الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا﴾، قال ابن عباس: "كان رجال من اليهود آمنوا ثم نافقوا، وكان ناس من المسلمين يوادونهم، فأنزل الله هذه الآية" [[أخرجه بمعناه الطبري 6/ 290، وابن إسحاق وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ. انظر: تفسير "الدر المنثور" 2/ 521.]]، فعلى هذا معنى تلاعبهم بالدين واستهزائهم: إظهارهم ذلك باللسان، واستبطانهم الكفر، كما وصف المنافقون بمثل هذا في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ إلى قوله ﴿إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ [البقرة: 14]. ويجوز أن يكون استهزاؤهم من غير هذا الوجه، وهو تكذيبهم واستخفافهم به كاستهزاء الكفار، وهذا فيمن لم يظهر الإيمان باللسان، ذكرنا معنى الهزء عند قوله تعالى: ﴿أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا﴾ [البقرة: 67]، والمراد بالمصدر ههنا: المفعول، وقوله تعالى: ﴿وَالْكُفَّارَ﴾، قرئ جراً ونصباً، فمن جر فلأن لغة التنزيل الحمل على أقرب العاملين، وقد بينا ذلك، فحمل على عامل الجر من حيث كان أقرب من عامل النصب [["الحجة للقراء السبعة" 3/ 234. ونسب القراءة لأبي عمرو والكسائي.]]، فهذا من طريق الإعراب. وأما من طريق المعنى فإن من جر (الكفار) عطفه [[في (ج): (وعطفه).]] على الصلة، وحَسُنَ ذلك، لأن فرق الكفار الثلاث: المشرك، والمنافق، والكتابي الذي لم يسلم، قد كان منهم الهزء جميعاً، فساغ لذلك أن يكون الكفار تفسيراً للموصول وموضحاً له، والدليل [[في الحجة: "فالدليل".]] على استهزاء المشركين قوله: ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ﴾ [الحجر:95 - 96]. وذكرنا استهزاء المنافقين [[تقدم قريبًا عند الكلام على أول تفسير الآية هذه، واستدلال المؤلف بآية البقرة. وقد ساقها في الحجة.]]، والدليل على استهزاء الكتابي الذي لم يسلم هذه الآية، ولو فسر الموصول بالكفار لعم الفرق الثلاث، لأن اسم الكفر يشملهم بدليل قوله تعالى: ﴿لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ [البينة: 1]. وقوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ [الحشر: 11]، ولكن (الكفار) [[أي إطلاق لفظ "الكفار".]] كأنه على المشركين أغلب، فلذلك فصل ذكر الكتابي من الكافر. وحجة هذه القراءة من التنزيل قوله تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ} [البقرة: 105] اتفقوا على جر (المشركين) عطفاً على أهل الكتاب، ولم يعطف على العامل الرافع، إن جاز ذلك [[من "الحجة" 3/ 234 - 236 بتصرف -ولا يزال ينقل منه في الكلام على قراءة النصب الآتية.]]. وأما من نصب فحجته قوله تعالى: ﴿لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ﴾ [آل عمران: 28] فكما وقع النهي عن اتخاذ الكفار في هذه الآية كذلك ههنا عطف الكفار على معمول الاتخاذ، فكأنه قال: لا تتخذوا الكفار أولياء [[من الحجة 3/ 236 بتصرف يسير.]]، والمراد بالكفار كل كافر من غير أهل الكتاب، قال عطاء: "هم كفار مكة وغيرهم" [[لم أقف عليه.]]، وقال الحسن: "هم مشركو العرب" [[لم أقف عليه.]]. فالقول الأول عموم، وقول الحسن يدل على أن مشركي العرب هم المقصود بالكلام خصوصاً [[اختار الطبري أنهم المشركون من عبدة الأوثان، واحتج بقراءة لابن مسعود - رضي الله عنه - انظر: "تفسير الطبري" 6/ 291.]]، ولكن يدخل غيرهم في حكمهم بما صحب الكلام من الدليل. وقوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [المائدة: 57]، أي إن كنتم مؤمنين بوعده ووعيده فاتقوا الله، ولا تتخذوا منهم أولياء. هذا قول ابن عباس فيما روى عنه عطاء [[انظر: "بحر العلوم" 1/ 445، "زاد المسير" 2/ 385.]]، قال في قوله: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾: إذ يأمر الله سبحانه أولياءه وأهل طاعته بتركهم [[لم أقف على الأثر عن ابن عباس.]]، وقال أهل المعاني: المعنى فيه أن من كان مؤمناً غضب لإيمانه على من طعن فيه، وكافأه بما يستحقه من المقت له [[انظر: "تفسير الطبري" 6/ 291.]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب