الباحث القرآني

قَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْإِصْلَاءِ أَوَّلَ السُّورَةِ [[راجع المسألة الثانية ص ٥٣ من هذا الجزء.]]. وَقَرَأَ حُمَيْدُ بْنُ قيس (نصليهم) بفتح النون أي نشوئهم. يُقَالُ: شَاةٌ مَصْلِيَّةٌ. وَنَصْبُ (نَارًا) عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ بِنَزْعِ الْخَافِضِ تَقْدِيرُهُ بِنَارٍ. (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ) يُقَالُ: نَضِجَ الشَّيْءُ نَضْجًا [[في ج وط وز: لضاجا. ولم نقف عليه.]] وَنُضْجًا، وَفُلَانٌ نَضِيجُ الرَّأْيِ مُحْكَمُهُ. وَالْمَعْنَى فِي الْآيَةِ: تُبَدَّلُ الْجُلُودُ جُلُودًا أُخَرَ. فَإِنْ قَالَ مَنْ يَطْعَنُ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الزَّنَادِقَةِ: كَيْفَ جَازَ أَنْ يُعَذِّبَ جِلْدًا لَمْ يَعْصِهِ؟ قِيلَ لَهُ: لَيْسَ الجلد بمعذب ولا معاقب، وَإِنَّمَا الْأَلَمُ وَاقِعٌ عَلَى النُّفُوسِ، لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي تُحِسُّ وَتَعْرِفُ فَتَبْدِيلُ الْجُلُودِ زِيَادَةٌ فِي عَذَابِ النُّفُوسِ. يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لِيَذُوقُوا الْعَذابَ﴾ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً [[راجع ج ١٠ ص ٣٣٣.]]). فَالْمَقْصُودُ تَعْذِيبُ الْأَبْدَانِ وَإِيلَامُ الْأَرْوَاحِ. وَلَوْ أَرَادَ الْجُلُودَ لَقَالَ: لِيَذُقْنَ الْعَذَابَ. مُقَاتِلٌ: تَأْكُلُهُ النَّارُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعَ مَرَّاتٍ. الْحَسَنُ: سَبْعِينَ أَلْفَ مَرَّةٍ كُلَّمَا أَكَلَتْهُمْ قِيلَ لَهُمْ: عُودُوا فَعَادُوا كَمَا كَانُوا. ابْنُ عُمَرَ: إِذَا احْتَرَقُوا بُدِّلَتْ لَهُمْ جُلُودٌ بِيضٌ كَالْقَرَاطِيسِ. وَقِيلَ: عَنَى [[في ج: المراد.]] بِالْجُلُودِ السَّرَابِيلَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ [[راجع ج ٩ ص ٣٨٢، ٣٨٥.]]) سُمِّيَتْ جُلُودًا لِلُزُومِهَا جُلُودَهُمْ عَلَى الْمُجَاوَرَةِ، كَمَا يُقَالُ لِلشَّيْءِ الْخَاصِّ بِالْإِنْسَانِ: هُوَ جِلْدَةُ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ. وَأَنْشَدَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَلُومُونَنِي فِي سَالِمٍ وَأَلُومُهُمْ ... وَجِلْدَةُ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالْأَنْفِ سَالِمُ فَكُلَّمَا احْتَرَقَتِ السَّرَابِيلُ أُعِيدَتْ. قَالَ الشَّاعِرُ: كَسَا اللُّؤْمُ تَيْمًا خُضْرَةً فِي جُلُودِهَا ... فَوَيْلٌ لِتَيْمٍ مِنْ سَرَابِيلِهَا الْخُضْرِ فَكَنَّى عَنِ الْجُلُودِ بِالسَّرَابِيلِ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى أَعَدْنَا الْجِلْدَ الْأَوَّلَ جَدِيدًا، كَمَا تَقُولُ لِلصَّائِغِ: صُغْ لِي مِنْ هَذَا الْخَاتَمِ خَاتَمًا غَيْرَهُ، فَيَكْسِرُهُ وَيَصُوغُ لَكَ مِنْهُ خَاتَمًا. فَالْخَاتَمُ الْمَصُوغُ هُوَ الْأَوَّلُ إِلَّا أَنَّ الصِّيَاغَةَ تَغَيَّرَتْ وَالْفِضَّةُ وَاحِدَةٌ. وَهَذَا كَالنَّفْسِ إذا صارت ترابا وصارت لا شي ثُمَّ أَحْيَاهَا اللَّهُ تَعَالَى. وَكَعَهْدِكَ بِأَخٍ لَكَ صَحِيحٍ [[في اوح: صحيحا.]] ثُمَّ تَرَاهُ [بَعْدَ ذَلِكَ [[من ج وط.]]] سَقِيمًا مُدْنِفًا فَتَقُولُ لَهُ: كَيْفَ أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا غَيْرُ الَّذِي عَهِدْتَ. فَهُوَ هُوَ، وَلَكِنَّ حَالَهُ تَغَيَّرَتْ. فَقَوْلُ الْقَائِلِ: أَنَا غَيْرُ الَّذِي عَهِدْتَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿غَيْرَها﴾ مَجَازٌ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ [[راجع ج ٩ ص ٣٨٢، ٣٨٥.]]) وَهِيَ تِلْكَ الْأَرْضُ بِعَيْنِهَا إِلَّا أَنَّهَا تُغَيَّرُ آكَامُهَا وَجِبَالُهَا وَأَنْهَارُهَا وَأَشْجَارُهَا، وَيُزَادُ فِي سَعَتِهَا وَيُسَوَّى ذَلِكَ مِنْهَا، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي سُورَةِ (إِبْرَاهِيمَ [[راجع ج ٩ ص ٣٨٢، ٣٨٥.]]) عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ الشَّاعِرِ: فَمَا النَّاسُ بِالنَّاسِ الَّذِينَ عَهِدْتُهُمْ ... وَلَا الدَّارُ بالدار التي كنت أعرف وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: أَلَا تَرَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ! ذَمَّتْ دَهْرَهَا، وَأَنْشَدَتْ بَيْتَيْ لَبِيدٍ: ذَهَبَ الَّذِينَ يُعَاشُ فِي أَكْنَافِهِمْ ... وَبَقِيتُ فِي خَلَفٍ [[الخلف (بسكون اللام): الاردياء الأخساء. والمجانة: الا يبالى الإنسان بما صنع وما قيل له. ويروى: يتحدثون مخانة وملاذه. والمخانة مصدر من الخيانة والميم زائدة. ويشغب: يميل عن الطريق والقصد.]] كَجِلْدِ الْأَجْرَبِ يَتَلَذَّذُونَ مَجَانَةً وَمَذَلَّةً ... وَيُعَابُ قَائِلُهُمْ وَإِنْ لَمْ يَشْغَبِ فَقَالَتْ: رَحِمَ اللَّهُ لَبِيدًا فَكَيْفَ لَوْ أَدْرَكَ زَمَانَنَا هَذَا! فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَئِنْ ذَمَّتْ عَائِشَةُ دَهْرَهَا لَقَدْ ذَمَّتْ (عَادٌ) دَهْرَهَا، لأنه وجد في خزانة (عاد) بعد ما هَلَكُوا بِزَمَنٍ طَوِيلٍ سَهْمٌ كَأَطْوَلِ مَا يَكُونُ مِنْ رِمَاحِ ذَلِكَ الزَّمَنِ عَلَيْهِ مَكْتُوبٌ: بِلَادٌ بِهَا كُنَّا وَنَحْنُ بِأَهْلِهَا [[في ج وط وز: من أهلها.]] ... إِذِ النَّاسُ نَاسٌ وَالْبِلَادُ بِلَادُ الْبِلَادُ بَاقِيَةٌ كَمَا هِيَ إِلَّا أَنَّ أَحْوَالَهَا وَأَحْوَالَ أَهْلِهَا تَنَكَّرَتْ وَتَغَيَّرَتْ. (إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً) أي لا يعجزه شي وَلَا يَفُوتُهُ. (حَكِيماً) فِي إِيعَادِهِ عِبَادَهُ. وَقَوْلُهُ فِي صِفَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ: (وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا) يَعْنِي كَثِيفًا لَا شَمْسَ فِيهِ. الْحَسَنُ: وُصِفَ بِأَنَّهُ ظَلِيلٌ، لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُهُ مَا يَدْخُلُ ظِلَّ الدُّنْيَا مِنَ الْحَرِّ وَالسَّمُومِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَعْنِي ظِلَالَ الْأَشْجَارِ وَظِلَالَ قُصُورِهَا. الكلبي: (ظِلًّا ظَلِيلًا) يعني دائما.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب