الباحث القرآني

وقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾، كُتِبَ هاهنا، بمعنى: فُرض وأُوجب، كقوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ﴾ [البقرة: 180]. وأصله: أن من أراد إحكام شيء والاستيثاق منه كَتَبَه؛ لئلا ينساه، فقيل في كل مفروضٍ واجب: كتب، بمعنى: أحكم ذلك. وقيل: أصلُه: ما كتبه الله في اللوح المحفوظ، ومن هذا قوله: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾ [المجادلة: 21]، أي: قضى الله ذُلك، وفَرَغَ منه، وحَكَم به، ومثله قوله: ﴿وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ﴾ [الحشر: 3]، أي: حكم بإخراجهم من دورهم، وقوله: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا﴾ [التوبة: 51]، وقوله: {لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ} [آل عمران: 154]، كل هذا من القضاء. ويكون (كتب) بمعنى [[في (أ): (يعنى).]]: جعل، كقوله: ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ﴾ [المجادلة: 22]، وقوله: ﴿فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ [المائدة: 83] وقوله: ﴿فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ [الأعراف: 156] [[ينظر في معنى (كتب): "تفسير الطبري" 2/ 102، 103، "المحرر الوجيز" 2/ 83، "المفردات" ص 425 - 427، "البحر المحيط" 2/ 7 - 8، قال الراغب: ويعبر عن الإثبات والتقدير والإيجاب والفرض والعزم، بالكتابة، ووجه ذلك: أن الشيء يراد، ثم يقال، ثم يكتب، فالإرادة مبدأ، والكتابة منتهى، ثم يعبر عن المراد الذي هو المبدأ إذا أريد توكيده بالكتابة التي هي المنتهى.]]. وقوله تعالى: ﴿القِصَاصُ﴾ معنى القصاص في اللغة: المماثلة والمساواة، وأصله من قولهم: قصصت أثره، إذا تتبعته [[في (م): (تبعته).]]، ومنه قوله تعالى: ﴿وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ﴾ [القصص: 11]، فكأن المفعول به يتبع ما عُمِلَ به فَيَعْمَلُ مثله [["تفسيرالثعلبي" 2/ 176.]]. والقِصَاص مصدرة لأنه فعال من المفاعلة. قال الفراء في كتاب المصادر: قاصَصْته قَصَصا، وأَقْصَصْتُه: إذا أقدته من أخيه إِقْصَاصًا، ويقال: قَصَصْتُ أثره قَصصًا وقَصًّا، وقَصصْتُ عليه الحديثَ قَصَصًا، قال الله تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾ [يوسف: 3]. وقال في قَصِّ الأثر: ﴿فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا﴾ [الكهف: 64] والقَصُّ جائز في هذين. هذا كلامه. وأراد بالقصاص هاهنا: المماثلة في النفوس والجروح. وقال الأزهري: أصل القَصّ: القطع. قال أبو زيد: قَصَصتُ ما بينهما، أي: قطعت. قال الأزهري: والقِصَاص في الجِرَاح مأخوذ من هذا، وهو أن يُجْرحَ مثلَ ما جَرَح، أو يُقْتل مثل ما قتل [["تهذيب اللغة" 3/ 2976 (قصّ)، وعبارته: والقصاص في الجراح مأخوذ من هذا، يجرحه مثل جرحه إياه، أو قتله به.]]، والقول الأول أشهر؛ لأن القصاص والمقاصة في غير الجراح، يقال: قَاصَّه في الحساب وغيره: إذا أخذ الشيء مكان غيره. وقال الليث: القصاص والتقاص [[في (ش): (والتقصاص).]] في الجراحات والحقوق شيء بشيء [[نقله عنه في "تهذيب اللغة" 3/ 2976، "لسان العرب" 6/ 3652 (قصّ).]]، وهذا يبين ان معنى القصاص اعتبار المماثلة والمساواة [[ينظر في معنى القصاص "تفسير الطبري" 2/ 102 - 103، "اللسان" 6/ 3652 (قصّ).]]. وليس معنى الآية أن القصاص واجب علينا حتى لا يسعنا تركه، ولكن معناه: أن اعتبار المماثلة بين القتلى فرضٌ علينا، فالفَرْضِية ترجع إلى اعتبار المماثلة بين [[في (أ)، (م): (من).]] الدماء، لا إلى نفس القصاص، حتى يلزم قتْلُ القاتلِ حتمًا، فالقصاص حيث يجب إنما يجب إذا وُجِدَتْ المساواة، وهذا يؤكدُ أنَ القولَ في اشتقاق القِصَاص في اللغة إنما هو من الاتباع، لا من القطع كما قاله الأزهري؛ لأنه لو كان من القطع لوجب القصاص حتى لا يسعنا تركه [[ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 102، 106، "زاد المسير" 1/ 180، "التفسير الكبير" 5/ 48، قال ابن عطية في "المحرر الوجيز" 2/ 83: وصورة فرض القصاص هو == أن القاتل فرض عليه إذا أراد الولي القتل الاستسلام لأمر الله، والانقياد لقصاصه المشروع، وأن الولي فرض عليه الوقوف عند قتل قاتل وليه، وترك التعدي على غيره، كما كانت العرب تتعدى وتقتل بقتيلها الرجل من قوم قاتله، وأن الحكام وأولي الأمر فرض عليهم النهوض بالقصاص وإقامة الحدود، وليس القصاص باللزام، إنما اللزام أن لا يتجاوز القصاص إلى اعتداء، فأما إذا وقع الرضى بدون القصاص من دية أو عفو فذاك مباح، فالآية معلمة أن القصاص هو الغاية عند التشاح.]]. قوله تعالى: ﴿اَلحُرُّ باَلحُرِّ﴾ أراد: الحر يقتص بالحر، فحذف لدلالة ذكر القصاص عليه. والحر: نقيض [[في (ش): (يقتص).]] العبد، قال أهل الاشتقاق: أصله من الحَرِّ الذي هو ضد [[في (م): (نقيض).]] البرد، وذلك أن الحُرّ له من الأنفة وحرارة الحمية ما يبعثه على المكرمة، بخلاف العبد، ثم قيل للأكرم من كل شيء: حُرٌّ تشبيهًا بالرجل الحر [[ينظر في معاني الحر: "تهذيب اللغة" 1/ 780 - 783، "اللسان" 2/ 827 - 832.]]. قال المفسرون: نزلت الآية في حَيَّيْنِ من العَرَبِ، لأَحَدِهِما طَولٌ على الآخر، فكانوا يتزوجون نسائهم بغير مهور، فقتلَ الأوضعُ منهما من الشريف قتلى، فحلف الشريف لَيَقْتُلَن الحرَّ بالعبد، والذكرَ بالأنثى. وليضاعفن الجراح، فأنزل الله هذه الآية، ليعلم أن الحر المسلم، كفء للحر المسلم، وكذلك العبد للعبد، والذكر للذكر، والأنثى للأنثى [[ينظر في سبب النزول "تفسير الطبري" 2/ 103، "معاني القرآن" للفراء 1/ 108، "المحرر الوجيز" 2/ 83 - 84، "تفسير الثعلبي" 2/ 175، "أسباب النزول" للواحدي ص 52 - 53، "زاد المسير" 1/ 180، "العجاب" لابن حجر 1/ 423 - 426، "لباب النقول" للسيوطي ص 32 - 33، وقد استطرد الطبري -رحمه الله- في ذكر أسباب نزول للآية، وكلها تدور حول هذا المعنى الذي ذكره الواحدي.]]. ولم تدل [[في (ش): (تدلك).]] الآية على أن الذكر لا [[في (م): (لم).]] يقتل بالأنثى، ولكنها بينت أن من قُتِلتْ له أُنْثَى فقال: لا أقتل بها إلا رجلًا متعدٍّ غير منصف، فأما قتل الذكر بالأنثى فمستفاد من إجماع الأمة؛ لأنهما تساويا في الحرمة، والميراثِ، وحدِّ الزنى، والقذف وغير ذلك، فوجب أن يستويا في القصاص [["تفسير الثعلبي" 2/ 177، وينظر: "تفسير الطبري" 2/ 105، "أحكام القرآن" للكيا الهراسي 1/ 44، "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 63، "تفسير القرطبي" 2/ 227، "البحر المحيط" 2/ 11 وقد حكى هؤلاء الثلاثة الإجماع على ما ذكره المؤلف. "المحرر الوجيز" 2/ 84، "تفسير البغوي" 1/ 189.]]. قال الفراء: هذه الآية منسوخة بقوله: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ [المائدة: 45] [["معاني القرآن" للفراء 1/ 109.]] وكان عنده هذه الآية تدل على أن الرجل إنما يُقتل بالذَّكَر ولا يُقتل بالأنثى؛ لأنه قال: ﴿الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى﴾ فلما لم يعمل بهذا وعمل بقوله: ﴿اَلنَّفسَ بِالنَّفسِ﴾ جعل هذه الآية منسوخة، والصحيح أن هذه الآية غير منسوخة؛ لأن حُكْمَ الآية ثابتٌ، ولم تدلَّ على أن الذكرَ لا يقتل بالأنثى [[ينظر: "تفسير القرطبي" 2/ 227، قال ابن عطية في "المحرر الوجيز" 2/ 84 - 85: روي عن ابن عباس أن الآية نزلت مقتضية أن لا يقتل الرجل بالمرأة، ولا المرأة بالرجل، ولا يدخل صنف على صنف، ثم نسخت بآية المائدة: (أن النفس بالنفس)، قال القاضي أبو محمد (ابن عطية): هكذا روي، وآية المائدة إنما هي إخبار عما كتب على بني إسرائيل، فلا يترتب النسخ إلا بما تلقي عن رسول الله ﷺ من أن حكمنا في شرعنا مثل حكمهم، وروي عن ابن عباس فيما ذكر أبو== عبيد وعن غيره أن هذه الآية محكمة، وفيها إجمال فسرته آية المائدة، وأن قوله هنا: (الحر بالحر)، يعم الرجال والنساء، وقاله مجاهد.]]. وقوله تعالى: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ معنى العفو: هو ترك الواجب من أَرْشِ [[الأرش: ما يأخذه المشتري من البائع إذا اطلع على عيب في المبيع، وأروش الجنايات والجراحات من ذلك، لأنها جابرة لها عما حصل فيها من النقص، وسمي أرشا؛ لأنه من أسباب النزل، يقال: أرَّشت بين القوم إذا أوقعت بينهم. "النهاية" ص 33.]] جناية، أو عقوبة ذنب، أو ما استوجبه الإنسان بما ارتكبه من جناية فصفح عنه وترك له من الواجب عليه [[وهو قول ابن عباس ومجاهد وعطاء والشعبي وقتادة والربيع وغيرهم. ينظر: "تفسير عبد الرزاق" 1/ 66، "تفسير الطبري" 2/ 107، "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 295، "تفسيرالثعلبي" 2/ 181.]]. وقوله تعالى: ﴿مِنْ أَخِيهِ﴾ أراد: من دم أخيه، فحذف المضاف للعلم به [["البحر المحيط" 1/ 12.]]، وأراد بالأخ: المقتول، سماه أخًا للقاتل، فدل أن أخوة الإسلام بينهما لا تنقطع، وأن القاتل لم يخرج عن الإيمان بقتله [[في (ش): (بقلبه).]] [["البحر المحيط"1/ 12، "التفسير الكبير" 5/ 54، "المحرر الوجيز" 2/ 88.]]. وفي قوله: (شيء) دليل على أن بعض الأولياء إذا عَفَا سَقَطَ القود؛ لأن شيئًا من الدمِ قد بطل بعفو البعض [["البحر المحيط"1/ 13، "التفسير الكبير" 5/ 54.]]، والله تعالى قال: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾، والكنايتان في قوله: ﴿لَهُ﴾ و ﴿أَخِيهِ﴾ ترجعان إلى (مَنْ) وهو القاتل [["تفسير البغوي" 1/ 191.]]، ولا يحتاج أن يقال: أخيه المقتول؛ لأن هذا الحكم لا يثبت ولا يوجد إلا عند القتل. هذا الذي ذكرنا من معنى قوله: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ﴾ هو الذي عليه عامة المفسرين وأهل المعاني وإن لم [[(لم) سقطت من (م).]] يبينوا هذا البيان. [[ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 107، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 248، "تفسير البغوي" 1/ 191، "أحكام القرآن" لابن العربي 1/ 66، "المحرر الوجيز" 2/ 88، "تفسير القرطبي" 2/ 234، وذكر خمس تأويلات للآية، وقال: هذا قول ابن عباس وقتادة ومجاهد وجماعة من العلماء.]] وقال الأزهري: هذه الآية فيها إشكال، وقد فسرها ابن عباس وغيرُه من المفسرين على جهة التقريب وقدر أفهام من شاهدهم من أهل عصرهم. وأهلُ عصرنا لا يكادون يفهمون عنهم ما أومأوا إليه حتى يزاد في البيان، ويوضح بعض الإيضاح، ونسأل الله التوفيق. حدثنا محمد بن إسحاق، ثنا المخزومي، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار [[هو: أبو محمد عمرو بن دينار المَكِّي الأثرم الجمحي مولاهم، تابعي إمام حافظ ثقةٌ ثبت، توفي سنة 126هـ ينظر: "الجرح والتعديل" 6/ 231، "التقريب" ص 421 (5024).]] عن مجاهد قال: سمعت ابن عباس يقول: كان القِصَاصُ في بني إسرائيل ولم تكن الدية، فقال الله لهذه الأمة: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ إلى قوله: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ﴾ قال: فالعفو أن تقبل الدية في العمد [[الحديث: أخرجه البخاري (4498) كتاب التفسير، باب: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ﴾، والطبري في "تفسيره" 2/ 107، كلاهما بهذا الإسناد.]]. قال الأزهري: وليس العفو في قوله: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ﴾ عفوًا من ولي [[في (ش): (ولا).]] الدم، ولكنه عفو من الله -جل ذكره-، وذلك أنه لم يكن لبني إسرائيل أن يأخذوا الدية، فجعلها الله لهذه الأمة عفوًا منه وفضلًا، مع اختيار ولي الدم ذلك في العمد، فذلك قوله: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِن أَخِيهِ شَئٌ﴾ أي [[لخص الواحدي كلام الأزهري، وهذا تمام هذه الجملة 3/ 226: أي: من عفا الله -جل اسمه- له بالدية حين أباح له أخذها بعدما كانت محظورة على سائر الأمم، مع اختياره إياها على الدم، (اتباع بالمعروف)، أي: مطالبة للدية بمعروف، وعلى القاتل أداء الدية إليه بإحسان، ثم بين ذلك فقال: ﴿ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾، لكم يا أمة محمد، وفضل جعله لأولياء الدم منكم، ورحمة خصكم بها، ﴿فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ﴾، أي: من سفك دم قاتل وليه بعد قبوله الدية، ﴿فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾، والمعنى الواضح في قوله: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِن أَخِيهِ شَئٌ﴾، أي: أحل له أخذ الدية بدل أخيه المقتول، عفوًا من الله وفضلًا مع اختياره، فليطالب بالمعروف.]]: من عفا الله له بقبول الدية مع اختياره، أي: تَفَضَّل اللهُ عليه من هذه الأمة، ولم يكن ذلك الفضلُ لمن تَقَدَّمَه، قال: وقوله: ﴿مِنْ أَخِيهِ﴾ ﴿مِنْ﴾ هاهنا بمعنى البدل، المعنى: فمن عفا الله له بقبول الدية بدل أخيه المقتول. والعرب تقول: عوّضت [[في "تهذيب اللغة" 3/ 2283 (عاض).]] له من حقه ثوبًا: أي، أعطيته بدل حقه ثوبًا، وما أعلم أحدًا فسر من هذه الآية ما فسرته، فتدبره، فإنه صعب، واقبله بِشُكْرٍ إذ بان لك صوابه، انتهى كلامه [[في "تهذيب اللغة" 3/ 2283 (بمعناه).]]. ولقد أعجب بقوله، وزلّ [[في (م): (وزاد).]] فيما تكلف، وليس الأمر على ما ذكر، فإن [[في (م): (ما ذكرنا وقوله).]] قوله ﴿فَمَنْ عُفِيَ﴾ عفو من ولي الدم بإباحة الله تعالى ذلك، ولو كان العفو من الله تعالى لتعيّنت [[في (م): (لم ثبتت).]] الدية وسقط القصاص أصلًا، ولا معنى لقوله: أي: من عفا الله له بقبول الدية، أي: تفضل الله به عليه؛ لأن هذا رُخِّص لولي الدم في العفو، وهذا التفضل من الله، هذا العفو على القاتل لا على ولي الدم. وقوله: ﴿مِنْ أَخِيهِ﴾ أي: بدل أخيه المقتول [[في (م): (العفو).]] ليس بشيء؛ لأن قوله: ﴿مِنْ أَخِيهِ﴾ عام في كل المقتول، ليس المراد به [[ليست في (م).]] أخوة النسب، وعلى ما ذكره يختص بالأخ من [[ليست في (ش).]] طريق النسب، والحكم في كل مقتول سواء، وليس لتخصيص الأخ فائدة، ومن تأمل هذا ظَهَرَ له فساد قوله. وقوله: ﴿فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ﴾ على معنى: فعليه اتباع بالمعروف، ولو كان في غير القرآن لجاز: فاتباعًا وأداءً على معنى: فليتبع اتباعًا، وليؤد أداءً [[من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 249، وينظر: "تفسير الطبري" 2/ 110، "تفسير الثعلبي" 2/ 182.]]. قال الفراء: وهو بمنزلة الأمر في الظاهر، كما تقول: من لقي العدو فصبرًا واحتسابًا، فهذا نصب [[في (م): (نصبه).]]، ورفعه جائز، على معنى: فعليه. ومثله في القرآن كثير، كقوله: ﴿فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ﴾ [البقرة: 196]، ﴿فَتَحرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ [النساء: 92]، ﴿فَإمسَاكُ بِمَعْرُوفٍ﴾ [البقرة: 229]، وليس شيء من هذا إلا ونصبه جائز على أن توقع عليه الأمر. ومما جاء منصوبًا قوله: ﴿فَضَربَ الرِّقَابِ﴾ [محمد: 4] [[من "معاني القرآن" للفراء 1/ 109 - 110 بتصرف كبير، وينظر: "تفسير الطبري" 2/ 110، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 248 - 249.]]. والمعروف: كل ما يتعارفه الناس ولا ينكرونه، ثم صار اسمًا للإحسان والجود والأخلاق الجميلة، لأنها مما لا ينكر، وأراد بالمعروف هاهنا: ترك التشديد [[في (أ)، (م): (التشدد).]] على القاتل في طلب الدية، ومعناه: فعلى [[بياض في (م).]] وليِّ المقتول الاتباع [[في (ش): (اتباع).]] بالمعروف في المطالبة بالدية [[ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 109، "المحرر الوجيز" 2/ 89.]]، وهو معنى قول ابن عباس: يطلبُ هذا بإحسان، ويؤدي هذا بإحسانٍ [[رواه عنه الطبري في "تفسيره" 2/ 109.]]. وقال بعضهم: قوله: ﴿فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ﴾ خبر مبتدأ محذوف، والمعنى: فالأمر اتباعٌ بالمعروف، أو فالحكم فيه اتباع بالمعروف [[وهذا اختيار الطبري في "تفسيره" 2/ 110، وينظر: "التفسير الكبير" 5/ 45، "المحرر الوجيز" 2/ 89، وقال: فاتباع رفع على خبر ابتداء مضمر، تقديره: فالواجب والحكم اتباع، وهذا سبيل الواجبات، كقوله تعالى: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾، وأما المندوب إليه فيأتي منصوبًا، كقوله تعالى: ﴿فَضَربَ الرِقَابِ﴾ [محمد: 4]، قال في "البحر المحيط" 2/ 14: ولا أدري هذه التفرقة بين الواجب والمندوب إلا ما ذكروا من أن الجملة الابتدائية أثبت وآكد من الجملة الفعلية في مثل قوله: ﴿قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ﴾ [هود: 69].]]. وقوله تعالى: ﴿وَأَدَاءٌ﴾ الأداء: اسم، من قولك: أدَّيْتُ إليه المال، وقد ينوب عن المصدر فيقال: أدّيت أداءً، كما يقال: سَلَّمْتُ سلامًا، وكلَّمْتُ كلامًا، قال الله تعالى: ﴿وَسَرِّحُوهُن سَرَاحًا﴾ [الأحزاب: 49]. وقوله تعالى: ﴿إِلَيْهِ﴾ الكناية ترجع إلى العافي، ودل عليه ﴿عُفِىَ﴾، لأنا قد ذكرنا أَنَّ الفعل يدل على الفاعل، فكأنه ذُكِر [[في (ش): كأنها: (ذكره).]] [[ينظر تفسير الواحدي لقوله تعالى: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾ [البقرة: 177].]]. وقوله: ﴿بِإِحْسَانٍ﴾ قال ابن عباس، في رواية عطاء [[في (م): (شيئًا).]]: يريد: أن يؤديَ الدية في نجومها، ولا يَمْطُلَه، ولا يذهبَ بشيء [[تقدم الحديث عن هذه الرواية.]] منها، هذا هو الإحسان. قال المفسرون: إن الله تعالى أمر الطالب أن يطلب بالمعروف، ويتبع الحق الواجب له، من غير أن يطالبه بالزيادة، أو يكلفه ما لا يوجبه الله، أو يشدد عليه [["تفسير الثعلبي" 2/ 182.]]. كل هذا تفسير المعروف، وأَمَرَ المطلوب منه بالإحسان في الأداء، وهو ترك المَطْل والتسويف، وهذا لا يختص بثمن الدم، بل كل دين فهذا سبيله [[ينظر: "التفسير الكبير" 5/ 55، "تفسير القرطبي" 2/ 235 - 236. وقوله: بل كل دين فهذا سبيله، ففي حق الطالب قال تعالى: ﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ﴾. وفي حق المطلوب قال النبي ﷺ: "مطل الغني ظلم يحل عرضه وعقوبته".]]. وقوله: ﴿ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾ قال عطاء عن ابن عباس: يريد حيث جعل الدية لأمتك يا محمد [[رواه الطبري بمعناه 2/ 111، وابن أبي حاتم 1/ 296.]]. قال قتادة: لم تحلّ الدية لأحد غير هذه الأمة [[رواه الطبري عنه بمعناه 2/ 111، وابن أبي حاتم 1/ 296.]]. قال المفسرون: إن الله تعالى كتب على أهل التوراة أن يُقِيدُوا [[في (ش): (ولا يفتفدوا).]]، ولا يأخذوا الدية، ولا يعفوا؛ وعلى أهل الإنجيل أن، يعفوا ولا يقيدوا ولا يأخذوا الدية؛ وخَيّر هذه الأمة بين القصاص والدية والعفو، فقال: ﴿ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾، أي: التخيير بين هذه الأشياء [[روي نحوه عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومقاتل بن حيان والربيع وقتادة. ينظر البخاري (4498) كتاب التفسير، باب: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ﴾، "تفسير الطبري" 2/ 110، وابن أبي حاتم 1/ 296، "تفسير الثعلبي" 2/ 185.]]. وقوله تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ﴾ قال ابن عباس: يريد: كما كانت الجاهلية تفعل، تقتل من قوم القاتل عِدَّةً [[لم أجده في الطبري ولا ابن أبي حاتم ولا البغوي، وذكر الرازي هذا القول ولم ينسبه لأحد 5/ 55.]]. وقال آخرون: أي: ظَلَم فوثب على القاتل فقتله بعد أخذ الدية [[تنظر الآثار التي أوردها الطبري 2/ 112، عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع والحسن وعكرمة والسدي وابن زيد، وكذا عن ابن أبي حاتم 1/ 297.]]. وفي هذه الآية أدلة على القدرية: أحدها: قوله في افتتاح الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ﴾ ولا خلاف أن القصاص واقع في قتل العمد، فلم يسقط اسم الإيمان عن القاتل بارتكاب هذه الكبيرة. والثاني: ما ذكرنا في قوله: ﴿مِنْ أَخِيهِ﴾. والثالث: قوله: ﴿ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾ وهما يلحقان المؤمنين [[ذكر هذا الثعلبي في "تفسيره" 2/ 191 في مقام الاستدلال على أن القاتل لا يصير كافرًا، ولا يخلد في النار، وينظر: "تفسير البغوي" 1/ 191.]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب