الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ﴾ ذكرنا معنى الإفاضة. و (حيثُ) حقُّها البناء؛ لأنها مُنِعَتْ الإضافةُ مع لزوم معنى الإضافة لها، ولمَّا لزمت معنى الإضافة إلى الجملة، صارت بمنزلة الأسماء الناقصة التي تحتاج إلى صِلَةٍ كالذي ونحوه، والاسم الناقص بمنزلة بعض الكلمة، وبعض الكلمة حرفٌ يستحق البناء، فأما بناؤها على الضم: فلأنها بمنزلة الغاية كقبلُ وبعدُ، من جهة أنها مُنِعت الإضافة، مع لزوم معنى الإضافة، ولو أُعربت لاستحقت النصب والجر فقط؛ لأنها ظرف، والظروف لا تُعْرَبُ إلا بالجر والنصب [[في (م): بالنصب والجر.]]، فإذا أعربت بالرفع لم تكن ظَرفًا، فلما بنيت جعلت على حركة لا تكون لها في حال الإعراب، ويجوز فيها الفتح لأجل الياء، كما فتحت أين وكيفَ، ويجوز الكسر على أصل الحركة لالتقاء الساكنين [[ينظر: "الكتاب" لسيبويه 4/ 233 حيث بين أنها ظرف للمكان، 3/ 286، 299، "مغني اللبيب" ص 176 - 178 (ط. دار الفكر) "لسان العرب" 2/ 1064 - 1065 "حيث".]]. قال عامة أهل التأويل: كانت الحُمْسُ [[الحُمس: تقدم بيانه عند قوله: ﴿وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا﴾ 3/ 627 [البقرة: 189].]] لا يَخْرجون من الحرم إلى عرفات، إنما يقفون بالمزدلفة، ويقولون: نحن أهلُ الله، وقُطَّانُ حَرَمه، فلا نخرج من الحرم، ولسنا كسائر الناس، فأمرهم الله تعالى أن يقفوا بعرفات كما يقف سائرُ الناس، حتى تكون الإفاضة معهم منها، فالناس في هذه الآية: هم العربُ كلُّها غيرُ الحُمس، وإنما أتى الله تعالى بالجمع المبهم لانكشاف معناه عند المخاطبين، هذا قول جمهور المفسرين [[ذكر الرواية بذلك: الطبري في "تفسيره" 2/ 291 - 293 عن عائشة وابن عباس وعروة وعطاء ومجاهد وقتادة والسدي والربيع وابن أبي نجيح، وحديث عائشة رواه البخاري (4520) كتاب التفسير، باب: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس، ومسلم (1219) كتاب الحج، باب: في الوقوف وقوله: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس، كما رواه البخاري (1664) كتاب الحج، باب: الوقوف بعرفة، ومسلم (الموضع السابق) (1225) من حديث جبير بن مطعم. قال الطبري 2/ 293: والذي نراه صوابا من تأويل هذه الآية: أنه عُني بهذه الآية == قريش، ومن كان متحمسا معها من سائر العرب، لإجماع الحجة من أهل التأويل على أن ذلك تأويله. وينظر: "تفسير البغوي" 1/ 230، "تفسير الرازي" 5/ 196.]]. وعلى هذا يبقى إشكال في النَّظْم؛ لأن الله تعالى ذَكَر الإفاضة من عرفاتٍ قبل هذا في قوله: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ﴾، وبينَّا أن في ذكر الإفاضة منها بيانَ وجوب الوقوف، فكيف يسوغ أن يقول: ﴿فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ﴾ ثم أفيضوا من عرفات، ووجه هذا: أن في الكلام تقديمًا وتأخيرًا، تقديره: فمن فرض فيهن الحج فلا رَفَثَ ولا فسوق ولا جدال في الحج، ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس، فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله [["تفسير الثعلبي" 2/ 568، وينظر: "تفسير الطبري" 2/ 293، "تفسير البغوي" 1/ 230، وذكر قولا آخر: أن ثم بمعنى الواو، أي: وأفيضوا، كقوله تعالى: ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البلد: 17].]]. وقال بعضهم: المراد بالإفاضة في هذه الآية: الدَّفْعُ من مزدلفةَ إلى مِنَى، وأراد بالناس: الحُمْس، فإنهم كانوا يفيضون من المزدلفة إلى منى ولا يفيضون من عرفات. والله تعالى ذكر أولًا الإفاضة من عرفات إلى المزدلفة، ثم أمر بالإِفَاضَة من المزدلفة إلى منى [[ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 568، "تفسير البغوي" 1/ 230.]]. والحكم في الوقوف بعرفة والإفاضتين، هو أن الغرض [[في (ش): الفرض.]] من الوقوف بعرفة الحصولُ فيها مجتازًا أو ماكثًا، مستيقظًا أو نائمًا، عالمًا أنه بعرفة أو جاهلًا. والكمال في الصبر إلى غروب الشمس. فإن أفاض قبل الغروب أراق دمًا، وما بين زوال الشمس من يوم عرفة إلى طلوع الفجر الصادق من يوم النحر وَقْتُ إدراك الحج، فمن أدرك عرفة في هذا الوقت تم حجه. فإذا أفاضوا من عرفة إلى المزدلفة باتوا بها، ومن ترك المبيت بها فعليه دم [[ينظر: "الأم" 2/ 233، "أحكام القرآن" للجصاص 1/ 313، "المجموع" 8/ 134، "المغني" 5/ 284.]]، ويجمعون هناك بين صلاتي العشاء، ولهذا يسمي: جمعًا [[ينظر المراجع السابقة.]]، ويسمى أيضًا: قُزَح والمشعر [[ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 564.]]. فإذا أصبحوا بها غَلّسوا بالصبح. ثم وقفوا عند المشعر الحرام وهو آخر حد مزدلفة. والمزدلفة من الحرم كلها، ثم لا يزالون يدعون ويذكرون الله تعالى حتى يقاربوا [[في (ش): يفارقوا.]] طلوع الشمس، ثم يروحون من مزدلفة قبل الطلوع خلافَ العادةِ في الجاهلية [[ينظر: "الأم" 2/ 233، "أحكام القرآن" للجصاص 1/ 313، "المجموع" 8/ 134، "المغني" 5/ 284، "صحيح البخاري" (1684) كتاب الحج، باب: متى يدفع من جمع، "سنن أبي داود" (1938) والترمذي كتاب الحج، باب: الإفاضة من جمع قبل طلوع الشمس 3/ 242 (986)، والنسائي كتاب الحج، باب: الصلاة بجمع 5/ 265.]]، فإنهم كانوا يصبرون إلى الطلوع، ويقولون: أَشْرِقْ ثَبِيْر [[هو ثبير غيناء، ويسمى أيضا: ثبير الأثبرة، أي: كبيرها، وتسميه عامة أهل مكة اليوم: جبل الرخم، وهو المقابل لجبل النور (حراء) من الجنوب والمشرف على منى من الشمال. "معجم البلدان" 2/ 73، "معالم مكة" للبلادي ص 55.]] كيما نُغِير [[رواه البخاري (1684) كتاب الحج، باب: متى يدفع من جمع، عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه -.]]، ومعناه: أشرق يا ثبير بالشمس كيما نَدْفَعَ من مزدلفَةَ، فندخل في غَورِ الأرض، وهو المنخفض منها، وذلك أنهم إذا جاوزوا المزدلفة صاروا في هبوط من الأرض، وهناك بطن وادي محسر، والوادي فاصل بين حد مزدلفة وحد منى [[المحَسِّر: واد ليس من منى ولا المزدلفة، بل هو واد برأسه، وهو واد صغير يأتي من الجهة الشرقية لثبير الأعظم من طرف ثقبة، ويذهب إلى وادي عرَنة، فإذا مر بين منى ومزدلفة، كان الحد بينهما، والمعروف منه للعامة ما يمر فيه الحاج بين مزدلفة ومنى، وله علامات هناك منصوبة. "معجم البلدان" 5/ 62، "معالم مكة" ص 248.]]. وذهب الزُّهري [[ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 570، البغوي في "تفسيره" 1/ 231، "زاد المسير" 1/ 214، "تفسير الرازي" 5/ 197.]] إلى أن (الناس) في هذه الآية: آدم -عليه السلام- واحتج بقراءة سعيد بن جبير: (ثم أفيضوا من حيث أفاض الناسي [[في (ش): الناس.]]). وقال: هو آدم، نسي ما عُهد إليه. وروي أنه قرأ (الناسِ) فاكتُفي [[في (ش) و (أ): اكتفى.]] من الياء بالكسرة [[ذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 570، البغوي في "تفسيره" 1/ 231، وابن جني في "المحتسب" 1/ 119، وابن خالويه في "مختصر شواذ القراءات" ص 20، وابن عطية في "المحرر الوجيز" 2/ 177، وقال: وقرأ سعيد بن جبير: الناسي، وتأوله: آدم عليه السلام، ويجوز عند بعضهم: تخفيف الياء فيقول الناس كالقاض والهاد، قال ابن عطية: أما جوازه في العربية فذكره سيبويه، وأما جوازه مقروءًا به فلا أحفظه. وبها قرأ أبو المتوكل، وأبو نهيك، ومورق العجلي: الناسي، بإثبات الياء، ينظر: "زاد المسير" 1/ 214.]]. وقال الضحاك: الناسُ هاهنا: إبراهيم عليه السلام [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 293، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 354، وينظر: "النكت والعيون" 1/ 261، "زاد المسير" 1/ 214، وبين الطبري في "تفسيره" 2/ 293: أنه لولا إجماع الحجة لكان الأولى بتأويل الآية قول الضحاك؛ لأن الإفاضة من عرفات قبل الإفاضة من مزدلفة، وقبل وجوب الذكر عند المشعر الحرام، وقد تقدم الأمر بها، فالأمر هنا إنما هو بالإفاضة من الموضع الذي لم يفيضوا منه دون ما أفاضوا منه.]]، وهذا كقوله: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ اَلنَّاسُ﴾ يعني: نعيم بن مسعود [[هو: أبو سلمة، نعيم بن مسعود بن عامر الأشجعي، صحابي مشهور، هاجر إلى الرسول ﷺ يوم الخندق، وهو الذي خذَّل المشركين واليهود حتى صرفهم الله، سكن المدينة، قُتِلَ في وقعة الجمل في أول خلافة علي، وقيل في خلافة عثمان. ينظر: "الإصابة" 3/ 568، "أسد الغابة" 5/ 348.]] ﴿إِنَّ اَلنَّاسَ﴾ [آل عمران: 173] يعني: أبا سفيان، وإنما يقال هذا للذي يُقْتَدى به ويكون لسان قومه [[ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 294، "تفسير الثعلبي" 2/ 569، "تفسير البغوي" 1/ 230 - 231، "التفسير الكبير" 5/ 196.]]. قال ابن الأنباري: وإيقاع الجمع على الواحد جائز، كما تقول العرب: خرج زيدٌ إلى البصرة في السفن، وإلى الكوفة على البغال.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب