الباحث القرآني
بابُ التِّجارَةِ في الحَجِّ قالَ اللَّهُ عَقِيبَ ذِكْرِ الحَجِّ، والتَّزَوُّدِ لَهُ: ﴿لَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِن رَبِّكُمْ﴾ يَعْنِي المُخاطَبِينَ بِأوَّلِ الآيَةِ وهُمُ المَأْمُورُونَ بِالتَّزَوُّدِ لِلْحَجِّ وأباحَ لَهُمُ التِّجارَةَ فِيهِ ورَوى أبُو يُوسُفَ عَنِ العَلاءِ بْنِ السّائِبِ عَنْ أبِي أُمامَةَ قالَ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ: إنِّي رَجُلٌ أكْرِي الإبِلَ إلى مَكَّةَ أفَيُجْزِي مِن حَجَّتِي ؟ قالَ: ألَسْتَ تُلَبِّي فَتَقِفُ وتَرْمِي الجِمارَ ؟ قُلْتُ: بَلى. قالَ: «سَألَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ مِثْلِ ما سَألْتَنِي، فَلَمْ يُجِبْهُ حَتّى أنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ: ﴿لَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِن رَبِّكُمْ﴾ فَقالَ ﷺ: أنْتُمْ حاجٌّ» . وقالَ عَمْرُو بْنُ دِينارٍ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: كانَتْ ذُو المَجازِ وعُكاظٌ مَتْجَرًا لِلنّاسِ في الجاهِلِيَّةِ، فَلَمّا كانَ الإسْلامُ تَرَكُوا حَتّى نَزَلَتْ: ﴿لَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِن رَبِّكُمْ﴾ في مَواسِمِ الحَجِّ.
ورَوى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: أتانِي رَجُلٌ فَقالَ: إنِّي آجَرْتُ نَفْسِي مِن قَوْمٍ عَلى أنْ أخْدُمَهم ويَحُجُّونَ بِي، فَهَلْ لِي مِن حَجٍّ ؟ فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هَذا مِنَ الَّذِينَ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿لَهم نَصِيبٌ مِمّا كَسَبُوا﴾ [البقرة: ٢٠٢] ورُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ جَماعَةٍ مِنَ التّابِعِينَ، مِنهُمُ الحَسَنُ وعَطاءٌ ومُجاهِدٌ وقَتادَةُ، ولا نَعْلَمُ أحَدًا رُوِيَ عَنْهُ خِلافُ ذَلِكَ إلّا شَيْئًا رَواهُ سُفْيانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ عَبْدِ الكَرِيمِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قالَ: سَألَهُ رَجُلٌ أعْرابِيٌّ فَقالَ: إنِّي أكْرِي إبِلِي وأنا أُرِيدُ الحَجَّ، أفَيَجْزِينِي ؟ قالَ: لا، ولا كَرامَةَ.
وهَذا قَوْلٌ شاذٌّ خِلافُ ما عَلَيْهِ الجُمْهُورُ وخِلافُ ظاهِرِ الكِتابِ في قَوْلِهِ: ﴿لَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِن رَبِّكُمْ﴾ فَهَذا في شَأْنِ الحاجِّ؛ لِأنَّ أوَّلَ الخِطابِ فِيهِمْ، وسائِرُ ظَواهِرِ الآيِ المُبِيحَةِ لِذَلِكَ دالَّةٌ عَلى مِثْلِ ما دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الآيَةُ نَحْوُ قَوْلِهِ: ﴿وآخَرُونَ يَضْرِبُونَ في الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ﴾ [المزمل: ٢٠] وقَوْلُهُ: ﴿وأذِّنْ في النّاسِ بِالحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالا وعَلى كُلِّ ضامِرٍ﴾ [الحج: ٢٧] إلى قَوْلِهِ: ﴿لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ﴾ [الحج: ٢٨] ولَمْ يُخَصِّصْ شَيْئًا مِنَ المَنافِعِ دُونَ غَيْرِها، فَهو عامٌّ في جَمِيعِها مِن مَنافِعِ الدُّنْيا، والآخِرَةِ وقالَ تَعالى: ﴿وأحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وحَرَّمَ الرِّبا﴾ [البقرة: ٢٧٥] ولَمْ يُخَصِّصْ مِنهُ حالَ الحَجِّ.
وجَمِيعُ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ الحَجَّ لا يَمْنَعُ التِّجارَةَ، وعَلى هَذا أمْرُ النّاسِ مِن عَصْرِ النَّبِيِّ ﷺ إلى يَوْمِنا هَذا في مَواسِمِ مِنًى ومَكَّةَ في أيّامِ الحَجِّ؛ واللَّهُ أعْلَمُ
* * *
بابُ الوُقُوفِ بِعَرَفَةَ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فَإذا أفَضْتُمْ مِن عَرَفاتٍ فاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرامِ﴾
قالَ أبُو بَكْرٍ: (p-٣٨٧)قَدْ دَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ مَناسِكَ الحَجِّ الوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، ولَيْسَ في ظاهِرِهِ دَلالَةٌ عَلى أنَّهُ مِن فُرُوضِهِ، فَلَمّا قالَ في سِياقِ الخِطابِ: ﴿ثُمَّ أفِيضُوا مِن حَيْثُ أفاضَ النّاسُ﴾ أبانَ بِذَلِكَ عَنْ فَرْضِ الوُقُوفِ ولُزُومِهِ وذَلِكَ لِأنَّ أمْرَهُ بِالإفاضَةِ مُقْتَضٍ لِلْوُجُوبِ، ولا تَكُونُ الإفاضَةُ فَرْضًا إلّا والكَوْنُ بِها فَرْضًا حَتّى يُفِيضَ مِنها؛ إذْ لا يُتَوَصَّلُ إلى الإفاضَةِ إلّا بِكَوْنِهِ قَبْلَها هُناكَ.
وقَدِ اخْتُلِفَ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ أفِيضُوا مِن حَيْثُ أفاضَ النّاسُ﴾ فَرُوِيَ عَنْ عائِشَةَ وابْنِ عَبّاسٍ وعَطاءٍ والحَسَنِ ومُجاهِدٍ وقَتادَةَ والسُّدِّيِ: أنَّهُ أرادَ الإفاضَةَ مِن عَرَفَةَ، قالُوا: وذَلِكَ؛ «لِأنَّ قُرَيْشًا ومَن دانَ دِينَها يُقالُ لَهم الحُمْسُ كانُوا يَقِفُونَ بِالمُزْدَلِفَةِ ويَقِفُ سائِرُ العَرَبِ بِعَرَفاتٍ، فَلَمّا جاءَ الإسْلامُ أنْزَلَ اللَّهُ تَعالى عَلى نَبِيِّهِ: ﴿ثُمَّ أفِيضُوا مِن حَيْثُ أفاضَ النّاسُ﴾ فَأمَرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قُرَيْشًا ومَن دانَ دِينَها أنْ يَأْتُوا عَرَفاتٍ فَيَقِفُوا بِها مَعَ النّاسِ ويُفِيضُوا مِن حَيْثُ أفاضَ النّاسُ» . وحُكِيَ عَنِ الضَّحّاكِ أنَّهُ أرادَ بِهِ الوُقُوفَ بِالمُزْدَلِفَةِ وأنْ يُفِيضُوا مِن حَيْثُ أفاضَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ. وقِيلَ: إنَّهُ إنَّما قالَ: " النّاسُ " وأرادَ إبْراهِيمُ وحْدَهُ، كَما قالَ تَعالى: ﴿الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ﴾ [آل عمران: ١٧٣] وكانَ رَجُلًا واحِدًا. ولِأنَّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا كانَ الإمامَ المُقْتَدى بِهِ سَمّاهُ اللَّهُ تَعالى أُمَّةً كانَ بِمَنزِلَةِ الأُمَّةِ الَّتِي تَتَّبِعُ سُنَّتَهُ، جازَ إطْلاقُ اسْمِ النّاسِ، والمُرادُ بِهِ هو وحْدَهُ. والتَّأْوِيلُ الأوَّلُ هو الصَّحِيحُ لِاتِّفاقِ السَّلَفِ عَلَيْهِ، والضَّحّاكُ لا يُزاحِمُ بِهِ هَؤُلاءِ، فَهو قَوْلٌ شاذٌّ. وإنَّما ذَكَرَ النّاسَ هاهُنا وأمَرَ قُرَيْشًا بِالإفاضَةِ مِن حَيْثُ أفاضَ النّاسُ؛ لِأنَّهم كانُوا أعْظَمَ النّاسِ، وكانَتْ قُرَيْشٌ ومَن دانَ دِينَها قَلِيلَةً بِالإضافَةِ إلَيْهِمْ؛ فَلِذَلِكَ قالَ: ﴿مِن حَيْثُ أفاضَ النّاسُ﴾
فَإنْ قِيلَ: لَمّا قالَ: ﴿فَإذا أفَضْتُمْ مِن عَرَفاتٍ﴾ ثُمَّ عَقَّبَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ أفِيضُوا مِن حَيْثُ أفاضَ النّاسُ﴾ و" ثُمَّ " يَقْتَضِي التَّرْتِيبَ لا مَحالَةَ، عَلِمْنا أنَّ هَذِهِ الإفاضَةَ هي بَعْدَ الإفاضَةِ مِن عَرَفاتٍ، ولَيْسَ بَعْدَها إفاضَةٌ إلّا مِنَ المُزْدَلِفَةِ وهي المَشْعَرُ الحَرامُ، فَكانَ حَمْلُهُ عَلى ذَلِكَ، أوْلى مِنهُ عَلى الإفاضَةِ مِن عَرَفَةَ؛ ولِأنَّ الإفاضَةَ مِن عَرَفَةَ قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُها فَلا وجْهَ لِإعادَتِها.
قِيلَ لَهُ: إنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ثُمَّ أفِيضُوا مِن حَيْثُ أفاضَ النّاسُ﴾ عائِدٌ إلى أوَّلِ الكَلامِ، وهو الخِطابُ بِذِكْرِ الحَجِّ وتَعْلِيمِ مَناسِكِهِ وأفْعالِهِ، فَكَأنَّهُ قالَ: " يا أيُّها المَأْمُورُونَ بِالحَجِّ مِن قُرَيْشٍ بَعْدَ ما تَقَدَّمَ ذِكْرُنا لَهُ أفِيضُوا مِن حَيْثُ أفاضَ النّاسُ " فَيَكُونُ ذَلِكَ راجِعًا إلى صِلَةِ خِطابِ المَأْمُورِينَ، وهو كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ثُمَّ آتَيْنا مُوسى الكِتابَ تَمامًا عَلى الَّذِي أحْسَنَ﴾ [الأنعام: ١٥٤] والمَعْنى: بَعْدَ ما ذَكَرْنا لَكم أخْبَرْنا كَمْ أنّا آتَيْنا مُوسى (p-٣٨٨)الكِتابَ تَمامًا عَلى الَّذِي أحْسَنَ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ " ثُمَّ " بِمَعْنى " الواوِ " فَيَكُونُ تَقْدِيرُهُ: وأفِيضُوا مِن حَيْثُ أفاضَ النّاسُ؛ كَما قالَ تَعالى: ﴿ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البلد: ١٧] مَعْناهُ: وكانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا، وقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ﴾ [يونس: ٤٦] مَعْناهُ: واللَّهُ شَهِيدٌ. فَإذا كانَ ذَلِكَ سائِغًا في اللُّغَةِ ثُمَّ رُوِيَ عَنِ السَّلَفِ ما ذَكَرْنا، لَمْ يَجُزِ العُدُولُ عَنْهُ إلى غَيْرِهِ.
وأمّا قَوْلُكَ " إنَّ ذِكْرَ عَرَفاتٍ قَدْ تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ: ﴿فَإذا أفَضْتُمْ مِن عَرَفاتٍ﴾ فَلا يَكُونُ لِقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ أفِيضُوا مِن حَيْثُ أفاضَ النّاسُ﴾ وجْهٌ " فَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ ﴿فَإذا أفَضْتُمْ مِن عَرَفاتٍ﴾ لا دَلالَةَ فِيهِ عَلى إيجابِ الوُقُوفِ، وقَوْلَهُ: ﴿ثُمَّ أفِيضُوا مِن حَيْثُ أفاضَ النّاسُ﴾ هو أمْرٌ لِمَن لَمْ يَكُنْ يَقِفُ بِعَرَفَةَ مِن قُرَيْشٍ فَقَدْ أفادَ بِهِ مِن إيجابِ الوُقُوفِ ما لَمْ يَتَضَمَّنْهُ قَوْلُهُ: ﴿فَإذا أفَضْتُمْ مِن عَرَفاتٍ﴾ إذْ لا دَلالَةَ في قَوْلِهِ: ﴿فَإذا أفَضْتُمْ مِن عَرَفاتٍ﴾ عَلى فَرْضِ الوُقُوفِ. ومَعَ ذَلِكَ فَلَوِ اقْتُصِرَ عَلى قَوْلِهِ: ﴿فَإذا أفَضْتُمْ مِن عَرَفاتٍ﴾ لَكانَ جائِزًا أنْ يَظُنَّ ظانٌّ أنَّهُ خِطابٌ لِمَن كانَ يَقِفُ بِها دُونَ مَن لَمْ يَكُنْ يَرى الوُقُوفَ بِها، فَيَكُونُ التّارِكُونَ لِلْوُقُوفِ عَلى جُمْلَةِ أمْرِهِمْ في الوُقُوفِ بِالمُزْدَلِفَةِ دُونَ عَرَفاتٍ، فَأبْطَلَ ظَنَّ الظّانِّ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ أفِيضُوا مِن حَيْثُ أفاضَ النّاسُ﴾ واتَّفَقَتِ الأُمَّةُ مَعَ ذَلِكَ عَلى أنَّ تارِكَ الوُقُوفِ بِعَرَفَةَ لا حَجَّ لَهُ، ونَقَلَتْهُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَوْلًا وعَمَلًا. ورَوى بُكَيْرُ بْنُ عَطاءٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمَرَ الدِّيلِيِّ قالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: كَيْفَ الحَجُّ ؟ قالَ: «الحَجُّ يَوْمُ عَرَفَةَ، مَن جاءَ عَرَفَةَ لَيْلَةَ جَمْعٍ قَبْلَ الصُّبْحِ، أوْ يَوْمَ جَمْعٍ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ» .
ورَوى الشَّعْبِيُّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ مُضْرِسٍ الطّائِيِّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ بِالمُزْدَلِفَةِ: «مَن صَلّى مَعَنا هَذِهِ الصَّلاةَ ووَقَفَ مَعَنا هَذا المَوْقِفَ وقَدْ وقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا، أوْ نَهارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وقَضى تَفَثَهُ» . وقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وابْنِ عُمَرَ، وابْنِ الزُّبَيْرِ وجابِرٍ: " إذا وقَفَ قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ "، والفُقَهاءُ مُجْمِعُونَ عَلى ذَلِكَ وقَدِ اخْتَلَفَ الفُقَهاءُ في مَن لَمْ يَقِفْ بِعَرَفَةَ لَيْلًا، فَقالَ سائِرُهم: إذا وقَفَ نَهارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وإنْ دَفَعَ مِنها قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَ أصْحابِنا إنْ لَمْ يَرْجِعْ قَبْلَ الإمامِ، وقالَ مالِكُ بْنُ أنَسٍ: " إنْ لَمْ يَرْجِعْ حَتّى طَلَعَ الفَجْرُ بَطَلَ حَجُّهُ " وأصْحابَهُ يَزْعُمُونَ أنَّهُ قالَ ذَلِكَ؛ لِأنَّ مَذْهَبَهُ أنَّ فَرْضَ الوُقُوفِ بِاللَّيْلِ دُونَ النَّهارِ، وأنَّ الوُقُوفَ نَهارًا غَيْرُ مَفْرُوضٍ وإنَّما هو مَسْنُونٌ.
ورُوِيَ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ أنَّ مَن دَفَعَ مِن عَرَفاتٍ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَسَدَ حَجُّهُ، والدَّلِيلُ عَلى صِحَّةِ القَوْلِ الأوَّلِ قَوْلُهُ ﷺ في حَدِيثِ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ «وأفاضَ مِن عَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا، أوْ نَهارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وقَضى تَفَثَهُ» فَحَكَمَ بِصِحَّةِ (p-٣٨٩)حَجِّهِ وإتْمامِهِ بِوُقُوفِهِ في أحَدِ الوَقْتَيْنِ مِن لَيْلٍ، أوْ نَهارٍ. ويَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ثُمَّ أفِيضُوا مِن حَيْثُ أفاضَ النّاسُ﴾ و ( حَيْثُ ) اسْمٌ لِلْمَوْضِعِ، وهو عَرَفاتٌ، فَكانَ بِمَنزِلَةِ قَوْلِهِ: أفِيضُوا مِن عَرَفاتٍ ولَمْ يُخَصِّصْهُ بِلَيْلٍ ولا نَهارٍ، ولَيْسَ فِيهِ ذِكْرٌ لِلْوَقْتِ، فاقْتَضى ذَلِكَ جَوازَهُ في أيِّ وقْتٍ وقَفَ فِيهِ. ويَدُلُّ عَلَيْهِ مِن جِهَةِ النَّظَرِ أنّا وجَدْنا سائِرَ المَناسِكِ ابْتِداؤُها بِالنَّهارِ، وإنَّما يَدْخُلُ فِيهِ اللَّيْلُ تَبَعًا، ولَمْ نَجِدْ شَيْئًا مِنها يَخْتَصُّ بِاللَّيْلِ حَتّى لا يَصِحَّ فِعْلُهُ في غَيْرِهِ فَقَوْلُ مَن جَعَلَ فَرْضَ الوُقُوفِ بِاللَّيْلِ خارِجٌ عَنِ الأُصُولِ، ألا تَرى أنَّ طَوافَ الزِّيارَةِ، والوُقُوفَ بِالمُزْدَلِفَةِ، والرَّمْيَ، والذَّبْحَ، والحَلْقَ كُلُّ ذَلِكَ مَفْعُولٌ بِالنَّهارِ ؟ وإنَّما يُفْعَلُ بِاللَّيْلِ عَلى أنَّهُ يُؤَخَّرُ عَنْ وقْتِهِ عَلى وجْهِ التَّبَعِ لِلنَّهارِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ حُكْمَ الوُقُوفِ بِعَرَفَةَ
وأيْضًا قَدْ نَقَلَتِ الأُمَّةُ وُقُوفَ النَّبِيِّ ﷺ نَهارًا إلى يَوْمِنا هَذا، وأنَّهُ دَفَعَ مِنها عِنْدَ سُقُوطِ الفَرْضِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ وقْتَ الوُقُوفِ هو النَّهارُ، ووَقْتَ الغُرُوبِ هو الدَّفْعُ، فاسْتَحالَ أنْ يَكُونَ الدَّفْعُ هو وقْتَ الفَرْضِ، ووَقْتُ الوُقُوفِ لا يَكُونُ وقْتًا لِلْفَرْضِ. وأيْضًا لَمّا قِيلَ يَوْمُ عَرَفَةَ " ونُقِلَتْ هَذِهِ التَّسْمِيَةُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ في أخْبارٍ كَثِيرَةٍ، مِنها: «إنَّ اللَّهَ تَعالى يُباهِي مَلائِكَتَهُ يَوْمَ عَرَفَةَ» ومِنها: «إنَّ صِيامَ يَوْمِ عَرَفَةَ يَعْدِلُ صِيامَ سَنَةٍ» ولِذَلِكَ أطْلَقَتِ الأُمَّةُ ذَلِكَ عَلَيْهِ، دَلَّ عَلى أنَّ النَّهارَ وقْتُ الفَرْضِ فِيهِ، وأنَّ الوُقُوفَ لَيْلًا إنَّما يَفْعَلُهُ مَن وقَفَ فائِتًا؛ ألا تَرى أنَّهُ لَمّا قِيلَ: " يَوْمُ الجُمُعَةِ، ويَوْمُ الأضْحى، ويَوْمُ الفِطْرِ " كانَتْ هَذِهِ الأفْعالُ واقِعَةً في هَذِهِ الأيّامِ نَهارًا ولِذَلِكَ أُضِيفَتْ إلَيْها ؟ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ فَرْضَ الوُقُوفِ يَوْمَ عَرَفَةَ، وأنَّهُ يُفْعَلُ لَيْلًا عَلى وجْهِ القَضاءِ لِما فاتَهُ، كَما يَرْمِي الجِمارَ لَيْلًا عَلى وجْهِ القَضاءِ لِما فاتَهُ نَهارًا، وكَذَلِكَ الطَّوافُ، والذَّبْحُ، والحَلْقُ واخْتُلِفَ في مَوْضِعِ الوُقُوفِ، فَرَوى جُبَيْرُ بْنُ مُطْعَمٍ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «كُلُّ عَرَفاتٍ مَوْقِفٌ وارْفَعُوا عَنْ عُرَنَةَ، وكُلُّ مُزْدَلِفَةَ مَوْقِفٌ وارْفَعُوا عَنْ مُحَسِّرٍ» .
ورَوى جابِرٌ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «كُلُّ عَرَفَةَ مَوْقِفٌ» . وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: " ارْتَفَعُوا عَنْ وادِي عَرَفَةَ، والمِنبَرِ عَنْ مُسِيلَةَ فَما فَوْقَ ذَلِكَ مَوْقِفٌ " ولَمْ يَخْتَلِفْ رُواةُ الأخْبارِ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ دَفَعَ مِن عَرَفَةَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ»؛ وقَدْ رُوِيَ أنَّ أهْلَ الجاهِلِيَّةِ كانُوا يَدْفَعُونَ مِنها إذا صارَتِ الشَّمْسُ عَلى رُءُوسِ الجِبالِ كَأنَّها عَمائِمُ الرِّجالِ في وُجُوهِهِمْ، وأنَّهم كانُوا يَدْفَعُونَ مِن المُزْدَلِفَةِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَخالَفَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ ودَفَعَ مِن عَرَفاتٍ بَعْدَ الغُرُوبِ ومِنَ المُزْدَلِفَةِ قَبْلَ الطُّلُوعِ.
ورَوى سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ عَنِ الحَسَنِ العُرَنِيِّ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «خَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ النّاسَ (p-٣٩٠)يَوْمَ عَرَفَةَ فَقالَ: يا أيُّها النّاسُ لَيْسَ البِرُّ في إيجافِ الخَيْلِ ولا في إيضاعِ الإبِلِ ولَكِنْ سَيْرًا حَسَنًا جَمِيلًا، ولا تُوطِئُوا ضَعِيفًا ولا تُؤْذُوا مُسْلِمًا» .
ورَوى هِشامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أبِيهِ عَنْ أُسامَةَ بْنِ زَيْدٍ قالَ: «كانَ سَيْرُنا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حِينَ يَدْفَعُ مِن عَرَفاتٍ العَنَقَ، غَيْرَ أنَّهُ كانَ إذا وجَدَ فَجْوَةً نَصَّ» . واللَّهُ أعْلَمُ.
* * *
بابُ الوُقُوفِ بِجُمَعٍ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فَإذا أفَضْتُمْ مِن عَرَفاتٍ فاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرامِ﴾ ولَمْ يَخْتَلِفْ أهْلُ العِلْمِ أنَّ المَشْعَرَ الحَرامَ هو المُزْدَلِفَةُ وتُسَمّى جَمْعًا. فَمِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ: إنَّ هَذا الذِّكْرَ هو صَلاةُ المَغْرِبِ، والعِشاءِ اللَّتَيْنِ يُجْمَعُ بَيْنَهُما بِالمُزْدَلِفَةِ، والذِّكْرُ الثّانِي في قَوْلِهِ: ﴿واذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ﴾ هو الذِّكْرُ المَفْعُولُ عِنْدَ الوُقُوفِ بِالمُزْدَلِفَةِ غَداةَ جَمْعٍ، فَيَكُونُ الذِّكْرُ الأوَّلُ غَيْرَ الثّانِي. والصَّلاةُ تُسَمّى ذِكْرًا، قالَ النَّبِيُّ ﷺ: «مَن نامَ عَنْ صَلاةٍ، أوْ نَسِيَها فَلْيُصَلِّها إذا ذَكَرَها وتَلا عِنْدَ ذَلِكَ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وأقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي﴾ [طه: ١٤]» فَسَمّى الصَّلاةَ ذِكْرًا، فَعَلى هَذا قَدِ اقْتَضَتِ الآيَةُ تَأْخِيرَ صَلاةِ المَغْرِبِ إلى أنْ تُجْمَعَ مَعَ العِشاءِ بِالمُزْدَلِفَةِ. ورُوِيَ عَنْ أُسامَةَ بْنِ زَيْدٍ وكانَ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِن عَرَفاتٍ إلى المُزْدَلِفَةِ أنَّهُ «قالَ لِلنَّبِيِّ ﷺ في طَرِيقِ المُزْدَلِفَةِ: الصَّلاةَ فَقالَ: الصَّلاةُ أمامَكَ فَلَمّا أتى المُزْدَلِفَةَ صَلّاها مَعَ العِشاءِ الآخِرَةِ» . والأخْبارُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مُتَواتِرَةٌ
فِي جَمْعِ النَّبِيِّ ﷺ بَيْنَ المَغْرِبِ، والعِشاءِ بِالمُزْدَلِفَةِ
وقَدِ اخْتُلِفَ في مَن صَلّى المَغْرِبَ قَبْلَ أنْ يَأْتِيَ المُزْدَلِفَةَ فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ ومُحَمَّدٌ " لا تُجْزِيهِ " وقالَ أبُو يُوسُفَ: " تُجْزِيهِ " . وظاهِرُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإذا أفَضْتُمْ مِن عَرَفاتٍ فاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرامِ﴾ إذا كانَ المُرادُ بِهِ الصَّلاةَ يُمْنَعُ جَوازُها قَبْلَهُ، وكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ: «الصَّلاةُ أمامَكَ» وحَمْلُهُ عَلى ذَلِكَ أوْلى مِن حَمْلِهِ عَلى الذِّكْرِ المَفْعُولِ في حالِ الوُقُوفِ بِجَمْعٍ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿واذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ﴾ هو الذِّكْرُ في مَوْقِفِ جَمْعٍ، فَواجِبٌ أنْ نَحْمِلَ الذِّكْرَ الأوَّلَ عَلى الصَّلاةِ حَتّى نَكُونَ قَدْ وفَّيْنا كُلَّ واحِدٍ مِنَ الذِّكْرَيْنِ حَظَّهُ مِنَ الفائِدَةِ ولا يَكُونُ تَكْرارًا.
وأيْضًا فَإنَّ قَوْلَهُ: ﴿فاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرامِ﴾ هو أمْرٌ يَقْتَضِي الإيجابَ، والذِّكْرُ المَفْعُولُ بِجَمْعٍ لَيْسَ بِواجِبٍ عِنْدَ الجَمِيعِ ومَتى حُمِلَ عَلى فِعْلِ صَلاةِ المَغْرِبِ بِجَمْعٍ كانَ مَحْمُولًا عَلى مُقْتَضاهُ مِنَ الوُجُوبِ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ.
وقَدِ اخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ في الوُقُوفِ بِالمُزْدَلِفَةِ، هَلْ هو مِن فُرُوضِ الحَجِّ أمْ لا، فَقالَ قائِلُونَ: " هو مِن فُرُوضِ الحَجِّ ومَن فاتَهُ فَلا حَجَّ لَهُ كَمَن فاتَهُ الوُقُوفُ بِعَرَفَةَ " (p-٣٩١)وقالَ جُمْهُورُ أهْلِ العِلْمِ: " حَجُّهُ تامٌّ ولا يُفْسِدُهُ تَرْكُ الوُقُوفِ بِالمُزْدَلِفَةِ " . واحْتَجَّ مَن لَمْ يَجْعَلْهُ مِن فُرُوضِهِ بِما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ في حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمُرَ الدِّيلِيِّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «الحَجُّ عَرَفَةُ فَمَن وقَفَ قَبْلَ أنْ يَطْلُعَ الفَجْرُ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ» وقالَ في بَعْضِ الأخْبارِ: «مَن أدْرَكَ عَرَفَةَ فَقَدْ أدْرَكَ الحَجَّ، ومَن فاتَهُ عَرَفَةُ فَقَدْ فاتَهُ الحَجُّ» فَحَكَمَ بِصِحَّةِ حَجِّهِ بِإدْراكِ عَرَفَةَ ولَمْ يَشْتَرِطْ مَعَهُ الوُقُوفَ بِجَمْعِ ويَدُلُّ عَلَيْهِ ما رَوى ابْنُ عَبّاسٍ وابْنُ عُمَرَ ونَقَلَهُ النّاسُ، قائِلِينَ لَهُ: «إنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَدَّمَ ضَعَفَةَ أهْلِهِ بِلَيْلٍ وفي بَعْضِ الأخْبارِ ضَعَفَةَ النّاسِ مِن المُزْدَلِفَةِ لَيْلًا وقالَ لَهم: لا تَرْمُوا جَمْرَةَ العَقَبَةِ حَتّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ» فَلَوْ كانَ الوُقُوفُ بِها فَرْضًا لَما رَخَّصَ لَهم في تَرْكِهِ لِلضَّعْفِ، كَما لا يُرَخِّصُ في الوُقُوفِ بِعَرَفَةَ لِأجْلِ الضَّعْفِ.
فَإنْ قِيلَ: لِأنَّهم كانُوا وقَفُوا لَيْلًا وهو وقْتُ الوُقُوفِ بِها، ورَوى سالِمُ بْنُ عُمَرَ وهو أحَدُ مَن رَوى حَدِيثَ تَقْدِيمِ ضَعَفَةِ النّاسِ مِنَ المُزْدَلِفَةِ: فَكانَ يُقَدِّمُ ضَعَفَةَ أهْلِهِ مِنَ المُزْدَلِفَةِ فَيَقِفُونَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرامِ بِلَيْلٍ، فَيَذْكُرُونَ ما بَدا لَهم ثُمَّ يَدْفَعُونَ قِيلَ لَهُ: وقْتُ الوُقُوفِ بِها بَعْدَ طُلُوعِ الفَجْرِ، وقَدْ نَقَلَ النّاسُ وُقُوفَ النَّبِيِّ ﷺ بِها بَعْدَ طُلُوعِ الفَجْرِ ولَمْ يَأْمُرِ النَّبِيُّ ﷺ ضَعَفَةَ أهْلِهِ بِالوُقُوفِ حِينَ عَجَّلَهم مِنها لَيْلًا، ولَوْ كانَ ذَلِكَ وقْتَ الوُقُوفِ لَأمَرَهم بِهِ، ولَمْ يُرَخِّصْ لَهم في تَرْكِهِ مَعَ إمْكانِهِ مِن غَيْرِ عُذْرٍ؛ وما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ فَإنَّما هو مِن فِعْلِهِ لَيْسَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ ولَمْ يَقُلِ ابْنُ عُمَرَ أيْضًا: إنَّ هَذا وقْتُ الوُقُوفِ، وإنَّما كانَ ذَلِكَ عَلى وجْهِ الِاسْتِحْبابِ لِلذِّكْرِ قَبْلَ الرُّجُوعِ إلى مِنًى.
ويَدُلُّ عَلى أنَّ وقْتَ الوُقُوفِ بَعْدَ طُلُوعِ الفَجْرِ أنّا وجَدْنا سائِرَ أفْعالِ المَناسِكِ إنَّما وقْتُها بِالنَّهارِ، واللَّيْلُ يَدْخُلُ فِيهِ عَلى وجْهِ التَّبَعِ عَلى ما بَيَّنّا. واحْتَجَّ مَن جَعَلَ الوُقُوفَ بِها فَرْضًا بِظاهِرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإذا أفَضْتُمْ مِن عَرَفاتٍ فاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرامِ﴾ فَظاهِرُهُ يَقْتَضِي الوُجُوبَ. ويَحْتَجُّونَ أيْضًا بِحَدِيثِ مُطْرَفِ بْنِ طَرِيفٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرَّسٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «مَن أدْرَكَ جَمْعًا، والإمامُ واقِفٌ فَوَقَفَ مَعَ الإمامِ ثُمَّ أفاضَ مَعَ النّاسِ فَقَدْ أدْرَكَ الحَجَّ، ومَن لَمْ يُدْرِكْ فَلا حَجَّ لَهُ»، وبِما رَوى يَعْلى بْنُ عُبَيْدٍ قالَ: حَدَّثَنا سُفْيانُ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَطاءٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمُرَ الدِّيلِيِّ قالَ: «رَأيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ واقِفًا بِعَرَفاتٍ، فَأقْبَلَ ناسٌ مِن أهْلِ نَجْدٍ فَسَألُوهُ عَنِ الحَجِّ، فَقالَ: الحَجُّ يَوْمُ عَرَفَةَ ومَن أدْرَكَ جَمْعًا قَبْلَ الصُّبْحِ فَقَدْ أدْرَكَ الحَجَّ» . فَأمّا قَوْلُهُ: ﴿فاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرامِ﴾ فَلا دَلالَةَ فِيهِ عَلى ما ذَكَرُوا وذَلِكَ لِأنَّهُ أمَرَ بِالذِّكْرِ، وقَدِ اتَّفَقَ الجَمِيعُ عَلى أنَّ الذِّكْرَ هُناكَ (p-٣٩٢)غَيْرُ مَفْرُوضٍ، فَإنَّ تَرْكَهُ لا يُوجِبُ نَقْصًا في الحَجِّ، ولَيْسَ لِلْوُقُوفِ ذِكْرٌ في الآيَةِ، فَسَقَطَ الِاحْتِجاجُ بِهِ، ومَعَ ذَلِكَ فَقَدْ بَيَّنّا أنَّ المُرادَ بِهَذا الذِّكْرِ هو فِعْلُ صَلاةِ المَغْرِبِ هُناكَ. وأمّا حَدِيثُ مُطْرَفِ بْنِ طَرِيفٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ، فَإنَّهُ قَدْ رَواهُ خَمْسَةٌ مِنَ الرُّواةِ غَيْرُ مُطْرَفٍ، مِنهم زَكَرِيّا بْنُ أبِي زائِدَةَ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبِي السَّفَرِ وسَيّارُ وغَيْرُهم عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ ذَكَرُوا فِيهِ أنَّهُ قالَ: «مَن صَلّى مَعَنا هَذِهِ الصَّلاةَ ووَقَفَ مَعَنا هَذا المَوْقِفَ وأفاضَ قَبْلَ ذَلِكَ مِن عَرَفَةَ لَيْلًا، أوْ نَهارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وقَضى تَفَثَهُ»
ولَمْ يَذْكُرْ مِنهم أحَدٌ أنَّهُ قالَ فَلا حَجَّ لَهُ. ومَعَ ذَلِكَ فَقَدِ اتَّفَقُوا أنَّ تَرْكَ الصَّلاةِ هُناكَ لا يُفْسِدُ الحَجَّ، وقَدْ ذَكَرَها النَّبِيُّ ﷺ فَكَذَلِكَ الوُقُوفُ. وقَوْلُهُ: " فَلا حَجَّ لَهُ " يَحْتَمِلُ أنْ يُرِيدَ بِهِ نَفْيَ الفَضْلِ لا نَفْيَ الأصْلِ، كَما قالَ ﷺ: «لا وُضُوءَ لِمَن لَمْ يَذْكُرِ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ»، وكَما رَوى عُمَرُ «مَن قَدَّمَ نَفْلَهُ فَلا حَجَّ لَهُ» . وأمّا حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمُرَ الدِّيلِيِّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ فَإنَّهُ قَدْ رَوى هَذا الحَدِيثَ مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ عَنْ سُفْيانَ عَنْ بُكَيْرِ بْنِ عَطاءٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمُرَ الدِّيلِيِّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وقالَ فِيهِ: «مَن وقَفَ قَبْلَ أنْ يَطْلُعَ الفَجْرُ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ» فَعَلِمْنا أنَّ المُرادَ بِذَلِكَ الوُقُوفُ بِعَرَفَةَ في شَرْطِ إدْراكِ الحَجِّ، وأنَّ رِوايَةَ مَن رَوى «مَن أدْرَكَ جَمْعًا قَبْلَ الصُّبْحِ» وهْمٌ، وكَيْفَ لا يَكُونُ وهْمًا وقَدْ نَقَلَتِ الأُمَّةُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وُقُوفَهُ بِها بَعْدَ طُلُوعِ الفَجْرِ ولَمْ يُرْوَ عَنْهُ أنَّهُ أمَرَ أحَدًا بِالوُقُوفِ بِها لَيْلًا ؟ ومَعَ ذَلِكَ فَقَدْ عارَضَتْهُ الأخْبارُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي رُوِيَتْ مِن قَوْلِهِ: «مَن صَلّى مَعَنا هَذِهِ الصَّلاةَ ثُمَّ وقَفَ مَعَنا هَذا المَوْقِفَ»
وسائِرُ أخْبارِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَعْمَرَ أنَّهُ قالَ: «مَن أدْرَكَ عَرَفَةَ فَقَدْ أدْرَكَ الحَجَّ وقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، ومَن فاتَهُ عَرَفَةُ فَقَدْ فاتَهُ الحَجُّ» وذَلِكَ يَنْفِي رِوايَةَ مَن شَرَطَ مَعَهُ الوُقُوفَ بِالمُزْدَلِفَةِ، وأظُنُّ الأصَمَّ وابْنَ عُلَيَّةَ القائِلَيْنِ بِهَذِهِ المَقالَةِ. واحْتَجُّوا فِيهِ مِن طَرِيقِ النَّظَرِ، بِأنَّهُ لَمّا كانَ في الحَجِّ وُقُوفانِ واتَّفَقْنا عَلى فَرْضِيَّةِ أحَدِهِما وهو الوُقُوفُ بِعَرَفَةَ، وجَبَ أنْ يَكُونَ الآخَرُ فَرْضًا؛ لِأنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ ذَكَرَهُما في القُرْآنِ؛ كَما أنَّهُ لَمّا ذَكَرَ الرُّكُوعَ، والسُّجُودَ كانا فَرْضَيْنِ في الصَّلاةِ. فَيُقالُ لَهُ: أمّا قَوْلُكَ " إنَّهُما لَمّا كانا مَذْكُورَيْنِ في القُرْآنِ كانا فَرْضَيْنِ " فَإنَّهُ غَلَطٌ فاحِشٌ؛ لِأنَّهُ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ كُلُّ مَذْكُورٍ في القُرْآنِ فَرْضًا، وهَذا خُلْفٌ مِنَ القَوْلِ.
وعَلى أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمْ يَذْكُرِ الوُقُوفَ وإنَّما قالَ: ﴿فاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرامِ﴾ والذِّكْرُ لَيْسَ بِمَفْرُوضٍ عِنْدَ الجَمِيعِ، فَكَيْفَ يَكُونُ الوُقُوفُ فَرْضًا ؟ فالِاحْتِجاجُ بِهِ مِن هَذا الوَجْهِ ساقِطٌ. فَإنْ كانَ أوْجَبَهُ قِياسًا عَلى الوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، فَإنَّهُ يُطالَبُ (p-٣٩٣)بِالدَّلالَةِ عَلى صِحَّةِ العِلَّةِ المُوجِبَةِ لِهَذا القِياسِ، وذَلِكَ مَعْدُومٌ؛ ويُقالُ لَهُ: ألَيْسَ قَدْ طافَ النَّبِيُّ ﷺ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ وسَعى، ثُمَّ طافَ أيْضًا يَوْمَ النَّحْرِ وطافَ لِلصَّدْرِ وأمَرَ بِهِ ؟ فَهَلْ وجَبَ أنْ يَكُونَ لِهَذا الطَّوافِ كُلِّهِ حُكْمٌ واحِدٌ في بابِ الإيجابِ ؟ فَإذا جازَ أنْ يَكُونَ بَعْضُ الطَّوافِ نَدْبًا وبَعْضُهُ واجِبًا، فَما يُنْكَرُ أنْ يَكُونَ حُكْمُ الوُقُوفِ كَذَلِكَ فَيَكُونُ بَعْضُهُ نَدْبًا وبَعْضُهُ واجِبًا ؟ .
{"ayahs_start":198,"ayahs":["لَیۡسَ عَلَیۡكُمۡ جُنَاحٌ أَن تَبۡتَغُوا۟ فَضۡلࣰا مِّن رَّبِّكُمۡۚ فَإِذَاۤ أَفَضۡتُم مِّنۡ عَرَفَـٰتࣲ فَٱذۡكُرُوا۟ ٱللَّهَ عِندَ ٱلۡمَشۡعَرِ ٱلۡحَرَامِۖ وَٱذۡكُرُوهُ كَمَا هَدَىٰكُمۡ وَإِن كُنتُم مِّن قَبۡلِهِۦ لَمِنَ ٱلضَّاۤلِّینَ","ثُمَّ أَفِیضُوا۟ مِنۡ حَیۡثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ وَٱسۡتَغۡفِرُوا۟ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ"],"ayah":"ثُمَّ أَفِیضُوا۟ مِنۡ حَیۡثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ وَٱسۡتَغۡفِرُوا۟ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق