ولكن حيث أطلقه تعالى مقابلا لما ذكره من خداع المنافقين كمقابلة المكر بمكرهم، علمنا أن المراد منه أنه فعل معهم فعلا سماه خداعا مقابلة ومشاكلة وإلا فهو قادر على هتك سترهم وإنزال العذاب بهم رأى العين فهذا معتقد أهل السنة في هذه الآية وأمثالها لا كالزمخشري وشيعته الذين يزعمون أنهم يوحدون فيجحدون، وينزهون فيشركون. واللَّه الموفق للحق. وكذلك الخداع المنسوب إليهم على سبيل المجاز عن تعاطيهم أفعال المخادع على ظنهم وأصدق شاهد في أنه مجاز نفيه بعقب إثباته في قوله: (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) ففي هذه التتمة نفى احتمال الحقيقة حتى تتعين جهة المجاز. ومما عده البيانيون من أدلة المجاز صدق نفيه فتأمل هذا الفصل فله على سائر الفصول الفضل.]] لأن العالم الذي لا تخفى عليه خافية لا يخدع، والحكيم الذي لا يفعل القبيح لا يخدع، والمؤمنون وإن جاز أن يخدعوا لم يجز أن يخدعوا. ألا نرى إلى قوله: واسْتَمْطَرُوا مِنْ قُرَيْشٍ كلَّ مُنْخدِعِ [[واستمطروا من قريش كل منخدع ... إن الكريم إذا خادعته انخدعا كانت العرب إذا أصابها جدب فزعت إلى قريش ليستسقوا لهم، لأنهم ولاة بيت اللَّه وحماة حرمه، كما فعل قوم عاد لما قحطوا. وكذلك استسقى عمر بالعباس عم النبي صلى اللَّه عليه وسلم. واستسقى أبو سفيان النبي صلى اللَّه عليه وسلم فأجابه واستسقى له مع ما كان بينهما من العداوة. يقول: طلب القوم من كل منخدع من قريش المطر: أى أن بطلب لهم المطر. وقال السيد: واستمطروا، أى استقوا وطلبوا، فأفاد أنه على صيغة الأمر. وفي الصحاح: أى سلوه أن يعطي كالمطر مثلا، وهو يؤيد كلام السيد. ويجوز تشبيه كل منخدع من قريش بالسحاب على سبيل المكنية، فيطلب منه المطر. والمنخدع المغلوب لكرمه، وبينه قوله: إن الكريم. ويروى البيت هكذا لا خير في الحب لا ترجى نوافله ... فاستمطروا من قريش كل منخدع ويروى «من فريق» بدل «قريش» . وقوله «لا ترحى الخ» جملة حالية للحب. وفريق موضع بعينه من الحجاز.]] وقول ذى الرمّة: إنَّ الحَليمَ وذَا الإِسْلامِ يُخْتَلَبُ [[تزداد للعين إبهاجا إذا سفرت ... وتخرج العين فيها حين تنتقب تلك الفتاة التي علقتها عرضا ... إن الحليم وذا الإسلام يختلب لذي الرمة في محبوبته مى. وسفرت المرأة: كشفت عن وجهها. وروى: إسفاراً، بدل إبهاجا. والمراد أن إبهاجها بسفرها لعيني يزداد إذا كشفت عن وجهها. وخرجت العين- كتعبت- حارت. وروى «منها» بدل «فيها» أى من أجلها. وتنتقب: أى ترسل النقاب على وجهها. وعرضاً أى من غير قصد ولا شعور. وخلب- من باب قتل-: خدع أى هي الشابة التي اعترضني حبها حيث لا أشعر. ثم تسلى بأن العاقل المسلم كثيراً ما ينخدع.]] فقد جاء النعت بالانخداع ولم يأت بالخدع. قلت: فيه وجوه. أحدها: أن يقال كانت صورة صنعهم مع اللَّه حيث يتظاهرون بالإيمان وهم كافرون، صورة صنع الخادعين. وصورة صنع اللَّه معهم- حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده في عداد شرار الكفرة وأهل الدرك الأسفل من النار- صورة صنع الخادع، وكذلك صورة صنع المؤمنين معهم حيث امتثلوا أمر اللَّه فيهم فأجروا أحكامهم عليهم. والثاني: أن يكون ذلك ترجمة عن معتقدهم وظنهم أن اللَّه ممن يصح خداعه لأن من كان ادعاؤه الإيمان باللَّه نفاقا لم يكن عارفا باللَّه ولا بصفاته، ولا أن لذاته تعلقا بكل معلوم، ولا أنه غنى عن فعل القبائح فلم يبعد من مثله تجويز أن يكون اللَّه في زعمه مخدوعا ومصابا بالمكروه من وجه خفى، وتجويز أن يدلس على عباده ويخدعهم. والثالث: أن يذكر اللَّه تعالى ويراد الرسول صلى اللَّه عليه وسلم لأنه خليفته في أرضه، والناطق عنه بأوامره ونواهيه مع عباده، كما يقال: قال الملك كذا ورسم كذا وإنما القائل والراسم وزيره أو بعض خاصته الذين قولهم قوله ورسمهم رسمه. مصداقه قوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ، يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) وقوله: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ) . والرابع: أن يكون من قولهم: أعجبنى زيد وكرمه، فيكون المعنى يخادعون الذين آمنوا باللَّه. وفائدة هذه الطريقة قوة الاختصاص، ولما كان المؤمنون من اللَّه بمكان، سلك بهم ذلك المسلك. ومثله: (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) وكذلك: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) ونظيره في كلامهم: علمت زيدا فاضلا، والغرض فيه ذكر إحاطة العلم بفضل زيد لا به نفسه لأنه كان معلوما له قديما كأنه قيل: علمت فضل زيد ولكن ذكر زيد توطئة وتمهيد لذكر فضله. فإن قلت: هل للاقتصار بخادعت على واحد وجه صحيح؟ قلت: وجهه أن يقال: عنى به «فعلت» إلا أنه أخرج في زنة «فاعلت» لأن الزنة في أصلها للمغالبة والمباراة، والفعل متى غولب فيه فاعله جاء أبلغ وأحكم منه إذا زاوله وحده من غير مغالب ولا مبار لزيادة قوة الداعي إليه. ويعضده قراءة من قرأ: (يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) وهو أبو حيوة. و (يُخادِعُونَ) بيان ليقول. ويجوز أن يكون مستأنفا كأنه قيل: ولم يدعون الإيمان كاذبين وما رفقهم في ذلك؟ فقيل يخادعون. فان قلت: عمّ كانوا يخادعون؟ قلت: كانوا يخادعونهم عن أغراض لهم ومقاصد منها متاركتهم وإعفاؤهم عن المحاربة وعما كانوا يطرقون به من سواهم من الكفار. ومنها اصطناعهم بما يصطنعون به المؤمنين من إكرامهم والإحسان إليهم وإعطائهم الحظوظ من المغانم ونحو ذلك من الفوائد، ومنها اطلاعهم- لاختلاطهم بهم- على الأسرار التي كانوا حراصا على إذاعتها إلى منابذيهم. فإن قلت: فلو أظهر عليهم حتى لا يصلوا إلى هذه الأغراض بخداعهم عنها. قلت: لم يظهر عليهم لما أحاط به علما من المصالح التي لو أظهر عليهم لانقلبت مفاسد واستبقاء إبليس وذرّيته ومتاركتهم وما هم عليه من إغواء المنافقين وتلقينهم النفاق أشدّ من ذلك. ولكن السبب فيه ما علمه تعالى من المصلحة. فإن قلت: ما المراد بقوله: (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) ؟ قلت: يجوز أن يراد: وما يعاملون تلك المعاملة المشبهة بمعاملة المخادعين إلا أنفسهم لأن ضررها يلحقهم، ومكرها يحيق بهم، كما تقول: فلان يضارّ فلانا وما يضارّ إلا نفسه، أى: دائرة الضرار راجعة إليه وغير متخطية إياه، وأن يراد حقيقة المخادعة أى: وهم في ذلك يخدعون أنفسهم حيث يمنونها الأباطيل ويكذبونها فيما يحدثونها به، وأنفسهم كذلك تمنيهم وتحدّثهم بالأمانى وأن يراد: وما يخدعون فجيء به على لفظ «يفاعلون» للمبالغة. وقرئ: وما يخدعون، ويخدعون من خدع. ويخدعون- بفتح الياء- بمعنى يخدعون. ويخدعون. ويخادعون على لفظ ما لم يسم فاعله. والنفس: ذات الشيء وحقيقته. يقال عندي كذا نفسا. ثم قيل للقلب: نفس لأن النفس به. ألا ترى إلى قولهم: المرأ بأصغريه. وكذلك بمعنى الروح وللدم نفس لأن قوامها بالدم. وللماء نفس لفرط حاجتها إليه: قال اللَّه تعالى: (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) وحقيقة نفس الرجل بمعنى عين أصيبت نفسه، كقولهم: فلان يؤامر نفسيه- إذا تردّد في الأمر اتجه له رأيان وداعيان لا يدرى على أيهما يعرج كأنهم أرادوا داعي النفس، وهاجسى النفس فسموهما: نفسين، إما لصدورهما عن النفس، وإما لأن الداعيين لما كانا كالمشيرين عليه والآمرين له، شبهوهما بذاتين فسموهما نفسين. والمراد بالأنفس هاهنا ذواتهم. والمعنى بمخادعتهم ذواتهم: أن الخداع لاصق بهم لا يعدوهم إلى غيرهم ولا يتخطاهم إلى من سواهم. ويجوز أن يراد قلوبهم ودواعيهم وآراؤهم. والشعور علم الشيء علم حس [[قال محمود رحمه اللَّه تعالى: «والشعور علم الشيء علم حس ... الخ» . قال أحمد رحمه اللَّه: إيضاح هذا الكلام على تفسير الشعور كما قال بأنه علم الشيء من ناحية الحس الخ: أنه لما كانت مفسدة النفاق عائدة على المنافق عوداً بيناً جليا محسوساً، نعى عليهم جهلهم بالمحسوس فنفى شعورهم به ولا كذلك معرفة الحق وتميزه عن الباطل فانه أمر عقلى نظري.]] من الشعار. ومشاعر الإنسان: حواسه. والمعنى أن لحوق ضرر ذلك بهم كالمحسوس، وهم لتمادى غفلتهم كالذي لا حسّ له. واستعمال المرض في القلب يجوز أن يكون حقيقة ومجازا، فالحقيقة أن يراد الألم كما تقول: في جوفه مرض. والمجاز أن يستعار لبعض أعراض القلب، كسوء الاعتقاد، والغل، والحسد والميل إلى المعاصي، والعزم عليها، واستشعار الهوى، والجبن، والضعف، وغير ذلك مما هو فساد وآفة شبيهة بالمرض كما استعيرت الصحة والسلامة في نقائض ذلك. والمراد به هنا ما في قلوبهم من سوء الاعتقاد والكفر، أو من الغل والحسد والبغضاء، لأن صدورهم كانت تغلى على رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم والمؤمنين غلا وحنقاً ويبغضونهم البغضاء التي وصفها اللَّه تعالى في قوله: (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) ويتحرقون عليهم حسدا (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ) وناهيك مما كان [[قوله «وناهيك مما كان» لعله: بما كان. (ع)]] من ابن أبىّ وقول سعد بن عبادة لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «اعف عنه يا رسول اللَّه واصفح، فو اللَّه لقد أعطاك اللَّه الذي أعطاك، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة أن يعصبوه بالعصابة فلما ردّ اللَّه ذلك بالحق الذي أعطاكه شرق بذلك [[متفق عليه من رواية عروة عن أسامة بن زيد أن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ركب على حمار على قطيفة فركبه وأردف أسامة بن زيد وراءه، يعود سعد بن عبادة. فذكره مطولا]] . أو يراد ما تداخل قلوبهم من الضعف والجبن والخور، لأن قلوبهم كانت قوية، إما لقوة طمعهم فيما كانوا يتحدثون به: أن ريح الإسلام تهب حيناً ثم تسكن ولواءه يخفق أياما ثم يقرّ، فضعفت حين ملكها اليأس عند إنزال اللَّه على رسوله النصر وإظهار دين الحق على الدين كله. وإما لجرامتهم وجسارتهم في الحروب فضعفت جبناً وخورا [[قوله «جبنا وخوراً» الخور بالتحريك: الضعف، كما في الصحاح. (ع)]] حين قذف اللَّه في قلوبهم الرعب وشاهدوا شوكة المسلمين وإمداد اللَّه لهم بالملائكة. قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: «نصرت بالرعب مسيرة شهر» . ومعنى زيادة اللَّه إياهم مرضاً أنه كلما أنزل على رسوله الوحى فسمعوه كفروا به فازدادوا كفراً إلى كفرهم، فكأن اللَّه هو الذي زادهم ما ازدادوه إسنادا للفعل إلى المسبب له، كما أسنده إلى السورة في قوله: (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) لكونها سببا. أو كلما زاد رسوله نصرة وتبسطا في البلاد ونقصا من أطراف الأرض ازدادوا حسدا وغلا وبغضا وازدادت قلوبهم ضعفا وقلة طمع فيما عقدوا به رجاءهم وجبنا وخورا. ويحتمل أن يراد بزيادة المرض الطبع. وقرأ أبو عمرو في رواية الأصمعى: مرض، ومرضا، بسكون الراء: يقال ألم فهو أَلِيمٌ كوجع فهو وجيع ووصف العذاب به نحو قوله: تحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ [[أمن ريحانة الداعي السميع ... يؤرقنى وأصحابى هجوع وسوق كتيبة دلفت لأخرى ... كأن زهاءها رأس صليع وخيل قد دلفت لها بخيل ... تحية بينهم ضرب وجيع لعمرو بن معديكرب صاحب ريحانة أخت دريد بن الصمة، التمس منه زواجها فأجابه ومطله. وقيل: ريحانة اسم موضع بعينه. والسميع: المسمع على اسم المفعول، أو المسموع، أو المسمع على اسم الفاعل، أو السامع وأصل فعيل أن يكون بمعنى فاعل كعليم. وكذا ما جاء بمعنى مفعول كجريح وقتيل. وندر من الرباعي بمعنى مفعل اسم فاعل كوجيع، وبمعنى مفعل اسم مفعول كسميع بمعنى مسمع اسم مفعول. وكثر سماعا بمعنى مفاعل كجليس وشريك. وسميع: مبتدأ، خبره يؤرقنى أى هل داعى الشوق من ريحانة يسهرني والحال أن أصحابى نيام؟ والاستفهام للتعجب «وسوق كتيبة» عطف على الداعي أو على ضمير يؤرقنى. والكتيبة: الجماعة المنضمة المنتظمة. ودلف دلفاً من باب تعب مشى بتؤدة. وقيل تقدم وأسرع. كان زهاءها: أى مقدارها. والصليع: الذي لا شعر فيه، ولعله شبهها بذلك الرأس في التجرد والانكشاف والظهور والتمام كما يقال: جيش أقرع، وألف أقرع: أى تام مجازاً. وخيل: أى وأصحاب خيل قد تقدمت لها بمثلها. والتحية: الدعاء بالحياة، فأخبر عنها بالضرب الوجيع على سبيل التهكم. وضمير «بينهم» للخيل بمعنى الجيش. وانتقل من ذكر ريحانة إلى ذكر الحرب لأنه كان أغار على دريد في طلبها.]] وهذا على طريقة قولهم: جدّ جدّه. والألم في الحقيقة للمؤلم كما أنّ الجدّ للجادّ. والمراد بكذبهم قولهم آمنا باللَّه وباليوم الآخر. وفيه رمز إلى قبح الكذب وسماجته، وتخييل أن العذاب الأليم لاحق بهم من أجل كذبهم. ونحوه قوله تعالى: (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا) والقوم كفرة. وإنما خصت الخطيئات استعظاما لها وتنفيرا عن ارتكابها. والكذب: الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو به وهو قبيح كله. وأما ما يروى عن إبراهيم عليه السلام أنه كذب ثلاث كذبات [[متفق عليه واللفظ للبخاري من رواية ابن سيرين، عن أبى هريرة رضى اللَّه عنه رفعه «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات: اثنتين منهن في ذات اللَّه عز وجل» الحديث. وأخرجه الترمذي في تفسير الأنبياء، من طريق أبى الزناد عن الأعرج عنه.]] . فالمراد التعريض. ولكن لما كانت صورته صورة الكذب سمى به. وعن أبى بكر رضى اللَّه عنه وروى مرفوعا: «إياكم والكذب فإنه مجانب للإيمان» [[روى مرفوعا وموقوفا على أبى بكر الصديق رضى اللَّه عنه. أما المرفوع فأخرجه ابن عدى من طريق إسماعيل بن أبى خالد عن قيس عنه. قال الدارقطني في العلل: رفعه يحيى بن عبد الملك وجعفر الأحمر وعمر بن ثابت عن إسماعيل. ووقفه غيرهم وهو أصح. ويروى عن أبى أسامة ويزيد بن هرون عنه أيضا مرفوعا. ولا يثبت عنهما اه. وأما الموقوف فأخرجه أحمد وابن أبى شيبة في الأدب كلاهما عن وكيع عن إسماعيل وابن المبارك في الزهد عن إسماعيل كذلك. ولم يجد الطيبي المرفوع فأخرج بدله عن صفوان بن سليم. قيل: يا رسول اللَّه والمؤمن يكون جبانا؟ قال: نعم. يكون بخيلا؟ قال: نعم. يكون كذاباً؟ قال: لا. أخرجه مالك وهو مرسل.]] وقرئ يكذبون، من كذبه الذي هو نقيض صدقه أو من كذّب الذي هو مبالغة في كذب، كما بولغ في صدق فقيل: صدّق. ونظيرهما: بان الشيء وبين، وقلص الثوب وقلص. أو بمعنى الكثرة كقولهم: موتت البهائم، وبركت الإبل، أو من قولهم: كذب الوحشي إذا جرى شوطا ثم وقف لينظر ما وراءه لأن المنافق متوقف متردّد في أمره، ولذلك قيل له مذبذب. وقال عليه السلام: «مثل المنافق كمثل الشاة [[أخرجه مسلم من رواية موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر رضى اللَّه عنهما: قوله تعير بمهملة أى تتردد.]] العائرة بين الغنمين، تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب