الباحث القرآني

قوله تعالى ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ﴾ [[قال الرازي 24/ 88: اعلم أنه تعالى لما بين جهل المعرضين عن دلائل الله تعالى وفساد طريقتهم في ذلك ذكر بعده أنواعًا من الدلائل الدالة على وجود الصانع. ثم جعل هذه الآية النوع الأول. وذكر نحوه أبو حيان 6/ 460. وهذا غير مسلم؛ لأن القوم لم يكونوا منكرين لوجود الله حتى تساق لهم الآيات والبراهين الدالة عليه، فالأولى أن تكون هذه الآيات سيقت لإلزامهم بإفراد الله بالعبادة، من خلال مشاهدتهم لهذه الآيات المختلفة والمتضادة، التي لا ينكرونها، والتي لا تقدر الآلهة على شيء منها، فإقرارهم بوحدانية الله في خلقه لها وتصريفها مع عجز جميع المخلوقات عن التصرف فيها مستلزم الإقرار بتوحيد الألوهية، ويدل لهذا توجيه الخطاب للنبي -ﷺ- ليعلمهم بذلك. وجعل ابن عاشور 19/ 39، هذه الآية مفيدة تمثيل هيئة تنزيل القرآن منجمًا، بهيئة مد الظل مدرَّجًا، ولو شاء لجعله ساكنًا. وفيه بعد. والله أعلم.]] ذُكِر فيه أوجه؛ قال مقاتل: ألم تر إلى فعل ربك [[لم أجده في "تفسير مقاتل". وفي "تنوير المقباس" ص 303: ألم تنظر إلى صنع ربك. وكذا عند الزمخشري 3/ 275، غير منسوب، ويشهد له قوله تعالى: ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [النمل: 88].]]. وعلى هذا الآيهَ من باب حذف المضاف [["تفسير السمرقندي" 2/ 462، وفيه: ألم تر إلى صنع ربك.]]. وقال أبو إسحاق: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ ألم تعلم. وهذا من رؤية القلب. قال: ويجوز أن يكون من رؤية العين، ويكون المعنى: ألم تر كيف مد الظل ربك [["معاني القرآن" للزجاج 4/ 70. واقتصر ابن عطية 11/ 44، على أن المراد به: رؤية القلب.]]. وهذا قريب مما ذُكر في هذه الآية أنه مقلوب؛ على تقدير: ألم تر إلى الظل كيف مده ربك [["تفسير السمرقندي" 2/ 462، ولم ينسبه.]]. قال: والأجود أن يكون بمعنى العلم [["معاني القرآن" للزجاج 4/ 70.]]. ﴿كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ﴾ قال أبو عبيدة: الظل ما تنسخه الشمس، وهو بالغداة [["مجاز القرآن" لأبي عبيدة 2/ 75، بمعناه. وقال في ص 76: والفيء: ما نسخ الشمسَ من الظل، وهو بالعشي، إذا استدارت الشمس. والغدوة: من أول النهار. "المفردات" للراغب ص 358. وقال الراغب في ص 314: الظل أعم من الفيء، فإنه يقال: ظل الليل، وظل الجنة، ويقال لكل موضع لم تصل إليه الشمس ظل، ولا يقال الفيء إلا لما زال عنه الشمس.]]. والكلام في معنى الظل قد تقدم [[قال الواحدي في تفسير قوله الله تعالى: ﴿وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ﴾ [البقرة: 57]: الظل في اللغة، معناه: الستر، يقال: لا أزال الله عنا ظل فلان، أي: ستره، وظل الشجرة سترها، ويقال لظلمة الليل: ظل؛ لأنها تستر الأشياء، ومنه قوله تعالى. ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ﴾ [الفرقان: 45].]]. والمفسرون جميعًا قالوا في معنى الظل هاهنا: إنه الظل من وقت طلوع الفجر، إلى وقت طلوع الشمس [[أخرجه عبد الرزاق 2/ 70، عن الحسن، وقتادة. وذكره البخاري، تعليقًا عن ابن == عباس. "فتح الباري" 8/ 490. ووصله من طريق علي بن أبي طلحة، ابن جرير 19/ 18. وابن أبي حاتم 8/ 2701. وأخرجه ابن جرير 19/ 18، بإسناده عن سعيد ابن جبير، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك. وكذا ابن أبي حاتم 8/ 2701، وزاد نسبته لأبي العالية، والنخعي، ومسروق، والحسن. وهو قول مقاتل 46 أ، والفراء، "معاني القرآن" 2/ 286. وابن قتيبة، "تأويل مشكل القرآن" ص 314. والزجاج، "معاني القرآن" 4/ 70. ويرى ابن عطية 11/ 45، أن المراد بالظل في الآية: هو ما بين أول الإسفار، إلى بزوغ الشمس، ومن بعد مغيبها مدة يسيرة. ورد ما خالفه بقوله: وتظاهرت أقوال المفسرين على أن هذا الظل هو من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وذلك معتَرض بأن ذلك في غير نهار، بل في بقايا الليل، فلا يقال له: ظل. ونقل قوله ابن جزي ص 485، وأبو حيان 6/ 460 ولم يتعقباه. ورده ابن حجر بقوله: لأن الذي نقل أنه يُطلَق على ذلك ظلٌ ثقة مُثبِت، فهو مقدم على النافي، حتى ولو كان قول النافي محققًا لما امتنع إطلاق ذلك عليه مجازًا. "فتح الباري" 8/ 491. والأولى أن يقال: إن اعتراض ابن عطية لا وجه له؛ لأن النهار في لسان الشرع يبدأ من دخول وقت الفجر، فلا يقال للوقت بعد طلوع الفجر إلى الإسفار ليل، قال تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ [البقرة: 187] قوله: -ﷺ- "إِنَّ بلالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ" ثُمَّ قَالَ وَكَانَ رَجُلًا أَعْمَى لا يُنَادِي حَتَّى يُقَالَ لَهُ أَصْبَحْتَ أَصْبَحْتَ" أخرجه البخاري في الأذان. رقم 617 "الفتح" 2/ 99. ومسلم 2/ 768 الصيام، رقم 1092. والله أعلم.]]. فالظل الذي يكون بعد طلوع الفجر، وانبساطه قبل طلوع الشمس، وظورها على الأرض هو الذي أراد الله بقوله: ﴿مَدَّ الظِّلَّ﴾ واستدلوا بقوله في صفة ظل الجنة: ﴿وَظِلٍّ مَمْدُودٍ﴾ [الواقعة: 30] أي: لاشمس فيه [["تأويل مشكل القرآن" 314، حيث استدل بهذه الآية. وقريب منه في "تفسير السمرقندي" 2/ 462. و"تفسير الثعلبي" 8/ 99 ب. قال الرازي 24/ 88: وهذه الحالة أطيب الأحوال؛ لأن الظلمة الخالصة يكرهها الطبع، وينفر عليها الحس، == وأما الضوء الخالص .. فهي لقوتها تبهر الحس البصري، وتفيد السخونة القوية، وهي مؤذية، فإذًا أطيب الأحوال هو الظل، ولذلك وصف الجنة به. وقال أبو العالية: نهار الجنة هكذا، وأشار إلى ساعة المصلين صلاة الفجر. "تفسير القرطبي" 13/ 37.]]. كذلك الظل فيما بين هذين الوقتين لا شمس معه، فهو ظل ممدود [[قال القرطبي 13/ 37: ليس من ساعة أطيب من تلك الساعة؛ فإن فيها يجد المريض راحة، والمسافر وكل ذي علة.]]. وقوله: ﴿وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا﴾ قال ابن عباس، ومقاتل: يقول لو شئت لجعلت الظل دائمًا لا يزول إلى يوم القيامة [["تفسير مقاتل" ص 46 أ. وذكر البخاري، كتاب التفسير، باب: سورة الفرقان، عن ابن عباس: ﴿سَاكِنًا﴾ دائمًا. الفتح 8/ 490. ووصله ابن جرير 19/ 19، وابن أبي حاتم 8/ 2702، من طريق علي بن أبي طلحة.]]. وقال مجاهد: لا تصيبه الشمس ولا يزول [[أخرج ابن جرير 19/ 19، وابن أبي حاتم 8/ 2702. وتفسير مجاهد 2/ 453.]]. وقال الحسن: ساكنًا كما هو [[أخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2702.]]. قال الكلبي: دائمًا لا شمس معه [["تنوير المقباس" ص 304.]]. وقال الفراء، والزجاج: أي ثابتًا دائمًا لا يزول [["معاني القرآن" للفراء 2/ 268. و"معاني القرآن" للزجاج 4/ 70.]]. وقال ابن قتيبة: أي مستقرًا دائمًا حتى يكون كظل الجنة الذي لا تنسخه الشمس [["تأويل مشكل القرآن" ص 314، بنصه، ونحوه في "تفسير غريب القرآن" ص 313.]]. وقال صاحب النظم: ليس هذا من السكون الذي هو ضد الحركة؛ لأن الظل ساكن أبدًا، ولكنه من السكون الذي هو بمعنى الإقامة، يقال: سكن فلان بلد كذا، أي: أقام فيه. قوله: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا﴾ ذُكِر فيه قولان، قال مقاتل: يعني على الظل دليلًا تعلوه الشمس فتدفعه حتى تأتي على الظل كله [["تفسير مقاتل" ص 46 أ. وفيه: يتلو، بدل: تعلوه وأخرجه ابن أبي حاتم 8/ 2702، عن قتادة، والسدي. قال الهواري 3/ 212: تتبعه، وتقبضه.]]. وهذا معنى قول مجاهد: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا﴾ قال: تحويه [[أخرج ابن برير 19/ 19. وابن أبي حاتم 8/ 2702. وتفسير مجاهد 2/ 453.]]؛ أي: تأخذه. وقال الكلبي: حيثما يكون الظل تكون الشمس [["تنوير المقباس" ص 304.]]. وقال أبو إسحاق: الشمس دليل على الظل وهي تنسخ الظل [["معاني القرآن" للزجاج 4/ 70.]]. وهذه الأقوال معناها واحد. وبيانها ما ذكره صاحب النظم؛ فقال: دليل، هاهنا فعيل بمعنى: مفعول، نحو: العتيل، والدَّهين، والخصيب [[هكذا في (أ)، (ب): (العتيل)، وأهمل وضع النقط في (ج). العتيل: الأجير. "تهذيب اللغة" 2/ 271، و"اللسان" 11/ 424 (عتل). الدَّهين: الناقة القليلة اللبن. ورجل دهين: ضعيف. "تهذيب اللغة" 6/ 206، "اللسان" 13/ 161 (دهن). الخصيب: الرجل إذا كان كثير خير المنزل، يقال: إنه خصيب الرحل. ويقال: مكان مخصب، وخصيب. "تهذيب اللغة" 7/ 150، و"اللسان" 1/ 356 (خصب).]]. والمعنى: دللنا الشمس على الظل حتى ذهبت به. أي: اتبعناها إياه. يدل على ذلك: قوله تعالى: ﴿ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا﴾ أي: شيئًا بعد شيء [[قال ابن جرير 19/ 19: ثم دللناكم أيها الناس بنسخ الشمس إياه عند طلوعها عليه أنه خلق من خلق ربكم، يوجده إذا شاء، ويفنيه إذا أراد.]]. القول الثاني: قال ابن عباس: يدل الشمس على الظل [[ذكر البخاري، عن ابن عباس ﴿دَلِيلًا﴾ طلوع الشمس. كتاب التفسير، باب: سورة الفرقان، "فتح الباري" 8/ 490. ووصله ابن أبي حاتم 8/ 2702، من طريق علي ابن أبي طلحة.]]. واختار ابن قتيبة هذا القول، وشرحه؛ فقال: تقول لِمَا طلعت الشمس: دلت عليه، وعلى معناه، وكل الأشياء تعرف بأضدادها، ولولا الشمس ما عرف الظل، ولولا النور ما عرفت الظلمة، ولولا الحق ما عرف الباطل، وهكذا سائر ألألوان والطعوم، قال الله تعالى: ﴿وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ﴾ [الذاريات: 49] يريد: ضدين ذكرًا وأنثى، وأسودَ وأبيض، وحلوًا وحامضًا، وأشباه ذلك [["تأويل مشكل القرآن" ص 314.]]. وعلى هذا القول: دليل، فعيل بمعنى فاعل [[الظاهر أن لا فرق بين القولين، وقد ساق ابن جرير الآثار السابقة مجتمعة بعد تقريره أن الشمس دليل على الظل. والله أعلم. وفي جعل الشمس دليلًا على الظل، مصلحة ظاهرة للعباد فيبنون حاجتهم إلى الظل، واستغاءهم عنه على حسب ذلك. تفسير الزمخشري 3/ 275. وزاد عليه ابن عاشور 19/ 43، فوائد أخرى. ومعنى الآية واضح ظاهر، ومع ذلك قال ابن عاشور 19/ 41: ولم يفصح المفسرون عن معنى هذه الجملة إفصاحًا شافيًا. ثم قال ص 42: وتعدية ﴿دَلِيلًا﴾ بحرف على، يفيد أن دلالة الشمس على الظل هنا دلالة تنبيه على شيء قد يخفى. والله أعلم.]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب