الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ أول هذه الآية موصول بما قبلها، فيجوز أن يكون من صلة التفكر، قال أكثر [[قوله: من صلة ... في (ش) (أهل أكثر).]] المفسرين: معناه: هكذا يبين الله لكم الآيات في أمر الدنيا والآخرة، ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ في زوال الدنيا وفنائها فتزهدوا فيها، وفي إقبال الآخرة وبقائها فترغبوا فيها. ويجوز أن يكون ﴿فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ﴾ من صلة التبين، أي: يبين لكم الآيات في أمر الدنيا والآخرة ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ [[من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 294، "تفسير الثعلبي" 2/ 901.]]. وقوله تعالى: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى﴾ قال الضحاك [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 372 بمعناه، وذكره في "تفسير الثعلبي" 2/ 901، "زاد المسير" 1/ 244.]] والسدي [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 372 بمعناه، وذكره في "زاد المسير" 1/ 244.]] وابن عباس [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 372 بمعناه، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 901.]] في رواية العوفي: كانت العرب في الجاهلية يعظمون شأن اليتيم ويشددون [[في (ي): (يسدورن).]] أمره، فلا يؤاكلونه، وكانوا يتشاءمون [[في (أ) و (م) و (ي): (يتشامون).]] بملابسة أموالهم، فلما جاء الإسلام سألنا [[في (ي) و (ش): (سألوا).]] عن ذلك رسول الله ﷺ، فأنزل الله هذه الآية. وقال قتادة والربيع [[رواه عبد الرزاق في "تفسيره" 1/ 89، والطبري بمعناه 2/ 370، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 902، وعزاه في "الدر المنثور" 1/ 456 - 457 إلى عبد بن حميد وابن الأنباري والنحاس.]] وابن عباس في رواية سعيد بن جبير والوالبي [[رواه عنه الطبري 2/ 370، وذكره الثعلبي 2/ 902.]]: لما نزل في أمر اليتامى ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ﴾ [الإسراء: 34] وقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى﴾ [النساء: 10] اعتزلوا أموالهم، وعزلوا طعامهم، واجتنبوا مخالطتهم في كل شيء، حتى كان يصنع لليتيم طعامٌ، فيفضل منه شيء فيتركونه ولا يأكلونه حتى يفسد، وكان صاحب اليتيم يفرد له منزلًا وطعامًا وشرابًا، فعظم ذلك على ضَعَفَةِ المسلمين، فقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله! ما لكلنا منازل يسكنها الأيتام [[قول ابن عباس من رواية سعيد رواه أبو داود (2871) كتاب الوصايا، باب: مخالطة اليتيم في الطعام، والنسائي 6/ 256 كتاب الوصايا، باب: ما للموصى من مال اليتيم، وأحمد 1/ 325، والطبري في "تفسيره" 2/ 370 - 371، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 395 وغيرهم. وقول ابن عباس من رواية الوالبي (علي بن أبي طلحة) رواه أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ" ص 238، والطبري في "تفسيره" 2/ 371، والجصاص في "أحكام القرآن" 1/ 330 وغيرهم.]]، ولا كلُّنا يجد طعامًا وشرابًا يفردهما [[في (ش): (نفردهما) وفي (ي): (يردهما).]]، ونزلت: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ﴾ عني: الإصلاح لأموالهم من غير أجرة ولا أخذ عوض منهم خير وأعظم أجرًا، وقيل: مخالطتهم بالإصلاح لهم وتعريفهم ما فيه حظهم خير من التفرد منهم [[ينظر: "تفسير الثعلبي" 2/ 903.]]. ﴿وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ﴾ أي: تشاركوهم في أموالهم وتخلطوها بأموالكم، فتصيبوا من أموالهم عوضًا من قيامكم بأمورهم، أو تكافؤهم على ما تصيبون من أموالهم. والمخالطة: جَمْعٌ يَتَعَذَّرُ معه التمييز، يقال: استَخْلط الفَحْل: إذا خالطَ قُبُلُه [[في (ش): (قبلة).]] حَيَا الناقَةِ، ومنه يقال للجماع: الخِلاطُ، ويقال خولط الرجل: إذا جُنّ، والخلاط [[في (ي): (المخالط).]]: الجنون، لاختلاط الأمور على صاحبه بزوال عقله [[بنظر في خلط "تهذيب اللغة" 1/ 1083، 1084، "المفردات" ص161، "عمدة الحفاظ" 1/ 600 - 601، "اللسان" 2/ 1229 - 1232 (خلط).]]. وقوله تعالى: ﴿فَإِخْوَانُكُمْ﴾ أي: فهم إخوانكم. والإخوان يعين بعضهم بعضًا، ويصيب بعضهم [[في (ش): (يصيب بعضهم بعضَا من مال بعض).]] من مال بعض [["تفسير الثعلبي" 2/ 904.]]، ومثله قوله: ﴿فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ﴾ [الأحزاب: 5]. قال الفراء: ولو نصبته كان صوابًا، يُرِيد: فإخوانَكُم تخالطون [[ينظر: "إعراب القرآن" للنحاس 1/ 310.]]، وانما يرفع من هذا ما حسن فيه هو، فإذا لم يحسن أجريته على ما قبله، فقلت: إن اشتريت طعامًا فَجَيِّدًا، أي: اشْتَرِ جَيدًا، وإن لبستَ ثِيابًا فالبياضَ، تنصب لأن هو [[في (ش): (ها).]] لا يحسن هاهنا، والمعنى هاهنا مخالفٌ للأول، ألا ترى أنك تجد القوم إخوانًا وإن لم تخالطوهم [[عبارة الفراء في "معاني القرآن" 1/ 142: ألا ترى أنك تجد القوم إخوانًا وإن جحدوا.]]، ولا تجد كل ما تلبس [[في (ش): (تلتبس).]] بياضًا ولا ما تشتري جيدًا، فإن نويت أن ما ولي شراءه فَجَيّدٌ [[في (أ) و (م): (جيد).]] رفعتَ، إذا كان الرجل قد عُرِفَ بجودةِ الشراءِ أو بلبس البياض [["معاني القرآن" للفراء 1/ 141 - 142 بتصرف يسير.]]. قال أبو عبيد: هذه الآية عندي أصل للتناهد [[في (ي): (المشاهد)، وفي (ش): (للمتناهد).]] الذي يفعله الرفاق في الأسفار، ألا ترى أنهم يخرجون النفقات بالسوية ويتباينون في قلة المطعم وكثرته، فلما جاء هذا في أموال اليتامى واسعًا كان في غيرهم بحمد الله واسعًا [["الناسخ والمنسوخ" لأبي عبيد ص 240.]]. وقوله تعالى ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ﴾ أي: المفسد لأموالهم من المصلح لها، فاتقوا الله في مال اليتيم ولا تجعلوا مخالطتكم إياهم ذريعة إلى إفساد [[في (ي) و (ش) (فساد).]] أموالهم وأكلها بغير حق [[من "تفسير الثعلبي" 2/ 905.]]. وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ﴾ معنى الإعنات: الحمل على مَشَقَّةٍ لا تُطَاقُ ثَقِلًا، يقال: أعَنتَ فلانٌ فلانًا، أي: أوقعه فيما لا يستطيع الخروج منه، وتَعَنَّتَه تَعَنُّتًا إذا لَبَّسَ عليه في سؤاله له، وعَنَتَ العظمُ المجبورُ، إذا انكسر بعد الجبر، وأصل الحرف من المشقة، أَكَمَةٌ عَنوت: إذا كانت شاقةً كَؤُودًا [[ينظر في عنت: "تفسير غريب القرآن" ص 76، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 294 - 295، "تهذيب اللغة" 3/ 2585 - 2586، "المفردات" ص 352 وقال: المعانتة: كالمعاندة لكن المعانتة أبلغ؛ لأنها معاندة فيها خوف وهلاك، ولهذا يقال: عنت فلان إذا وقع في أمر يخاف منه التلف يعنَت عنتا، وينظر: "عمدة الحفاظ" 3/ 156، "لسان العرب" 5/ 3120.]]. قال ابن عباس: معناه: ولو شاء الله لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقًا [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 375، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 2/ 396، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 2/ 905.]]. وقال عطاء: ولو شاء الله لأدخل عليكم المشقة كما أدخلتم على أنفسكم [[ذكره الرازي في "تفسيره" 2/ 56.]]. وقال الزجاج: ولو شاء الله لكلفكم ما يشتد عليكم [[ذكره الزجاج في "معاني القرآن" 2/ 294.]]. وقيل: ولو شاء الله لضيق عليكم وأثمكم في مخالطتهم [["تفسير الثعلبي" 2/ 905.]]، ومعناه التذكير بالنعمة في التوسعة. ﴿إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ﴾ في ملكه ﴿حَكِيمٌ﴾ فيما أمركم من أمر اليتامى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب