الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا﴾. قال سيبويه: سوف أداة تنفيس وتهديد ووعيد، يقال: سوف أفعل وسو أفعل (بغير فاء) [[في "الكتاب" 4/ 233 "وأما (سوف) فتنفيس فيما لم يكن بعد" وانظر: "عمدة الحفاظ" ص (255) (سوف)، والتنفيس هو التأخير، انظر: "اللسان" 4/ 2152 (سوف).]]. وقال غيره: هي أداة التسويف، كأنها مأخوذة منه، ألا ترى أنك تقول: سوف أعطيك، معناه أعطيك وقتًا آخر لا في هذا الوقت [[انظر: "تهذيب اللغة" 2/ 1597 - 1598 (ساف)، "عمدة الحفاظ" ص (255) (سوف).]]، وينوب عنها حرف السين، كقوله تعالى: ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26)﴾ [المدثر: 26]، وفي هذه الآية قال: ﴿سَوْفَ نُصْلِيهِمْ﴾، ويحقق ما ذكرنا قوله: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ﴾ [الضحى: 5]، أي في الآخرة [[انظر: الطبري ط. دار الفكر 30/ 232.]]. وقال بعضهم: سوف كلمة تعليل، وهي أيضًا كلمة العقبى كهي في هذه الآية، وكلمة تحقيق أيضًا كقوله تعالى: ﴿قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي﴾ [يوسف: 98] قيل أخَّرهم إلى وقت السحر تحقيقًا للدعاء [[انظر: ابن كثير 2/ 537.]]. وذكرنا ما في الإصلاء عند قوله: ﴿وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ [النساء: 10] وقوله تعالى: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا﴾. قال ابن عباس: يبدَّلون جلودًا بيضًا كأمثال القراطيس [[انظر: "معالم التنزيل" 2/ 237، وأخرجه عن ابن عمر: الطبري 5/ 142، وابن أبي حاتم، انظر: "تفسير ابن كثير" 1/ 564، "الدر المنثور" 2/ 311. والقراطيس جمع قرطاس وهي الصحيفة التي يُكتب عليها. انظر: "اللسان" 6/ 3592 (قرطس).]]. وقال معاذ بن جبل [[هو أبو عبد الرحمن مُعاذ بن جبل بن عمرو الأنصاري الخزرجي، أحد السبعة الذين شهدوا العقبة من الأنصار وقد شهد بدرًا والمشاهد كلها، وكان من قراء الصحابة وعلمائهم وأمرائهم. توفي رضي الله عنه سنة 17هـ أو بعدها. انظر: "جمهرة أنساب العرب" ص (358)، "أسد الغابة" 5/ 194، "سير أعلام النبلاء" 1/ 443، "الإصابة" 3/ 426 - 427.]]: يبدل في ساعة مائة مرة. وروى ذلك مرفوعًا عمر عن النبي ﷺ [[الأثر عن عمر ومعاذ رضي الله عنهما أخرجه ابن عدي والطبراني في "الأوسط" وابن أبي حاتم وابن مردويه، وسنده ضعيف، انظر البغوي 2/ 237، "الكافي الشاف" ص (45)، "الدر المنثور" 2/ 311.]]. وأما كيفية تبديل الجلود فقال جماعة من أهل المعاني: إن جلودهم إذا نضجت واحترقت جددت، بأن ترد إلى الحال التي كانت عليها غير محترقة. وذلك أن (غير) على ضربين: غير تضادٍ وتنافٍ، كقولك: الليل غير النهار والذكر غير الأنثى. وغير تبدل، كقولك للصائغ: صغ لي من هذا الخاتم خاتمًا غيره، فيكسره ويصوغ لك منه خاتمًا، فالخاتم المصوغ هو الأول، إلا أن الصياغة غير والفضة واحدة، وتقول للإنسان: جئتني بغير ذلك الوجه، إذا تغيرت حالتُه، وجاء بغير ذلك اللباس إذا غيّر قميصه بأن جعله (...) [[بياض في (ش) ولعلها: بأن جعله (أبيض)، أو نحو ذلك.]]. وهذا الوجه ذكره الزجاج [[في "معاني القرآن وإعرابه" 2/ 65، وانظر: الطبري 5/ 143، "زاد المسير" 2/ 113، "الجامع لأحكام القرآن" 5/ 254.]] وابن كيسان وابن الأنباري. ويزيدك بهذا تأنيسًا ما قال أبو العباس [[من "تهذيب اللغة" 1/ 295 (بدل)، وقد نقل عن الأزهري نصًّا طويلاً، فيه أقوال.]] أحمد بن يحيى: قال الفراء: بدلت الخاتم بالحلقة إذا نحيت هذا وجعلت هذا مكانه، وبدلت الخاتم بالحلقة إذا أذبته وسويته حلقة، وبدلت الحلقة بالخاتم إذا أذبتها وجعلتها خاتمًا. قال أبو العباس: وحقيقته أن التبديل تغيير صورة إلى صورة أخرى، والجوهرة [[جوهرة الشيء أصله، قال ابن منظور: "وجوهر كل شيء ما خلقت عليه جبلته" "اللسان" 2/ 712 (جهر).]] بعينها، والإبدال تنحية الجوهرة واستئناف جوهرة أخرى، ومنه قول أبي النجم: عزلُ الأمير للأمير المبدل [["تهذيب اللغة" 1/ 294، "اللسان" 11/ 48 (بدل).]] ألا ترى أنه نحى جسمًا وجعل مكانه جسمًا غيره. قال أبو عمر [[قد يكون الزاهد، ومرت ترجمته.]]: فعرضت هذا على المبرِّد فاستحسنه، وزاد فيه فقال. قد جعلت العرب بدلت بمعنى أبدلت، وهو قوله تعالى-: ﴿فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ﴾ [الفرقان: 70] ألا ترى أنه قد أزال السيئات وجعل مكانها الحسنات. قال: وأما ما شرط أحمد بن يحيى فهو معنى قوله: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا﴾، قال: وهذه هي الجوهرة بعينها باقية، وتبديلها تغيير صورتها إلى غيرها؛ لأنها كانت ناعمة فاسودت بالعذاب، فردت صورة جلودهم الأولى لمَّا نضجت تلك الصورة، فالجوهرة واحدة والصورة مختلفة. انتهى الحكاية [[من "تهذيب اللغة" 1/ 294، وانظر: "الصحاح" 4/ 1632، "اللسان" 1/ 231 (بدل).]]. ويؤكد هذا البيان الذي ذكره المبرد [[لعل هذِه الواو زائدة.]] وما حكينا من قول ابن عباس. وقال أبو علي الفارسي: ليس ينفصل (بَدَّل) من (أبدل) بشيء، فقد يقال: تبدل في الشيء، ويكون قائمًا وغير قائم، كقوله: ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ﴾ [النحل: 101]، فقد تكون الآية المبدلة قائمة التلاوة، وربما رفعت من التلاوة. وقال: ﴿وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ﴾ [سبأ: 16]، والجنتان قائمتان. ومنهم من أجرى الآية على ظاهرها، وقال: إن الله عز وجل يجدد لهم جلودًا غير الجلود التي احترقت، ويعدم المحترقة، ولا يلزم (....) [[بياض بقدر كلمتين أو ثلاث، وبمكن أن تقدر: [عليه أن يقال] كيف جاز ...]] كيف جاز أن يعذِّب جلدًا لم يعصه؟ لأن الجلد لا يألم وإنما الألم هو الإنسان، فالجلد وإن بدِّل (...) [[بياض بقدر كلمتين أو ثلاث، ويمكن أن يقدر: [فالإنسان لم يتغير] ...]] والألم واحد. والدليل على أن القصد تعذيب أصحاب الجلود لا الجلود قوله: ﴿لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾ [النساء:56] ولم يقل: لتذوق [[انظر: "الطبري" 5/ 142 - 143، "معالم التنزيل" 2/ 238، "الجامع لأحكام القرآن" 5/ 254.]]. و (غير) على هذا التأويل غير تنافٍ وتضادٍ. واعتمد أبو بكر [[لعله يقصد ابن الأنباري.]] هذا القول فقال: إن الله تعالى يُلبسهم جلودًا تؤلمهم ولا تألم هي في ذاتها، فتكون جلودًا توصل الآلام والأوجاع إلى أرواحهم وقلوبهم من غير أن يلحقها هي شيء من ذلك، كما قال: ﴿سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ﴾ [إبراهيم: 50] أراد بالسرابيل القمص، وهي قولهم: ولا تجد ألمًا [[لم أقف عليه، وانظر: الطبري 5/ 143.]]. ومنهم من أبعد في التأويل فقال: أراد بالجلود السرابيل في قوله: ﴿سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ﴾ [إبراهيم: 50] سميت السرابيل جلودًا للزومها جلودهم على المجاورة، كما يسمى الشيء الخاص بالإنسان جلدة ما بين عينيه ووجهه [[انظر: الطبري 5/ 143، والقرطبي 5/ 254، وقد استبعد هذا القول كالمؤلف ابن كثير في "تفسيره" 1/ 564.]]، ومنه قوله: وجلدة بين العين والأنف سالم [[هذا عجز بيت لعبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- وصدره: يلومونني في سالم وألومهم ولعله يقصد ابنه سالمًا. انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 5/ 254.]] فالتبديل للسرابيل، كلما احترقت السرابيل أعيدت، وينشد على هذا قول الشاعر: كسا اللؤم تيمًا خضرة في جلودها ... فويلٌ لتيمٍ من سرابيلها الخضر [[البيت لجرير في "ديوانه" ص162، والكتاب 1/ 333، ودون نسبة في "المقتضب" 3/ 220، "الجامع لأحكام القرآن" 5/ 254. والسرابيل جمع سربال وهو القميص كما تقدم عند المؤلف.]] أراد بالسرابيل جلودهم. وللسدي في هذا مذهب آخر، هو أنه قال: تبدل الجلود جلودًا غيرها من لحم الكافر، يُعيد الجلد لحمًا وُيخرج من اللحم جلدًا آخر. لا يبدل بجلدٍ لم يعمل بخطيئة [[انظر: "معالم التنزيل" 2/ 238.]]. ومعنى قوله: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ﴾ أي لانت، والنُّضج هو اللين بالحرارة، وهو دون الاحتراق [[الظاهر والذي عليه المفسرون أن معنى: (نضجت): احترقت. انظر: الطبري 5/ 143، "بحر العلوم" 1/ 361، "زاد المسير" 2/ 113. وعلى ما ذكر المؤلف يلزم بأن يفسر تبديل الجلود بتغيير حالتها، لا تغييرها هي. والله أعلم.]]. ولفظ النضج ههنا أبلغ في التعذيب من لفظ الإحراق؛ لأنها إذا احترقت لم تحس بألم، ووقع بين فنائه وإنشاء غيره مهلة؛ إذ الجمع بين المحترق وغير المحترق محال، وفي تلك المهلة ترفيه للكافر، والله تعالى يقول: ﴿لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ [البقرة: 162] [[انظر: الطبري 5/ 143، والقرطبي 5/ 254.]]. وقوله تعالى: ﴿لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ﴾. استعمل لفظ الذوق ههنا مع عظم ما نالوا من شدة العذاب إخبارًا بأن إحساسهم به في كل حال كإحساس الذائق في تجديد الوجدان من غير نقصان في الإحساس، كما يكون في الذي يستمر به الأكل فلا يجد الطعم [[انظر: "الكشاف" 1/ 275.]]. ويقال: ذاق يذوق ذوقًا ومذاقًا وذواقًا، والذواق والمذاق يكونان مصدرين ويكونان طعمًا، كما تقول: ذواقه ومذاقه طيب [["العين" 5/ 201، "تهذيب اللغة" 2/ 1302 (ذوق).]]. وروى ثعلب عن ابن الأعرابي قال: الذوق يكون بالفم وبغير الفم [["تهذيب اللغة" 2/ 1302 (ذوق).]]. وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ أي هو قوي لا يغلبه شيء، وهو مع ذلك حكيم فيما دبر [[انظر: الطبري 5/ 143، "بحر العلوم" 1/ 362.]]. وقوله تعالى: ﴿وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا﴾. أصل الظل الستر من الشمس، والليل يسمى ظلًا لأنه كالستر من الشمس [[انظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2245 - 2246، "اللسان" 5/ 2754 (ظلل).]]، ومنه: في ظل أخضر يدعو هامه البومُ [[عجز بيت لذي الرمة في ص (574)، "الأضداد" لابن الأنباري ص (348)، "تهذيب اللغة" 1/ 1046 (خضر)، "الصحاح" 5/ 1755، "معجم مقاييس اللغة" 3/ 461 (ظلل)، "المفردات" ص (150)، "شرح العكبري لديوان المتنبي" 2/ 153، "اللسان" في أكثر من موضع منها: 5/ 2754 (ظلل). وصدره: "قد أعسف النازح المجهول معسفه" وفي "الديوان": "أغضف" بدل "أخضر" في الشطر الثاني. وجاء في "شرحه": أعسف: أسير على غير هداية، والنازح: البعيد، والمجهول: الذى ليس له علم، أغضف: يعني الليل، وأغضف أي == أسود، والهام: ذكر البوم [وهو نوع من الطيور] انتهى من الديوان بتصرف.]] ومضى القول في هذا عند قوله: ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ﴾ [البقرة: 57]. واختلفوا في معنى الظليل، فقال ابن عباس: ﴿ظِلًّا ظَلِيلًا﴾ دائمًا [[أورده المؤلف في "الوسيط" 2/ 592 دون نسبة إلى ابن عباس، ولم أقف عليه عنه، وروى ابن أبي حاتم معناه عن الربيع بن أنس، انظر: "الدر المنثور" 2/ 311.]]. ونحو ذلك قال الضحاك [[انظر: "الجامع لأحكام القرآن" 5/ 255.]]. ومعنى قوله: دائمًا أنَّ الشمس لا تنسخه كما تنسخ ظلال الدنيا [[انظر: "معالم التنزيل" 2/ 238.]]. فهذا قول. وقال الحسن: ظل ظليل لا يدخله الحر والسمائم [[انظر: "الوسيط" 2/ 592، "الجامع لأحكام القرآن" 5/ 255، "البحر المحيط" 3/ 275، وفيهما: "السموم" بدل "السمائم".]]. وهذا اختيار ابن كيسان والزجاج. قال ابن كيسان: ﴿ظِلًّا ظَلِيلًا﴾ من الرياح والحر [[انظر: "تهذيب اللغة" 3/ 2248 (ظلل).]]، وكم من ظلٍّ لا يكون ظليلًا، ولذلك وصف ظل الجنة بأنه ظليل. وقال الزجاج: معنى ظليل: يظل من الريح والحر، وليس كل ظل كذلك. أعلم الله عز وجل أن ظل الجنة ظليل لا حر (معه) [[في المخطوط: "معد" والتصويب من "معاني الزجاج".]] ولا برد [["معاني الزجاج" 2/ 66.]]. وقال بعضهم: معنى الظليل أنه لا خلل فيه ولا فرجة، والمراد بهذا الظل هو الجنة وهو ظل لا حر فيه ولا برد [[انظر: "معاني الزجاج" 2/ 66، "البحر المحيط" 3/ 275.]]. وقال مقاتل: ﴿وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا﴾ يعني أكنان القصور لا فرجة فيها [["تفسيره" 1/ 381، وانظر: "بحر العلوم" 1/ 362.]]. وهذا غير الأول لأنه خص الظل بأكنان القصور. والظليل ليس بمبني على الفعل حتى يقال. إنه بمعنى فاعل أو مفعول، بل هو مبالغة في نعت الظل، ولم يسمع من الظل تصرف، وهذا كما يقال: رجل رجيل.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب