الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ﴾. [قال الفرَّاءُ [[في "معاني القرآن" له 1/ 216. ونسب النحاسُ كذلك القول بهذا لأحمد بن يحيى (ثعلب). انظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 335.]]، والزجَّاج [[في "معاني القرآن" له 1/ 415.]]: نصب ﴿مُصَدِّقًا﴾ على الحال، المعنى: (وجئتكم مصدِّقاً لِما بين يَدَيَّ)] [[ما بين المعقوفين زيادة من: (ج)، (د).]]. وجاز إضمارُ (جئتكم)؛ لأن أول الكلام يدلُّ عليه، وهو قوله: ﴿أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [آل عمران: 49]. ومثله في الكلام: (جئتُه بما يُحِب، ومُكْرِماً لهُ) [[في (ب): (ومكر حاله).]]. قال الفرَّاء [[في "معاني القرآن" له 1/ 216، نقله عنه بتصرف.]]: ولا يجوز أن يكون ﴿مُصَدِّقًا﴾ عطفاً على ﴿وَجِيهًا﴾؛ لأنه لو كان كذلك، لقال: (ومُصدِّقاً لِمَا بين يَدَيْهِ) [[(أي): إنه لو كان معطوفًا على ﴿وَجِيهًا﴾ لجاء بضمير الغيبة، لا بضمير المتكلِّم.]]، ولا يحسن أيضاً أن يتابع قوله: ﴿وَرَسُولًا﴾ [[(أي): يمتنع أن يتبع ﴿وَرَسُولًا﴾ في الإعراب.]]؛ لأنه لو كان مردودًا عليه؛ لقال: (ومُصَدِّقاً لما بين يديكِ)، لأنه خاطب بذلك مريمَ، أو قال: (بين يديهِ) [[قال أبو حيان في "البحر" 1/ 468: (وقد ذكرنا أنه يجوز في قوله ﴿وَرَسُولًا﴾، أن يكون منصوبًا بإضمار فعل؛ أي: (وأرسلت رسولا)، فعلى هذا التقدير، يكون ﴿وَمُصَدِّقًا﴾ معطوفًا على ﴿وَرَسُولًا﴾).]]. ومعنى ﴿لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ﴾: أي: للكتاب [[في (ج): الكتاب.]] الذي أُنزِلَ قَبْلِي [[في (ب): قيل. في (ج): قيل. (د) من قبلي.]]. وإذا كان يُصَدِّقُ التوراةَ، كان أحرى أن يُتَّبع. وقوله تعالى: ﴿وَلِأحِلَّ لَكُمْ﴾ قال الفرَّاء [[في "معاني القرآن" له: 1/ 216. نقله عنه بالمعنى.]]: الواوُ ههنا زائدةٌ مُقْحَمةٌ، كهي في قوله: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ [مِنَ الْمُوقِنِينَ]﴾ [[سورة الأنعام: 75. وما بين المعقوفين زيادة من: (ب)، وكذا وردت في "معاني القرآن". وانظر مذهب الفراء في زيادة الواو، في "معاني القرآن" 1/ 107، 238، 2/ 50، 211، 390، 3/ 249.]]، المعنى: يُرِيهِ [[في (ج): نريد. ب، (د) نريه.]] لِيَكونَ [[قيل في قوله تعالى: ﴿وَلِيَكُونَ﴾ ثلاثة أقوال: الأول: إن الواو زائدة. الثاني: إنها عِلَّةٌ لمحذوف؛ أي: ولِيكون .. أريناه ذلك. الثالث: إنها عطف على عِلَّةٍ محذوفة؛ أي: ليستدل وليكون، أو ليقيم الحجة على قومه. وقال صلاح الدين العلائي: (تقديره: لِنبصِّره أو لِنُرْشده. ونحو ذلك. ثم عطف عليه ﴿وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾. الفصول المفيدة في الواو المزيدة، للعلائي: 147. وانظر: "التبيان" للعكبري 1/ 342، "الفريد" للهمداني 2/ 177، "الدر المصون" 5/ 7.]]. وأهل التحقيق من النحويين قالوا: الواو لا تُقْحَمُ إلا معَ (حتى إذا)، ومع (لَمَّا) [[قال الفراء في "معاني القرآن" 1/ 238 عن الواو في قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ ...﴾ آل عمران: 152: (وهو في (حتى إذا) و (فَلَمَّا أن) مقول، لم يأتِ في غير هذين). وقال في 2/ 390: (والعرب تدخل الواو في جواب (فلما) و (حتى إذا)، وتلقيها). وفي 3/ 249 بَيَّنَ أن العرب لم تجاوز هذين الموضعين. وانظر: "تفسير الطبري" 3/ 282. وبيان هذا الأمر: إن مذهب الكوفيِّيِنَ هو: جواز وقوع الواوِ زائدةً لغير معنى. وشاركهم من البصريين في هذا المذهب: الأخفشُ، وأبو القاسم بن بَرهان، وتبعهم ابنُ مالك. ونَسَب الرمَّانيُّ في كتابه "معاني الحروف" 63، وأبو البركات الأنباري في كتابه "الإنصاف" ص 366 القولَ بهذا الرأي للمبرد وهو من البصريين. ولكن المبرد في كتابه "المقتضب" 2/ 80 قال عن مذهب القائلين بزيادة الواو لغير معنى: (وهو أبدع الأقاويل؛ أعني زيادة الواو) مما يؤكد أنه لم يشذ عن مذهب البصريين. واستدل الكوفيُّون على مذهبهم هذا بأدلة من القرآن ولغة العرب، منها: زيادة الواو في ﴿وَفُتِحَتْ﴾ في قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾ [الزمر: 73] وزيادتها في ﴿وَاقْتَرَبَ﴾ في قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ﴾ الأنبياء: 97. وزيادته في ﴿وَنَادَيْنَاهُ﴾ في قوله: ﴿فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ﴾ سورة الصافات: 103، وغيرها من الآيات. ومن شعر العرب، قول امريء القيس: فلَمَّا أجَزنا ساحةَ الحيِّ وانْتَحى ... بنا بَطْنُ خَبْتٍ ذي قِفافٍ عَقَنْقَل وغيرها من الأدلة. أمَّا البصريون فلا يُجيزون وقوع الواو مزيدةً، لأن الحروف عندهم (وضعت للمعاني، فذكرها بدون معنى يقتضي مخالفة الوضع، ويورثُ اللَّبْسَ. وأيضًا فإن الحروف وضعت للاختصار نائبة عن الجمل، كالهمزة فإنها نائبة عن (أستَفْهِم)، وزيادتها يُنقِصُ المعنى). الفصول المفيدة، للعلائي: 147. وتأول البصريون أدلة الكوفيين، وقالوا بأن الواو فيها عاطفة، وأن الجواب محذوفٌ مقدَّرٌ. يقول ابن جني: (فأما أصحابنا فيدفعون هذا التأويل البتَّة، ولا يجِيزون زيادةَ هذه الواو، ويرون أن أجوبة هذه الأشياء محذوفة للعلم بها == والاعتياد في مثلها). "سر صناعة الإعراب" 2/ 646. فمثلًا قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾ قال البصريون: إن الواو فيها عاطفة، وجواب (إذا) محذوف، والتقدير فيه: حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها، فازوا ونَعِموا. وهكذا ردُّوا على بقية الأدلة. انظر هذه المسألة، إضافة إلى المراجع التي ذكرت في "معاني القرآن" للأخفش: 1/ 124 - 125، "تأويل مشكل القرآن" 252254، "شرح القصائد السبع" لابن الأنباري: 55، "الإنصاف" للأنباري ص 366، "شرح المفصل" 8/ 93، "رصف المباني" 487، و"الجني الداني" 164، "المغني" 473، "الحروف" لأبي الحسين المزني 110.]]. قالوا: أو، والواو ههنا للعطف على معنى الكلام الأول [[أي: للعطف على معنى ﴿مُصَدِّقًا﴾.]]، لأن معناه: (وجئْتُكم لأُصَدِّقَ ما بين يديَّ من التوراة، ولأُحِلَّ لكم). ومثله من الكلام: (جئتُ مُعتذِرًا إليه، لأجتَلِبَ رِضاه)؛ أي: لأعتذر، ولأجتلب [[في (ج): لاجتلب (بدون واو).]]. وقال ابن الأنباري [[لم أقف على مصدر قوله.]]: الَّلام في قوله: ﴿وَلِأُحِلَّ لَكُمْ﴾ [[(لكم): ساقطة من (د).]] صِلَةٌ لفعلِ مضمرٍ؛ كأنه قال: (ولأحلَّ لكم جئتكم)، وكذلك قوله: ﴿وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ﴾، تقديره: ولِيكون من الموقنين نُرِيهِ [[في (ج): (بربه).]] ذلكَ [[وفي التوجيه الإعرابي لقوله ﴿وَلِأُحِلَّ﴾ أقوال أخرى، هي: إنها مردودة على قوله: ﴿بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ من آية 49؛ أي: جئتكم بآية من ربكم، ولأحل لكم. أو معطوفة على عِلَّةٍ مقدَّرةٍ؛ أي: جئتكم بآية لأوسِّعَ عليكم ولأحل لكم، أو نحوها. أو إنها متعلقة بقوله: ﴿وَأَطِيعُونِ﴾ في آخر آية 50؛ أي. اتَّبِعوني لأحلَّ لكم. وقد استبعد هذا الوجهَ السمينُ الحلبيُّ وجعله ممتنعًا. أو إنها معمولة لفعل مضمر بعد الواو؛ أي: وجئتكم لأحل .. انظر هذه الوجوه، في "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 335، "الكشاف" 1/ 431، "التبيان" للعكبري: 1/ 191، "البحر المحيط" 2/ 268 - 269، "الدر المصون" 3/ 202 - 203، "روح المعاني" 3/ 171.]]. - قوله تعالى: ﴿بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾. قال المفسرون [[ممن قال بذلك: قتادة، والربيع، وابن جريج. انظر: "تفسير الطبري" 3/ 282، "تفسير ابن أبي حاتم" 2/ 657، "زاد المسير" 1/ 393، " الدر المنثور" 2/ 62.]]: أُحِلَّ لهم على لسان المسيح: لحومُ الإبل، والثُّرُوبُ [[في (ب): الشروب. و (الثُّروب): شحم رقيق يُغَشِّي الكرشَ والأمعاء، والمفرد: ثَرْب. انظر: "القاموس المحيط" ص 62 (ثرب).]]، وأشياءُ مِنَ الطَّيْر، والحيتان، مما كان مُحرَّما في شريعة موسى عليه السلام. قال الله تعالى: ﴿فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ﴾ [[سورة النساء:160. وبقيتها: ﴿وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا﴾.]]. وإنَّما قال [[في (ج): (قيل).]]: ﴿بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾؛ لأن عيسى لم يأتهم بتحليل الفواحش من: القتل، والسَّرِقِ، والزِّنا. وذهب أبو عبيدة [[في "مجاز القرآن" 1/ 94.]] إلى أنَّ (بعضَ) ههنا بمَعنى: الكُلِّ، واحتجَّ ببيت لَبِيد: أو يعتَلِقْ [[في (د): (وتعليق).]] بعضَ النفُوسِ حِمامُها [[عجز بيت، وأوله: تَرَّاكُ أمْكِنَةٍ إذا لم أرضها وهو من معلقته، وقد ورد في "ديوانه" 313. كما ورد في "مجاز القرآن" 1/ 94، "معاني القرآن" للزجاج: 1/ 415، "الزاهر" 2/ 237، ولم ينسبه، "شرح القصائد السبع" لابن الأنباري: 573، "معاني القرآن" للنحاس 1/ 403، "تهذيب اللغة" 1/ 360، "الخصائص" 1/ 74، "المحتسب" 1/ 111، "تفسير الثعلبي" 3/ 52 ب، "شرح المعلقات السبع" للزوزني: ص 109، "شرح القصائد العشر" للتبريزي: 160، "تفسير البغوي" 2/ 41، "اللسان" 1/ 312 (بعض). == وورد غير منسوب في "الموضح في التفسير" للحدادي: 37، "المخصص" 17/ 131. ويروي (منزلةٍ) بدلًا من: (أمكنةٍ)، و (أو يَرْتَبِط)، و (أو يَعْتَقِي) بدلًا من: (أو يعتلق). و (يرتبط)، و (يعتقي)، معناهما: يَحتَبِس. و (يعتلق): من (اعتلقه)؛ أي: أحبَّهُ، ويقال: (عَلِقَ بقلبه): أي: تشبَّث به. وعليه يكون معناها هنا معنى: يرتبط، ويعتقي. و (والحِمَام): الموت. انظر: "شرح القصائد السبع" 573، "اللسان" 5/ 3053 (عقا). ومعنى البيت: إني أترك الأماكن التي أجتويها، إذا رأيت فيها ما أكره إلا أن يربط الموتُ نفسي فلا يمكنها البراح. وتحرير المعنى: إني لا أترك الأماكن التي أجتويها إلا أن أموت. انظر: "شرح المعلقات السبع" 242، "شرح القصائد العشر" 160. والشاهد فيه عند أبي عبيدة: أنَّ (بعض) هنا تعني (كلَّ). وقد خالفه آخرون كما ذكر المؤلف، حيث إنَّه في هذا البيت لا داعي لإخراج لفظ (بعض) عن مدلوله مع إمكان صحةِ معناه؛ لأن لبيد يريد بـ (بعض) هنا نفسَهُ هُوَ، من بين نفوس الناس.]] وأنكر عليه الآخرون أشدَّ [[في (ج): (ابتدا).]] الإنكارِ [[وممن أنكر عليه ذلك الزجاجُ، حيث قال: (وأنشد أبو عبيدة في ذلك بيتًا غلط في معناه) ثم قال: (وهذا كلام تستعمله الناس، يقول القائل: (بعضنا يعرفك)؛ يريد: أنا أعرفك، فهذا إنما هو تبعيض صحيح) "معاني القرآن" 1/ 415. أي: إن (بعض) هنا مستعملة في موضعها. لأن المتكلم بعض الناس. وقال ثعلب: (أجمع أهل النحو على أنَّ البعض شيء من أشياء، أو شيء من شيء) ثم ردَّ على من زعم أن المراد بـ (بعض) في بيت لبيد تعني: (كل) فقال عنه: (فادَّعى وأخطأ أنَّ (البعض) ههنا جمعٌ .. وانما أراد لبيد بـ (بعض النفوس): نفسَه). "تهذيب اللغة" 1/ 360. وكذا ردَّه النحاس، في "معاني القرآن" 1/ 403، وابن سيده، كما في "اللسان" 1/ 312، والزوزني في "شرح المعلقات السبع" ص 109.]]. وسنستقصي الكلام في (بعض) عند قوله: ﴿وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ﴾ [غافر: 28]، وأنه هل يجوز أن يكون بمعنى الكلِّ، أم لا؟. إنْ شاء الله. وقوله تعالى: ﴿وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ قال أبو إسحاق [[في "معاني القرآن" له: 1/ 415، نقله عنه بنصه.]]: أي: لم أُحلَ لكم شيئًا بغير برهان، فهو حقيق [[في "معاني القرآن" (حق).]] عليكم اتِّباعي؛ لأنَّني أتيتكم [[في "معاني القرآن" (أنبئكم).]] ببرهان، وتحليل طيِّباتٍ كانت [[(كانت): ساقطة من (د).]] حُرِّمَتْ عليكم. وإنَّما وحَّد [[من قوله: (وحد ..) إلى (.. رسالة): نقله بتصرف عن "تفسير الثعلبي" 3/ 54 أ.]] الآية، وكان قد أتاهم بآيات؛ لأنها كلُّها جنسٌ واحدٌ في الدلالة على رسالته.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب