الباحث القرآني
وقَوْلُهُ: ﴿ثُمَّ أفِيضُوا مِن حَيْثُ أفاضَ النّاسُ﴾ .قِيلَ: مَعْناهُ: أنَّهُ خِطابٌ لِلْحُمْسِ وهم قُرَيْشٌ، فَإنَّهم كانُوا يَقِفُونَ بِالمُزْدَلِفَةِ، ويَقِفُ سائِرُ النّاسِ بِعَرَفاتٍ، فَلَمّا جاءَ الإسْلامُ، أُمِرَتْ قُرَيْشٌ بِأنْ تُفِيضَ مِن حَيْثُ أفاضَ النّاسُ ويَقِفُوا مِنهم.وقالَ الضَّحّاكُ: إنَّهُ أرادَ بِهِ الوُقُوفَ بِالمُزْدَلِفَةِ، وأنْ يُفِيضُوا مِن حَيْثُ أفاضَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ، وسَمّاهُ النّاسَ، كَما سَمّاهُ أُمَّةً، لِأنَّهُ بِوَحْدَتِهِ أُمَّةٌ كالنّاسِ، وأكْثَرُ النّاسِ عَلى القَوْلِ الأوَّلِ، إلّا أنَّ قَوْلَ الضَّحّاكِ أقْوى مِن حَيْثُ دَلالَةُ النَّظْمِ، فَإنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ: ﴿فَإذا أفَضْتُمْ مِن عَرَفاتٍ﴾، فَذَكَرَ الإفاضَةَ مِن عَرَفاتٍ، ثُمَّ أرْدَفَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ أفِيضُوا مِن حَيْثُ أفاضَ النّاسُ﴾، وثُمَّ تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ لا مَحالَةَ، فَعَلِمْنا أنَّ هَذِهِ الإفاضَةَ، هي بَعْدَ الإفاضَةِ مِن عَرَفاتٍ، ولَيْسَ بَعْدَها إفاضَةٌ، إلّا مِنَ المُزْدَلِفَةِ وهي المَشْعَرُ الحَرامُ، فَكانَ حَمْلُهُ (p-١١٦)عَلى هَذا، أوْلى مِنهُ عَلى الإفاضَةِ مِن عَرَفَةَ، لِأنَّ الإفاضَةَ مِن عَرَفَةَ، قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُها، فَلا وجْهَ لِإعادَتِها.
ويَبْعُدُ أنْ يَقُولَ: ﴿فَإذا أفَضْتُمْ مِن عَرَفاتٍ، فاذْكُرُوا اللَّهَ﴾ بَعْدَ الإفاضَةِ مِنَ المَشْعَرِ الحَرامِ، ثُمَّ أفِيضُوا مِن عَرَفاتٍ.
وغايَةُ ما قِيلَ في القَوْلِ الآخَرِ: ﴿ثُمَّ أفِيضُوا مِن حَيْثُ أفاضَ النّاسُ﴾، عائِدٌ إلى الكَلامِ الأوَّلِ، وهو الخِطابُ بِذِكْرِ الحَجِّ ومَناسِكِهِ، ثُمَّ قالَ: أيُّها المَأْمُورُونَ بِالحَجِّ مِن قُرَيْشٍ -بَعْدَما تَقَدَّمَ ذِكْرُنا لَهُ- أفِيضُوا مِن حَيْثُ أفاضَ النّاسُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ راجِعًا إلى صِلَةِ خِطابِ المَأْمُورِينَ، وهو كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ثُمَّ آتَيْنا مُوسى الكِتابَ تَمامًا عَلى الَّذِي أحْسَنَ﴾ [الأنعام: ١٥٤] .
والمَعْنى: ثُمَّ بَعْدَما ذَكَرْنا لَكُمْ، أُخْبِرُكم أنّا آتَيْنا مُوسى الكِتابَ تَمامًا عَلى الَّذِي أحْسَنَ.
ويُعْتَرَضُ عَلَيْهِ أنَّ ذِكْرَ الإفاضَةِ إذا تَقَدَّمَ وعَقَّبَ بَعْدَهُ بِنُسُكٍ آخَرَ، يَقْتَضِي الإفاضَةَ، فَلا يَحْسُنُ أنْ يُذْكَرَ بِكَلِمَةٍ ثُمَّ ما يَرْجِعُ عَلى الإفاضَةِ مِنَ الَّذِي تَقَدَّمَ، دُونَ أنْ يَرْجِعَ إلى ما يَلِيهِ.
وقَدْ قِيلَ: إنَّ ”ثُمَّ“ بِمَعْنى الواوِ، ولا يَبْعُدُ أنْ يَقُولَ: ﴿فَإذا أفَضْتُمْ مِن عَرَفاتٍ فاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرامِ﴾، ﴿ثُمَّ أفِيضُوا مِن حَيْثُ أفاضَ النّاسُ﴾، مِثْلُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [البلد: ١٧] ومَعْناهُ: وكانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا، ﴿ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ﴾ [يونس: ٤٦] ومَعْناهُ: ”واللَّهُ شَهِيدٌ“ . (p-١١٧)فَقِيلَ لَهُمْ: قَدْ ذَكَرَ الإفاضَةَ مِن عَرَفاتٍ، فَأيُّ مَعْنًى لِذِكْرِ الإفاضَةِ ثانِيًا؟
فَأجابُوا: بِأنَّ فائِدَتَهُ أنْ يُعْلَمَ أنَّهُ لَيْسَ خِطابًا لِمَن كانَ يَقِفُ بِها مِن قَبْلُ، دُونَ مَن لَمْ يَكُنْ يَرى الوُقُوفَ بِها، فَيَكُونُ التّارِكُونَ لِلْوُقُوفِ عَلى مِلَّةِ إبْراهِيمَ في الوُقُوفِ بِالمُزْدَلِفَةِ دُونَ عَرَفاتٍ، فَأبْطَلَ ظَنَّ الظّانِّ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿أفِيضُوا مِن حَيْثُ أفاضَ النّاسُ﴾ .أمّا كَوْنُ الوُقُوفِ رُكْنًا لا يَصِحُّ الحَجُّ بِدُونِهِ، فَإنَّما عُلِمَ بِالإجْماعِ وفِيهِ إخْبارٌ أيْضًا، فَمِنهُ ما رَواهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَعْمَرَ الدِّيَلِيِّ قالَ:
«سُئِلَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلامُ: كَيْفَ الحَجُّ؟ قالَ: ”يَوْمُ عَرَفَةَ، مَن جاءَ عَرَفَةَ لَيْلَةَ جَمْعٍ قَبْلَ الفَجْرِ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ“» .ورَوى الشَّعْبِيُّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ الطّائِيِّ، «أنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ بِالمُزْدَلِفَةِ:
”مَن صَلّى مَعَنا هَذِهِ الصَّلاةَ، ووَقَفَ مَعَنا هَذا المَوْقِفَ، ووَقَفَ بِعَرَفَةَ لَيْلًا أوْ نَهارًا، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وقَضى تَفَثَهُ“» .
ولَيْسَ وُجُوبُ الوُقُوفِ والِاعْتِدادُ بِهِ مَخْصُوصًا بِاللَّيْلِ أوِ النَّهارِ، فالوُقُوفُ نَهارًا غَيْرُ مَفْرُوضٍ، وإنَّما هو مَسْنُونٌ، وقَدْ دَلَّ ما رَوَيْناهُ مِنَ الخَبَرِ ومُطْلَقِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ثُمَّ أفِيضُوا﴾، عَلى عَدَمِ اخْتِصاصِهِ بِلَيْلٍ أوْ نَهارٍ، ولا يُعْرَفُ لِمَذْهَبِ مالِكٍ وجْهٌ، إلّا أنَّ أهْلَ الجاهِلِيَّةِ كانُوا يَدْفَعُونَ مِنها، إذا صارَتِ الشَّمْسُ عَلى رُؤُوسِ الجِبالِ، كَأنَّها عَمائِمُ الرِّجالِ في وُجُوهِهِمْ، وإنَّما كانُوا يَدْفَعُونَ مِنَ المُزْدَلِفَةِ، بَعْدَ طُلُوعِ (p-١١٨)الشَّمْسِ، فَخالَفَهُمُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلامُ، ودَفَعَ مِن عَرَفاتٍ بَعْدَ الغُرُوبِ، ومِنَ المُزْدَلِفَةِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ، فَرَأى أنَّ خاصِّيَّةَ الشَّرِيعَةِ في مُراغَمَةِ الكُفّارِ في عاداتِهِمْ، والمُراغَمَةُ إنَّما تَحْصُلُ بِالوُقُوفِ لَيْلًا.والَّذِي قالُوهُ لا يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ فَرْضًا، بَلْ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ نَدْبًا، فَإثْباتُ الوُجُوبِ عَلى هَذا المَعْنى لا وجْهَ لَهُ.
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإذا أفَضْتُمْ مِن عَرَفاتٍ فاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرامِ﴾، ولَمْ يَخْتَلِفِ العُلَماءُ في أنَّ المَشْعَرَ الحَرامَ هو المُزْدَلِفَةِ، ويُسَمّى جَمْعًا أيْضًا، والذِّكْرُ الثّانِي في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿واذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ﴾، هَذا الذِّكْرُ المَفْعُولُ عِنْدَ المُزْدَلِفَةِ غَداةَ جَمْعٍ، فَيَكُونُ الذِّكْرُ الأوَّلُ غَيْرَ الثّانِي، والصَّلاةُ تُسَمّى ذِكْرًا لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي﴾ [طه: ١٤] .
فَيَجُوزُ أنْ يُفْهَمَ مِنهُ تَأْخِيرُ صَلاةِ المَغْرِبِ، إلى أنْ تُجْمَعَ مَعَ العَشاءِ بِالمُزْدَلِفَةِ، وتَواتَرَتِ الأخْبارُ في جَمْعِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ بَيْنَ المَغْرِبِ والعَشاءِ بِالمُزْدَلِفَةِ.
واخْتُلِفَ فِيمَن صَلّى المَغْرِبَ قَبْلَ أنْ يَأْتِيَ المُزْدَلِفَةَ، فالشّافِعِيُّ وأبُو يُوسُفَ يُجَوِّزانِ، وأبُو حَنِيفَةَ ومُحَمَّدٌ لا يُجَوِّزانِ.
فَأمّا الوُقُوفُ بِالمُزْدَلِفَةِ فَلَيْسَ بِرُكْنٍ عِنْدَ أكْثَرِ العُلَماءِ، وقالَ الأصَمُّ وابْنُ عَلِيَّةَ: إنَّهُ رُكْنٌ.
وقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: «الحَجُّ عَرَفَةُ».
ومَن وقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ أنْ يَطْلُعَ الفَجْرُ، فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ بِإدْراكِ عَرَفَةَ، ولَمْ يَشْتَرِطْ مَعَهُ الوُقُوفَ بِجَمْعٍ. (p-١١٩)نَعَمْ قَدْ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرامِ﴾، والذِّكْرُ بِالإجْماعِ لَيْسَ بِواجِبٍ، ولَعَلَّ المُرادَ بِالذِّكْرِ الصَّلاةُ، وهي الجَمْعُ بَيْنَ المَغْرِبِ والعَشاءِ بِالمُزْدَلِفَةِ.
{"ayah":"ثُمَّ أَفِیضُوا۟ مِنۡ حَیۡثُ أَفَاضَ ٱلنَّاسُ وَٱسۡتَغۡفِرُوا۟ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق