الباحث القرآني

﴿ثُمَّ أفِيضُوا مِن حَيْثُ أفاضَ النّاسُ﴾ أيْ: مِن عَرَفَةَ لا مِنَ المُزْدَلِفَةِ، والخِطابُ عامٌّ، والمَقْصُودُ إبْطالُ ما كانَ عَلَيْهِ الحِمْسُ مِنَ الوُقُوفِ بِجَمْعٍ، فَقَدْ أخْرَجَ البُخارِيُّ ومُسْلِمٌ «عَنْ عائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها - قالَتْ: كانَتْ قُرَيْشٌ ومَن دانَ دِينَها يَقِفُونَ بِالمُزْدَلِفَةِ، وكانُوا يُسَمُّونَ الحِمْسُ، وكانَتْ سائِرُ العَرَبِ يَقِفُونَ بِعَرَفاتٍ، فَلَمّا جاءَ الإسْلامُ أمَرَ اللَّهُ - تَعالى - نَبِيَّهُ - صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ - أنْ يَأْتِيَ عَرَفاتٍ ثُمَّ يَقِفُ بِها ثُمَّ يَفِيضُ مِنها، فَذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿ثُمَّ أفِيضُوا﴾ الآيَةَ،» ومَعْناها ﴿ثُمَّ أفِيضُوا﴾ أيُّها الحُجّاجُ مِن مَكانٍ أفاضَ جِنْسُ النّاسِ مِنهُ قَدِيمًا وحَدِيثًا، وهو عَرَفَةُ لا مِن مُزْدَلِفَةَ، وجَعْلُ الضَّمِيرِ عِبارَةً عَنِ الحِمْسِ يَلْزَمُ مِنهُ بَتْرُ النَّظْمِ؛ إذِ الضَّمائِرُ السّابِقَةُ واللّاحِقَةُ كُلُّها عامَّةٌ، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإذا أفَضْتُمْ﴾ ولَمّا كانَ المَقْصُودُ مِن هَذِهِ التَّعْرِيضَ كانَتْ في قُوَّةٍ، ثُمَّ لا تُفِيضُوا مِنَ المُزْدَلِفَةِ، وأتى بِـ ( ثُمَّ ) إيذانًا بِالتَّفاوُتِ بَيْنَ الإفاضَتَيْنِ في الرُّتْبَةِ، بِأنَّ إحْداهُما صَوابٌ والأُخْرى خَطَأٌ، ولا يَقْدَحُ في ذَلِكَ أنَّ التَّفاوُتَ إنَّما يُعْتَبَرُ بَيْنَ المُتَعاطِفَيْنِ لا بَيْنَ المَعْطُوفِ عَلَيْهِ وما دَخَلَهُ حَرْفُ النَّفْيِ مِنَ المَعْطُوفِ؛ لِأنَّ الحَصْرَ مَمْنُوعٌ، وكَذا لا يَضُرُّ انْفِهامُ التَّفاوُتِ مِن كَوْنِ أحَدِهِما مَأْمُورًا بِهِ، والآخَرِ مَنهِيًّا عَنْهُ كَيْفَما كانَ العَطْفُ؛ لِأنَّ المُرادَ أنَّ كَلِمَةَ ( ثُمَّ ) تُؤْذِنُ بِذَلِكَ، مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ تَعَلُّقِ الأمْرِ والنَّهْيِ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ العَطْفُ عَلى ( فاذكروا ) ويُعْتَبَرُ التَّفاوُتُ بَيْنَ الإفاضَتَيْنِ أيْضًا كَما في السّابِقِ بِلا تَفاوُتٍ، وبَعْضُهم جَعَلَهُ مَعْطُوفًا عَلى مَحْذُوفٍ؛ أيْ: أفِيضُوا إلى مِنًى، ﴿ثُمَّ أفِيضُوا﴾ إلَخْ، ولَيْسَ بِشَيْءٍ، كالقَوْلِ بِأنَّ في الآيَةِ تَقْدِيمًا وتَأْخِيرًا، والتَّقْدِيرُ ( لَيْسَ عَلَيْكم جُناحٌ أنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِن رَبِّكم، ثُمَّ أفِيضُوا مِن حَيْثُ أفاضَ النّاسُ، فَإذا أفَضْتُمْ مِن عَرَفاتٍ فاذْكَرُوا اللَّهَ عِنْدَ المَشْعَرِ الحَرام، واستغفروا ) وإذْ أُرِيدَ بِالمُفاضِ مِنهُ المُزْدَلِفَةُ وبِالمُفاضِ إلَيْهِ مِنًى - كَما قالَ الجِبّائِيُّ - بَقِيَتْ كَلِمَةُ ( ثُمَّ ) عَلى ظاهِرِها؛ لِأنَّ الإفاضَةَ إلى مِنًى بَعِيدَةٌ عَنِ الإفاضَةِ مِن ( عَرَفاتٍ )؛ لِأنَّ الحاجَّ إذا أفاضُوا مِنها عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ يَوْمَ عَرَفَةَ يَجِيئُونَ إلى المُزْدَلِفَةِ لَيْلَةَ النَّحْرِ ويَبِيتُونَ بِها، فَإذا طَلَعَ الفَجْرُ وصَلَّوْا بِغَلَسٍ ذَهَبُوا إلى قُزَحٍ فَيَرْقَوْنَ فَوْقَهُ أوْ يَقِفُونَ بِالقُرْبِ مِنهُ، ثُمَّ يَذْهَبُونَ إلى وادِي مُحَسِّرٍ، ثُمَّ مِنهُ إلى مِنًى، والخِطابُ عَلى هَذا عامٌّ بِلا شُبْهَةَ، والمُرادُ مِنَ النّاسِ الجِنْسُ كَما هو الظّاهِرُ؛ أيْ: مِن حَيْثُ أفاضَ النّاسُ كُلُّهم قَدِيمًا وحَدِيثًا، وقِيلَ: المُرادُ بِهِمْ إبْراهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلامُ - وسُمِّيَ ناسًا؛ لِأنَّهُ كانَ إمامًا لِلنّاسِ، وقِيلَ: المُرادُ هو وبَنُوهُ، وقُرِئَ: ( النّاسِ ) بِالكَسْرِ؛ أيِ: النّاسِي، والمُرادُ بِهِ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ؛ لِقَوْلِهِ تَعالى في حَقِّهِ: ﴿فَنَسِيَ﴾ وكَلِمَةُ ثُمَّ عَلى هَذِهِ القِراءَةِ لِلْإشارَةِ إلى بَعْدِ ما بَيْنَ الإفاضَةِ مِن عَرَفاتٍ والمُخالَفَةِ عَنْها، بِناءً عَلى أنَّ مَعْنى ﴿ثُمَّ أفِيضُوا﴾ عَلَيْها ثُمَّ لا تُخالِفُوا عَنْها لِكَوْنِها شَرْعًا قَدِيمًا، كَذا قِيلَ فَلْيُتَدَبَّرْ. ﴿واسْتَغْفِرُوا اللَّهَ﴾ مِن جاهِلِيَّتِكم في تَغْيِيرِ المَناسِكِ ونَحْوِهِ ﴿إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ﴾ لِلْمُسْتَغْفِرِينَ ﴿رَحِيمٌ 199﴾ بِهِمْ مُنْعِمٌ عَلَيْهِمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب