الباحث القرآني

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأنْثَى بِالأنْثَى﴾ قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"كتب عليكم القصاص في القتلى"، فُرض عليكم. * * * فإن قال قائل: أفرضٌ على وليّ القتيل القصاصُ من قاتل وَليّه؟ قيل: لا ولكنه مباح له ذلك، والعفو، وأخذُ الدية. فإن قال قائل: وكيف قال:"كتب عليكم القصاص"؟ قيل: إن معنى ذلك على خلاف ما ذهبتَ إليه، وإنما معناه: يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم القصَاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى، أي أن الحر إذا قتل الحرَّ، فَدم القاتل كفءٌ لدم القتيل، والقصاصُ منه دون غيره من الناس، فلا تجاوزوا بالقتل إلى غيره ممن لم يقتل، فإنه حرام عليكم أن تقتلوا بقتيلكم غيرَ قاتله. والفرض الذي فرضَ الله علينا في القصاص، هو ما وصفتُ من ترك المجاوزة بالقصاص قَتلَ القاتل بقتيله إلى غيره، لا أنه وجب علينا القصاص فرضًا وجُوب فرضِ الصلاة والصيام، حتى لا يكون لنا تركه. ولو كان ذلك فرضًا لا يجوز لنا تركه، لم يكن لقوله:"فَمن عُفي لهُ من أخيه شيء"، معنى مفهوم. لأنه لا عفو بعد القصاص فيقال:"فمن عفي له من أخيه شيء". * * * وقد قيل: إن معنى القصاص في هذه الآية، مقاصَّة ديات بعض القتلى بديات بعض. وذلك أن الآية عندهم نزلت في حِزبين تحاربوا على عهد رسول الله ﷺ، فقتل بعضهم بعضًا، فأُمِر النبيُّ ﷺ أن يُصْلح بينهم بأن تَسقط ديات نساء أحد الحزبين بديات نساء الآخرين، ودياتُ رجالهم بديات رجالهم، وديات عبيدهم بديات عبيدهم، قصاصًا. فذلك عندهم مَعنى"القصاص" في هذه الآية. * * * فإن قال قائل: فإنه تعالى ذكره قال:"كُتب عليكم القصَاص في القتلى الحر بالحرّ والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى"، فما لنا أن نقتص للحر إلا من الحر، ولا للأنثى إلا من الأنثى؟ قيل: بل لنا أن نقتص للحر من العبد، وللأنثى من الذكر بقول الله تعالى ذكره: ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا﴾ [سورة الإسراء: ٣٣] ، وبالنقل المستفيض عن رسول الله ﷺ أنه قال: ٢٥٥٧- المسلمون تتكافأ دماؤهم. [[الحديث: ٢٥٥٧- رواه الطبري هنا معلقًا، دون إسناد. وقد رواه أحمد في المسند: ٦٧٩٧، من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده - وهو عبد الله بن عمرو بن العاص: "المسلمون تكافأ داؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم". ورواه بنحوه أيضًا ابن ماجه: ٢٦٨٥. ورواه أحمد، بألفاظ مختلفة، مطولا ومختصرًا: ٦٦٩٢، ٦٩٧٠، ٧٠١٢.]] * * * فإن قال: فإذ كان ذلك، فما وجه تأويل هذه الآية؟ قيل: اختلف أهلُ التأويل في ذلك. فقال بعضهم: نزلت هذه الآية في قوم كانوا إذا قتل الرجل منهم عَبد قوم آخرين، لم يرضوا من قتيلهم بدم قاتله، من أجل أنه عَبد، حتى يقتلوا به سَيّده. وإذا قتلت المرأة من غيرهم رجلا لم يرضوا من دم صاحبهم بالمرأة القاتلة، حتى يقتلوا رجلا من رهط المرأة وعشيرتها. فأنزل الله هذه الآية، فأعلمهم أن الذي فُرض لهم من القصاص أن يقتلوا بالرجل الرجلَ القاتل دون غيره، وبالأنثى الأنثى القاتلة دون غيرها من الرجال، وبالعبد العبدَ القاتلَ دون غيره من الأحرار، فنهاهم أن يتعدَّوا القاتل إلى غيره في القصاص. * ذكر من قال ذلك: ٢٥٥٨- حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا أبو الوليد -وحدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج- قالا حدثنا حماد، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي في قوله:"الحر بالحرّ والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى" قال، نزلت قي قبيلتين من قبائل العرب اقتتلتا قتال عُمِّيَّة، فقالوا: نقتل بعبدنا فلانَ ابن فلان، وبفلانة فلانَ بن فلان، فأنزل الله:"الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى". [[العمية (بضم العين أو كسرها، وتشديد الميم وتشديد الياء) : الغواية والكبر واللجاجة في الباطل والفتنة والضلالة. وفي الحديث: "من قاتل تحت راية عمية، يغضب لعصبة، أو ينصر عصبة، أو يدعو لعصبة، فقتل، قتل قتلة جاهلية". وقال أحمد بن حنبل: هو الأمر الأعمى للعصبية، لا تستبين ما وجهه.]] ٢٥٥٩- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"كتب عليكم القصَاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى" قال، كان أهل الجاهلية فيهم بَغْيٌ وطاعة للشيطان، فكان الحيّ إذا كان فيهم عُدة ومَنعة، فقيل عبدُ قوم آخرين عبدًا لهم، قالوا: لا نقتل به إلا حرًّا! تعززًا، لفضلهم على غيرهم في أنفسهم. وإذا قُتلت لهم امرأة قتلتها امرأةُ قوم آخرين قالوا: لا نقتل بها إلا رجلا! فأنزل الله هذه الآية يخبرهم أنّ العبدَ بالعبد والأنثى بالأنثى، فنهاهم عن البغي. ثم أنزل الله تعالى ذكره في سورة المائدة بعد ذلك فقال: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأنْفَ بِالأنْفِ وَالأذُنَ بِالأذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ﴾ [سورة المائدة: ٤٥] . ٢٥٦٠- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"كتب عليكم القصاص في القتلى" قال، لم يكن لمن قبلنا ديةٌ، إنما هُو القتل، أو العفوُ إلى أهله. فنزلت هذه الآية في قوم كانوا أكثر من غيرهم، فكانوا إذا قتل من الحيّ الكثير عبدٌ قالوا: لا نقتل به إلا حُرًّا. وإذا قتلت منهم امرأة قالوا: لا نقتل بها إلا رجلا. فأنزل الله:"الحرّ بالحرّ والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى". ٢٥٦١- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت داود، عن عامر في هذه الآية:"كتب عليكم القصَاص في القتلى الحر بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى" قال، إنما ذلك في قتال عُمية، [[سلف شرح"عمية" في ص: ٣٥٩، تعليق: ١.]] إذا أصيب من هؤلاء عبدٌ ومن هؤلاء عبدٌ، تكافآ، وفي المرأتين كذلك، وفي الحرّين كذلك. هذا معناه إن شاء الله. ٢٥٦٢- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال، دخل في قول الله تعالى ذكره:"الحر بالحر"، الرجل بالمرأة، والمرأةُ بالرجل. وقال عطاء: ليس بينهما فَضل. * * * وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في فريقين كان بينهم قتالٌ على عهد رسول الله ﷺ، فقتل من كلا الفريقين جماعةٌ من الرجال والنساء، فأُمِر النبي ﷺ أن يُصلح بينهم، بأن يجعل ديات النساء من كل واحد من الفريقين قصاصًا بديات النساء من الفريق الآخر، وديات الرجال بالرجال، وديات العبيد بالعبيد، فذلك معنى قوله:"كتب عليكم القصاص في القتلى". * ذكر من قال ذلك: ٢٥٦٣- حدثنا موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى" قال، اقتتل أهل ملتين من العرب، أحدهما مسلم والآخر معاهد، في بعض ما يكون بين العرب من الأمر، فأصلح بينهم النبيُّ ﷺ -وقد كانوا قَتلوا الأحرار والعبيد والنساء- على أن يؤدِّي الحرُّ ديةَ الحر، والعبد دية العبد، والأنثى دية الأنثى، فقاصَّهم بعضَهم من بعض. ٢٥٦٤- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا عبد الله بن المبارك، عن سفيان، عن السدي، عن أبي مالك قال: كان بين حيين من الأنصار قتالٌ، كان لأحدهما على الآخر الطَّوْلُ [[الطول: الفضل والعلو.]] فكأنهم طلبوا الفضْل. فجاء النبي ﷺ ليصلح بينهم، فنزلت هذه الآية:"الحرُّ بالحرِّ والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى"، فجعل النبي ﷺ الحر بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى. ٢٥٦٦- حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شعبة، عن أبي بشر قال: سمعت الشعبي يقول في هذه الآية:"كتب عليكم القصاص في القتلى" قال، نزلت في قتال عُمية. قال شعبة: كأنه في صلح. قال: اصطلحوا على هذا. ٢٥٦٧- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة عن أبي بشر قال: سمعت الشعبي يقول في هذه الآية:"كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى" قال، نزلت في قتال عُمية"، [[سلف شرح"عمية" في ص: ٣٥٩، تعليق: ١.]] قال: كان على عهد النبي ﷺ. * * * وقال آخرون: بل ذلك أمرٌ من الله تعالى ذكره بمقاصَّة دية الحرّ ودية العبد، ودية الذكر ودية الأنثى، في قتل العمد - إن اقتُصَّ للقتيل من القاتل، والتراجع بالفضل والزيادة بين ديتي القتيل والمقتص منه. * ذكر من قال ذلك: ٢٥٦٨- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى" قال، حُدِّثنا عن علي بن أبي طالب أنه كان يقول: أيما حُرّ قتل عبدًا فهو قَوَدٌ به، فإن شاء موالي العبد أن يقتلوا الحر قتلوه، وقاصُّوهم بثمن العبد من دية الحرّ، وأدَّوا إلى أولياء الحرّ بقية ديته. وإن عبدٌ قتل حرًّا فهو به قَودٌ، فإن شاء أولياء الحرّ قتلوا العبد وقاصُّوهم بثمن العبد، وأخذوا بقية دية الحرّ، وإن شاءوا أخذوا الدية كلها واستحيَوُا العبد. وأيُّ حرّ قتل امرأة فهو بها قَوَدٌ، فإن شاء أولياء المرأة قَتلوه وأدّوا نصفَ الدية إلى أولياء الحرّ. وإن امرأة قتلتْ حُرًّا فهي به قَوَدٌ، فإن شاء أولياء الحر قتلوها وأخذوا نصف الدية، وإن شاءوا أخذوا الدية كلها واستحيوها، وإن شَاءوا عفوْا. ٢٥٦٩- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا هشام بن عبد الملك قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن الحسن: أن عليًّا قال في رجل قتل امرأته، قال: إن شاءوا قَتلوه وغَرِموا نصف الدية. ٢٥٧٠- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى، عن سعيد، عن عوف، عن الحسن قال: لا يُقتل الرجل بالمرأة، حتى يُعطوا نصف الدية. ٢٥٧١- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن سماك، عن الشعبي، قال، في رجل قَتل امرأته عمدًا، فأتوا به عليًّا فقال: إن شئتم فاقتلوه، ورُدُّوا فضل دية الرجل على دية المرأة. * * * وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في حال مَا نزلت، والقومُ لا يقتلون الرجل بالمرأة، ولكنهم كانوا يقتلون الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة، حتى سَوَّى الله بين حكم جميعهم بقوله: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ [سورة المائدة: ٤٥] ، فجعل جميعَهم قَوَدَ بعضهم ببعض. * ذكر من قال ذلك: ٢٥٧٢- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"والأنثى بالأنثى"، وذلك أنهم كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة، ولكن يقتلون الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة، فأنزل الله تعالى:"النفس بالنفس"، فجعل الأحرار في القصاص سَواءً فيما بينهم، في العمد رجالهم ونساؤُهم، في النفس وما دون النفس. وجعل العبيد مستوين فيما بينهم في العمد، في النفس وما دون النفس، رجالهم ونساؤُهم. * * * قال أبو جعفر: [[قوله: "فإذا كان مختلف" هو تمام قوله في رد السؤال في ص: ٣٥٨ س: ١١. "قيل: اختلف أهل التأويل في ذلك. . ".]] فإذ كان مُختلَفًا الاختلافُ الذي وصفتُ، فيما نزلت فيه هذه الآية، فالواجب علينا استعمالها، فيما دلت عليه من الحُكم، بالخبر القاطع العذرَ. وقد تظاهرت الأخبار عن رَسول الله ﷺ بالنقل العامِّ: أن نفس الرجل الحر قَوَدٌ قصَاصًا بنفس المرأة الحرة. فإذ كان ذلك كذلك، وكانت الأمَّة مختلفة في التراجع بفضل مَا بين دية الرجل والمرأة -على ما قد بَيَّنا من قول عليّ وغيره- كان واضحًا [[في المطبوعة: "وكان واضحًا"، والصواب حذف الواو.]] فسادُ قول من قال بالقصاص في ذلك. والتراجع بفضل ما بين الديتين، بإجماع جميع أهل الإسلام: على أن حرامًا على الرجل أن يتلف من جَسده عضوًا بعوض يأخذه على إتلافه، فدعْ جميعَه = وعلى أن حرامًا على غيره إتلاف شيء منه -مثل الذي حُرِّم من ذلك- بعوَض يُعطيه عليه. [[سياق العبارة: "كان واضحًا فساد من قال بالقصاص. . . بإجماع جميع أهل الإسلام على أن حرامًا على الرجل. . . وعلى أن حرامًا على غيره. . . ".]] فالواجب أن تكون نفسُ الرجل الحر بنفس المرأة الحرة قَوَدًا. وإذ كان ذلك كذلك، كان بيّنًا بذلك أنه لم يرد بقوله تعالى ذكره:"الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى" أن لا يقادَ العبدُ بالحرّ، وأن لا تُقتل الأنثى بالذكر ولا الذكر بالأنثى. وإذْ كان ذلك كذلك، كان بيِّنًا أن الآية معنيٌّ بها أحد المعنيين الآخرين. إمّا قولنا: من أنْ لا يُتَعدَّى بالقصاص إلى غير القاتل والجاني، فيؤخذ بالأنثى الذكر وبالعبد الحر. وإمّا القول الآخر: وهو أن تكون الآية نزلت في قوم بأعيانهم خاصة أمِرَ النبي ﷺ أن يجعل ديات قتلاهم قصَاصًا بعضها من بعض، كما قاله السدي ومن ذكرنا قوله. وقد أجمع الجميع -لا خلاف بينهم- على أن المقاصَّة في الحقوق غير واجبة، وأجمعوا على أن الله لم يقض في ذلك قضاء ثم نَسخه. وإذ كان كذلك، وكان قوله تعالى ذكره:"كُتب عليكم القصَاص" ينبئ عن أنه فَرضٌ، كان معلومًا أن القول خلافُ ما قاله قائل هذه المقالة. لأن ما كان فرضًا على أهل الحقوق أن يفعلوه، فلا خيارَ لهم فيه. والجميع مجمعون على أنّ لأهل الحقوق الخيارَ في مقاصَّتهم حقوقهم بعضَها من بعض. فإذْ تبيَّنَ فسادُ هذا الوجه الذي ذكرنا، فالصحيح من القول في ذلك هو ما قلنا. * * * فإن قال قائل: = إذْ ذكرتَ أن معنى قوله:"كتب عليكم القصاص" - بمعنى: فُرض عليكم القصاص =: لا يعرف [[في المطبوعة: "ولا يعرف. . . " والصواب حذف الواو. والسياق: فإن قال قائل. . - لا يعرف" وما بينهما فصل. والذي ذكره في معنى"كتب" قد سلف في ص: ٣٥٧.]] لقول القائل:"كتب" معنًى إلا معنى: خط ذلك، فرسم خطًّا وكتابًا، فما برهانك على أن معنى قوله:"كتب" فُرِض؟ قيل: إن ذلك في كلام العرب موجودٌ، وفي أشعارهم مستفيض، ومنه قول الشاعر: [[هو عمر بن أبي ربيعة، أو عبد الله بن الزبير الأسدي.]] كُتِبَ القَتْلُ وَالقِتَالُ عَلَيْنَا ... وَعَلَى المُحْصَنَاتِ جَرُّ الذُّيُولِ [[ديوان عمر: ٤٢١، والبيان والتبيين ٢: ٢٣٦، والكامل ٢: ١٥٤، وتاريخ الطبري ٧: ١٥٨، وأنساب الأشراف ٥: ٢٦٤، والأغاني ٩: ٢٢٩. ولهذا الشعر خبر. وذلك أن مصعب بن الزبير، لما خرج إلى المختار بن أبي عبيد الثقفي المتنبئ فظفر به وقتله، كان فيمن أخذ امرأته عمرة بنت النعمان بن بشير، فلما سألها عنه قالت: رحمة الله عليه، إن كان عبدًا من عباد الله الصالحين: فكتب مصعب إلى أخيه عبد الله إنها تزعم أنه نبي! فأمر بقتلها. وقتلها الذي تولى قتلها قتلا فظيعًا، فاستنكره الناس، وقالوا فيه، وممن عمر: إِنَّ مِنْ أَعْجَبِ العَجَائِبِ عِنْدي ... قَتْلُ بيضاءَ حُرَّةٍ عُطْبُولِ قُتِلَتْ هكذا عَلَى غَيْرِ جُرْم ... إِنَّ لِلهِ دَرَّهَا من قَتِيلِ كُتِبَ القتل. . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .]] وقولُ نَابغةَ بني جعدة: يَا بِنْتَ عَمِّي، كِتَابُ اللهِ أَخْرَجَنِي ... عَنْكُم، فَهَلْ أَمْنَعَنَّ اللهَ مَا فَعَلا! [[اللسان (كتب) وأساس البلاغة (كتب) ، والمقاييس ٥: ١٥٩، ويروي"يا ابنة عمي"، وفي الأساس: "أخرني"، فأخشى أن تكون خطأ من ناسخ.]] وذلك أكثر في أشعارهم وكلامهم من أن يحصى. غير أن ذلك، وإن كان بمعنى: فُرض، فإنه عندي مأخوذ من"الكتاب" الذي هو رسمٌ وخَط. وذلك أن الله تعالى ذكره قد كتب جميعَ ما فرَض على عباده وما هم عاملوه في اللوح المحفوظ، فقال تعالى ذكره في القرآن: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾ [سورة البروج: ٢١-٢٢] وقال: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ﴾ [سورة الواقعة: ٧٧-٧٨] . فقد تبين بذلك أن كل ما فرضه علينا، ففي اللوح المحفوظ مكتوبٌ. فمعنى قوله: -إذ كان ذلك كذلك-"كُتب عليكم القصاص"، كتب عليكم في اللوح المحفوظ القصَاصُ في القتلى، فَرضًا، أن لا تقتلوا بالمقتول غير قاتله. * * * وأما"القصاص" فإنه من قول القائل:"قاصصتُ فلانًا حقّي قِبَلهُ من حَقه قبلي، قصاصًا ومُقاصَّة". فقتل القاتل بالذي قتله"قصاص"، لأنه مفعول به مثلُ الذي فعَل بمن قتله، وإن كان أحد الفعلين عُدوانًا والآخر حَقًّا. فهما وإن اختلفا من هذا الوجه، فهما متفقان في أن كل واحد قد فعَل بصاحبه مثل الذي فعل صاحبه به. وجعل فعل وَليّ القتيل الأوّل إذا قتل قاتل وليه - قصاصًا، إذ كان بسبب قتله استحق قتلَ من قتله، فكأن وليّه المقتول هو الذي وَلى قَتل قاتله، فاقتص منه. * * * وأما"القتلى" فإنها جمع"قتيل" كما"الصرعى" جمع"صريع"، والجرحى جمع"جريح". وإنما يجمع"الفعيل" على"الفعلى"، إذا كان صفة للموصوف به، بمعنى الزمانة والضرر الذي لا يقدر معه صاحبه على البراح من موضعه ومصرعه، [[انظر ما سلف في تفسير"أسرى" ٢: ٣١١.]] نحو القتلى في معاركهم، والصرعى في مواضعهم، والجرحى، وما أشبه ذلك. * * * فتأويل الكلام إذًا: فُرض عليكم، أيها المؤمنون، القصاصُ في القتلى: أن يُقتص الحر بالحرّ، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى. ثم ترك ذكر"أن يقتص" اكتفاءً بدلالة قوله:"كُتب عليكم القصاص" = عليه. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ﴾ قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: تأويله: فمن تُرك له من القتل ظلمًا، من الواجب كان لأخيه عليه من القصَاص -وهو الشيء الذي قال الله:"فمن عُفي له من أخيه شيء"- فاتباعٌ من العافي للقاتل بالواجب له قبَله من الدية، وأداءٌ من المعفوِّ عنه ذلك إليه بإحسان. * ذكر من قال ذلك: ٢٥٧٣- حدثنا أبو كريب وأحمد بن حماد الدولابي قالا حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن مجاهد، عن ابن عباس:"فمن عفي له من أخيه شيء"، فالعفو: أن يقبل الدية في العمد. واتباع بالمعروف: أن يطلب هذا بمعروف، ويؤدِّي هذا بإحسان. ٢٥٧٤- حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد بن سلمة قال، حدثنا عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس أنه قال في قوله:"فمن عُفي له من أخيه شيءٌ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان"، فقال: هو العمد، يرضى أهله بالدية، واتباع بالمعروف: أُمر به الطالب = وأداء إليه بإحسان من المطلوب. ٢٥٧٥- حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال، حدثنا أبي -وحدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر- قالا جميعًا، أخبرنا ابن المبارك، عن محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن مجاهد، عن ابن عباس قال، الذي يقبل الدية، ذلك منه عفوٌ واتباعٌ بالمعروف، ويؤدِّي إليه الذي عُفي له من أخيه بإحسان. [[الخبر: ٢٥٧٥- محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، شيخ الطبري، مضت الرواية عنه أيضًا: ١٥٩١. وسيأتي أيضًا: ٢٥٩٤. ووقع في المطبوعة هنا"سفيان" بدل"شقيق". وهو خطأ وتصحيف. فلا يوجد في الرواة من يسمى"محمد بن علي بن الحسن بن سفيان"، ولا باسم أبيه.]] ٢٥٧٦- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسان"، وهي الدية: أن يحسن الطالبُ الطلبَ = وأداء إليه بإحسان: وهو أن يحسن المطلوبُ الأداءَ. ٢٥٧٧- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان"، والعَفُوُّ: الذي يعفو عن الدم ويَأخذ الدية. ٢٥٧٨- حدثنا سفيان قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فمن عُفي له من أخيه شيء" قال، الدية. ٢٥٧٩- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن يزيد، عن إبراهيم، عن الحسن:"وأداء إليه بإحسان" قال، على هذا الطالب أن يطلبَ بالمعروف، وعلى هذا المطلوب أن يؤدي بإحسان. ٢٥٨٠- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف"، والعفوُّ: الذي يعفو عن الدم، ويأخذ الدية. ٢٥٨١- حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا أبو الوليد قال، حدثنا حماد، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي في قوله:"فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان" قال، هو العمد، يرضى أهله بالدية. ٢٥٨٢- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن داود، عن الشعبي مثله. ٢٥٨٣- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"فمن عُفي له من أخيه شَيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان"، يقول: قُتل عمدًا فعُفي عنه، وقبلت منه الدية. يقول:"فاتباع بالمعروف"، فأمر المتبع أن يتبع بالمعروف، وأمرَ المؤدِّي أن يؤدي بإحسان، والعمد قَوَدٌ إليه قصاص، لا عَقل فيه، [[العقل: الدية، سميت عقلا، لأن الدية كانت عند العرب في الجاهلية إبلا، لأنها كانت أموالهم. فكان القاتل يسوق الدية إلى فناء ورثة المقتول، فيعقلها بالعقل ويسلمها إلى أوليائه.]] إلا أن يرضَوا بالدية. فإن رضوا بالدية، فمئة خَلِفَة. [[الخلفة (بفتح الخاء وكسر اللام) : الحامل من النوق. وليس لها جمع من لفظها، بل يقال هي"مخاض"، كما يقال: امرأة ونساء.]] فإن قالوا: لا نرضى إلا بكذا وكذا. فذاك لهم. ٢٥٨٤- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فاتباعٌ بالمعروف وأداء إليه بإحسان" قال، يتبع به الطالبُ بالمعروف، ويؤدي المطلوب بإحسان. ٢٥٨٥- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، في قوله:"فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان"، يقول: فمن قتل عمدًا فعفي عنه، وأخذت منه الدية، يقول:"فاتباع بالمعروف"، أمِر صاحبُ الدية التي يأخذها أن يتبع بالمعروف، وأمِر المؤدِّي أن يؤدي بإحسان. ٢٥٨٦- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قلت لعطاء: قوله:"فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان" قال، ذلك إذا أخذ الدية، فهو عفوٌ. ٢٥٨٧- حدثنا الحسن قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد قال: إذا قبل الدية فقد عفا عن القصاص، فذلك قوله:"فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان"، قال ابن جريج: وأخبرني الأعرج، عن مجاهد مثل ذلك، وزاد فيه: - فإذا قبل الدية فإن عليه أن يتبع بالمعروف، وعلى الذي عُفى عنه أن يُؤدي بإحسان. ٢٥٨٨- حدثنا المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا أبو عقيل قال، قال الحسن: أخذ الدية عفوٌ حَسن. ٢٥٨٩- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"وأداء إليه بإحسان" قال، أنتَ أيها المعفوُّ عنه. ٢٥٩٠- حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان"، وهو الدية، أن يحسن الطالب = وأداء إليه بإحسان: هو أن يُحسن المطلوب الأداء. * * * وقال آخرون معنى قوله:"فمن عُفي"، فمن فَضَل له فضل، وبقيتْ له بقية. وقالوا: معنى قوله:"من أخيه شيء": من دية أخيه شيء، أو من أرْش جراحته، [[الأرش: دية الجنايات والجراحات كالشجة ونحوها.]] فاتباع منه القاتلَ أو الجارحَ الذي بَقي ذلك قبله - بمعروف، وأداء = من القاتل أو الجارح = إليه ما بقي قبله له من ذلك بإحسان. وهذا قول من زعم أن الآية نزلت - أعني قوله:"يا أيها الذين آمنوا كُتب عَليكم القصاص في القتلى" - في الذين تحاربوا على عهد رسول الله ﷺ، فأُمِر رسول الله ﷺ أن يُصلح بينهم، فيقاصَّ ديات بعضهم من بعض، ويُردّ بعضُهم على بعض بفضل إن بَقي لهم قبل الآخرين. وأحسب أن قائلي هذا القول وَجَّهوا تأويل"العفو" -في هذا الموضع- إلى: الكثرة من قول الله تعالى ذكره: ﴿حَتَّى عَفَوْا﴾ [سورة الأعراف: ٩٥] . فكأنّ معنى الكلام عندهم: فمن كثر له قبَل أخيه القاتل. * ذكر من قال ذلك: ٢٥٩١- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فمنَ عُفي له من أخيه شيء"، يقول: بقي له من دية أخيه شَيءٌ أو من أرش جراحته، فليتبع بمعروف، وليؤدِّ الآخرُ إليه بإحسان. * * * والواجب على تأويل القول الذي روينا عن علي والحسن - في قوله:"كُتب عليكم القصاص" أنه بمعنى: مُقاصّة دية النفس الذكَر من دية نَفس الأنثى، والعبد من الحر، والتراجع بفضل ما بين ديتي أنفسهما - أن يكون معنى قوله: "فمنْ عُفي له من أخيه شيء"، فمن عُفي له من الواجب لأخيه عليه - من قصَاص دية أحدهما بدية نفس الآخر، إلى الرِّضى بدية نفس المقتول، فاتباع من الوليّ بالمعروف، وأداء من القاتل إليه ذلك بإحسان. * * * قال أبو جعفر: وأولى الأقوال عندي بالصواب في قوله:"فمن عُفي له من أخيه شيء": فمن صُفح له - من الواجب كان لأخيه عليه من القود - عن شيء من الواجب، على دية يأخذها منه، فاتباعٌ بالمعروف = من العافي عن الدم، الراضي بالدية من دم وليه = وأداء إليه - من القاتل - ذلك بإحسان. لما قد بينا من العلل فيما مضى قبل: من أنّ معنى قول الله تعالى ذكره:"كُتب عليكم القصاص"، إنما هو القصَاص من النفوس القاتلة أو الجارحة أو الشاجَّة عمدًا. كذلك"العفو" أيضًا عن ذلك. وأما معنى قَوله:"فاتباع بالمعروف"، فإنه يعني: فاتباع على ما أوجبه الله لهُ من الحقّ قبَل قاتل وليه، من غير أن يزداد عليه ما ليس له عليه - في أسنان الفرائض أو غير ذلك [[الفرائض جمع فريضة: وهو البعير المأخوذ في الزكاة، سمى فريضة لأنه فرض واجب على رب المال، ثم اتسع فيه حتى سمى البعير فريضة في غير الزكاة.]] - أو يكلفه ما لم يوجبه الله له عليه، كما:- ٢٥٩٢- حدثني بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: بلغنا عن نبي الله ﷺ أنه قال:"من زاد أو ازداد بعيرًا" - يعني في إبل الديات وفرائضها - فمن أمر الجاهلية. [[الحديث: ٢٥٩٢- هذا حديث مرسل، إذ يرويه"قتادة"، وهو تابعي. ولم أجده في مكان آخر ولا ذكره السيوطي.]] * * * وأما إحسان الآخر في الأداء، فهو أداءُ ما لَزِمه بقتله لولي القتيل، على ما ألزمه الله وأوجبه عليه، من غير أن يبخسه حقًّا له قبله بسبب ذلك، أو يحوجه إلى اقتضاءٍ ومطالبة. * * * فإن قال لنا قائل: وكيف قيل:"فاتباعٌ بالمعروف وأداء إليه بإحسان"، ولم يَقل فاتباعًا بالمعروف وأداءً إليه بإحسان، كما قال: ﴿فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ﴾ [سورة محمد: ٤] ؟ قيل: لو كان التنزيل جاء بالنصب، وكان: فاتباعًا بالمعروف وأداءً إليه بإحسان- كان جائزًا في العربية صحيحًا، على وجْه الأمر، كما يقال:"ضربًا ضَربًا = وإذا لقيت فلانًا فتبجيلا وتعظيمًا"، غير أنه جاءَ رفعًا، وهو أفصح في كلام العرب من نصبه. وكذلك ذلك في كل ما كان نظيرًا له، مما يكون فرضًا عامًّا - فيمن قد فعل، وفيمن لم يفعل إذا فعل- لا ندبًا وحثًّا. ورفعه على معنى: فمن عفي له من أخيه شيء، فالأمر فيه: اتباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسان، أو فالقضاء والحكم فيه: اتباع بالمعروف. وقد قال بعض أهل العربية: رفع ذلك على معنى: فمن عفي له من أخيه شيء، فعليه اتباعٌ بالمعروف. وهذا مذهب، والأول الذي قلناه هو وجه الكلام. وكذلك كلّ ما كان من نظائر ذلك في القرآن، فإن رفعَه على الوجه الذي قُلناه. وذلك مثل قوله: ﴿وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ﴾ [سورة المائدة: ٩٥] ، وقوله: ﴿فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾ [سورة البقرة: ٢٢٩] . وأما قوله: ﴿فَضَرْبَ الرِّقَابِ﴾ ، فإن الصواب فيه النصب، وهو وجه الكلام، لأنه على وجه الحثّ من الله تعالى ذكره عبادَه على القتل عند لقاء العدو، كما يقال:"إذا لقيتم العدو فتكبيرًا وتهليلا"، على وجه الحضّ على التكبير، لا على وجه الإيجاب والإلزام. [[انظر معاني القرآن للفراء ١: ١٠٩-١١٠.]] * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ﴾ قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ذلك"، هذا [[انظر"ذلك" بمعنى"هذا"١: ٢٣٥-٢٣٧ / ثم هذا الجزء ٣: ٣٣٥.]] الذي حكمت به وسَننته لكم، من إباحتي لكم -أيتها الأمة- العفوَ عن القصاص من قاتل قتيلكم، على دية تأخذونها فتملكونها ملككم سائر أموالكم التي كنت مَنعتها مَن قبلكم من الأمم السالفة ="تخفيف من ربكم"، يقول: تخفيف مني لكم مما كنت ثَقَّلته على غيركم، بتحريم ذلك عليهم ="ورحمة"، مني لكم. كما:- ٢٥٩٣- حدثنا أبو كريب وأحمد بن حماد الدولابي قالا حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: كان في بني إسرائيل القصاصُ ولم تكن فيهم الدية، فقال الله في هذه الآية:"كُتب عليكم القصاصُ في القتلى الحر بالحر" إلى قوله:"فمَن عُفي له من أخيه شيء"، فالعفو: أن يقبل الدية في العمد ="ذلك تخفيف من ربكم". يقول: خفف عنكم ما كان على مَنْ كان قبلكم: أن يطلب هذا بمعروف، ويؤدي هذا بإحسان. [[الحديث: ٢٥٩٣- أحمد بن حماد بن سعيد بن مسلم الأنصاري الرازي الدولابي: هو والد"أبي بشر محمد بن أحمد الدولابي" صاحب كتاب الكنى والأسماء. وقد رفعنا نسبه نقلا عن تذكرة الحفاظ ٢: ٢٩١في ترجمة ابنه الحافظ. وأحمد بن حماد هذا: ثقة، ترجمه ابن أبي حاتم١/١/٤٩، فلم يذكر فيه جرحًا، وذكر أن أباه أبا حاتم سمع منه. سفيان: هو ابن عيينة. والحديث رواه عبد الرزاق في تفسيره، ص: ١٦، بنحوه. بإسنادين: عن معمر، عن أبي نجيح، عن مجاهد. وعن ابن عيينة -كالإسناد هنا إلى مجاهد- عن ابن عباس. ورواه البخاري ١٢: ١٨٣ (فتح) ، عن قتيبة بن سعيد، عن سفيان. بهذا الإسناد. وذكره السيوطي١: ١٧٣، وزاد نسبته لسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، والنسائي، وابن أبي حاتم، وابن حبان، وغيرهم. وذكره ابن كثير ١: ٣٩٤، من رواية سعيد بن منصور، عن سفيان. ثم قال: "وقد رواه غير واحد عن عمرو. وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن عمرو بن دينار". فقد سها -رحمه الله- عن أن البخاري رواه في صحيحه، فنسبه لصحيح ابن حبان، ولم يذكر البخاري.]] ٢٥٩٤- حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال، حدثنا أبي قال، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: كان مَنْ قبلكم يقتلون القاتل بالقتيل، لا تقبل منهم الدّية، فأنزل الله:"يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر" إلى آخر الآية،"ذلك تخفيفٌ من ربكم"، يقول: خفف عنكم، وكان على مَنْ قبلكم أنّ الدية لم تكن تقبل، فالذي يَقبل الدية ذلك منه عَفوٌ. ٢٥٩٥- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد بن سلمة قال، أخبرنا عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس:"ذلك تخفيف من ربكم ورحمة" - مما كان على بني إسرائيل، يعني: من تحريم الدية عليهم. ٢٥٩٦- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: كان على بني إسرائيل قصاص في القتل، ليس بينهم دية في نَفس ولا جَرْح، وذلك قول الله: ﴿وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ﴾ الآية كلها [سورة المائدة: ٤٥] ، وخفف الله عن أمة محمد ﷺ، فقبل منهم الدية في النفس وفي الجراحة، وذلك قوله تعالى:"ذلك تخفيفٌ من ربكم" بينكم. ٢٥٩٧- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ذلك تخفيف من ربكم ورحمة"، وإنما هي رحمة رَحم الله بها هذه الأمة، أطعمهم الدية، وأحلَّها لهم، ولم تحلَّ لأحد قبلهم. فكان أهل التوراة إنما هو القصاص أو العفو، وليس بينهما أرْش، وكان أهل الإنجيل إنما هو عفوٌ، أمروا به. فجعل الله لهذه الأمة القوَد والعفو والدية إن شاءوا، أحلها لهم، ولم تكن لأمة قبلهم. ٢٥٩٨- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بمثله سواء، غير أنه قال: ليس بينهما شيء. ٢٥٩٩- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"كتب عليكم القصاص في القتلى" قال، لم يكن لمن قبلنا دية، إنما هو القتل أو العفو إلى أهله. فنزلت هذه الآية في قوم كانوا أكثرَ من غيرهم. ٢٦٠٠- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، وأخبرني عمرو بن دينار، عن ابن عباس قال: إنّ بني إسرائيل كان كتب عليهم القصاص، وخفف عن هذه الأمة - وتلا عمرو بن دينار:"ذلك تخفيف من رَبكم ورحمة". * * * وأما على قول من قال: القصاص في هذه الآية معناه: قصاصُ الديات بعضها من بعض، على ما قاله السدي، فإنه ينبغي أن يكون تأويله: هذا الذي فعلتُ بكم أيها المؤمنون = من قصاص ديات قَتلى بعضكم بديات بعض، وترك إيجاب القوَد على الباقين منكم بقتيله الذي قَتله وأخذه بديته = تخفيفٌ منّي عنكم ثِقْلَ ما كان عليكُم من حكمي عليكم بالقوَد أو الدية، ورحمة مني لكم. * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (١٧٨) ﴾ قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فمن اعتدى بعد ذلك"، فمن تجاوز ما جَعله الله له بعدَ أخذه الدّية، اعتداءً وظلمًا إلى ما لم يُجعل له من قتل قاتِل وليه وسفك دمه، فله بفعله ذلك وتعدِّيه إلى ما قد حرمته عليه، عذابٌ أليم. وقد بينت معنى"الاعتداء" فيما مضى بما أغنى عن إعادته. [[انظر ما سلف ٢: ٣٠٧.]] وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: ٢٦٠١- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فمن اعتدى بعد ذلك"، فقتل،"فله عذابٌ أليم". ٢٦٠٢- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فمن اعتدى"، بعد أخذ الدية،"فله عذاب أليم". ٢٦٠٣- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله:"فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم"، يقول: فمن اعتدى بعد أخذه الدية فقتل، فله عذاب أليم. قال: وذُكِر لنا أن رسول الله ﷺ كان يقول:"لا أعافي رجلا قَتل بَعد أخذه الدية. [[الحديث: ٢٦٠٣- وهذا رواه أيضًا قتادة -التابعي- مرفوعًا، فهو مرسل. وكذلك ذكره السيوطي ١: ١٧٣، عن قتادة، ونسبه للطبري وابن المنذر فقط. وقد روى المرفوع منه - عبد الرزاق في تفسيره، ص: ١٦، عن معمر، عن قتادة مرسلا أيضًا. ثم ذكر السيوطي اللفظ المرفوع، ونسبه لسمويه في فوائده، عن سمره. وقد قصر فيه جدًا، كما قصر في الجامع الصغير: ٩٧٠١، إذ ذكره أيضًا، ونسبه للطيالسي -فقط- عن جابر، يعني جابر بن عبد الله. وحديث الطيالسي -عن جابر-: هو في مسنده: ١٧٦٣، عن حماد بن سلمة، عن مطر الوراق، عن رجل، عن جابر، فذكره مرفوعًا. وقد رواه أحمد في المسند: ١٤٩٦٨، عن عفان، عن حماد بن سلمة: "أخبرنا مطر، عن رجل، أحسبه الحسن، عن جابر بن عبد الله". وكذلك رواه أبو داود في السنن: ٤٥٠٧، عن موسى بن إسماعيل، عن حماد بن سلمة، به. فتقصير السيوطي: أن نسبه للطيالسي وحده، وهو في أحد الكتب الستة ومسند أحمد. وعلى كل حال، فحديث جابر ضعيف، لأن إسناده رجلا مبهمًا، أو رجل شك فيه مطر الوراق. وحديث الحسن عن سمرة، ذكره أيضًا ابن كثير ١: ٣٩٥ قال، "وقال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة. . . "، فذكره مرفوعًا. فهذا إسناد يمكن أن يكون صحيحًا، لو علمنا إسناده إلى سعيد بن أبي عروبة، ومن الذي رواه من طريقه؟ إذا لم أجده بعد طول البحث. ولو وجدناه لكان وصلا لهذا المرسل الذي رواه الطبري من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة.]] ٢٦٠٤- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فمن اعتدى بعد ذلك" قال، هو القتل بعد أخذ الدية. يقول: من قتل بعد أنْ يأخذ الدية فعليه القتلُ، لا تُقبلُ منه الدية. [[الخبر: ٢٦٠٤- رواه الطبري من طريق عبد الرزاق. وهو في تفسيره، ص ١٦، بهذا الإسناد.]] ٢٦٠٥- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم"، يقول: فمن اعتدى بعد أخذه الديةَ، فله عذاب أليم. ٢٦٠٦- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثني أبي، عن يزيد بن إبراهيم، عن الحسن قال، كان الرجل إذا قتل قتيلا في الجاهلية فرَّ إلى قومه، فيجيء قومه فيصالحون عنه بالدية قال، فيخرج الفارُّ وقد أمن على نفسه قال، فيُقتل ثم يُرْمى إليه بالدية، فذلك"الاعتداء". ٢٦٠٧- حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا أبو عقيل قال، سمعت الحسن في هذه الآية:"فمن عُفي لهُ من دم أخيه شيء" قال، القاتلُ إذا طُلب فلم يُقدر عليه، وأُخِذ من أوليائه الدية، ثم أمن، فأخِذ فقُتِل. قال الحسن: ما أكل عُدوانٌ. ٢٦٠٨- حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا هارون بن سليمان قال، قلت لعكرمة: من قتل بعد أخذه الدية؟ قال: إذًا يُقتل! أما سمعت الله يقول:"فمن اعتدى بعدَ ذلك فله عذابٌ أليم"؟ ٢٦٠٩- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فمن اعتدى بعد ذلك"، بعد مَا يأخذ الدية، فيقتل"فلا عذابٌ أليم". ٢٦١٠- حدثني محمد بن سعد قال، حدثنى أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"فمن اعتدى بعد ذلك"، يقول: فمن اعتدى بعد أخذه الدية، فله عذاب أليم. ٢٦١١- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"فمن اعتدى بعد ذلك فله عذابٌ أليم" قال، أخذ العَقْل، ثم قَتل بعد أخذ العقل قاتلَ قتيله، فله عذاب أليم. * * * واختلفوا في معنى"العذاب الأليم" الذي جعله الله لمن اعتدى بعد أخذه الدية من قاتل وليِّه. فقال بعضهم: ذلك"العذابُ" هو القتلُ بمن قتله بعد أخذ الدية منه، وعفوه عن القصاص منه بدم وليِّه. * ذكر من قال ذلك: ٢٦١٢- حدثني يعقوب بن إبراهيم الدورقي قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم" قال، يقتل، وهو العذاب الأليم = يقول: العذاب المُوجع. ٢٦١٣- حدثني يعقوب قال، حدثني هشيم قال، حدثنا أبو إسحاق، عن سعيد بن جبير أنه قال ذلك. ٢٦١٤- حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا هارون بن سليمان، عن عكرمة:"فمن اعتدى بعد ذلك فله عذابٌ أليم" قال، القتلُ. * * * وقال بعضهم: ذلك"العذابُ" عقوبة يعاقبه بها السلطان على قدر ما يَرَى من عقوبته. * ذكر من قال ذلك: ٢٦١٥- حدثني القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني إسماعيل بن أمية، عن الليث = غير أنه لم ينسبه، وقال: ثقة =: أن النبي ﷺ أوجبَ بقسَمٍ أو غيره أن لا يُعفي عن رَجل عَفا عن الدم وأخذ الدية، ثم عَدا فَقتل، قال ابن جريج: وأخبرني عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قال: في كتاب لعمرَ عن النبي ﷺ قال، و"الاعتداء" الذي ذكر الله: أنّ الرجل يأخذ العقلَ أو يقتصُّ، أو يقضي السلطان فيما بين الجراح، ثم يعتدي بعضُهم من بعد أن يستوعبَ حقه. فمن فعل ذلك فقد اعتدى، والحكم فيه إلى السلطان بالذي يرى فيه من العقوبة قال: ولو عفا عنه، لم يكن لأحد من طلبة الحق أن [يعفو] [[الذي بين القوسين، هكذا في الأصل. وصوابه فيما أرجح"أن يقتله". ولم أجد الخبر، ولا كتاب عمر الذي ذكره.]] لأن هذا من الأمر الذي أنزل الله فيه قوله: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ [سورة النساء: ٥٩] . [[الحديث: ٢٦١٥- هو في الحقيقة حديثان، رواهما ابن جريج، ولم أجدهما في مكان آخر. ولكني لا أسيغ لفظهما أن يكون من ألفاظ النبوة، ولا عليه شيء من نورها. وهو بألفاظ الفقهاء أشبه! فأولهما: رواه ابن جريج، عن إسماعيل بن أمية، عن رجل اسمه"الليث": "غير أنه لم ينسبه" - فلا أعرف من"الليث" هذا؟ وأما إسماعيل بن أمية: فإنه ثقة، يروي عن التابعين. مترجم في التهذيب. والكبير ١/٥١/٣٤، وابن أبي حاتم ١/١/١٥٩، ونسب قريش: ١٨٢، وجمهرة الأنساب لابن حزم: ٧٤. وثانيهما: رواه ابن جريج، عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، عن"كتاب لعمر عن النبي ﷺ". والظاهر أنه يريد كتابًا لعمر بن عبد العزيز. ومن المحتمل أن يكون كتابًا لعمر بن الخطاب. وعبد العزيز بن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز: ثقة، وثقه ابن معين وغيره. مترجم في التهذيب. وابن أبي حاتم ٢/٢/٣٨٩.]] ٢٦١٦- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد، عن يونس، عن الحسن: في رجل قُتل فأخذت منه الدية، ثم إن وليَّه قَتل به القاتل. قال الحسن: تؤخذ منه الدية التي أخذ، ولا يُقتل به. [[الخبر: ٢٦١٦- بشر بن معاذ، شيخ الطبري، مضى في: ٣٥٢. ونزيد هنا أنه ثقة معروف، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ١/١/٣٦٨، وذكر أن أباه كتب عنه، وأنه سئل عنه، فقال: "صالح الحديث صدوق". وهو يروي عن قدماء الشيوخ، مثل"حماد بن زيد" المتوفى سنة ١٧٩، وعبد الواحد بن زياد، شيخه هنا، المتوفى تلك السنة. عبد الواحد بن زياد العبدي البصري: أحد الأعلام الثقات. مترجم في التهذيب، والصغير للبخاري: ٢٠٢، وذكر أنه مات سنة ١٧٩، وابن أبي حاتم ٣/١/٢٠-٢١، وابن سعد ٧/٢/٤٤. يونس: هو ابن عبيد بن دينار العبدي، وهو ثقة، من أوثق أصحاب الحسن وأثبتهم. مترجم في التهذيب. والكبير ٤/٢/٤٠٢، والصغير: ١٦٠، وابن سعد ٧/٢/٢٣-٢٤، وابن ابي حاتم ٤/٢/٢٤٢.]] * * * قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بقوله:"فمن اعتدى بعد ذلك فله عذابٌ أليم"، تأويلُ من قال: فمن اعتدى بعد أخذه الدية، فَقتلَ قاتلَ وليه، فله عذاب أليم في عاجل الدنيا، وهو القتل. لأن الله تعالى جعل لكل وليِّ قتيلٍ قُتل ظلمًا، سلطانًا على قاتل وليه، فقال تعالى ذكره ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ﴾ [سورة الإسراء: ٣٣] . فإذ كان ذلك كذلك: وكان الجميع من أهل العلم مجمعين على أن من قَتل قاتلَ وليه بعد عفوه عنه وأخذِه منه دية قتيله، أنه بقتله إياه له ظالم في قتله - كان بَيِّنًا أن لا يولِّي من قَتله ظُلمًا كذلك، السلطانَ عليه في القصاص والعفو وأخذ الدية، أيّ ذلك شاء. [[في هذه العبارة غموض، وأخشى أن يكون قد سقط من الكلام شيء، ولكن المعنى العام ظاهر.]] وَإذا كان ذلك كذلك، كان معلومًا أن ذلك عذابُه، لأن من أقيم عليه حدُّه في الدنيا، كان ذلك عقوبته من ذنبه، ولم يكن به متَّبَعًا في الآخرة، على ما قد ثبت به الخبر عن رسول الله ﷺ. [[كالذي رواه البخاري من حديث عبادة بن الصامت قال: "بايعت رسول الله ﷺ في رهط فقال: أبايعكم على أن لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف. فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فأخذ به في الدنيا، فهو كفارة له وطهور، ومن ستره الله فذلك إلى الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له" (البخاري: كتاب الحدود ٨: ١٦٢) .]] وأما ما قاله ابن جريج: من أن حكم من قَتل قاتل وَليِّه بعد عفوه عنه، وأخذِه دية وليِّه المقتول - إلى الإمام دُون أولياء المقتول، فقولٌ خلافٌ لما دلَّ عليه ظاهرُ كتاب الله، وأجمع عليه علماء الأمة. وذلك أنّ الله جعل لوليّ كل مقتول ظلمًا السلطانَ دون غيره، من غير أن يخصّ من ذلك قتيلا دون قتيل. فسواءٌ كان ذلك قتيلَ وليّ من قتله أو غيره. ومن خص من ذلك شيئًا سئل البرهان عليه من أصلٍ أو نظير، وعُكِس عليه القول فيه، ثم لن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله. ثم في إجماع الحجة على خلاف ما قاله في ذلك، مكتفًى في الاستشهاد على فساده بغيره.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب