الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِن رَبِّكُمْ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: كانُوا يَتَّقُونَ البُيُوعَ والتِّجارَةَ في المَوْسِمِ، ويَقُولُونَ: أيّامُ ذِكْرٍ؛ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآَيَةُ. والِابْتِغاءُ: الِالتِماسُ. والفَضْلُ هاهُنا: التِماسُ الرِّزْقِ بِالتِّجارَةِ والكَسْبِ. قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أفَضْتُمْ، بِمَعْنى: دَفَعْتُمْ. وقالَ الزَّجّاجُ: مَعْناهُ: دَفَعْتُمْ بِكَثْرَةٍ، يُقالُ: أفاضَ القَوْمُ في الحَدِيثِ: إذا انْدَفَعُوا فِيهِ، وأكْثَرُوا التَّصَرُّفَ. وَفِي تَسْمِيَةِ عَرَفاتٍ قَوْلانِ. (p-٢١٣)أحَدُهُما: أنَّ اللَّهَ تَعالى بَعَثَ جِبْرِيلَ إلى إبْراهِيمَ فَحَجَّ بِهِ، فَلَمّا أتى عَرَفاتَ قالَ: قَدْ عَرَفْتُ، فَسُمِّيَتْ "عَرَفَةَ" قالَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. والثّانِي: أنَّها سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِاجْتِماعِ آَدَمَ وحَوّاءَ، وتَعارُفِهِما بِها قالَهُ الضَّحّاكُ. ، قالَهُ الزَّجّاجُ: والمَشْعَرُ، المَعْلَمُ سَمِّيَ بِذَلِكَ، لِأنَّ الصَّلاةَ عِنْدَهُ. والمُقامُ والمَبِيتُ والدُّعاءُ مِن مَعالِمِ الحَجِّ، وهو مُزْدَلِفَةُ، وهي جَمْعٌ يُسَمّى بِالِاسْمَيْنِ. قالَ ابْنُ عُمَرَ، ومُجاهِدٌ: المَشْعَرُ الحَرامُ: المُزْدَلِفَةُ كُلُّها. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ﴾ أيْ: جَزاءُ هِدايَتِهِ لَكم، فَإنْ قِيلَ: ما فائِدَةُ تَكْرِيرِ الذِّكْرِ؟ قِيلَ: فِيهِ أرْبَعَةُ أجْوِبَةٍ. أحَدُها: أنَّهُ كَرَّرَهُ لِلْمُبالَغَةِ في الأمْرِ بِهِ. والثّانِي: أنَّهُ وصَلَ بِالذِّكْرِ الثّانِي: ما لَمْ يَصِلْ بِالذِّكْرِ الأوَّلِ، فَحَسُنَ تَكْرِيرُهُ. فالمَعْنى اذْكُرُوهُ بِتَوْحِيدِهِ كَما ذَكَّرَكم بِهِدايَتِهِ. والثّالِثُ: أنَّهُ كَرَّرَهُ لِيَدُلَّ عَلى مُواصَلَتِهِ، والمَعْنى: اذْكُرُوهُ ذِكْرًا بَعْدَ ذِكْرٍ، ذَكَرَ هَذِهِ الأقْوالَ مُحَمَّدُ بْنُ القاسِمِ النَّحْوِيُّ. والرّابِعُ: أنَّ الذِّكْرَ في قَوْلِهِ: ﴿فاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرامِ﴾ هُوَ: صَلاةُ المَغْرِبِ والعَشاءِ اللَّتانِ يُجْمَعُ بَيْنَهُما بِالمُزْدَلِفَةِ. والذِّكْرُ في قَوْلِهِ: ﴿كَما هَداكُمْ﴾ هو الذِّكْرُ المَفْعُولُ عِنْدَ الوُقُوفِ بِمُزْدَلِفَةَ غَداةَ جَمْعٍ، حَكاهُ القاضِي أبُو يَعْلى. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَإنْ كُنْتُمْ مِن قَبْلِهِ﴾ في هاءِ الكِنايَةِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ. أحَدُها: أنَّها تَرْجِعُ إلى الإسْلامِ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ. والثّانِي: أنَّها تَرْجِعُ إلى الهُدى، قالَهُ مُقاتِلٌ، والزَّجّاجُ. والثّالِثُ: أنَّها تَرْجِعُ إلى القُرْآَنِ، قالَهُ سُفْيانُ الثَّوْرِيُّ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ثُمَّ أفِيضُوا مِن حَيْثُ أفاضَ النّاسُ﴾ قالَتْ عائِشَةُ: كانَتْ قُرَيْشٌ ومَن يَدِينُ بِدِينِها، وهُمُ الحَمْسُ، يَقِفُونَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِالمُزْدَلِفَةِ، يَقُولُونَ: نَحْنُ قَطَنُ البَيْتِ، وكانَ بَقِيَّةُ (p-٢١٤)العَرَبِ والنّاسِ يَقِفُونَ بِعَرَفاتٍ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآَيَةُ. قالَ الزَّجّاجُ: سُمُّوا الحَمْسَ لِأنَّهم تَحَمَّسُوا في دِينِهِمْ، أيْ: تَشَدَّدُوا. والحَماسَةُ: الشِّدَّةُ في كُلِّ شَيْءٍ. وَفِي المُرادِ بِالنّاسِ هاهُنا أرْبَعَةُ أقْوالٍ. أحَدُها: أنَّهم جَمِيعُ العَرَبِ غَيْرُ الحَمْسِ ويَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ عائِشَةَ، وهو قَوْلُ عُرْوَةَ، ومُجاهِدٌ، وقَتادَةُ. والثّانِي: أنَّ المُرادَ بِالنّاسِ هاهُنا: إبْراهِيمُ الخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ، قالَهُ الضَّحّاكُ بْنُ مُزاحِمٍ. والثّالِثُ: أنَّ المُرادَ بِالنّاسِ آَدَمُ، قالَهُ الزُّهْرِيُّ. وقَدْ قَرَأ أبُو المُتَوَكِّلِ، وأبُو نَهِيكٍ، ومُورِقٌ العِجْلِيُّ: "النّاسِي" بِإثْباتِ الياءِ. والرّابِعُ: أنَّهم أهْلُ اليَمَنِ ورَبِيعَةُ، فَإنَّهم كانُوا يُفِيضُونَ مِن عَرَفاتٍ، قالَهُ مُقاتِلٌ. وَفِي المُخاطَبِينَ بِذَلِكَ قَوْلانِ. أحَدُهُما: أنَّهُ خِطابٌ لِقُرَيْشٍ، وهو قَوْلُ الجُمْهُورِ. والثّانِي: أنَّهُ خِطابٌ لِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ، وهو يَخْرُجُ عَلى قَوْلِ مَن قالَ: النّاسُ آَدَمُ، أوْ إبْراهِيمُ. والإفاضَةُ هاهُنا عَلى ما يَقْتَضِيهِ ظاهِرُ اللَّفْظِ: هي الإفاضَةُ مِنَ المُزْدَلِفَةِ إلى مِنى صَبِيحَةَ النَّحْرِ، إلّا أنَّ جُمْهُورَ المُفَسِّرِينَ عَلى أنَّها الإفاضَةُ مِن عَرَفاتٍ، فَظاهِرُ الكَلامِ لا يَقْتَضِي ذَلِكَ، كَيْفَ يُقالُ: ﴿فَإذا أفَضْتُمْ مِن عَرَفاتٍ فاذْكُرُوا اللَّهَ﴾ ثُمَّ أفِيضُوا مِن عَرَفاتٍ؟! غَيْرَ أنِّي أقُولُ: وجْهُ الكَلامِ عَلى ما قالَ أهْلُ التَّفْسِيرِ: أنَّ فِيهِ تَقْدِيمًا وتَأْخِيرًا، تَقْدِيرُهُ: ثُمَّ أفِيضُوا مِن حَيْثُ أفاضَ النّاسُ، فَإذا أفَضْتُمْ مِن عَرَفاتٍ فاذْكُرُوا اللَّهَ. و"الغَفُورُ" مِن أسْماءِ اللَّهِ، عَزَّ وجَلَّ، وهو مِن قَوْلِكَ: غَفَرْتُ الشَّيْءَ: إذا غَطَّيْتُهُ، فَكَأنَّ الغَفُورَ هو السّاتِرُ لِعَبْدِهِ بِرَحْمَتِهِ، أوِ السّاتِرُ لِذُنُوبِ عِبادِهِ. والغَفُورُ: هو الَّذِي يُكْثِرُ المَغْفِرَةَ، لِأنَّ بِناءَ المَفْعُولِ لِلْمُبالَغَةِ مِنَ الكَثْرَةِ، كَقَوْلِكَ: صَبُورٌ، وضَرُوبٌ، وأكُولٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب