قوله تعالى: {وَمُصَدِّقاً} : نَسَقٌ على محلِّ «بآية» ؛ لأنَّ «بآية» في محلِّ نصبٍ على الحال إذ التقديرُ: وجئتكم ملتبساً بآية ومصدقاً. وقال الفراء والزجاج: «نصب مصدقاً على الحال، المعنى: وجئتُكم مصدقاً لما بين يديَّ، وجاز إضمار» جئتُكم «لدلالةِ أولِ الكلامِ عليه، وهو قوله: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} ، ومثلُه في الكلام:» جئته بما يحب ومكرماً له «. قال الفراء:» ولا يجوزُ أَنْ يكون «ومصدقاً» معطوفاً على «وجيهاً» لأنه لو كان ذلك لقال: «ومُصَدِّقاً لِما بين يديه» يعني أنه لو كان معطوفاً عليه لأتى معه بضميرِ الغيبةِ لا بضمير التكلم، وكذلك ذَكَرَ غيرُ الفراء، ومَنَع أيضاً أن يكونَ منسوقاً على «رسولاً» قال: «لأنه لو كان مردوداً عليه لقال:» وَمُصَدِّقاً لِما بين يديك «لأنه خَاطَبَ بذلك مريم، أو قال: بين يديه» يعني أنه لو كان معطوفاً على «رسولاً» لكان ينبغي أن يُؤْتى بضميرِ الخطاب مراعاةً لمريم أو بضميرِ الغَيْبة مراعاةً للاسم الظاهر. قال الشيخ: «وقد ذَكَرْنا أنه يجوزُ في» ورسولاً «أن يكونَ منصوباً بإضمار فعلٍ أي: وأُرْسِلْتُ رسولاً» فعلى هذا التقديرِ يكون «مصدقاً» معطوفاً على «رسولاً» .
قوله: {مِنَ التوراة} فيه وجهان، أحدُهما: أنه حالٌ من «ما» الموصولةِ أي: الذين بين يديَّ حالَ كونِهِ من التوراةِ، فالعامِلُ فيه «مصدقاً» لأنه عاملٌ في صاحبِ الحال، والثاني: أنه حالٌ من الضمير المستترِ في الظرفِ الواقِعِ صلةً، والعامِلُ فيه الاستقرارُ المضمرُ في الظرفِ أو نفسُ الظرفِ لقيامِهِ مقامَ الفعلِ.
قوله: {وَلأُحِلَّ} فيه أوجه أحدها: أنه معطوفٌ على معنى «مصدقاً» إذ المعنى: جئتُكم لأصدِّقَ ما بين يديّ ولأُحِلَّ لكم، ومثلُه من الكلام: «جئتُه معتذراً إليه ولأجتلِبَ رضاه، أي: جئتُ لأعتذرَ ولأجتلبَ، كذا قال الواحدي وفيه نظرٌ، لأن المعطوفَ عليه حال، وهذا تعليلٌ. قال الشيخ بعد أَنْ ذَكَرَ هذا الوجهَ:» وهذا هو العطفُ على التوهُّمِ وليس هذا منه، لأن معقوليةَ الحالِ مخالفةٌ لمعقوليةِ التعليلِ، والعطفُ على التوهم لا بد أَنْ يكونَ المعنى مُتَّحِداً في المعطوفِ والمعطوفِ عليه، ألا ترى إلى قوله: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن} [المنافقون: 10] كيف اتَّحد المعنى من حيث الصلاحيةُ لجوابِ التخضيض، وكذلك قولُه:
1303 - تَقِيٌّ نَقِيٌّ لم يُكَثِّرْ غنيمةً ... بنَهْكَةٍ ذي قُرْبى ولا بِحَقَلِّدِ كيف اتَّحد معنى النفي في قولِه: «لم يُكَثِّرْ» وفي قوله: «ولا بحقلَّد» أي: ليس بمكثرٍ ولا بحقلدٍ، وكذلك ما جاء منه «.
قلت: ويمكن أَنْ يُريدَ هذا القائلُ أنه معطوفٌ على معنى «مصدقاً» أي: بسببِ دلالتِهِ على علةٍ محذوفةٍ هي موافقةٌ له في اللفظِ فَنَسَبَ العطفَ على معناه باعتبارِ دلالته على العلةِ المحذوفةِ لأنها تشاركه في أصلِ معناه، أعني مدلولَ المادةِ وإنْ كانت دلالةُ الحالِ غيرَ دلالةِ العلةِ.
الثاني: أنه معطوفٌ على علةٍ مقدرةٍ أي: جئتُكم بآيةٍ لأوسِّعَ عليكم ولأُِحِلَّ، أو لأِخَفِّفَ عنكم ولأُِحِلَّ ونحوُ ذلك.
الثالث: أنه معمولٌ لفعلٍ مضمرٍ لدلالةِ ما تقدَّم عليه أي: وجئتُكم لأُِحِلَّ، فحُذِفَ العاملُ بعد الواوِ.
الرابع: أنه متعلِّقٌ بقولِهِ: {وَأَطِيعُونِ} والمعنى: اتِّبعوني لأُِحِل لكم، وهذا بعيدٌ جداً أو ممتنعٌ.
الخامس: أن يكونَ «ولأِحِلَّ» ردَّاً على قولِهِ: «بآية» ، قال الزمخشري: «ولأِحِلَّ» ردٌّ على قولِه: {بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} أي «جئتكم بآيةٍ من ربكم ولأِحلَّ» . قال الشيخ: «ولا يَسْتَقِيم أن يكونَ» ولإِحلَّ لكم «ردَّاً على» بآيةٍ «؛ لأنَّ» بآية «في موضِعِ حالٍ، و» لأِحِلَّ «تعليلٌ ولا يَصِحُّ عطفُ التعليلِ على الحالِ؛ لأنَّ العطفَ بالحرفِ المُشَرِّك في الحكم يُوجِبُ التشريكَ في جنسِ المعطوفِ عليه، فإنْ عَطَفْتَ على مصدرٍ أو مفعولٍ به أو ظرفٍ أو حالٍ أو تعَليلٍ أو غيرِ ذلك شارَكَهُ في ذلك المعطوفِ» قلت: ويُحتمل أن يكونَ جوابُه ما تقدَّم من أنه أرادَ رَدًّاً على «بآية» من حيث دلالتُها على عاملٍ مقدَّرٍ.
قوله: {بَعْضَ الذي حُرِّمَ} المرادُ ببعض مدلولُهُ الأصلي، وقال أبو عبيدة «إنها هنا بمعنى» كل «مستدلاً بقولِ لبيد:
1304 - تَرَّاكُ أمكنةٍ إذا لم أَرْضَها ... أو يَرْتَبِطْ بعضَ النفوسِ حِمامُها
وقد رَدَّ الناسُ عليه بأنه كان يَلْزَمُ أن يُحِلَّ لهم الربا والسرقة والقتل لأنها كانت مُحَرَّمةً عليهم، فلو كان المعنى: ولأِحِلَّ لكم كلَّ الذي حُرِّم عليكم لأَحَلَّ لهم ذلك كله. واستَدَلَّ بعضُهم على أنَّ» بعضاً «بمعنى» كل «بقولِ الآخر:
1305 - أبا منذرٍ أَفْنَيْتَ فاستَبِقْ بعضَنَا ... حَنَانَيْكَ بعضُ الشرِّ أهونُ من بعضِ
أي: أهونُ من كل الشرِّ، واستدلَّ آخرون بقولِ الآخر:
1306 - إنَّ الأمورَ إذا الأحداثُ دَبَّرها ... دونَ الشيوخِ تَرى في بعضِها خَلَلا
أي: في كلِّها خَلَلاً، ولا حاجةً إلى إخراجِ اللفظِ عن مدلولِهِ مع إمكان صحة معناه، إذ مرادُ لبيد ببعضٍ النفوس نفسُه هو، والتبعيضُ في البيتين الآخرين واضحٌ فإنَّ الشرَّ بعضُه أهونُ من بعضٍ آخرَ لا مِنْ كله، وكذلك ليس كلُّ أمرٍ دَبَّره الأحداثُ كان فيه خَلَلٌ، بل قد يأتي تدبيرُهُ أحسنَ من تدبيرِ الشيخ.
وقرأ العامةُ:» حُرِّمَ «مبنياً للمفعول والفاعلُ هو الله تعالى. وقرأ عكرمة:» حَرَّم «مبنياً للفاعلِ وهو اللهُ تعالى أو الموصولُ في قوله: {لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ} لأنه كتابٌ مُنَزَّلٌ، أو موسى لأنه هو صاحبُ التوراةِ، فَأَضْمَر للدلالةِ عليه بِذِكْرِ كتابِهِ.
وقرأ إبراهيم النخعي: «حَرُمَ» بوزن شَرُف وظَرُف، نَسَبَ الفعل إليه/ مجازاً للعلمِ أنَّ المُحَرِّم هو الله تعالى.
قوله: {وَجِئْتُكُمْ} هذه الجملةُ يُحْتمل أن تكونَ تأكيداً للأولى لتقدُّم معناها ولفظِها قبلَ ذلك. قال أبو البقاء: «هذا تكريرٌ للتوكيد لأنه سَبَقَ هذا المعنى في الآيةِ التي قبلَها» ويُحْتَمل أَنْ تكونَ للتأسيس لاختلافِ متعلِّقِها ومتعلَّقِ ما قبلَها. قال الشيخ: «وجِئْتُكم بآيةٍ من ربكم للتأسيس لا للتوكيد لقوله:» قد جِئْتكم «، وتكون هذه الآيةُ قولَهُ: {إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه} لأنَّ هذا القولَ شاهِدٌ على صحةِ رسالتِهِ؛ إذ جميعُ الرسلِ كانوا عليه لم يختلفوا فيه، وجَعَلَ هذا القولَ آيةً وعلامةً لأنه رسولٌ كسائِرِ الرسلِ حيث هَداه للنظرِ في أدلةِ العقلِ والاستدلالِ، قاله الزمخشري.
{"ayah":"وَمُصَدِّقࣰا لِّمَا بَیۡنَ یَدَیَّ مِنَ ٱلتَّوۡرَىٰةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعۡضَ ٱلَّذِی حُرِّمَ عَلَیۡكُمۡۚ وَجِئۡتُكُم بِـَٔایَةࣲ مِّن رَّبِّكُمۡ فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ وَأَطِیعُونِ"}