الباحث القرآني

قَوْلُهُ - عَزَّ وجَلَّ -: ﴿إنَّما ولِيُّكُمُ اللهُ ورَسُولُهُ والَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَلاةَ ويُؤْتُونَ الزَكاةَ وهم راكِعُونَ﴾ ﴿وَمَن يَتَوَلَّ اللهَ ورَسُولَهُ والَّذِينَ آمَنُوا فَإنَّ حِزْبَ اللهَ هُمُ الغالِبُونَ﴾ ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكم هُزُوًا ولَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ مِنَ قَبْلِكم والكُفّارَ أولِياءَ واتَّقُوا اللهَ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ (p-١٩٨)الخِطابُ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّما ولِيُّكُمُ اللهُ﴾ ؛ اَلْآيَةَ لِلْقَوْمِ الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ: ﴿لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ والنَصارى أولِياءَ﴾ [المائدة: ٥١] ؛ و"إنَّما"؛ في هَذِهِ الآيَةِ؛ حاصِرَةٌ؛ يُعْطِي ذَلِكَ المَعْنى؛ و"وَلِيٌّ"؛ اِسْمُ جِنْسٍ؛ وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ: "إنَّما مَوْلاكُمُ اللهُ"؛ وقَوْلُهُ: ﴿والَّذِينَ آمَنُوا﴾ ؛ أيْ: ومَن آمَنَ مِنَ الناسِ حَقِيقَةً لا نِفاقًا؛ وهُمُ الَّذِينَ ﴿يُقِيمُونَ الصَلاةَ﴾ ؛ اَلْمَفْرُوضَةَ بِجَمِيعِ شُرُوطِها؛ ﴿وَيُؤْتُونَ الزَكاةَ﴾ ؛ وهي هُنا لَفَظٌ عامٌّ لِلزَّكاةِ المَفْرُوضَةِ؛ ولِلتَّطَوُّعِ بِالصَدَقَةِ؛ ولِكُلِّ أفْعالِ البِرِّ؛ إذْ هي تَنْمِيَةٌ لِلْحَسَناتِ؛ مَطْهَرَةٌ لِلْمَرْءِ مِن دَنَسِ الذُنُوبِ؛ فالمُؤْمِنُونَ يُؤْتُونَ مِن ذَلِكَ؛ كُلٌّ بِقَدْرِ اسْتِطاعَتِهِ؛ وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ: "آمَنُوا والَّذِينَ يُقِيمُونَ"؛ بِواوٍ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وَهم راكِعُونَ﴾ ؛ جُمْلَةٌ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةٍ؛ ومَعْناها وصْفُهم بِتَكْثِيرِ الصَلاةِ؛ وخَصَّ الرُكُوعُ بِالذِكْرِ لِكَوْنِهِ مِن أعْظَمِ أرْكانِ الصَلاةِ؛ وهو هَيْئَةُ تَواضُعٍ؛ فَعَبَّرَ بِهِ عن جَمِيعِ الصَلاةِ؛ كَما قالَ: ﴿والرُكَّعِ السُجُودِ﴾ [البقرة: ١٢٥] ؛ وهي عِبارَةٌ عَنِ المُصَلِّينَ؛ وهَذا قَوْلُ جُمْهُورِ المُفَسِّرِينَ؛ ولَكِنِ اتُّفِقَ أنَّ عَلِيَّ بْنَ أبِي طالِبٍ أعْطى صَدَقَةً وهو راكِعٌ؛ قالَ السُدِّيُّ: هَذِهِ الآيَةُ في جَمِيعِ المُؤْمِنِينَ؛ ولَكِنَّ عَلِيَّ بْنَ أبِي طالِبٍ - رَضِيَ اللهُ عنهُ - مَرَّ بِهِ سائِلٌ وهو راكِعٌ في المَسْجِدِ؛ فَأعْطاهُ خاتَمَهُ؛ ورُوِيَ في ذَلِكَ «أنَّ النَبِيَّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - خَرَجَ مِن بَيْتِهِ وقَدْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ الآيَةُ فَوَجَدَ مِسْكِينًا؛ فَقالَ لَهُ: "هَلْ أعْطاكَ أحَدٌ شَيْئًا؟"؛ فَقالَ: نَعَمْ؛ أعْطانِي ذَلِكَ الرَجُلُ الَّذِي يُصَلِّي خاتَمًا مِن فِضَّةٍ؛ وأعْطانِيهِ وهو راكِعٌ؛ فَنَظَرَ النَبِيُّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ - فَإذا الرَجُلُ الَّذِي أشارَ إلَيْهِ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ - رَضِيَ اللهُ عنهُ -؛ فَقالَ النَبِيُّ - صَلّى اللَـهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ -: "اَللَّهُ أكْبَرُ"؛ وتَلا الآيَةَ عَلى الناسِ.» قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: وقالَ مُجاهِدٌ: نَزَلَتِ الآيَةُ في عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ ؛ تَصَدَّقَ وهو راكِعٌ؛ وفي هَذا (p-١٩٩)القَوْلِ نَظَرٌ؛ والصَحِيحُ ما قَدَّمْناهُ مِن تَأْوِيلِ الجُمْهُورِ؛ وقَدْ قِيلَ لِأبِي جَعْفَرٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في عَلِيٍّ؛ فَقالَ: "عَلِيٌّ مِنَ المُؤْمِنِينَ"؛ والواوُ - عَلى هَذا القَوْلِ - في قَوْلِهِ: "وَهُمْ"؛ واوُ الحالِ. وقالَ قَوْمٌ: نَزَلَتِ الآيَةُ مِن أوَّلِها بِسَبَبِ عُبادَةَ بْنِ الصامِتِ ؛ وتُبَرِّئُهُ مِن بَنِي قَيْنُقاعٍ؛ وقالَ ابْنُ الكَلْبِيِّ: نَزَلَتْ بِسَبَبِ قَوْمٍ أسْلَمُوا مِن أهْلِ الكِتابِ؛ فَجاؤُوا فَقالُوا: يا رَسُولَ اللهِ؛ بُيُوتُنا بَعِيدَةٌ؛ ولا مُتَحَدَّثَ لَنا إلّا مَسْجِدُكَ؛ وقَدْ أقْسَمَ قَوْمُنا ألّا يُخالِطُونا؛ ولا يُوالُونا؛ فَنَزَلَتِ الآيَةُ مُؤْنِسَةً لَهم. ثُمَّ أخْبَرَ تَعالى أنَّ مَن يَتَوَلَّ اللهَ ورَسُولَهُ؛ والمُؤْمِنِينَ؛ فَإنَّهُ غالِبٌ كُلَّ مَن ناوَأهُ؛ وجاءَتِ العِبارَةُ عامَّةً؛ ﴿فَإنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الغالِبُونَ﴾ ؛ اِخْتِصارًا لِأنَّ المُتَوَلِّيَ هو مِن حِزْبِ اللهِ ؛ وحِزْبُ اللهِ غالِبٌ؛ فَهَذا الَّذِي تَوَلّى اللهَ ورَسُولَهُ والمُؤْمِنِينَ غالِبٌ؛ و"وَمَن"؛ يُرادُ بِها الجِنْسُ؛ لا مُفْرَدٌ بِعَيْنِهِ؛ والحِزْبُ: اَلصّاغِيَةُ؛ والمُنْتَمُونَ إلى صاحِبِ الحِزْبِ؛ والمُعاوِنُونَ فِيما يَحْزُبُ؛ ومِنهُ قَوْلُ عائِشَةَ - رَضِيَ اللهُ عنها - في حَمْنَةَ - وكانَتْ تُحارِبُ في أمْرِ الإفْكِ -: « "فَهَلَكَتْ فِيمَن هَلَكَ".» ثُمَّ نَهى اللهُ تَعالى المُؤْمِنِينَ عَنِ اتِّخاذِ اليَهُودِ والنَصارى أولِياءَ؛ فَوَسَمَهم بِوَسْمٍ يَحْمِلُ النُفُوسَ عَلى تَجَنُّبِهِمْ؛ وذَلِكَ اتِّخاذُهم دِينَ المُؤْمِنِينَ هُزُوًا ولَعِبًا؛ والهَزْءُ: اَلسُّخْرِيَةُ؛ والِازْدِراءُ؛ ويُقْرَأُ: "هُزُؤًا"؛ بِضَمِّ الزايِ والهَمْزِ؛ و"هُزْءًا"؛ بِسُكُونِ الزايِ؛ والهَمْزِ؛ ويُوقَفُ عَلَيْهِ "هُزًّا"؛ بِتَشْدِيدِ الزايِ المَفْتُوحَةِ؛ و"هُزُوًا"؛ بِضَمِّ الزايِ؛ وتَنْوِينِ الواوِ؛ و"هُزًا"؛ بِزايٍ مَفْتُوحَةٍ؛ مُنَوَّنَةٍ؛ ثُمَّ بَيَّنَ تَعالى جِنْسَ هَؤُلاءِ أنَّهم مِن أهْلِ الكِتابِ؛ اَلْيَهُودِ والنَصارى. واخْتَلَفَ القُرّاءُ في إعْرابِ: "والكُفّارَ"؛ فَقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ ؛ ونافِعٌ ؛ وابْنُ عامِرٍ ؛ وعاصِمٌ ؛ وحَمْزَةُ: "والكُفّارَ"؛ نَصْبًا؛ وقَرَأ أبُو عَمْرٍو ؛ والكِسائِيُّ: "والكُفّارِ"؛ خَفْضًا؛ ورَوى حُسَيْنٌ الجُعْفِيُّ عن أبِي عَمْرٍو النَصْبَ؛ قالَ أبُو عَلِيٍّ: (p-٢٠٠)حُجَّةُ مَن قَرَأ بِالخَفْضِ حَمْلُ الكَلامِ عَلى أقْرَبِ العامِلِينَ؛ وهي لُغَةُ التَنْزِيلِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللهُ -: ويَدْخُلُ الكُفّارُ؛ عَلى قِراءَةِ الخَفْضِ؛ فِيمَنِ اتَّخَذَ دِينَ المُؤْمِنِينَ هُزُؤًا؛ وقَدْ ثَبَتَ اسْتِهْزاءُ الكُفّارِ في قَوْلِهِ: ﴿إنّا كَفَيْناكَ المُسْتَهْزِئِينَ﴾ [الحجر: ٩٥] ؛ وثَبَتَ اسْتِهْزاءُ أهْلِ الكِتابِ في لَفْظِ هَذِهِ الآيَةِ؛ وثَبَتَ اسْتِهْزاءُ المُنافِقِينَ في قَوْلِهِمْ لِشَياطِينِهِمْ: ﴿إنّا مَعَكم إنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ﴾ [البقرة: ١٤] ؛ ومَن قَرَأ "والكُفّارَ"؛ بِالنَصْبِ؛ حَمَلَ عَلى الفِعْلِ الَّذِي هُوَ: "لا تَتَّخِذُوا"؛ ويَخْرُجُ الكُفّارُ مِن أنَّ يَتَضَمَّنَ لَفْظُ هَذِهِ الآيَةِ اسْتِهْزاءَهُمْ؛ وقَرَأ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: "وَمِنَ الكُفّارِ"؛ بِزِيادَةِ "مِن"؛ فَهَذِهِ تُؤَيِّدُ قِراءَةَ الخَفْضِ؛ وكَذَلِكَ في قِراءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ: "مِن قَبْلِكم مِنَ الَّذِينَ أشْرَكُوا". وفَرَّقَتِ الآيَةُ بَيْنَ الكُفّارِ؛ وبَيْنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ؛ مِن حَيْثُ الغالِبُ في اسْمِ الكُفّارِ أنْ يَقَعَ عَلى المُشْرِكِينَ بِاللهِ إشْراكَ عِبادَةِ أوثانٍ؛ لِأنَّهم أبْعَدُ شَأْوًا في الكُفْرِ؛ وقَدْ قالَ تَعالى: ﴿جاهِدِ الكُفّارَ والمُنافِقِينَ﴾ [التوبة: ٧٣] ؛ فَفَرَّقَ بَيْنَهُمْ؛ إرادَةَ البَيانِ؛ والجَمِيعُ كُفّارٌ؛ وكانَ هَذا لِأنَّ عُبّادَ الأوثانِ هم كُفّارٌ مِن كُلِّ جِهَةٍ؛ وهَذِهِ الفِرَقُ تَلْحَقُ بِهِمْ في حُكْمِ الكُفْرِ؛ وتُخالِفُهم في رُتَبٍ؛ فَأهْلُ الكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ ؛ وبِبَعْضِ الأنْبِياءِ؛ والمُنافِقُونَ يُؤْمِنُونَ بِألْسِنَتِهِمْ. ثُمَّ أمَرَ تَعالى بِتَقْواهُ؛ ونَبَّهَ النُفُوسَ بِقَوْلِهِ: ﴿إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ ؛ أيْ حَقُّ مُؤْمِنِينَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب