الباحث القرآني

﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصاصُ في القَتْلى﴾: رَوى البُخارِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: كانَ في بَنِي إسْرائِيلَ القِصاصُ، ولَمْ يَكُنْ فِيهِمُ الدِّيَةُ. فَقالَ اللَّهُ تَعالى (p-٩)هَذِهِ الآيَةَ. وقالَ قَتادَةُ والشَّعْبِيُّ: نَزَلَتْ في قَوْمٍ مِنَ العَرَبِ أعِزَّةٍ أقْوِياءَ لا يَقْتُلُونَ بِالعَبْدِ مِنهم إلّا سَيِّدًا، ولا بِالمَرْأةِ إلّا رَجُلًا. وقالَ السُّدِّيُّ، وأبُو مالِكٍ: نَزَلَتْ في فَرِيقَيْنِ أحَدُهُما مُسْلِمٌ، والآخَرُ كافِرٌ مُعاهِدٌ، كانَ بَيْنَهُما عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قِتالٌ، فَقُتِلَ مِن كِلا الفَرِيقَيْنِ جَماعَةٌ مِن رِجالٍ ونِساءٍ وعَبِيدٍ، فَنَزَلَتْ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ دِيَةَ الرَّجُلِ قِصاصًا بِدِيَةِ الرَّجُلِ، ودِيَةَ المَرْأةِ قِصاصًا بِدِيَةِ المَرْأةِ، ودِيَةَ العَبْدِ قِصاصًا بِدِيَةِ العَبْدِ، ثُمَّ أصْلَحَ بَيْنَهُما. وقِيلَ: نَزَلَتْ في حَيَّيْنِ مِنَ العَرَبِ اقْتَتَلُوا قَبْلَ الإسْلامِ، وكانَ بَيْنَهُما قَتْلى وجِراحاتٌ لَمْ يَأْخُذْ بَعْضُهم مِن بَعْضٍ. قالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: هُما الأوْسُ والخَزْرَجُ. وقالَ مُقاتِلُ بْنُ حَيّانَ: هُما قُرَيْظَةُ والنَّضِيرُ، وكانَ لِأحَدِهِما طَوْلٌ عَلى الأُخْرى في الكَثْرَةِ والشَّرَفِ، وكانُوا يَنْكِحُونَ نِساءَهم بِغَيْرِ مُهُورٍ، وأقْسَمُوا لَيَقْتُلُنَّ بِالعَبْدِ الحُرَّ، وجَعَلُوا جِراحاتِهِمْ ضِعْفَيْ جِراحاتِ أُولَئِكَ، وكَذَلِكَ كانُوا يُعامِلُونَهم في الجاهِلِيَّةِ، فَرَفَعُوا أمْرَهم إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَنَزَلَتْ، وأمَرَهم بِالمُساواةِ فَرَضُوا، وفي ذَلِكَ قالَ قائِلُهم: ؎هُمُ قَتَلُوا فِيكم مَظِنَّةَ واحِدٍ ثَمانِيَةً ثُمَّ اسْتَمَرُّوا فَأرْبَعُوا ورُوِيَ أنَّ بَعْضَ غَنِيٍّ قَتَلَ شاسَ بْنَ زُهَيْرٍ، فَجَمَعَ عَلَيْهِمْ أبُوهُ زُهَيْرُ بْنُ خُزَيْمَةَ فَقالُوا لَهُ، وقالَ لَهُ بَعْضُ مَن يَذُبُّ عَنْهم: سَلْ في قَتْلِ شاسٍ، فَقالَ: إحْدى ثَلاثٍ لا يُرْضِينِي غَيْرُهُنَّ، فَقالُوا: ما هُنَّ ؟ فَقالَ: تُحْيُونَ شاسًا، أوْ تَمْلَئُونَ دارِي مِن نُجُومِ السَّماءِ، أوْ تَدْفَعُونَ لِي غَنِيًّا بِأسْرِها فَأقْتُلُها، ثُمَّ لا أرى أنِّي أخَذْتُ عِوَضًا. ومُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها أنَّهُ لَمّا حَلَّلَ ما حَلَّلَ قَبْلُ، وحَرَّمَ ما حَرَّمَ، ثُمَّ أتْبَعَ بِذِكْرِ مَن أخَذَ مالًا مِن غَيْرِ وجْهِهِ، وأنَّهُ ما يَأْكُلُ في بَطْنِهِ إلّا النّارَ، واقْتَضى ذَلِكَ انْتِظامَ جَمِيعِ المُحَرَّماتِ مِنَ الأمْوالِ، ثُمَّ أعْقَبَ ذَلِكَ بِذِكْرِ مَنِ اتَّصَفَ بِالبِرِّ، وأثْنى عَلَيْهِمْ بِالصِّفاتِ الحَمِيدَةِ الَّتِي انْطَوَوْا عَلَيْها، أخَذَ يَذْكُرُ تَحْرِيمَ الدِّماءِ، ويَسْتَدْعِي حِفْظَها وصَوْنَها، فَنَبَّهَ بِمَشْرُوعِيَّةِ القِصاصِ عَلى تَحْرِيمِها، ونَبَّهَ عَلى جَوازِ أخْذِ مالٍ بِسَبَبِها، وأنَّهُ لَيْسَ مِنَ المالِ الَّذِي يُؤْخَذُ مِن غَيْرِ وجْهِهِ، وكانَ تَقْدِيمُ تَبْيِينِ ما أحَلَّ اللَّهُ وما حَرَّمَ مِنَ المَأْكُولِ عَلى تَبْيِينِ مَشْرُوعِيَّةِ القِصاصِ لِعُمُومِ البَلْوى بِالمَأْكُولِ: لِأنَّ بِهِ قِوامَ البِنْيَةِ وحِفْظَ صُورَةِ الإنْسانِ. ثُمَّ ذَكَرَ حُكْمَ مُتْلِفِ تِلْكَ الصُّورَةِ: لِأنَّ مَن كانَ مُؤْمِنًا يَنْدُرُ مِنهُ وُقُوعُ القَتْلِ، فَهو بِالنِّسْبَةِ لِمَنِ اتَّصَفَ بِالأوْصافِ السّابِقَةِ بَعِيدٌ مِنهُ وُقُوعُ ذَلِكَ، وكانَ ذِكْرُ تَقْدِيمِ ما تَعُمُّ بِهِ البَلْوى أعَمُّ، ونَبَّهَ أيْضًا عَلى أنَّهُ، وإنَّ عَرَضَ مِثْلُ هَذا الأمْرِ الفَظِيعِ لِمَنِ اتَّصَفَ بِالبِرِّ، فَلَيْسَ ذَلِكَ مُخْرِجًا لَهُ عَنِ البِرِّ، ولا عَنِ الإيمانِ، ولِذَلِكَ ناداهم بِوَصْفِ الإيمانِ فَقالَ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصاصُ في القَتْلى﴾ . وأصْلُ الكِتابَةِ: الخَطُّ الَّذِي يُقْرَأُ، وعَبَّرَ بِهِ هُنا عَنْ مَعْنى الإلْزامِ والإثْباتِ، أيْ: فُرِضَ وأُثْبِتَ: لِأنَّ ما كُتِبَ جَدِيرٌ بِثُبُوتِهِ وبَقائِهِ. وقِيلَ: هو عَلى حَقِيقَتِهِ، وهو إخْبارٌ عَنْ ما كُتِبَ في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ، وسَبَقَ بِهِ القَضاءُ. وقِيلَ: مَعْنى كُتِبَ: أُمِرَ، كَقَوْلِهِ: ﴿ادْخُلُوا الأرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ﴾ [المائدة: ٢١] أيِ: الَّتِي أُمِرْتُمْ بِدُخُولِها. وقِيلَ: يَأْتِي كَتَبَ بِمَعْنى جَعَلَ، ومِنهُ ﴿أُولَئِكَ كَتَبَ في قُلُوبِهِمُ الإيمانَ﴾ [المجادلة: ٢٢]، ﴿فَسَأكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ﴾ [الأعراف: ١٥٦]، وتَعَدِّي كَتَبَ هُنا بِعَلى يُشْعِرُ بِالفَرْضِ والوُجُوبِ، و﴿فِي القَتْلى﴾ في هُنا لِلسَّبَبِيَّةِ، أيْ: بِسَبَبِ القَتْلى، مِثْلَ: «دَخَلَتِ امْرَأةٌ النّارَ في هِرَّةٍ» . والمَعْنى: أنَّكم أيُّها المُؤْمِنُونَ وجَبَ عَلَيْكُمُ اسْتِيفاءُ القِصاصِ مِنَ القاتِلِ بِسَبَبِ قَتْلِ القَتْلى بِغَيْرِ مُوجِبٍ، ويَكُونُ الوُجُوبُ مُتَعَلِّقَ الإمامِ أوْ مَن يُجْرى مَجْراهُ في اسْتِيفاءِ الحُقُوقِ إذا أرادَ ولِيُّ الدَّمِ اسْتِيفاءَهُ، أوْ يَكُونُ ذَلِكَ خِطابًا مَعَ القاتِلِ، والتَّقْدِيرُ: يا أيُّها القاتِلُونَ، كُتِبَ عَلَيْكم تَسْلِيمُ النَّفْسِ عِنْدَ مُطالَبَةِ الوَلِيِّ بِالقِصاصِ، وذَلِكَ أنَّهُ يَجِبُ عَلى القاتِلِ، إذا أرادَ الوَلِيُّ قَتْلَهُ، أنْ يَسْتَسْلِمَ لِأمْرِ اللَّهِ ويَنْقادَ لِقِصاصِهِ المَشْرُوعِ، ولَيْسَ لَهُ أنْ يَمْتَنِعَ بِخِلافِ الزّانِي والسّارِقِ، فَإنَّ لَهُما الهَرَبُ (p-١٠)مِنَ الحَدِّ، ولَهُما أنْ يَسْتَتِرا بِسِتْرِ اللَّهِ، ولَهُما أنْ لا يَعْتَرِفا ويَجِبُ عَلى الوَلِيِّ الوُقُوفُ عِنْدَ قاتِلِ ولِيِّهِ، وأنْ لا يَتَعَدّى عَلى غَيْرِهِ، كَما كانَتِ العَرَبُ تَفْعَلُ بِأنْ تَقْتُلَ غَيْرَ قاتِلِ قَتِيلِها مِن قَوْمِهِ، وهَذا الكَتْبُ في القِصاصِ مَخْصُوصٌ بِأنْ لا يَرْضى الوَلِيُّ بِدِيَةٍ أوْ عَفْوٍ، وإنَّما القِصاصُ هو الغايَةُ عِنْدَ التَّشاحُنِ، وأمّا إذا رَضِيَ بِدُونِ القِصاصِ مِن دِيَةٍ أوْ عَفْوٍ فَلا قِصاصَ. قالَ الرّاغِبُ: فَإنْ قِيلَ عَلى مَن يَتَوَجَّهُ هَذا الوُجُوبُ ؟ قِيلَ عَلى النّاسِ كافَّةً، فَمِنهم مَن يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ النَّفْسِ، وهو القاتِلُ، ومِنهم مَن يَلْزَمُهُ اسْتِيفاؤُهُ، وهو الإمامُ إذا طَلَبَهُ الوَلِيُّ، ومِنهم مَن يَلْزَمُهُ المُعاوَنَةُ والرِّضا، ومِنهم مَن يَلْزَمُهُ أنْ لا يَتَعَدّى، بَلْ يَقْتَصَّ أوْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ، والقَصْدُ بِالآيَةِ مَنعُ التَّعَدِّي، فَإنَّ أهْلَ الجاهِلِيَّةِ كانُوا يَتَعَدَّوْنَ في القَتْلِ، ورُبَّما لا يَرْضى أحَدُهم إذا قُتِلَ عَبْدُهم إلّا بِقَتْلِ حُرٍّ. اهـ كَلامُهُ. وتَلَخَّصَ في قَوْلِهِ: ﴿ياأيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصاصُ في القَتْلى﴾ ثَلاثَةُ أقْوالٍ، أحَدُها: أنَّهُمُ الأئِمَّةُ ومَن يَقُومُ مَقامَهم. الثّانِي: أنَّهُمُ القاتِلُونَ. الثّالِثُ: أنَّهم جَمِيعُ المُؤْمِنِينَ عَلى ما أوْضَحْناهُ. وقَدِ اخْتُلِفَ في هَذِهِ الآيَةِ، أهِيَ ناسِخَةٌ أمْ مَنسُوخَةٌ ؟ فَقالَ الحَسَنُ: نَزَلَتْ في نَسْخِ التَّراجُعِ الَّذِي كانُوا يَفْعَلُونَهُ، إذا قَتَلَ الرَّجُلَ امْرَأةً كانَ ولَيُّها بِالخِيارِ بَيْنَ قَتْلِهِ مَعَ تَأْدِيَةِ نِصْفِ الدِّيَةِ، وبَيْنَ أخْذِ نِصْفِ دِيَةِ الرَّجُلِ وتَرْكِهِ، وإنْ كانَ قاتِلُ الرَّجُلِ امْرَأةً، كانَ أوْلِياءُ المَقْتُولِ بِالخِيارِ بَيْنَ قَتْلِ المَرْأةِ وأخْذِ نِصْفِ دِيَةِ الرَّجُلِ، وإنْ شاءُوا أخَذُوا الدِّيَةَ كامِلَةً ولَمْ يَقْتُلُوها. قالَ: فَنَسَخَتْ هَذِهِ الآيَةُ ما كانُوا يَفْعَلُونَهُ، اهـ. ولا يَكُونُ هَذا نَسْخًا: لِأنَّ فِعْلَهم ذَلِكَ لَيْسَ حُكْمًا مِن أحْكامِ اللَّهِ فَيُنْسَخُ بِهَذِهِ الآيَةِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هي مَنسُوخَةٌ بِآيَةِ المائِدَةِ، وسَيَأْتِي الكَلامُ في هَذا. * * * ولَمّا ذَكَرَ تَعالى كِتابَةَ القِصاصِ في القَتْلِ بَيَّنَ مَن يَقَعُ بَيْنَهُمُ القِصاصُ فَقالَ: ﴿الحُرُّ بِالحُرِّ والعَبْدُ بِالعَبْدِ والأُنْثى بِالأُنْثى﴾، واخْتَلَفُوا في دَلالَةِ هَذِهِ الجُمَلِ، فَقِيلَ: يَدُلُّ عَلى مُراعاةِ المُماثَلَةِ في الحُرِّيَّةِ والعُبُودِيَّةِ والأُنُوثَةِ، فَلا يَكُونُ مَشْرُوعًا إلّا بَيْنَ الحُرَّيْنِ، وبَيْنَ العَبْدَيْنِ، وبَيْنَ الأُنْثَيَيْنِ، فالألِفُ واللّامُ تَدُلُّ عَلى الحَصْرِ، كَأنَّهُ قِيلَ: لا يُؤْخَذُ الحُرُّ إلّا بِالحُرِّ، ولا يُؤْخَذُ العَبْدُ إلّا بِالعَبْدِ، ولا تُؤْخَذُ الأُنْثى إلّا بِالأُنْثى. رُوِيَ مَعْنى هَذا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وأنَّ ذَلِكَ نُسِخَ بِآيَةِ المائِدَةِ، ورُوِيَ عَنْهُ أيْضًا أنَّ الآيَةَ مُحْكَمَةٌ وفِيها إجْمالٌ فَسَّرَتْهُ آيَةُ المائِدَةِ. ومِمَّنْ ذَهَبَ إلى أنَّها مَنسُوخَةٌ: ابْنُ المُسَيَّبِ، والنَّخَعِيُّ، والشَّعْبِيُّ، وقَتادَةُ، والثَّوْرِيُّ. وقِيلَ: لا تَدَلُّ عَلى الحَصْرِ، بَلْ تَدُلُّ عَلى مَشْرُوعِيَّةِ القِصاصِ بَيْنَ المَذْكُورِينَ، ألا تَرى أنَّ عُمُومَ: ﴿والأُنْثى بِالأُنْثى﴾ تَقْتَضِي قِصاصَ الحُرَّةِ بِالرَّقِيقَةِ ؟ فَلَوْ كانَ قَوْلُهُ: ﴿الحُرُّ بِالحُرِّ والعَبْدُ بِالعَبْدِ﴾ مانِعًا مِن ذَلِكَ لِتَصادُمِ العُمُومانِ. وقَوْلُهُ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصاصُ في القَتْلى﴾، جُمْلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ بِنَفْسِها، وقَوْلُهُ: ﴿الحُرُّ بِالحُرِّ﴾ ذِكْرٌ لِبَعْضِ جُزْئِيّاتِها فَلا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الحُكْمِ في سائِرِ الجُزْئِيّاتِ. وقالَ مالِكٌ: أحْسَنُ ما سَمِعْتُ في هَذِهِ الآيَةِ أنَّهُ يُرادُ بِهِ الجِنْسُ، الذَّكَرُ والأُنْثى سَواءٌ فِيهِ، وأُعِيدَ ذِكْرُ الأُنْثى تَوْكِيدًا وتَهَمُّمًا بِإذْهابِ أمْرِ الجاهِلِيَّةِ. ورُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ والحَسَنِ بْنِ أبِي الحَسَنِ أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ مُبَيِّنَةً حُكْمَ المَذْكُورِينَ لِيَدُلَّ ذَلِكَ عَلى الفَرْقِ بَيْنَهم وبَيْنَ أنْ يَقْتُلَ حُرٌّ عَبْدًا أوْ عَبْدٌ حُرًّا، وذَكَرٌ أُنْثى، أوْ أُنْثى ذَكَرًا، وقالا: إنَّهُ إذا قَتَلَ رَجُلٌ امْرَأةً فَإنْ أرادَ أوْلِياؤُها قَتَلُوا بِها صاحَبَهم ووَفَّوْا أوْلِياءَهُ نِصْفَ الدِّيَةِ، وإنْ أرادُوا اسْتَحْيَوْهُ وأخَذُوا مِنهُ دِيَةَ المَرْأةِ. وإذا قَتَلَتِ المَرْأةُ رَجُلًا فَإنْ أرادَ أوْلِياؤُهُ قَتَلُوها وأخَذُوا نِصْفَ الدِّيَةِ، وإلّا أخَذُوا دِيَةَ صاحِبِهِمْ واسْتَحْيَوْها، وإذا قَتَلَ الحُرُّ العَبْدَ فَإنْ أرادَ سَيِّدُ العَبْدِ قَتَلَ وأعْطى دِيَةَ الحُرِّ إلّا قِيمَةَ العَبْدِ، وإنْ شاءَ اسْتَحْيى وأخَذَ قِيمَةَ العَبْدِ. وقَدْ أُنْكِرُ هَذا عَنْ عَلِيٍّ والحَسَنِ، والإجْماعُ عَلى قَتْلِ الرَّجُلِ بِالمَرْأةِ، والمَرْأةِ بِالرَّجُلِ، والجُمْهُورُ لا يَرَوْنَ الرُّجُوعَ بِشَيْءٍ، وفِرْقَةٌ تَرى الإتْباعَ بِفَضْلِ الدِّياتِ، والإجْماعُ عَلى قَتْلِ المُسْلِمِ الحُرِّ إذا قَتَلَ مُسْلِمًا حُرًّا بِمُحَدَّدٍ، وظاهِرُ عُمُومِ الحُرِّ بِالحُرِّ أنَّ الوالِدَ يُقْتَلُ إذا قَتَلَ ابْنَهُ، وهو قَوْلُ عُثْمانَ البَتِّيِّ، (p-١١)قالَ: إذا قَتَلَ ابْنَهُ عَمْدًا قُتِلَ بِهِ. وقالَ مالِكٌ: إذا قَصَدَ إلى قَتْلِهِ مِثْلَ أنْ يُضْجِعَهُ ويَذْبَحَهُ، وغَيْرَ ذَلِكَ مِن أنْواعِ القَتْلِ الَّتِي لا شُبْهَةَ لَهُ فِيها في ادِّعاءِ الخَطَأِ قُتِلَ بِهِ، وإنْ قَتَلَهُ بِرَمْيٍ بِشَيْءٍ أوْ بِضَرْبٍ، فَفي مَذْهَبِ مالِكٍ قَوْلانِ: أحَدُهُما: يُقْتَلُ، والآخَرُ: لا يُقْتَلُ. وقالَ عامَّةُ العُلَماءِ: لا يُقْتَلُ الوالِدُ بِوَلَدِهِ، وعَلَيْهِ الدِّيَةُ فِيما لَهُ، قالَ بِذَلِكَ: أبُو حَنِيفَةَ، والأوْزاعِيُّ، والشّافِعِيُّ، وسَوُّوا بَيْنَ الأبِ والجَدِّ، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَطاءٍ ومُجاهِدٍ. وقالَ الحَسَنُ بْنُ صالِحٍ: يُقادُ الجَدُّ بِابْنِ الِابْنِ، وكانَ يُجِيزُ شَهادَةَ الجَدِّ لِابْنِ ابْنِهِ، ولا يُجِيزُ شَهادَةَ الأبِ لِابْنِهِ، وظاهِرُ قَوْلِهِ: ﴿الحُرُّ بِالحُرِّ﴾ قَتْلُ الِابْنِ بِأبِيهِ، والظّاهِرُ أيْضًا قَتْلُ الجَماعَةِ بِالواحِدِ، وصَحَّ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وعَلِيٍّ، وهو قَوْلُ أكْثَرِ أهْلِ العِلْمِ. وقالَ أحْمَدُ: لا تُقْتَلُ الجَماعَةُ بِالواحِدِ، والظّاهِرُ أيْضًا قَتْلُ مَن يَجِبُ عَلَيْهِ القَتْلُ لَوِ انْفَرَدَ، إذا شارَكَ مَن لا يَجِبُ عَلَيْهِ القَتْلُ كالمُخْطِئِ والصَّبِيِّ والمَجْنُونِ والأبِ عِنْدَ مَن يَقُولُ لا يُقْتَلُ بِابْنِهِ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: لا قِصاصَ عَلى واحِدٍ مِنهُما، وعَلى الأبِ القاتِلِ نِصْفُ الدِّيَةِ في مالِهِ، والصَّبِيُّ والمُخْطِئُ والمَجْنُونُ عَلى عاقِلَتِهِ، وهو قَوْلُ الحَسَنِ بْنِ صالِحٍ. وقالَ الأوْزاعِيُّ: عَلى عاقِلَةِ المُشْتَرِكِينَ مِمَّنْ ذُكِرَ الدِّيَةُ. وقالَ الشّافِعِيُّ: عَلى الصَّبِيِّ القاتِلِ المُشارِكِ نِصْفُ الدِّيَةِ في مالِهِ، وكَذَلِكَ دِيَةُ الحُرِّ والعَبْدِ إذا قَتَلا عَبْدًا، والمُسْلِمُ والنَّصْرانِيُّ إذا قَتَلا نَصْرانِيًّا، وإنْ شارَكَهُ قاتِلُ خَطَأٍ فَعَلى العامِدِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وجِنايَةُ المُخْطِئِ عَلى عاقِلَتِهِ. وقالَ ابْنُ المُسَيَّبِ، وقَتادَةُ، والنَّخَعِيُّ، والشَّعْبِيُّ، والثَّوْرِيُّ، وأبُو حَنِيفَةَ، وأبُو يُوسُفَ، ومُحَمَّدٌ: يُقْتَلُ الحُرُّ بِالعَبْدِ. وقالَ مالِكٌ، واللَّيْثُ، والشّافِعِيُّ: لا يُقْتَلُ بِهِ، واتَّفَقُوا عَلى أنَّ المُسْلِمَ لا يُقْتَلُ بِالكافِرِ الحَرْبِيِّ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: يُقْتَلُ المُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ، وقالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ، والثَّوْرِيُّ، والأوْزاعِيُّ، والشّافِعِيُّ: لا يُقْتَلُ بِهِ. قالَ مالِكٌ واللَّيْثُ: إنْ قَتَلَهُ غِيلَةً قُتِلَ بِهِ وإلّا لَمْ يُقْتَلْ بِهِ، وكُلُّهُمُ اتَّفَقُوا عَلى قَتْلِ العَبْدِ بِالحُرِّ. والظّاهِرُ مِنَ الآيَةِ الكَرِيمَةِ مَشْرُوعِيَّةُ القِصاصِ في القَتْلى بِأيِّ شَيْءٍ وقَعَ القَتْلُ، مِن مُثَقَّلِ حَجَرٍ، أوْ خَشَبَةٍ، أوْ عَصًا، أوْ شِبْهِ ذَلِكَ مِمّا يَقْتُلُ غالِبًا، وهو مَذْهَبُمالِكٍ، والشّافِعِيِّ، والجُمْهُورِ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: لا يُقْتَلُ إذا قَتَلَ بِمُثَقَّلٍ. والظّاهِرُ مِنَ الأئِمَّةِ عَدَمُ تَعْيِينِ الآلَةِ الَّتِي يُقْتَلُ بِها مَن يَسْتَحِقُّ القَتْلَ، وقالَ: أبُو حَنِيفَةَ، ومُحَمَّدٌ، وأبُو يُوسُفَ، وزُفَرُ: لا يُقْتَلُ إلّا بِالسَّيْفِ. وقالَ ابْنُ الغُنَيْمِ، عَنْ مالِكٍ: إنْ قَتَلَ بِحَجَرٍ، أوْ عَصًا، أوْ نارٍ أوْ تَغْرِيقٍ قُتِلَ بِهِ، فَإنْ لَمْ يَمُتْ بِمِثْلِهِ فَلا يَزالُ يُكَرَّرُ عَلَيْهِ مِن جِنْسِ ما قَتَلَ بِهِ حَتّى يَمُوتَ، وإنْ زادَ عَلى فِعْلِ القاتِلِ. ورَوى ابْنُ مَنصُورٍ، عَنْ أحْمَدَ: أنَّهُ يُقْتَلُ بِمِثْلِ الَّذِي قَتَلَ بِهِ. ونُقِلَ عَنِ الشّافِعِيِّ: أنَّهُ إذا قَتَلَ بِخَشَبٍ، أوْ بِخَنْقٍ قُتِلَ بِالسَّيْفِ، ورُوِيَ عَنْهُ أيْضًا: أنَّهُ إنْ ضَرَبَهُ بِحَجَرٍ حَتّى ماتَ فُعِلَ بِهِ مِثْلُ ذَلِكَ، وإنْ حَبَسَهُ بِلا طَعامٍ ولا شَرابٍ حَتّى ماتَ فَإنْ لَمْ يَمُتْ في مِثْلِ تِلْكَ المُدَّةِ. وقالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ: يُضْرَبُ مِثْلَ ضَرْبِهِ ولا يُضْرَبُ أكْثَرَ مِن ذَلِكَ، وقَدْ كانُوا يَكْرَهُونَ المُثْلَةَ ويَقُولُونَ: يُجْزِئُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ السَّيْفُ. قالَ: فَإنْ غَمَسَهُ في الماءِ حَتّى ماتَ، فَلا يَزالُ يُغْمَسُ في الماءِ حَتّى يَمُوتَ. والظّاهِرُ مِنَ الآيَةِ مَشْرُوعِيَّةُ القِصاصِ في الأنْفُسِ فَقَطْ لِقَوْلِهِ: ﴿فِي القَتْلى﴾، وبِهِ قالَ أبُو حَنِيفَةَ، وأبُو يُوسُفَ، ومُحَمَّدٌ، وزُفَرُ. وهو: أنَّهُ لا قِصاصَ بَيْنَ الأحْرارِ والعَبِيدِ إلّا في الأنْفُسِ. وقالَ ابْنُ المُسَيَّبِ، والنَّخَعِيُّ، وقَتادَةُ، والحَكَمُ وابْنُ أبِي لَيْلى: القِصاصُ واجِبٌ بَيْنَهم في جَمِيعِ الجِراحاتِ، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وقالَ اللَّيْثُ: يُقْتَصُّ لِلْحُرِّ مِنَ العَبْدِ، ولا يُقْتَصُّ مِنَ الحُرِّ لِلْعَبْدِ في الجِناياتِ. وقالَ الشّافِعِيُّ: مَن جَرى عَلَيْهِ القِصاصُ في النَّفْسِ جَرى عَلَيْهِ في الجِراحِ، ولا يُقْتَصُّ لِلْحُرِّ مِنَ العَبْدِ فِيما دُونَ النَّفْسِ. ﴿والأُنْثى بِالأُنْثى﴾ . واتَّفَقُوا عَلى تَرْكِ ظاهِرِها، وأجْمَعُوا كَما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، عَلى قَتْلِ الرَّجُلِ بِالمَرْأةِ، والمَرْأةِ بِالرَّجُلِ - إلّا خِلافًا شاذًّا عَنِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ، وعَطاءٍ، وعِكْرِمَةَ، وعُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ، أنَّهُ لا يُقْتَلُ الرَّجُلُ بِالمَرْأةِ. ورُوِيَ أنَّ عُمَرَ قَتَلَ نَفَرًا مِن صَنْعاءَ بِامْرَأةٍ - والمَرْأةِ بِالرَّجُلِ وبِالعَبْدِ، والعَبْدِ بِالحُرِّ، وقَدْ وهَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ في نِسْبَتِهِ أنَّ مَذْهَبَ مالِكٍ والشّافِعِيِّ (p-١٢)أنَّ الذَّكَرَ لا يُقْتَلُ بِالأُنْثى، ولا خِلافَ عَنْهُما في أنَّهُ يُقْتَلُ بِها. وقالَ عُثْمانُ البَتِّيُّ: إذا قَتَلَتِ امْرَأةٌ رَجُلًا قُتِلَتْ بِهِ، وأُخِذَ مِن مالِها نِصْفُ الدِّيَةِ، وإنْ قَتَلَها هو فَعَلَيْهِ القَوْدُ ولا يُرَدُّ عَلَيْهِ شَيْءٌ. واخْتَلَفُوا في القِصاصِ في الجِراحاتِ بَيْنَ الرِّجالِ والنِّساءِ، فَذَهَبَ أبُو حَنِيفَةَ، وأبُو يُوسُفَ، ومُحَمَّدٌ، وزُفَرُ، وابْنُ شُبْرُمَةَ، إلى أنَّهُ لا قِصاصَ بَيْنَ الرِّجالِ والنِّساءِ إلّا في الأنْفُسِ، وذَهَبَ مالِكٌ، والأوْزاعِيُّ، والثَّوْرِيُّ، وابْنُ أبِي لَيْلى، واللَّيْثُ، والشّافِعِيُّ، وابْنُ شُبْرُمَةَ في رِوايَةٍ إلى: أنَّ القِصاصَ واقِعٌ فِيما بَيْنَ الرِّجالِ والنِّساءِ في النَّفْسِ وما دُونَها، إلّا أنَّ اللَّيْثَ قالَ: إذا جَنى الرَّجُلُ عَلى امْرَأتِهِ عَقَلَها ولا يُقْتَصُّ مِنهُ. وأعْرَبَ هَذِهِ الجُمَلَ مُبْتَدَأً وخَبَرًا، وهي ذَواتٌ ابْتُدِئَ بِها، والجارُّ والمَجْرُورُ أخْبارٌ عَنْها، ويَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ الباءُ ظَرْفِيَّةً، فَلَيْسَ ذَلِكَ عَلى حَدِّ قَوْلِهِمْ: زَيْدٌ بِالبَصْرَةِ، وإنَّما هي لِلسَّبَبِ، ويَتَعَلَّقُ بِكَوْنٍ خاصٍّ لا بِكَوْنٍ مُطْلَقٍ، وقامَ الجارُّ مَقامَ الكَوْنِ الخاصِّ لِدَلالَةِ المَعْنى عَلَيْهِ، إذِ الكَوْنُ الخاصُّ لا يَجُوزُ حَذْفُهُ إلّا في مِثْلِ هَذا، إذِ الدَّلِيلُ عَلى حَذْفِهِ قَوِيٌّ إذْ تَقَدَّمَ القِصاصُ في القَتْلى، فالتَّقْدِيرُ: الحُرُّ مَقْتُولٌ بِالحُرِّ، أيْ: بِقَتْلِهِ الحُرَّ، فالباءُ لِلسَّبَبِ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ، ولا يَصِحُّ تَقْدِيرُ العامِلِ كَوْنًا مُطْلَقًا، ولَوْ قُلْتَ: الحُرُّ كائِنٌ بِالحُرِّ، لَمْ يَكُنْ كَلامًا إلّا إنْ كانَ المُبْتَدَأُ مُضافًا قَدْ حُذِفَ وأُقِيمَ المُضافُ إلَيْهِ مَقامَهُ، فَيَجُوزُ، والتَّقْدِيرُ: قَتْلُ الحُرِّ كائِنٌ بِالحُرِّ، أيْ: بِقَتْلِهِ الحُرَّ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ”الحُرُّ“ مَرْفُوعًا عَلى إضْمارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ ما قَبْلَهُ، والتَّقْدِيرُ: يُقْتَلُ الحُرُّ بِقَتْلِهِ الحُرَّ، إذْ في قَوْلِهِ: ﴿القِصاصُ في القَتْلى﴾ دَلالَةٌ عَلى هَذا الفِعْلِ. * * * ﴿فَمَن عُفِيَ لَهُ مِن أخِيهِ شَيْءٌ فاتِّباعٌ بِالمَعْرُوفِ وأداءٌ إلَيْهِ بِإحْسانٍ﴾، قالَ عُلَماءُ التَّفْسِيرِ: مَعْنى ذَلِكَ أنَّ أهْلَ التَّوْراةِ كانَ لَهُمُ القَتْلُ ولَمْ يَكُنْ لَهم غَيْرُ ذَلِكَ، وأهْلَ الإنْجِيلِ كانَ لَهُمُ العَفْوُ ولَمْ يَكُنْ لَهم قَوْدٌ، وجَعَلَ اللَّهُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ لِمَن شاءَ القَتْلَ، ولِمَن شاءَ أخْذَ الدِّيَةِ، ولِمَن شاءَ العَفْوَ. وقالَ قَتادَةُ: لَمْ تَحِلَّ الدِّيَةُ لِأحَدٍ غَيْرِ هَذِهِ الأُمَّةِ، ورُوِيَ أيْضًا عَنْ قَتادَةَ: أنَّ الحُكْمَ عِنْدَ أهْلِ التَّوْراةِ كانَ القِصاصَ أوِ العَفْوَ، ولا أرْشَ بَيْنَهم، وعِنْدَ أهْلِ الإنْجِيلِ الدِّيَةَ والعَفْوَ لا أرْشَ بَيْنَهم، فَخَيَّرَ اللَّهُ هَذِهِ الأُمَّةَ بَيْنَ الخِصالِ الثَّلاثِ. وارْتِفاعُ: ”مَن“، عَلى الِابْتِداءِ وهي شَرْطِيَّةٌ أوْ مَوْصُولَةٌ، والظّاهِرُ أنَّ: ”مَن“، هو القاتِلُ والضَّمِيرُ في (لَهُ)، و(مِن أخِيهِ) عائِدٌ عَلَيْهِ، و(شَيْءٌ)، هو المَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فاعِلُهُ، وهو بِمَعْنى المَصْدَرِ، وبُنِيَ عَفا لِلْمَفْعُولِ، وإنْ كانَ لازِمًا: لِأنَّ اللّازِمَ يَتَعَدّى إلى المَصْدَرِ كَقَوْلِهِ: ﴿فَإذا نُفِخَ في الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ﴾ [الحاقة: ١٣]، والأخُ هو المَقْتُولُ، أيْ: مِن دَمِ أخِيهِ أوْ ولِيِّ الدَّمِ، وسَمّاهُ أخًا لِلْقاتِلِ اعْتِبارًا بِأُخُوَّةِ الإسْلامِ، أوِ اسْتِعْطافًا لَهُ عَلَيْهِ، أوْ لِكَوْنِهِ مُلابِسًا لَهُ مِن قِبَلِ أنَّهُ ولِيٌّ لِلدَّمِ ومُطالِبٌ بِهِ، كَما تَقُولُ: قُلْ لِصاحِبِكَ كَذا، لِمَن بَيْنَكَ وبَيْنَهُ أدْنى مُلابَسَةٍ، وهَذا الَّذِي أُقِيمَ مَقامَ الفاعِلِ، وإنْ كانَ مَصْدَرًا فَهو يُرادُ بِهِ الدَّمُ المَعْفُوُّ عَنْهُ، والمَعْنى: أنَّ القاتِلَ إذا عُفِيَ عَنْهُ رُجِعَ إلى أخْذِ الدِّيَةِ، وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ وجَماعَةٍ مِن أهْلِ العِلْمِ، واسْتُدِلَّ بِهَذا عَلى أنَّ مُوجِبَ العَهْدِ أحَدُ الأمْرَيْنِ، إمّا القِصاصُ، وإمّا الدِّيَةُ: لِأنَّ الدِّيَةَ تَضَمَّنَتْ عافِيًا ومَعْفُوًّا عَنْهُ، ولَيْسَ إلّا ولِيَّ الدَّمِ والقاتِلَ، والعَفْوُ لا يَتَأتى إلّا مِنَ الوَلِيِّ، فَصارَ تَقْدِيرُ الآيَةِ: فَإذا عَفا ولِيُّ الأمْرِ عَنْ شَيْءٍ يَتَعَلَّقُ بِالقاتِلِ فَلْيُتْبِعِ القاتِلُ ذَلِكَ العَفْوَ بِمَعْرُوفٍ. وعَفا يَتَعَدّى بِعَنْ إلى الجانِي وإلى الجِنايَةِ، تَقُولُ: عَفَوْتُ عَنْ زَيْدٍ، وعَفَوْتُ عَنْ ذَنْبِ زَيْدٍ، فَإذا عَدَّيْتَ إلَيْهِما مَعًا تَعَدَّتْ إلى الجانِي بِاللّامِ، وإلى الذَّنْبِ بِعَنْ، تَقُولُ: عَفَوْتُ لِزَيْدٍ عَنْ ذَنْبِهِ، وقَوْلُهُ: ﴿فَمَن عُفِيَ لَهُ﴾ مِن هَذا البابِ، أيْ: فَمَن عُفِيَ لَهُ عَنْ جِنايَتِهِ، وحُذِفَ عَنْ جِنايَتِهِ لِفَهْمِ المَعْنى، ولا يُفَسَّرُ ”عُفِيَ“ بِمَعْنى تُرِكَ: لِأنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ مُعَدًّى إلّا بِالهَمْزَةِ، ومِنهُ: «أعْفُوا اللِّحى»، ولا يَجُوزُ أنْ تُضَمَّنَ عَفى مَعْنى تَرَكَ، وإنْ كانَ العافِي عَنِ الذَّنْبِ تارِكًا لَهُ لا يُؤاخِذُ بِهِ: لِأنَّ التَّضْمِينَ لا يَنْقاسُ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ. فَإنْ قُلْتَ: فَقَدْ ثَبَتَ قَوْلُهم عَفا أثَرَهُ إذا مَحاهُ وأزالَهُ، فَهَلّا جَعَلْتَ مَعْناهُ: فَمَن مُحِيَ لَهُ مِن أخِيهِ (p-١٣)شَيْءٌ ؟ قُلْتُ: عِبارَةٌ قِيلَتْ في مَكانِها، والعَفْوُ في بابِ الجِناياتِ عِبارَةٌ مُتَداوَلَةٌ مَشْهُورَةٌ في الكِتابِ والسُّنَّةِ واسْتِعْمالِ النّاسِ، فَلا يُعْدَلُ عَنْها إلى أُخْرى قَلِقَةٍ نائِيَةٍ عَنْ مَكانِها، وتَرى كَثِيرًا مِمَّنْ يَتَعاطى هَذا العِلْمَ يَجْتَرِئُ إذا عَضَلَ عَلَيْهِ تَخْرِيجُ المُشْكِلِ مِن كَلامِ اللَّهِ عَلى اخْتِراعِ لُغَةٍ. وادِّعاءٍ عَلى العَرَبِ ما لا تَعْرِفُ، وهَذِهِ جُرْأةٌ يُسْتَعاذُ بِاللَّهِ مِنها. انْتَهى كَلامُهُ. وإذا ثَبَتَ أنْ عَفا يَكُونُ بِمَعْنى مَحا فَلا يَبْعُدُ حَمْلُ الآيَةِ عَلَيْهِ، ويَكُونُ إسْنادُ عَفى لِمَرْفُوعِهِ إسْنادًا حَقِيقِيًّا: لِأنَّهُ إذْ ذاكَ مَفْعُولٌ بِهِ صَرِيحٌ، وإذا كانَ لا يَتَعَدّى كانَ إسْنادُهُ إلَيْهِ مَجازًا وتَشْبِيهًا لِلْمَصْدَرِ بِالمَفْعُولِ بِهِ، فَقَدْ يَتَعادَلُ الوَجْهانِ أعْنِي: كَوْنَ عَفا اللّازِمِ لِشُهْرَتِهِ في الجِناياتِ، وعَفا المُتَعَدِّي لِمَعْنى مَحا لِتَعَلُّقِهِ بِمَرْفُوعِهِ تَعَلُّقًا حَقِيقِيًّا. وقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: وتَرى كَثِيرًا مِمَّنْ يَتَعاطى هَذا العِلْمَ إلى آخِرِهِ، هَذا الَّذِي ذَكَرَهُ هو فِعْلُ غَيْرِ المَأْمُونِينَ عَلى دِينِ اللَّهِ، ولا المَوْثُوقِ بِهِمْ في نَقْلِ الشَّرِيعَةِ، والكَذِبُ مِن أقْبَحِ المَعاصِي وأذْهَبِها لِخاصَّةِ الإنْسانِ، وخُصُوصًا عَلى اللَّهِ وعَلى رَسُولِهِ. وقالَ أبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ ما مَعْناهُ: أنَّهُ قَدْ يَصْحَبُ الإنْسانَ وإنْ كانَ عَلى حالَةٍ تُكْرَهُ، إلّا ما كانَ مِنَ الكاذِبِ، فَإنَّهُ يَكُونُ أوَّلَ مُفارِقٍ لَهُ، لَكِنْ لا يُناسِبُ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ هُنا: وتَرى كَثِيرًا إلى آخِرِ كَلامِهِ إثْرَ قَوْلِهِ: فَإنْ قُلْتَ إلى آخِرِهِ: لِأنَّ مِثْلَ هَذا القَوْلِ هو حَمْلُ العَفْوِ عَلى مَعْنى المَحْوِ، وهو حَمْلٌ صَحِيحٌ واسْتِعْمالٌ في اللُّغَةِ، فَلَيْسَ مِن بابِ الجُرْأةِ واخْتِراعِ اللُّغَةِ. وبُنِيَ الفِعْلُ هُنا لِلْمَفْعُولِ لِيَعُمَّ العافِيَ كانَ واحِدًا أوْ أكْثَرَ، هَذا إنْ أُرِيدَ بِأخِيهِ المَقْتُولُ، أيْ: مِن دَمِ أخِيهِ، وقِيلَ: ”شَيْءٌ“ لِأنَّ مَعْناهُ: شَيْءٌ مِنَ العَفْوِ فَسَواءٌ في ذَلِكَ أنْ يَعْفُوَ عَنْ بَعْضِ الدَّمِ أوْ عَنْ كُلِّهِ، أوْ أنْ يَعْفُوَ بَعْضُ الوَرَثَةِ أوْ كُلُّهم، فَإنَّهُ يَتِمُّ العَفْوُ ويَسْقُطُ القِصاصُ، ولا يَجِبُ إلّا الدِّيَةُ، وقِيلَ: مَن عُفِيَ لَهُ هو ولِيُّ الدَّمِ، وعُفِيَ هُنا بِمَعْنى يُسِّرَ، لا عَلى بابِها في العَفْوِ، ومِن أخِيهِ: هو القاتِلُ، وشَيْءٌ: هو الدِّيَةُ، والأُخُوَّةُ هي: أُخُوَّةُ الإسْلامِ، ويُحْتَمَلُ أنْ يُرادَ بِالأخِ عَلى هَذا التَّأْوِيلِ: المَقْتُولُ، أيْ: مِن قِبَلِ أخِيهِ المَقْتُولِ، وهَذا القَوْلُ قَوْلُ مالِكٍ، فَسَّرَ المَعْفُوَّ لَهُ بِوَلِيِّ الدَّمِ، والأخَ بِالقاتِلِ، والعَفْوَ بِالتَّيْسِيرِ، وعَلى هَذا قالَ مالِكٌ: إذا جَنَحَ الوَلِيُّ إلى العَفْوِ عَلى أخْذِ الدِّيَةِ خُيِّرَ القاتِلُ بَيْنَ أنْ يُعْطِيَها أوْ يُسَلِّمَ نَفْسَهُ. وغَيْرُ مالِكٍ يَقُولُ: إذا رَضِيَ الوَلِيُّ بِالدِّيَةِ فَلا خِيارَ لِلْقاتِلِ ويَلْزَمُ الدِّيَةُ، وقَدْ رُوِيَ هَذا عَنْ مالِكٍ، ورَجَّحَهُ كَثِيرٌ مِن أصْحابِهِ، ويُضَعِّفُ هَذا القَوْلَ أنَّ عُفِيَ بِمَعْنى: يُسِّرَ لَمْ يَثْبُتْ. وقِيلَ: هَذِهِ ألْفاظٌ في المَعْنَيَيْنِ الَّذَيْنِ نَزَلَتْ فِيهِمْ هَذِهِ الآيَةُ كُلُّها، وتَساقَطُوا الدِّياتِ فِيما بَيْنَهم مُقاصَّةً، فَمَعْنى الآيَةِ: فَمَن فَضَلَ لَهُ مِنَ الطّائِفَتَيْنِ عَلى الأُخْرى شَيْءٌ مِن تِلْكَ الدِّياتِ، وتَكُونُ عَفا بِمَعْنى: فَضَلَ، مِن قَوْلِهِمْ: عَفا الشَّيْءُ إذا كَثُرَ، أيْ: أفْضَلَتِ الحالَةُ لَهُ، أوِ الحِسابُ، أوِ القَدَرُ، وقِيلَ: هي عَلى قَوْلِ عَلِيٍّ والحَسَنِ في الفَضْلِ مِن دِيَةِ الرَّجُلِ والمَرْأةِ والحُرِّ والعَبْدِ، أيْ: مَن كانَ لَهُ ذَلِكَ الفَضْلُ فاتِّباعٌ بِالمَعْرُوفِ، وعُفِيَ هُنا بِمَعْنى: أُفْضِلَ، وكَأنَّ الآيَةَ مِن أوَّلِها بَيَّنَتِ الحُكْمَ إذا لَمْ تَتَداخَلِ الأنْواعُ، ثُمَّ بَيَّنَتِ الحُكْمَ إذا تَداخَلَتْ، والقَوْلُ الأوَّلُ أظْهَرُ كَما قُلْناهُ، وقَدْ جَوَّزَ ابْنُ عَطِيَّةَ أنْ يَكُونَ عُفِيَ بِمَعْنى: تُرِكَ، فَيَرْتَفِعُ ”شَيْءٌ“ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ قامَ مَقامَ الفاعِلِ، قالَ: والأوَّلُ أجْوَدُ بِمَعْنى أنْ يَكُونَ ”عُفِيَ“ لا يَتَعَدّى إلى مَفْعُولٍ بِهِ، وأنَّ ارْتِفاعَ ”شَيْءٌ“ هو لِكَوْنِهِ مَصْدَرًا أُقِيمَ مَقامَ الفاعِلِ، وتَقَدَّمَ قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: أنَّ عُفِيَ بِمَعْنى: تُرِكَ لَمْ يَثْبُتْ. ﴿فاتِّباعٌ بِالمَعْرُوفِ وأداءٌ إلَيْهِ بِإحْسانٍ﴾ . ارْتِفاعُ ”اتِّباعٌ“ عَلى أنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أيْ: فالحُكْمُ أوِ الواجِبُ، كَذا قَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: فالأمْرُ اتِّباعٌ، وجَوَّزَ أيْضًا رَفْعَهُ بِإضْمارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ: فَلْيَكُنِ اتِّباعٌ، وجَوَّزُوا أيْضًا أنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً مَحْذُوفَ الخَبَرِ، وتَقْدِيرُهُ: فَعَلى الوَلِيِّ اتِّباعُ القاتِلِ بِالدِّيَةِ، وقَدَّرُوهُ أيْضًا مُتَأخِّرًا تَقْدِيرُهُ، فاتِّباعٌ بِالمَعْرُوفِ عَلَيْهِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ بَعْدَ تَقْدِيرِهِ: فالحَكَمُ أوِ الواجِبُ اتِّباعٌ، وهَذا سَبِيلُ الواجِباتِ، كَقَوْلِهِ ﴿فَإمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ﴾ [البقرة: ٢٢٩] وأمّا المَندُوبُ إلَيْهِ فَيَأْتِي مَنصُوبًا كَقَوْلِهِ: ﴿فَضَرْبَ الرِّقابِ﴾ [محمد: ٤] (p-١٤)انْتَهى. ولا أدْرِي هَذِهِ التَّفْرِقَةَ بَيْنَ الواجِبِ والمَندُوبِ، إلّا ما ذَكَرُوا مِن أنَّ الجُمْلَةَ الِابْتِدائِيَّةَ أثْبَتُ وآكَدُ مِنَ الجُمْلَةِ الفِعْلِيَّةِ في مِثْلِ قَوْلِهِ: ﴿قالُوا سَلامًا قالَ سَلامٌ﴾ [هود: ٦٩]، فَيُمْكِنُ أنْ يَكُونَ هَذا الَّذِي لَحِظَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ مِن هَذا. وأمّا إضْمارُ الفِعْلِ الَّذِي قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَلْيَكُنْ، فَهو ضَعِيفٌ إذْ كانَ لا تُضْمَرُ غالِبًا إلّا بَعْدَ أنِ الشَّرْطِيَّةِ، أوْ لَوْ: حَيْثُ يَدُلُّ عَلى إضْمارِها الدَّلِيلُ، و(بِالمَعْرُوفِ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: فاتِّباعٌ، وارْتِفاعُ: ﴿وأداءٌ﴾ لِكَوْنِهِ مَعْطُوفًا عَلى ”اتِّباعٌ“، فَيَكُونُ فِيهِ مِنَ الإعْرابِ ما قَدَّرُوا في: ”فاتِّباعٌ“، ويَكُونُ ”بِإحْسانٍ“ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ ”وأداءٌ“ وجَوَّزُوا أنْ يَكُونَ و”أداءٌ“ مُبْتَدَأً، وبِإحْسانٍ، هو الخَبَرُ، وفِيهِ بُعْدٌ والفاءُ في قَوْلِهِ ”فاتِّباعٌ“ جَوابُ الشَّرْطِ إنْ كانَتْ ”مَن“ شَرْطًا، وداخِلَةٌ في خَبَرِ المُبْتَدَأِ إنْ كانَتْ ”مَن“ مَوْصُولَةً، فَإنْ كانَتْ ”مَن“ كِنايَةً عَنِ القاتِلِ، وأخُوهُ كِنايَةً عَنِ الوَلِيِّ، وهو الظّاهِرُ، فَتَكُونُ الجُمْلَةُ تَوْصِيَةً لِلْمَعْفُوِّ عَنْهُ والعافِي بِحُسْنِ القَضاءِ مِنَ المُؤَدِّي، وحُسْنِ التَّقاضِي مِنَ الطّالِبِ، وإنْ كانَ الأخُ كِنايَةً عَنِ المَقْتُولِ كانَتِ الهاءُ في قَوْلِهِ ”وأداءٌ إلَيْهِ“ عائِدَةً عَلى ما يُفْهَمُ مِن يُصاحِبُ بِوَجْهٍ ما: لِأنَّ في قَوْلِهِ ”عُفِيَ“ دَلالَةً عَلى العافِي فَيَكُونُ نَظِيرَ قَوْلِهِ: ﴿حَتّى تَوارَتْ بِالحِجابِ﴾ [ص: ٣٢] إذْ في العَشِيِّ دَلالَةٌ عَلى مَغِيبِ الشَّمْسِ، وقَوْلِ الشّاعِرِ: ؎لَكالرَّجُلِ الحادِي وقَدْ مَنَعَ الضُّحى وطَيْرُ المَنايا فَوْقَهُنَّ أواقِعُ أيْ: فَوْقَ الإبِلِ: لِأنَّ في قَوْلِهِ الحادِيَ دَلالَةً عَلَيْهِنَّ، وإنْ كانَتْ ”مَن“ كِنايَةً عَنِ القاتِلِ فَيَكُونُ أيْضًا تَوْصِيَةً لَهُ ولِلْوَلِيِّ بِحُسْنِ القَضاءِ والتَّقاضِي، أيْ: فاتِّباعٌ مِنَ الوَلِيِّ بِالمَعْرُوفِ، وأداءٌ مِنَ القاتِلِ إلَيْهِ بِإحْسانٍ، والِاتِّباعُ بِالمَعْرُوفِ أنْ لا يُعَنِّفَ عَلَيْهِ ولا يُطالِبَهُ إلّا مُطالَبَةً جَمِيلَةً، ولا يَسْتَعْجِلَهُ إلى ثَلاثِ سِنِينَ يُجْعَلُ انْتِهاءَ الِاسْتِيفاءِ، والأداءُ بِالإحْسانِ أنْ لا يَمْطُلَهُ ولا يَبْخَسَهُ شَيْئًا. وهَذا مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في تَفْسِيرِ الِاتِّباعِ والأداءِ. وقِيلَ: اتِّباعُ الوَلِيِّ بِالمَعْرُوفِ أنْ لا يَطْلُبَ مِنَ القاتِلِ زِيادَةً عَلى حَقِّهِ، وقَدْ رُوِيَ في الحَدِيثِ: «مَن زادَ بَعِيرًا في إبِلِ الدِّيَةِ وفَرائِضِها فَمِن أمْرِ الجاهِلِيَّةِ» . وقِيلَ الِاتِّباعُ والأداءُ مَعًا مِنَ القاتِلِ، والِاتِّباعُ بِالمَعْرُوفِ أنْ لا يَنْقُصَهُ، والأداءُ بِالإحْسانِ أنْ لا يُؤَخِّرَهُ. وقِيلَ: المَعْرُوفُ، حِفْظُ الجانِبِ ولِينُ القَوْلِ، والإحْسانُ تَطْيِيبُ القَوْلِ، وقِيلَ: المَعْرُوفُ ما أوْجَبَهُ تَعالى، وقِيلَ: المَعْرُوفُ ما يَتَعاهَدُ العَرَبُ بَيْنَها مِن دِيَةِ القَتْلى. وظاهِرُ قَوْلِهِ: ﴿فَمَن عُفِيَ لَهُ مِن أخِيهِ شَيْءٌ﴾ الآيَةَ. أنَّهُ يَمْتَنِعُ إجابَةُ القاتِلِ إلى القَوَدِ مِنهُ إذا اخْتارَ ذَلِكَ واخْتارَ المُسْتَحِقُّ الدِّيَةَ، ويَلْزَمُ القاتِلَ الدِّيَةُ إذا اخْتارَها الوَلِيُّ، وإلَيْهِ ذَهَبَ سَعِيدٌ، وعَطاءٌ، والحَسَنُ، واللَّيْثُ، والأوْزاعِيُّ، والشّافِعِيُّ، وأحْمَدُ، وإسْحاقُ، وأبُو ثَوْرٍ، ورَواهُ أشْهَبُ عَنْ مالِكٍ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأصْحابُهُ، وأحْمَدُ، ومالِكٌ في إحْدى الرِّوايَتَيْنِ عَنْهُ، والثَّوْرِيُّ، وابْنُ شُبْرُمَةَ: لَيْسَ لِلْوَلِيِّ إلّا القِصاصُ، ولا يَأْخُذُ الدِّيَةَ إلّا بِرِضى القاتِلِ، فَعَلى قَوْلِ هَؤُلاءِ يُقَدَّرُ بِمَحْذُوفٍ، أيْ: فَمَن عُفِيَ لَهُ مِن أخِيهِ شَيْءٌ، ورَضِيَ المَعْفُوُّ ودَفَعَ الدِّيَةَ، فاتِّباعٌ بِالمَعْرُوفِ. وقَدْ تَقَدَّمَتْ لَنا الإشارَةُ إلى هَذا الخِلافِ عِنْدَ تَفْسِيرِنا: ﴿فَمَن عُفِيَ﴾ واخْتِلافَ النّاسِ فِيهِ. * * * ﴿ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِن رَبِّكم ورَحْمَةٌ﴾ أشارَ بِذَلِكَ إلى ما شَرَعَهُ تَعالى مِنَ العَفْوِ والدِّيَةِ، إذْ أهْلُ التَّوْراةِ كانَ مَشْرُوعُهُمُ القِصاصَ فَقَطْ، وأهْلُ الإنْجِيلِ مَشْرُوعُهُمُ العَفْوُ فَقَطْ، وقِيلَ: لَمْ يَكُنِ العَفْوُ في أُمَّةٍ قَبْلَ هَذِهِ الأُمَّةِ، وقَدْ تَقَدَّمَ طُرُقٌ مِن هَذا النَّقْلِ، وهَذِهِ الأُمَّةُ خُيِّرَتْ بَيْنَ القِصاصِ وبَيْنَ العَفْوِ والدِّيَةِ، وكانَ العَفْوُ والدِّيَةُ تَخْفِيفًا مِنَ اللَّهِ، إذْ فِيهِ انْتِفاعُ الوَلِيِّ بِالدِّيَةِ، وحُصُولُ الأجْرِ بِالعَفْوِ واسْتِبْقاءُ مُهْجَةِ القاتِلِ، وبَذْلُ ما سِوى النَّفْسِ هَيِّنٌ في اسْتِبْقائِها، وأضافَ هَذا التَّخْفِيفَ إلى الرَّبِّ: لِأنَّهُ المُصْلِحُ لِأحْوالِ عَبِيدِهِ، النّاظِرُ لَهم في تَحْصِيلِ ما فِيهِ سَعادَتُهُمُ الدِّينِيَّةُ والدُّنْيَوِيَّةُ، وعَطْفُ (ورَحْمَةٌ) عَلى ﴿تَخْفِيفٌ﴾: لِأنَّ مَنِ اسْتَبْقى مُهْجَتَكَ بَعْدَ اسْتِحْقاقِ إتْلافِها فَقَدْ رَحِمَكَ. وأيُّ رَحْمَةٍ أعْظَمُ مِن ذَلِكَ ؟ ولَعَلَّ القاتِلَ المَعْفُوَّ عَنْهُ يَسْتَقِلُّ مِنَ الأعْمالِ الصّالِحَةِ في المُدَّةِ الَّتِي عاشَها بَعْدَ اسْتِحْقاقِ قَتْلِهِ (p-١٥)ما يَمْحُو بِهِ هَذِهِ الفِعْلَةَ الشَّنْعاءَ، فَمِنَ الرَّحْمَةِ إمْهالُهُ لَعَلَّهُ يُصْلِحُ أعْمالَهُ. ﴿فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذَلِكَ﴾، أيْ: مَن تَجاوَزَ شَرْعَ اللَّهِ بَعْدَ العُقُودِ وأخْذِ الدِّيَةِ بِقَتْلِ القاتِلِ بَعْدَ سُقُوطِ الدَّمِ، أوْ بِقَتْلِ غَيْرِ القاتِلِ، وكانُوا في الجاهِلِيَّةِ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، ويَقْتُلُونَ بِالواحِدِ الِاثْنَيْنِ والثَّلاثَةَ والعَشَرَةَ، وقِيلَ: المَعْنى: مَن قُتِلَ بَعْدَ أخْذِ الدِّيَةِ، وقِيلَ: بَعْدَ العَفْوِ، وقِيلَ: مَن أخَذَ الدِّيَةَ بَعْدَ العَفْوِ عَنْها. والأظْهَرُ القَوْلُ الأوَّلُ لِتَقَدُّمِ العَفْوِ، وأخْذِ المالِ. والِاعْتِداءُ، وهو تَجاوُزُ الحَدِّ يَشْمَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: بَعْدَ ذَلِكَ التَّخْفِيفِ، فَجَعَلَ ”ذَلِكَ“ إشارَةً إلى التَّخْفِيفِ، ولَيْسَ يَظْهَرُ أنَّ ”ذَلِكَ“ إشارَةً إلى التَّخْفِيفِ، وإنَّما الظّاهِرُ ما شَرَحْناهُ بِهِ مِنَ العَفْوِ وأخْذِ الدِّيَةِ، وكَوْنُ ذَلِكَ تَخْفِيفًا هو كالعِلَّةِ لِمَشْرُوعِيَّةِ العَفْوِ وأخْذِ الدِّيَةِ، ويَحْتَمِلُ: ”مَن“ في قَوْلِهِ: ﴿فَمَنِ اعْتَدى﴾ أنْ تَكُونَ شَرْطِيَّةً، وأنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً. ﴿فَلَهُ عَذابٌ ألِيمٌ﴾، جَوابُ الشَّرْطِ، أوْ خَبَرٌ عَنِ المَوْصُولِ، وظاهِرُ هَذا العَذابِ أنَّهُ في الآخِرَةِ: لِأنَّ مُعْظَمَ ما ورَدَ مِن هَذِهِ التَّوَعُّداتِ إنَّما هي في الآخِرَةِ. وقِيلَ: العَذابُ الألِيمُ هو في الدُّنْيا، وهو قَتْلُهُ قِصاصًا، قالَهُ عِكْرِمَةُ، وابْنُ جُبَيْرٍ، والضَّحّاكُ. وقِيلَ: هو قَتْلُهُ البَتَّةَ حَدًّا، ولا يُمَكِّنُ الحاكِمُ الوَلِيَّ مِنَ العَفْوِ، قالَهُ عِكْرِمَةُ أيْضًا، وقَتادَةُ، والسُّدِّيُّ. وقِيلَ: عَذابُهُ أنْ يَرُدَّ الدِّيَةَ ويَبْقى إثْمُهُ إلى عَذابِ الآخِرَةِ، قالَهُ الحَسَنُ. وقِيلَ: عَذابُهُ تَمْكِينُ الإمامِ مِنهُ يَصْنَعُ فِيهِ ما يَرى، قالَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ. ومَذْهَبُ جَماعَةٍ مِنَ العُلَماءِ أنَّهُ إذا قَتَلَ بَعْدَ سُقُوطِ الدَّمِ هو كَمَن قَتَلَ ابْتِداءً، إنْ شاءَ الوَلِيُّ قَتَلَهُ، وإنْ شاءَ عَفا عَنْهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب