الباحث القرآني

﴿فِي الدُّنْيا والآخِرَةِ﴾ أيْ: في أُمُورِهِما، فَتَأْخُذُونَ بِالأصْلَحِ مِنهُما، وتَجْتَنِبُونَ عَمّا يَضُرُّكم ولا يَنْفَعُكم أوْ يَضُرُّكم أكْثَرَ مِمّا يَنْفَعُكُمْ، والجارُّ بَعْدَ تَقْدِيرِ المُضافِ مُتَعَلِّقٌ بِـ تَتَفَكَّرُونَ بَعْدَ تَقْيِيدِهِ بِالأوَّلِ، وقِيلَ: يَجُوزُ أنْ يَتَعَلَّقَ بِـ يُبَيِّنُ أيْ: يُبَيِّنُ لَكُمُ الآياتِ فِيما يَتَعَلَّقُ بِأُمُورِ الدُّنْيا والآخِرَةِ ﴿لَعَلَّكم تَتَفَكَّرُونَ﴾ وقَدَّمَ التَّفَكُّرَ لِلِاهْتِمامِ، وفِيهِ أنَّهُ خِلافُ ظاهِرِ النَّظْمِ، مَعَ أنَّ تَرَجِّي أصْلِ التَّفَكُّرِ لَيْسَ غايَةً لِعُمُومِ التَّبْيِينِ، فَلا بُدَّ مِن عُمُومِ التَّفَكُّرِ، فَيَكُونُ المُرادُ لَعَلَّكم تَتَفَكَّرُونَ في أُمُورِ الدُّنْيا والآخِرَةِ، وفي التَّكْرارِ رَكاكَةٌ، وقِيلَ: مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ حالًا مِنَ الآياتِ؛ أيْ: يُبَيِّنُها لَكم كائِنَةً فِيهِما؛ أيْ: مُبَيِّنَةٍ لِأحْوالِكُمُ المُتَعَلِّقَةِ بِهِما، ولا يَخْفى ما فِيهِ، ومِنَ النّاسِ مَن لَمْ يُقَدِّرْ (لِيَتَفَكَّرُونَ) مُتَعَلِّقًا، وجَعَلَ المَذْكُورَ مُتَعَلِّقًا بِها؛ أيْ: بَيَّنَ اللَّهُ لَكُمُ الآياتِ لِتَتَفَكَّرُوا في الدُّنْيا وزَوالِها والآخِرَةِ وبَقائِها، فَتَعْلَمُوا فَضْلَ الآخِرَةِ عَلى الدُّنْيا، وهو المُرْوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللهُ تَعالى عَنْهُ - وقَتادَةَ والحَسَنِ. ﴿ويَسْألُونَكَ عَنِ اليَتامى﴾ عَطْفٌ عَلى ما قَبْلَهُ مِن نَظِيرِهِ، أخْرَجَ أبُو داوُدَ والنَّسائِيُّ وابْنُ جَرِيرٍ وجَماعَةٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللهُ تَعالى عَنْهُما -، قالَ: «”لَمّا أنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ولا تَقْرَبُوا مالَ اليَتِيمِ إلا بِالَّتِي هي أحْسَنُ﴾ و﴿إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أمْوالَ اليَتامى﴾ الآيَةَ، انْطَلَقَ مَن كانَ عِنْدَهُ يَتِيمٌ، فَعَزَلَ طَعامَهُ مِن طَعامِهِ وشَرابَهُ مِن شَرابِهِ، فَجَعَلَ يُفَضِّلُ لَهُ الشَّيْءَ مِن طَعامِهِ، فَيَحْبِسُ لَهُ حَتّى يَأْكُلَهُ أوْ يَفْسَدَ فَيَرْمِيَ بِهِ، فاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلّى اللهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ – فَنَزَلَتْ“،» والمَعْنى: يَسْألُونَكَ عَنِ القِيامِ بِأمْرِ اليَتامى، أوِ التَّصَرُّفِ في أمْوالِهِمْ، أوْ عَنْ أمْرِهِمْ وكَيْفَ يَكُونُونَ مَعَهم ﴿قُلْ إصْلاحٌ لَهم خَيْرٌ﴾ أيْ: مُداخَلَتِهِمْ مُداخَلَةً يَتَرَتَّبُ عَلَيْها إصْلاحُهم أوْ إصْلاحُ أمْوالِهِمْ بِالتَّنْمِيَةِ والحِفْظِ خَيْرٌ مِن مُجانَبَتِهِمْ، وفي الِاحْتِمالِ الأوَّلِ إقامَةُ غايَةِ الشَّيْءِ مَقامَهُ. ﴿وإنْ تُخالِطُوهم فَإخْوانُكُمْ﴾ عَطْفٌ عَلى سابِقِهِ، والمَقْصُودُ الحَثُّ عَلى المُخالَطَةِ المَشْرُوطَةِ بِالإصْلاحِ مُطْلَقًا؛ أيْ: إنْ تُخالِطُوهم في الطَّعامِ والشَّرابِ والمَسْكَنِ والمُصاهَرَةِ تُؤَدُّوا اللّائِقَ بِكُمْ؛ لِأنَّهم إخْوانُكم أيْ في الدِّينِ، وبِذَلِكَ قَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ -، وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ: المُخالَطَةُ أنْ يَشْرَبَ مَن لَبَنِكَ وتَشْرَبَ مِن لَبَنِهِ، ويَأْكُلَ في قَصْعَتِكَ وتَأْكُلَ في قَصْعَتِهِ، ويَأْكُلَ مِن تَمْرَتِكَ وتَأْكُلَ مِن تَمْرَتِهِ، واخْتارَ أبُو مُسْلِمٍ الأصْفَهانِيُّ أنَّ المُرادَ بِالمُخالَطَةِ المُصاهَرَةُ، وأُيِّدَ بِما نَقَلَهُ الزَّجّاجُ أنَّهم كانُوا يَظْلِمُونَ اليَتامى فَيَتَزَوَّجُونَ مِنهُمُ العَشَرَةَ ويَأْكُلُونَ أمْوالَهُمْ، فَشَدَّدَ عَلَيْهِمْ في أمْرِ اليَتامى تَشْدِيدًا خافُوا مَعَهُ التَّزَوُّجَ بِهِمْ (p-117)فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، فَأعْلَمَهم – سُبْحانَهُ - أنَّ الإصْلاحَ لَهم خَيْرُ الأشْياءِ، وأنَّ مُخالَطَتَهم في التَّزْوِيجِ مَعَ تَحَرِّي الإصْلاحِ جائِزَةٌ، وبِأنَّ فِيهِ عَلى هَذا الوَجْهِ تَأْسِيسًا؛ إذِ المُخالَطَةُ بِالشَّرِكَةِ فُهِمَتْ مِمّا قَبِلَ، وبِأنَّ المُصاهَرَةَ مُخالَطَةٌ مَعَ اليَتِيمِ نَفْسِهِ بِخِلافِ ما عَداها، وبِأنَّ المُناسَبَةَ حِينَئِذٍ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإخْوانُكُمْ﴾ ظاهِرَةٌ؛ لِأنَّها المَشْرُوطَةُ بِالإسْلامِ، فَإنَّ اليَتِيمَ إذا كانَ مُشْرِكًا يَجِبُ تَحَرِّي الإصْلاحَ في مُخالَطَتِهِ فِيما عَدا المُصاهَرَةَ، وبِأنَّهُ يَنْتَظِمُ عَلى ذَلِكَ النَّهْيِ الآتِي بِما قَبْلَهُ، كَأنَّهُ قِيلَ: المُخالَطَةُ المَندُوبَةُ إنَّما هي في اليَتامى الَّذِينَ هم إخْوانُكُمْ، فَإنْ كانَ اليَتِيمُ مِنَ المُشْرِكاتِ فَلا تَفْعَلُوا ذَلِكَ، ولا يَخْفى أنَّ ما نَقَلَهُ الزَّجّاجُ أضْعَفَ مِنَ الزُّجاجِ؛ إذْ لَمْ يَثْبُتُ ذَلِكَ في أسْبابِ النُّزُولِ في كِتابٍ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، والزَّجّاجُ وأمْثالُهُ لَيْسُوا مِن فُرْسانِ هَذا الشَّأْنِ، وبِأنَّ التَّأْسِيسَ لا يُنافِي الحَثَّ عَلى المُخالَطَةِ، لِما أنَّ القَوْمَ تَجَنَّبُوا عَنْها كُلَّ التَّجَنُّبِ، وأنَّ إطْلاقَ المُخالَطَةِ أظْهَرُ مِن تَخْصِيصِها بِخَلْطِ نَفْسِهِ، وأنَّ المُناسِبَةَ والِانْتِظامَ حاصِلانِ بِدُخُولِ المُصاهَرَةِ في مُطْلَقِ المُخالَطَةِ ﴿واللَّهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ﴾ في أُمُورِهِمْ بِالمُخالَطَةِ ﴿مِنَ المُصْلِحِ﴾ لَها بِها، فَيُجازِي كُلًّا حَسَبَ فِعْلِهِ أوْ نِيَّتِهِ، فَفي الآيَةِ وعِيدٌ، ووَعَدَهم وقَدَّمَ المُفْسِدَ اهْتِمامًا بِإدْخالِ الرَّوْعِ عَلَيْهِ و(ألْ) في المَوْضِعَيْنِ لِلْعَهْدِ، وقِيلَ: لِلِاسْتِغْراقِ، ويَدْخُلُ المَعْهُودُ دُخُولًا أوَّلِيًّا، وكَلِمَةُ (مِن) لِلْفَضْلِ وضِمْنُ يَعْلَمُ مَعْنى يُمَيِّزُ، فَلِذا عَدّاهُ بِها. ﴿ولَوْ شاءَ اللَّهُ لأعْنَتَكُمْ﴾ أيْ: لَضَيَّقَ عَلَيْكُمْ، ولَمْ يُجَوِّزْ لَكم مُخالَطَتُهُمْ، أوْ لَجَعَلَ ما أصَبْتُمْ مِن أمْوالِ اليَتامى مُوبِقًا - قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللهُ تَعالى عَنْهُ - وأصْلُ الإعْناتِ الحَمْلُ عَلى مَشَقَّةٍ لا تُطْلِقُ ثِقْلًا، ويُقالُ: عَنِتَ العَظْمُ عَنَتًا إذا أصابَهُ وهَنٌ أوْ كَسْرٌ بَعْدَ جَبْرٍ، وحَذْفُ مَفْعُولِ المَشِيئَةِ لِدَلالَةِ الجَوابِ عَلَيْهِ، وفي ذَلِكَ إشْعارٌ بِكَمالِ لُطْفِهِ – سُبْحانَهُ - ورَحْمَتِهِ؛ حَيْثُ لَمْ يُعَلِّقْ مَشِيئَتَهُ بِما يَشُقُّ عَلَيْنا في اللَّفْظِ أيْضًا، وفي الجُمْلَةِ تَذْكِيرٌ بِإحْسانِهِ - تَعالى - عَلى أوْصِياءِ اليَتامى. ﴿إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ﴾ غالِبٌ عَلى أمْرِهِ لا يُعْجِزُهُ أمْرٌ مِنَ الأُمُورِ الَّتِي مِن جُمْلَتِها إعْناتُكم ﴿حَكِيمٌ 220﴾ فاعِلٌ لِأفْعالِهِ حَسْبَما تَقْتَضِيهِ الحِكْمَةُ وتَتَّسِعُ لَهُ الطّاقَةُ الَّتِي هي أساسُ التَّكْلِيفِ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ تَذْيِيلٌ وتَأْكِيدٌ لِما تَقَدَّمَ مِن حُكْمِ النَّفْيِ والإثْباتِ؛ أيْ: ولَوْ شاءَ لَأعَنْتَكم لِكَوْنِهِ غالِبًا، لَكِنَّهُ لَمْ يَشَأْ لِكَوْنِهِ حَكِيمًا، وفي الآيَةِ - كَما قالَ الكِيا - دَلِيلٌ لِمَن جَوَّزَ خَلْطَ مالِ الوَلِيِّ بِمالِ اليَتِيمِ والتَّصَرُّفَ فِيهِ بِالبَيْعِ والشِّراءِ ودَفْعَهُ مُضارَبَةً إذا وافَقَ الإصْلاحَ، وفِيها دَلالَةٌ عَلى جَوازِ الِاجْتِهادِ في أحْكامِ الحَوادِثِ؛ لِأنَّ الإصْلاحَ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ الآيَةُ إنَّما يُعْلَمُ مِنَ الِاجْتِهادِ وغَلَبَةِ الظَّنِّ، وفِيها دَلالَةٌ عَلى أنَّهُ لا بَأْسَ بِتَأْدِيبِ اليَتِيمِ وضَرْبِهِ بِالرِّفْقِ لِإصْلاحِهِ، ووَجْهُ مُناسَبَتِها لِما قَبْلَها أنَّهُ - سُبْحانَهُ - لَمّا ذَكَرَ السُّؤالَ عَنِ الخَمْرِ والمَيْسِرِ، وكانَ في تَرْكِها مُراعاةٌ لِتَنْمِيَةِ المالِ، ناسَبَ ذَلِكَ النَّظَرَ في حالِ اليَتِيمِ، فالجامِعُ بَيْنَ الآيَتَيْنِ أنَّ في تَرْكِ الخَمْرِ والمَيْسِرِ إصْلاحَ أحْوالِهِمْ أنْفُسَهُمْ، وفي النَّظَرِ في أحْوالِ اليَتامى إصْلاحًا لِغَيْرِهِمْ مِمَّنْ هو عاجِزٌ أنْ يُصْلِحَ نَفْسَهُ، فَمَن تَرَكَ ذَلِكَ وفَعَلَ هَذا فَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ النَّفْعِ لِنَفْسِهِ ولِغَيْرِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب