الباحث القرآني

ولَمّا قَبَّحَ عَلَيْهِمْ ما كانُوا عَلَيْهِ مِنَ المُخالَفَةِ في الوُقُوفِ بِالنِّسْبَةِ إلى الضَّلالِ بِالجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ مُؤَكَّدَةً بِأنْواعِ التَّأْكِيدِ وكانَ ما مَضى مِن ذِكْرِ الإفاضَةِ لَيْسَ بِقاطِعٍ في الوُجُوبِ أشارَ لَهم إلى تَعْظِيمِ ما هَداهم لَهُ مِنَ المُوافَقَةِ بِأداةِ التَّراخِي فَقالَ عاطِفًا عَلى ما تَقْدِيرُهُ: فَلا تُفِيضُوا مِنَ المَشْعَرِ الحَرامِ الإفاضَةَ الَّتِي كُنْتُمْ تُخالِفُونَ فِيها النّاسَ دالًّا عَلى تَفاوُتِ الإفاضَتَيْنِ وبُعْدِ ما بَيْنَهُما عَلى وجْهٍ مُعْلَمٍ بِالوُجُوبِ: ﴿ثُمَّ﴾ أيْ بَعْدَ طُولِ تَلَبُّسِكم بِالضَّلالِ أنْزَلْتُ عَلَيْكم في هَذا الذِّكْرِ الحَكِيمِ (p-١٥٣)الَّذِي أبَيْتُمُوهُ وهو عِزُّكم وشَرَفُكم لا ما ظَنَنْتُمْ أنَّهُ شَرَفٌ لَكم بِالتَّعَظُّمِ عَلى النّاسِ بِمُخالَفَةِ الهُدى في الوُقُوفِ بِالمُزْدَلِفَةِ والإفاضَةِ مِنها ﴿أفِيضُوا﴾ أيْ إذا قَضَيْتُمُ الوُقُوفَ. وقالَ الحَرالِيُّ: لَمّا كانَ لِلْخِطابِ تَرْتِيبٌ لِلْأهَمِّ فالأهَمِّ كَما كانَ لِلْكِيانِ تَرْتِيبٌ لِلْأسْبَقِ فالأسْبَقِ كانَ حَرْفُ المُهْلَةِ الَّذِي هو ثُمَّ، يَقَعُ تارَةً لِتَرْتِيبِ الكِيانِ وتارَةً لِتَرْتِيبِ الإخْبارِ فَيَقُولُ القائِلُ مَثَلًا: امْشِ إلى حاجَةِ كَذا - تَقْدِيمًا في الخَبَرِ الأهَمِّ - ثُمَّ لِيَكُنْ خُرُوجُكَ مِن مَوْضِعِ كَذا، فَيَكُونُ السّابِقُ في الكِيانِ مُتَأخِّرًا بِالمُهْلَةِ في الإخْبارِ، فَمِن مَعْنى ذَلِكَ قَوْلُهُ - انْتَهى. ثُمَّ أفِيضُوا أيُّها الحَمْسُ ! ﴿مِن حَيْثُ أفاضَ النّاسُ﴾ أيْ مُعْظَمُهم وهو عَرَفاتٌ، إلى المَشْعَرِ الحَرامِ لِتَبِيتُوا بِهِ، ورَوى البُخارِيُّ في التَّفْسِيرِ عَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها قالَتْ: «كانَتْ قُرَيْشٌ ومَن دانَ دِينَها يَقِفُونَ بِالمُزْدَلِفَةِ وكانُوا يَسْمَعُونَ الحَمْسَ وكانَ سائِرُ العَرَبِ (p-١٥٤)يَقِفُونَ بِعَرَفاتٍ فَلَمّا جاءَ الإسْلامُ أمَرَ اللَّهُ تَعالى نَبِيَّهُ ﷺ أنْ يَأْتِيَ عَرَفاتٍ ثُمَّ يَقِفَ بِها ثُمَّ يُفِيضَ مِنها فَذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحانَهُ وتَعالى ﴿ثُمَّ أفِيضُوا﴾» الآيَةَ، ﴿واسْتَغْفِرُوا اللَّهَ﴾ أيِ اطْلُبُوا مِن ذِي الجَلالِ والإكْرامِ أنْ يَغْفِرَ لَكم ما كُنْتُمْ تَفْعَلُونَهُ أيّامَ جاهِلِيَّتِكم مِن مُخالَفَةِ الهُدى في الوُقُوفِ وما يَبْقى في الأنْفُسِ مِن آثارِ تِلْكَ العادَةِ ومِن غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ النَّقائِصِ الَّتِي يَعْلَمُها اللَّهُ مِنكم. قالَ الحَرالِيُّ: والعاداتُ أشَدُّ ما عَلى المُتَعَبِّدِينَ والطَّرِيقُ إلى اللَّهِ تَعالى بِخَلْعِها، وقَدْ كانَ جِدالُهم أيْ في وُقُوفِهِمْ في الحَرَمِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِأنَّ العِلْمَ يَقْتَضِي أنَّ الواقِفَ خائِفٌ والخائِفَ لا يَخافُ في الحَرَمِ لِأنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى جَعَلَ الحَرَمَ آمِنًا، فَمِن حَقِّ الوُقُوفِ أنْ يَكُونَ في الحِلِّ فَإذا أمِنَ دَخَلَ الحَرَمَ وإذا دَخَلَ الحَرَمَ أمِنَ - انْتَهى. وأظْهَرَ الِاسْمَ الشَّرِيفَ تَعْرِيفًا لِلْمَقامِ وإعْلامًا بِأنَّهُ (p-١٥٥)مَوْصُوفٌ بِما يَصِفُهُ بِهِ عَلى وجْهِ العُمُومِ مِن غَيْرِ نَظَرٍ إلى قَيْدٍ ولا حَيْثِيَّةٍ فَقالَ: ﴿إنَّ اللَّهَ﴾ ذا الكَمالِ ﴿غَفُورٌ﴾ أيْ سُتُورُ ذَنْبِ مَنِ اسْتَغْفَرَهُ ﴿رَحِيمٌ﴾ أيْ بَلِيغُ الرَّحْمَةِ يُدْخِلُ المُسْتَغْفِرَ في جُمْلَةِ المَرْحُومِينَ الَّذِينَ لَمْ يَبْدُ مِنهم ذَنْبٌ فَهو يَفْعَلُ بِهِمْ مِنَ الإكْرامِ فِعْلَ الرّاحِمِ بِالمَرْحُومِ لِيَكُونَ التّائِبُ مِنَ الذَّنْبِ كَمَن لا ذَنْبَ لَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب