الباحث القرآني

﴿ومُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ﴾ عَطْفُ إمّا عَلى المُضْمَرِ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿بِآيَةٍ﴾ أيْ قَدْ جِئْتُكم مُحْتَجًّا أوْ مُتَلَبِّسًا بِآيَةٍ الخ ومُصَدِّقًا لِما الخ، وإمّا عَلى ”رَسُولًا“ وفِيهِ مَعْنى النُّطْقِ مِثْلَهُ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ مَنصُوبًا بِفِعْلٍ دَلَّ عَلَيْهِ ﴿قَدْ جِئْتُكُمْ﴾ أيْ وجِئْتُكم مُصَدِّقًا الخ. وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿مِنَ التَّوْراةِ﴾ في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى الحالِ مِنَ الضَّمِيرِ المُسْتَتِرِ في الظَّرْفِ، والعامِلُ فِيهِ الِاسْتِقْرارُ، أوِ الظَّرْفُ نَفْسُهُ لِقِيامِهِ مَقامَ الفِعْلِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ حالًا مِن (ما) فَيَكُونُ العامِلُ فِيهِ ”مُصَدِّقًا“ ومَعْنى تَصْدِيقِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ لِلتَّوْراةِ الإيمانُ بِأنَّ جَمِيعَ ما فِيها حِكْمَةٌ وصَوابٌ، وقِيلَ: إنَّ تَصْدِيقَهُ لَها مَجِيئُهُ رَسُولًا طِبْقَ ما بَشَّرَتْ بِهِ ﴿ولأُحِلَّ لَكُمْ﴾ مَعْمُولٌ لِمُقَدَّرٍ بَعْدَ الواوِ أيْ وجِئْتُكم لِأُحِلَّ، فَهو مِن عَطْفِ الجُمْلَةِ عَلى الجُمْلَةِ، أوْ مَعْطُوفٌ عَلى ﴿بِآيَةٍ﴾ مِن قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿جِئْتُكم بِآيَةٍ﴾ لِأنَّهُ في مَعْنى لِأُظْهِرَ لَكم آيَةً ولِأُحِلَّ فَلا يَرِدُ أنَّهُ لا يَصِحُّ عَطْفُ المَفْعُولِ لَهُ عَلى المَفْعُولِ بِهِ، أوْ مَعْطُوفٌ عَلى ”مُصَدِّقًا“ ويُلْتَزَمُ التَّأْوِيلُ بِما يَجْعَلُهُما مِن بابٍ واحِدٍ، وإنْ كانَ الأوَّلُ حالًا، والثّانِي مَفْعُولًا لَهُ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: جِئْتُكم لِأُصَدِّقَ ولِأُحِلَّ، وقِيلَ: لا بُدَّ مِن تَقْدِيرِ جِئْتُكم فِيها كُلِّها إذْ لا يُعْطَفُ نَوْعٌ مِنَ المَعْمُولاتِ عَلى نَوْعٍ آخَرَ. ﴿بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ أيْ في شَرِيعَةِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، أخْرَجَ اِبْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ الرَّبِيعِ أنَّهُ قالَ: كانَ الَّذِي جاءَ بِهِ عِيسى ألِينَ مِمّا جاءَ بِهِ مُوسى عَلَيْهِما السَّلامُ، وكانَ قَدْ حُرِّمَ عَلَيْهِما فِيما جاءَ بِهِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ لُحُومُ الإبِلِ والثُّرُوبِ فَأحَلَّها لَهم عَلى لِسانِ عِيسى وحُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ شُحُومُ الإبِلِ فَأُحِلَّتْ لَهم فِيما جاءَ بِهِ عِيسى، وفي أشْياءَ مِنَ السَّمَكِ، وفي أشْياءَ مِنَ الطَّيْرِ مِمّا لا صِيصِيَةَ لَهُ، وفي أشْياءَ أُخَرَ حَرَّمَها عَلَيْهِمْ وشَدَّدَ عَلَيْهِمْ فِيها، فَجاءَ عِيسى بِالتَّخْفِيفِ مِنهُ في «اَلْإنْجِيلِ»، وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتادَةَ مِثْلَهُ. وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ «اَلْإنْجِيلَ» مُشْتَمِلٌ عَلى أحْكامٍ تُغايِرُ ما في «اَلتَّوْراةِ» وأنَّ شَرِيعَةَ عِيسى نَسَخَتْ بَعْضَ شَرِيعَةِ مُوسى، ولا يَخِلُّ ذَلِكَ بِكَوْنِهِ مُصَدِّقًا لِلتَّوْراةِ فَإنَّ النَّسْخَ بَيانٌ لِانْتِهاءِ زَمانِ الحُكْمِ الأوَّلِ لا رَفْعَ وإبْطالَ كَما تَقَرَّرَ، وهَذا مِثْلُ نَسْخِ القُرْآنِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، وذَهَبَ بَعْضُهم إلى أنَّ «اَلْإنْجِيلَ» لَمْ يَخُصَّ أحْكامًا ولا حَوى حَلالًا وحَرامًا ولَكِنَّهُ رُمُوزٌ وأمْثالٌ ومَواعِظُ وزَواجِرُ، وما سِوى ذَلِكَ مِنَ الشَّرائِعِ والأحْكامِ فَمُحالَةٌ عَلى «اَلتَّوْراةِ»، وإلى أنَّ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ لَمْ يَنْسَخْ شَيْئًا مِمّا في «اَلتَّوْراةِ»، وكانَ يَسْبِتُ ويُصَلِّي نَحْوَ البَيْتِ المُقَدَّسِ، ويُحَرِّمُ لَحْمَ الخِنْزِيرِ، ويَقُولُ بِالخِتانِ إلّا أنَّ النَّصارى غَيَّرُوا ذَلِكَ بَعْدَ رَفْعِهِ فاِتَّخَذُوا يَوْمَ الأحَدِ بَدَلَ يَوْمِ السَّبْتِ لِما أنَّهُ أوَّلُ يَوْمٍ في الأُسْبُوعِ ومَبْدَأُ الفَيْضِ، وصَلُّوا نَحْوَ المَشْرِقِ لِما تَقَدَّمَ، وحَمَلُوا الخِتانَ عَلى خِتانِ القَلْبِ وقَطْعِهِ عَنِ العَلائِقِ الدُّنْيَوِيَّةِ والعَوائِقِ عَنِ الحَضْرَةِ الإلَهِيَّةِ وأحَلُّوا لَحْمَ الخِنْزِيرِ، مَعَ أنَّ مُرْقُسَ حَكى في «إنْجِيلِهِ» أنَّ المَسِيحَ أتْلَفَ الخِنْزِيرَ وغَرَّقَ مِنهُ في البَحْرِ قَطِيعًا كَبِيرًا وقالَ لِتَلامِذَتِهِ: لا تُعْطُوا القُدْسَ الكِلابَ ولا تُلْقُوا جَواهِرَكم قُدّامَ الخَنازِيرِ فَقَرَنَها بِالكِلابِ، وسَبَبُ ذَلِكَ زَعْمُهم أنَّ بُطْرُسَ رَأى في (p-172)النَّوْمِ صَحِيفَةً نَزَلَتْ مِنَ السَّماءِ، وفِيها صُوَرُ الحَيَواناتِ وصُورَةُ الخِنْزِيرِ، وقِيلَ لَهُ: يا بُطْرُسُ كُلْ مِنها ما أحْبَبْتَ ونُسِبَ هَذا القَوْلُ إلى وهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، والذّاهِبُونَ إلَيْهِ أوَّلُوا الآيَةَ بِأنَّ المُرادَ ما حَرَّمَهُ عُلَماؤُهم تَشَهِّيًا أوْ خَطَأً في الِاجْتِهادِ، واسْتَدَلُّوا عَلى ذَلِكَ بِأنَّ المَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ في «اَلْإنْجِيلِ»: ما جِئْتُ لِأُبْطِلَ التَّوْراةَ بَلْ جِئْتُ لِأُكْمِلَها. ولا يَخْفى أنَّ تَأْوِيلَ الآيَةِ بِما أوَّلُوهُ بِهِ بِعِيدٌ في نَفْسِهِ، ويَزِيدُهُ بُعْدًا أنَّهُ قُرِئَ (حَرَّمَ) بِالبِناءِ لِلْفاعِلِ وهو ضَمِيرُ ما ﴿بَيْنَ يَدَيَّ﴾ أوِ اللَّهِ تَعالى، وقُرِئَ أيْضًا (حَرُمَ) بِوَزْنِ كَرُمَ، وأنَّ ما ذَكَرُوهُ مِن كَلامِ المَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلامُ لا يُنافِي النَّسْخَ لِما عَلِمْتَ أنَّهُ لَيْسَ بِإبْطالٍ وإنَّما هو بَيانٌ لِانْتِهاءِ الحُكْمِ الأوَّلِ، ومَعْنى التَّكْمِيلِ ضَمُّ السِّياسَةِ الباطِنَةِ الَّتِي جاءَ بِها إلى السِّياسَةِ الظّاهِرَةِ الَّتِي جاءَ بِها مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ عَلى ما قِيلَ، أوْ نَسْخُ بَعْضِ أحْكامِ التَّوْراةِ بِأحْكامٍ هي أوْفَقُ بِالحِكْمَةِ وأوْلى بِالمَصْلَحَةِ وأنْسَبُ بِالزَّمانِ، وعَلى هَذا يَكُونُ قَوْلُ المَسِيحِ حُجَّةً لِلْأوَّلِينَ لا عَلَيْهِمْ، ولَعَلَّ ما ذَهَبُوا إلَيْهِ هو المُعَوَّلُ عَلَيْهِ كَما لا يَخْفى عَلى ذَوِي العِرْفانِ. ﴿وجِئْتُكم بِآيَةٍ مِن رَبِّكُمْ﴾ الكَلامُ فِيهِ كالكَلامِ في نَظِيرِهِ، وقُرِئَ (بِآياتٍ)، ﴿فاتَّقُوا اللَّهَ﴾ في عَدَمِ قَبُولِ ما جِئْتُكم بِهِ ﴿وأطِيعُونِ﴾ [ 50 ] فِيما آمُرُكم بِهِ وأنْهاكم [عَنْهُ] بِأمْرِ اللَّهِ تَعالى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب