الباحث القرآني

ولَمّا كانَ تَرْجَمَةُ ﴿أنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ﴾ [آل عمران: ٤٩] آتِيًا إلَيْكم بِآيَةِ كَذا، مُصَدِّقًا بِها لِما أتَيْتُ بِهِ، عَطَفَ عَلى الحالِ المُقَدَّرِ مِنهُ تَأْكِيدًا لِأنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ قَوْلَهُ: ﴿ومُصَدِّقًا لِما بَيْنَ يَدَيَّ﴾ أيْ كانَ قَبْلَ إتْيانِي إلَيْكم ﴿مِنَ التَّوْراةِ﴾ أيِ المُنْزَلَةِ عَلى أخِي مُوسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، لِأنَّ القَبْلِيَّةَ تَقْتَضِي العَدَمَ الَّذِي هو صِفَةُ المَخْلُوقِ؛ أوْ يُعْطَفُ عَلى ﴿بِآيَةٍ﴾ إذا جَعَلْنا الباءَ لِلْحالِ، لا لِلتَّعْدِيَةِ، أيْ وجِئْتُكم مَصْحُوبًا بِآيَةٍ ومُصَدِّقًا. ولَمّا ذَكَرَ التَّوْراةَ أتْبَعَها ما يَدُلُّ عَلى أنَّهُ لَيْسَ كَمَن بَيْنَهُ وبَيْنَ مُوسى مِنَ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ في إقْرارِها كُلِّها عَلى (p-٤٠٨)ما هي عَلَيْهِ وتَحْدِيدِ أمْرِها عَلى ما كانَ زَمَنَ مُوسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بَلْ هو مَعَ تَصْدِيقِها يَنْسَخُ بَعْضَها فَقالَ: ﴿ولأُحِلَّ﴾ أيْ صَدَّقْتُها لِأحُثَّكم عَلى العَمَلِ بِها ولِأُحِلَّ ﴿لَكم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ﴾ أيْ فِيها تَخْفِيفًا عَلَيْكم ﴿وجِئْتُكُمْ﴾ الآيَةُ لَيْسَ مُكَرَّرًا لِتَأْكِيدِ: ﴿أنِّي قَدْ جِئْتُكم بِآيَةٍ مِن رَبِّكم أنِّي أخْلُقُ لَكم مِنَ الطِّينِ﴾ [آل عمران: ٤٩] عَلى ما تُوُهِّمَ، بَلِ المَعْنى - واللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى أعْلَمُ - أنَّ عِيسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لَمّا أتاهم بِهَذِهِ الخَوارِقِ الَّتِي مِن جُمْلَتِها إحْياءُ المَوْتى، وكانَ مِنَ المُقَرَّرِ عِنْدَهم - كَما ورَدَ في الأحادِيثِ الصَّحِيحَةِ - التَّحْذِيرُ مِنَ الدَّجّالِ، وكانَ مِنَ المَعْلُومِ مِن حالِهِ أنَّهُ يَأْتِي بِخَوارِقَ، مِنها إحْياءُ مَيِّتٍ ويَدَّعِي الإلَهِيَّةَ، كانَ مِنَ الجائِزِ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا لِشُبْهَةٍ تَعْرِضُ لِبَعْضِ النّاسِ، فَخَتَمَ هَذا الدَّلِيلَ عَلى رِسالَتِهِ بِما هو البُرْهانُ الأعْظَمُ عَلى عُبُودِيَّتِهِ، وذَلِكَ مُطابَقَتُهُ لِما دَعا إلَيْهِ الأنْبِياءُ والمُرْسَلُونَ كُلُّهم مِن إخْلاصِ العِبادَةِ لِلَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى فَقالَ: وجِئْتُكم ﴿بِآيَةٍ﴾ أيْ عَظِيمَةٍ خارِقَةٍ لِلْعادَةِ ﴿مِنَ﴾ عِنْدِ ﴿رَبِّكُمْ﴾ أيِ المُحْسِنِ إلَيْكم بَعْدَ التَّفَرُّدِ بِخَلْقِكُمْ، وهي أجَلُّ الأماراتِ وأدَلُّها عَلى صِدْقِي في رِسالَتِي، هو عَدَمُ تُهْمَتِي بِوُقُوعِ شُبْهَةٍ في عُبُودِيَّتِي. (p-٤٠٩)ولَمّا تَقَرَّرَ بِذِكْرِ الآيَةِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ مَعَ ما أفادَتْهُ مِن تَأْسِيسِ التَّفْصِيلِ لِأنْواعِ الآياتِ تَأْكِيدُ رِسالَتِهِ تَلْطِيفًا لِطِباعِهِمُ الكَثِيفَةِ، فَيَنْقَطِعُ مِنها ما كانَتْ ألِفَتْهُ في الأزْمانِ المُتَطاوِلَةِ مِنَ العَوائِدِ الباطِلَةِ سَبَّبَ عَنْ ذَلِكَ ما يُصَرِّحُ بِعُبُودِيَّتِهِ أيْضًا فَقالَ مُبادِرًا لِلْإشارَةِ إلى أنَّ الأدَبَ مَعَ المُحْسِنِ آكَدُ والخَوْفَ مِنهُ أحَقُّ وأوْجَبُ لِئَلّا يَقْطَعَ إحْسانَهُ ويُبَدِّلَ امْتِنانَهُ ﴿فاتَّقُوا اللَّهَ﴾ أيِ الَّذِي لَهُ الأمْرُ كُلُّهُ ﴿وأطِيعُونِ﴾ أيْ في قَبُولِها فَإنَّ التَّقْوى مُسْتَلْزِمَةٌ لِطاعَةِ الرَّسُولِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب