الباحث القرآني
(...) ﴿الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ [البقرة ١٧٧] في هذه الآية قراءتان: ﴿لَيْسَ الْبِرُّ أَنْ تُوَلُّوا﴾ و﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا﴾، فأما على قراءة الرفع فإن (البر) تكون اسم (ليس)، و(أن تولوا) خبرها، وكذلك إذا كانت (ليس البرَّ) تكون (البر) خبرها مقدمًا، و(أن تولوا) اسمها مؤخرًا، يعني تقدير الكلام على الأول: ليس البرُّ توليتَكم وجوهَكم، وتقديره على الثاني: ليس البرَّ توليتُكم، بالرفع.
يقول الله عز وجل: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ﴾ والبر هو في الأصل الخير الكثير، ومنه سمي البَرّ؛ لسعته واتساعه، ومنه اسم من أسماء الله ﴿إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ﴾ [الطور ٢٨]، المعنى: ليس الخير وكثرة الخير والبركة أن يولي الإنسان وجهه قبل المشرق، أي: جهة المشرق أو جهة المغرب، وهذا نزل عندما ساء بعضَ الناس تحويلُ النبي ﷺ من بيت المقدس إلى الكعبة، فبيّن الله عز وجل إنه ليس البر أن الإنسان يتوجه إلى هذا أو هذا، ليس هذا هو الشأن، الشأن إنما هو في الإيمان بالله إلى آخره، أما الاتجاه فإنه لا يكون خيرًا إلا إذا كان بأمر الله، ولا يكون شرًّا إلا إذا كان مخالفًا لأمر الله، فأي جهة توجهتم إليها بأمر الله فهي البر. على هذا لا نقول: إن العبرة بالعمل، العبرة بنوع العمل، ما هو نوع العمل؟ هل هو طاعة لله أو ليس بطاعة؟ إن كان طاعة فهو بر وخير، وإلا فليس ببر ولا خير، ولهذا السجود لغير الله كفر وشرك، وفي وقت من الأوقات صار السجود لغير الله عبادة وتركه كفرًا، قتل النفس بغير حق من أكبر الكبائر، وفي وقت من الأوقات صار من أفضل الطاعات، قطيعة الرحم من الكبائر، وفي وقت من الأوقات صارت خيرًا، فإن قتل الأب لابنه من أكبر القطيعة، ومع ذلك حين أمر به إبراهيم صار من أفضل القربات، فالشأن إذن في طاعة الله عز وجل، ليس في العمل الذي تفعل، وإنما المقياس هل هو من أمر الله أو ليس من أمر الله، إذن كوننا نتجه إلى المشرق أو إلى المغرب هذا ليس هو البر، إلا إذا كان اتجاهنا طاعة لله، فحينئذ يكون برًّا.
* طالب: أقول: قطيعة الرحم وأيش مثاله؟
* الشيخ: مثل ذبح الابن.
* طالب: لا غيره قبله؟
* الشيخ: قبله، ذكرنا على سبيل العموم.
* الطالب: قتل النفس؟
* الشيخ: قتل إبراهيم لابنه.
قوله: ﴿الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ﴾، إذا قال قائل: أنتم ذكرتم هذا في تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، وليس هذا قِبَلًا للمشرق ولا للمغرب، وإنما هو للجنوب أو الشمال، أليس كذلك؟ قلنا: بلى، لكن أظهر وأبين الجهات هي جهة المشرق وجهة المغرب؛ لأن جهة المشرق والمغرب ما تخفى على أي إنسان (...) والنصارى يستقبلون المشرق، وكل منهما يقول: إنه هو فاعل البر، فأنزل الله هذه الآية، لكن الأول أصح.
* طالب: (...) وردت..
* الشيخ: لا لا، يعني هذا باعتبار التعبد لله.
* طالب: معنى هذا يا شيخ قبلة النصارى واليهود، قبلة اليهود ﴿وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً﴾ [يونس ٨٧] أيش معنى قبلة؟
* الشيخ: يعني قبلة مستقبلة للناس، يعني افتحوها للناس.
قال: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ﴾ فيها أيضًا قراءتان، وهي: ﴿وَلَكِنِ الْبِرُّ﴾ بالرفع، وعلى هذا فتكون (لكن) عاطفة غير عاملة، والقراءة التي في المصحف ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾ فتكون عاملة. قوله: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾، البر من آمن، كلنا يعرف أن البر عمل، و(من آمن) عامل، فكيف يصح أن يكون العامل خبرًا عن العمل؟ في هذا وجهان؛ الوجه الأول: أن الآية على تقدير مضاف، وتقديره: ولكن البرَّ بِرُّ من آمن بالله واليوم الآخر، ثانيًا: أن الآية على سبيل المبالغة، ولا فيها تقدير مضاف، كأنه جعل المؤمن هو نفس البر، مثلما يقال: رجل عدل، بمعنى عادل. ووجه ثالث: أن نجعل البر بمعنى البارّ: ولكن البارّ، فيكون مصدرًا بمعنى اسم الفاعل، يعني: ولكن البار حقيقة القائم بالبر من آمن بالله، وقوله: ﴿مَنْ آمَنَ﴾ وأيش محلها من الإعراب (مَن)؟ محلها الرفع على كل تقدير، على قراءة التخفيف وعلى قراءة التشديد. قال: ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، آمن به، تقدم أن الإيمان في اللغة بمعنى التصديق، لكنه إذا قُرِن بالباء صار تصديقًا متضمنًا للطمأنينة والثبات والقرار، فليس مجرد تصديق، لو كان بمعنى التصديق المطلق لكان يقال: آمَنَه أي صدَّقه، لكن (آمن به) مضمنة معنى الطمأنينة والاستقرار لهذا الشيء، وإذا عُدِّيت باللام مثل ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ﴾ [العنكبوت ٢٦]، فمعناه أنها ضُمِّنت معنى الاستسلام والانقياد.
قال: ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ﴾، الإيمان بالله يتضمن أربعة أمور: الإيمان بوجوده، والإيمان بربوبيته، والإيمان بألوهيته، والإيمان بأسمائه وصفاته، لا بد من هذا، الإيمان بوجوده، والإيمان بربوبيته، والإيمان بألوهيته، والإيمان بأسمائه وصفاته.
أما الإيمان بوجوده فإنه كما سبق دل عليه الشرع والحس والعقل والفطرة، أو لا؟ طيب، دلالة الشرع عليه واضحة: إنزال الكتب وإرسال الرسل، كل هذه من أين جاءت؟ من الله عز وجل، ودل عليه الحس، دل على وجوده الحس - سبحانه وتعالى - فإننا نسمع ونلمس أن الله سبحانه وتعالى يُدْعَى فيجيب، وهذا دليل حسي على وجوده تبارك وتعالى، كما في سورة الأنبياء وغيرها ﴿وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ﴾ [الأنبياء ٧٦]. ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ﴾ [الأنبياء ٨٣، ٨٤]. إلى آخره كثير، وهذا أيضًا شيء يلمسه الإنسان بنفسه أنه يدعو الله عز وجل بجلب خير له أو دفع شر عنه، فيحس بذلك، أما دلالة العقل على وجود الله عز وجل فما هو؟ ما من حادث إلا وله محدِث كما قال الله عز وجل: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ [الطور ٣٥]، هذا الكون العظيم بما فيه من النظام والتغيرات والأحداث لا بد أن يكون له موجِد محدِث يُحدث هذه الأشياء فهو الله عز وجل، وإلى هذا الدليل أشار الله بقوله: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾. ودل على وجوده الفطرة، فإن الإنسان لو تُرك وفطرته لكان مؤمنًا بالله، والدليل على هذا قوله تعالى: ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ [الإسراء ٤٤]، حتى غير الإنسان مفطور على أنه يعرف الرب عز وجل.
الثاني: الإيمان بربوبيته، وهذا فرع عن الإيمان بوجوده، يعني ليس مجرد وجود الله عز وجل، بل هو رب سبحانه وتعالى يحكم في عباده بما يشاء كونًا وشرعًا، الأحكام الكونية هي ما يتعلق بالإيجاد والخلق، والأحكام الشرعية ما يتعلق بالتنظيم والسَّنّ، يعني يسُنّ لعباده سُنَنًا ويشرع لهم شرائع، هذه أحكام شرعية، فمسألة الأحكام متعلقة بتوحيد الربوبية لا بتوحيد الألوهية؛ لأن الرب معناه هو الذي يتصرف في عباده كما يشاء خَلقًا وحكمًا، فله الخلق والأمر، كما قال الله تعالى: ﴿أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ﴾ [الأعراف ٥٤].
أما الإيمان بألوهيته فهو أن تعتقد أنه لا إله في الوجود يستحق أن يُعبد سوى الله عز وجل، كل الآلهة التي تُعبد من دونه من أنبياء وملائكة وأولياء وأشجار وأحجار ونجوم وشمس وقمر كلها باطلة، ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ﴾ [لقمان ٣٠].
* طالب: ﴿هُوَ الْبَاطِلُ﴾ [الحج ٦٢].
* الشيخ: فيه آيتان.
ففيه أن الله سبحانه وتعالى هو الإله الحق، ولا يكفي كما يفعله كثير من المؤلفين المعاصرين في تقرير التوحيد، وكذلك المتقدمون، لا يكفي أن نقرر التوحيد بتوحيد الربوبية، المتكلمون يقولون: الإله هو القادر على الاختراع، ولو كان هذا معنى (لا إله إلا الله) لكان المشركون موحدين؛ لأن المشركين ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [الزخرف ٨٧]، ولكن الألوهية غير، الألوهية تتعلق بالعبادة، بمعنى أنه لا أحد يُعبد بحق سوى الله عز وجل.
أما الإيمان بأسمائه وصفاته فهو أيضًا من تمام الإيمان بالله عز وجل، تؤمن بكل اسم سمى الله به نفسه، وتؤمن بكل صفة وصف الله بها نفسه، ولا تستنكر أو تشمئز من صفة أثبتها الله لنفسه، أو أثبتها له رسوله ﷺ؛ فإنها حق، كثير من الناس إذا سمع شيئًا من آيات الصفات أو أحاديثها وقُرِّرت له يستنكر ويشمئز، ويظن أنها دالة على التشبيه والتمثيل، فيأخذ بتأويلها وتحريفها إذا لم يمكنه إنكارها، فإن أمكنه إنكارها أنكرها ولا يبالي.
فأهل البدع بالنسبة لما يتعلق بالأسماء والصفات وبغيرها مما يخالفون فيه حتى في مسائل القدر، في مسائل الإيمان، لهم مذهبان، الطريق عندهم كلهم على حد سواء إذا جاءت النصوص على خلاف ما يذهبون إليه إن تمكنوا من إبطالها قالوا: هذه باطلة، هذه ما تصح، كما يقولون: أخبار الآحاد لا تثبت بها العقائد، هذه القاعدة التي من أبطل القواعد يريدون أن يقضوا بها على كل ما جاء من أسماء الله وصفاته في أخبار الآحاد، فإذا وجدوا خبرًا يخالف مذهبهم وطريقتهم البدعية وهو من أخبار الآحاد على طول ما يحتاج لا ينظرون في رواته، ولا في تلقي الأمة له بالقبول، ولا يفكرون في هذا أبدًا، خلاص يشطب عليها، هذا خبر آحاد مخالف لما يُعلم بالضرورة من العقيدة عندهم، فيجب أن يكون باطلًا مكذوبًا.
الطريق الثاني لهم إذا عجزوا عن رد الخبر بأن كان في القرآن أو في متواتر السنة سلّطوا عليه معاول المجاز، كل واحد معه معول، هذا معول خشب، وهذا معول فولاذ، وهذا معول حديد، هذا يقول: مجاز مرسل، وهذا يقول: مجاز عقلي، وهذا يقول: إنه استعارة، وما أشبه ذلك، حتى يقضوا عليه بهذا التحريف، هذه طريقتهم، طريقة أهل البدع ما تخلو من هذا، لكن أهل السنة والجماعة يقولون: ما لنا وللأمر، الذي أخبرنا عن نفسه مَن؟ الله، وهو أعلم بنفسه وأصدق حديثًا من غيره، وهو يريد البيان لخلقه أو التعمية عليهم؟
* الطلبة: البيان.
* الشيخ: البيان، ﴿يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا﴾ [النساء ١٧٦]، فكيف إذا كان الله عز وجل لا يريد إلا البيان لخلقه، وهو سبحانه وتعالى أصدق القائلين وأعلم من نطق بما نطق به، كيف نقول: هذا مجاز، هذا ليس بحق، هذا يجب أن يُصرف؟ الواجب علينا أن نؤمن به ونأخذه على ظاهره.
لكن يجب علينا كما قررناه ونقرره كثيرًا الحذر من أمرين، وهما: التمثيل والتكييف، ما نقول: هذا الظاهر مثل ما نعرفه من نفوسنا، أو كيفية هذا الشيء كذا وكذا، كل هذا أمر باطل لا يجوز اعتقاده، وهذه القاعدة يا إخواننا إذا أخذنا بها استرحنا طردًا وعكسًا؛ استرحنا طردا بحيث ما يخرج عنها شيء، كل الأحاديث أو الآيات الواردة في صفات الله نجريها على هذا، ونقول: هي ثابتة لله لكن بدون تمثيل ولا تكييف، هذا الطرد، العكس ما أحد يعترض علينا يقول: لأيش أوّلتم في كذا وتركتم التأويل في كذا؟ لأن بعض الناس قد يستوحش من بعض الصفات، يستوحش منها كثيرًا، وإن كان يثبت غيرها بنفسٍ منقادة.
كثير من الناس تأتيه مثلًا صفات المعاني يقبلها ويسلّم بها بكل سهولة، لكن تأتيه بعض الصفات التي هي من جنس الأبعاض لنا، ولا نقول: إنها بعض لله؛ لأنه حرام أن نقول هكذا، فتجده يتوقف ويقشعر ويقدم رِجلًا ويؤخر أخرى في إثباتها، والواجب علينا، أيش الواجب؟ أن نسلّم له، فنقول: لا فرق بين هذا وهذا، ونؤمن بأن هذا الذي أخبر الله به عن نفسه لا يشبه ولا يماثل صفات المخلوقين، وبهذا نستريح، والحمد لله أن الشيء الذي لا يليق بالله يبينه الله ورسوله، الشيء الذي لا يليق به يُبَيَّن ما يترك هكذا، لما قال الله لعبده: «إِنِّي اسْتَطْعَمْتُكَ وَلَمْ تُطْعِمْنِي، وَاسْتَسْقَيْتُكَ وَلَمْ تَسْقِنِي، وَمَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي»[[أخرجه مسلم (٢٥٦٩ / ٤٣) من حديث أبي هريرة.]]، هذا وأيش ظاهره؟ ظاهره أنه لا يليق بالله عز وجل أن يستطعم أحدًا وهو يُطعِم ولا يُطْعَم، أو أن يستسقي أحدًا، أو أن يمرض، ما هذا ظاهره؟
* الطلبة: بلى.
* الشيخ: ولهذا لما كان هذا ظاهره بيّن الله تعالى أنه ليس بمراد، إذا قال له عبده: «كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا مَرِضَ؟ فَلَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ، كَيْفَ أُطْعِمُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا اسْتَطْعَمَكَ؟ فَلَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي، كَيْفَ أَسْقِيكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ فَقَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلَانًا اسْتَسْقَاكَ فَلَمْ تَسْقِهِ؟ أَمَا أَنَّكَ لَوْ سَقَيْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي». شوف الآن بيّن، الشيء الذي ما يليق بالله يبيَّن، والشيء الذي أثبته الله لنفسه يبقى على ما هو عليه.
هذه القاعدة اللي هي الحكم الرابع من الإيمان بالله اختلف فيها أهل الملة؛ فمنهم السلف، وهم فقط أهل السنة الجماعة، أثبتوها لله تعالى على ظاهرها على ما يليق بالله عز وجل، ونفوا عنها التمثيل والتكييف، وبعض الناس أنكرها، صار يؤمن بالأسماء دون الصفات، وبعضهم يؤمن بالأسماء وبعض الصفات دون بعض، وبعضهم ينكر الأسماء والصفات، وبعضهم لا يصف الله تعالى لا بالإثبات ولا بالنفي، وهذا شيء معروف عند من يتكلمون في هذه الأمور، المهم أن الإيمان بالله يتضمن أربعة أمور: الإيمان بوجوده، وربوبيته، وألوهيته، وأسمائه وصفاته، نعم.
الثاني: ﴿وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، ﴿يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾، اليوم الآخر هو يوم القيامة، وسُمِّي آخرًا لأنه ليس بعده يوم؛ إذ هو يوم مستمر ما فيه لا ليل ولا نهار، ولا شمس ولا قمر، ولا شيء، يوم دائم مستمر، فلذلك سمي اليوم الآخر.
الإيمان باليوم الآخر يتضمن الإيمان بكل ما أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام مما يكون بعد الموت كما قاله شيخ الإسلام في العقيدة الواسطية ، يتضمن الإيمان بكل ما أخبر به النبي ﷺ مما يكون بعد الموت، فيدخل في ذلك فتنة القبر وعذاب القبر ونعيم القبر وحشر الناس حفاة عراة غرلًا، والحساب والميزان والصراط والحوض والشفاعة، وغير ذلك مما أخبر الله به أنه يكون يوم القيامة داخل في هذا، كل ما أخبر الله به مما يكون بعد الموت فإنه داخل في الإيمان باليوم الآخر، والإيمان باليوم الآخر كما يتضمن ذلك فإن كل مَن آمن بالشيء استعد له، ولّا لا؟ فالذي يقول: إنه مؤمن باليوم الآخر لكن ما يستعد له هذه الدعوى منه ناقصة، ومقدار نقصها بمقدار ما خالف في الاستعداد له.
كما أنه لو قيل مثلًا: إنه سينزل اليوم مطر، فظلِّل الحَبّ، إنسان عنده حب قمح قيل له: سينزل اليوم مطر، فظلل الحب، معلوم أن اللي ما هو مؤمن بهذا الكلام ما هو مغطي، كذلك لو قيل: سيأتي اليوم عدو فشدِّد في الحراسة، إذا آمن بأنه سيجي عدو شدَّد في الحراسة بجميع ما يمكن، إذا لم يؤمن ما يهمه، ولا شك أن الإنسان المخالف لما أمر الله به ورسوله أن عنده نقصًا في الإيمان باليوم الآخر، ولهذا كثيرًا ما يقرن الله سبحانه وتعالى الإيمان باليوم الآخر بالإيمان به في القرآن، يقرن ذلك كثيرًا، مما يدل على أن الإيمان باليوم الآخر يستلزم الإيمان بآيات الله عز وجل.
(...) والشفاعة والصراط والجنة والنار كل هذا داخل في اليوم الآخر.
قال: ﴿وَالْمَلَائِكَةِ﴾، الإيمان بالملائكة، الملائكة جمع (ملَك) وأصل (ملَك) (مَلْأَك)، وأصل (مَلْأَك) (مَأْلَك)؛ لأنها مأخوذة من (الْأَلُوكة) وهي الرسالة، هكذا يقولون اللغويون، فصار فيها إعلال بالحذف وبالقلب، وجُمِعت على أيش؟ ملائكة، والملائكة هم عباد من عباد الله سبحانه وتعالى خلقهم الله سبحانه وتعالى من نور، وسخرهم لعبادته ليلًا ونهارًا، ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ﴾ [الأنبياء ٢٠]، وهم أجسام ذوو عقول، الدليل على ذلك قوله تعالى: ﴿جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ﴾ [فاطر ١]، والأجنحة أجسام ولّا لا؟ أجسام، جبريل عليه الصلاة والسلام رآه النبي عليه الصلاة والسلام على صورته وله ست مئة جناح سد الأفق[[متفق عليه؛ أخرجه البخاري (٣٢٣٢)، ومسلم (١٧٤ / ٢٨٠) من حديث ابن مسعود، واللفظ للترمذي (٣٢٧٨) من حديث عائشة.]]، وجاءه على صورة رجل[[متفق عليه؛ أخرجه البخاري (٥٠)، ومسلم (٩ / ٥) من حديث أبي هريرة.]]، وعلى صورة دحية الكلبي[[أخرجه أحمد في المسند (٥٨٥٧) من حديث ابن عمر.]]، وكل هذا يدل على أنهم أجسام، ولهم عقول؟
* طالب: نعم.
* الشيخ: ما في شك، نعم، ولهذا ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ﴾ [الأنبياء ٢٠]، ولو كان ما لهم عقول كما قاله بعض الزائغين لكان هذا أكبر قدح في رسالة الرسل كلهم؛ إذ إنه يكون الواسطة بينهم وبين الله مجنونًا لا عقل له، ولا أكبر من هذا القدح - والعياذ بالله- في الرسل وفيمن أرسلهم أيضًا، ولّا لا؟ كيف يأتمن على وحيه مَن ليس له عقل؟ فهو قدح في الله، وقدح في الملائكة، وقدح في الرسل، والعياذ بالله.
ومن الغرائب أن هذه شاعت في أوساط بعض الناس، وقالوا: إنهم ليسوا أجسامًا وليس لهم عقول، وهذا لا شك أنه قول باطل من أبطل الأقوال، والصواب بلا ريب أن لهم عقولًا، وأنهم أجسام، لكن الله سبحانه وتعالى أعطاهم قوة ونفوذًا أشد من نفوذ الجن، الجن لهم قوة ونفوذ، الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، والملَك أشد، ﴿قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ﴾ [النمل ٣٩]، و﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ [النمل ٤٠]، فجاءت به الملائكة من سبأ إلى الشام قبل أن يرتد إليه طرفه، عرش عظيم، وهذا دليل على أن الملائكة أقوى وأشد نفوذًا من الجن، على ما للجن من نفوذ، اللي يشوف سرعتهم يصعدون إلى السماء ويقعدون مقاعد للسمع، فالحاصل أن الملائكة لا شك أنها أجسام، وأن لهم عقولًا، وأنهم يأتمرون بأمر الله عز وجل، وأنهم يسجدون له، ﴿وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ [النحل ٤٩].
* طالب: لهم شهوة يا شيخ؟
* الشيخ: إي لهم شرائع.
* الطالب: لهم شهوة؟
* الشيخ: إي ما أظن.
واعلم أن الملائكة عليهم الصلاة والسلام منهم مَن عُيِّن لنا وعرفناه باسمه، ومنهم من لم يُعَيَّن، فمن عُيِّن لنا وجب علينا أن نؤمن باسمه مثل؟
* طالب: جبريل عليه السلام.
* الشيخ: إي.
* طالب: إسرافيل.
* الشيخ: إسرافيل، وأيش بعد؟
* طالب: ومالك.
* الشيخ: ومالك خازن النار.
* طالب: ومنكر ونكير.
* الشيخ: ومنكر ونكير إن صح الحديث بهذا اللفظ، وفيه نظر.
* طالب: ميكال.
* الشيخ: إي، هو ميكال هو ميكائيل.
* طالب: هو نفسه مالك؟
* الشيخ: لا لا، مالك خازن النار.
* طالب: وملك الموت.
* الشيخ: وملك الموت لكن ما نعرف اسمه، بعض الناس يقول: عزرائيل ولكن ما صح هذا.
* طالب: هاروت وماروت ملكين.
* الشيخ: نعم ﴿وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ﴾ [البقرة ١٠٢] صح، صحيح نعم.
* طالب: تقول: مالك يا شيخ هو خازن النار وليس هو ميكال، بس ورد في حديث أن الرسول ﷺ سأل جبريل: «مَا لِي لَا أَرَى مِيكَالَ يَضْحَكُ»[[رواه أحمد في مسنده (١٣٣٤٣) من حديث أنس بن مالك، ولفظه: «مَا لِي لَمْ أَرَ مِيكَائِيلَ ضَاحِكًا قَطّ؟». قال: «مَا ضَحِكَ مِيكَائِيلُ مُنْذُ خُلِقَتِ النَّارُ».]]؛ لأنه لم يضحك قط.
* الشيخ: إي تأكد منه، تأكد منه، مفهوم هذا؟ طيب، اللي علِمناه باسمه يجب علينا أن نؤمن به باسمه، ثم كذلك أعمالهم منهم من علمنا أعماله ومنهم من لم نعلم، لكن علينا أن نؤمن على سبيل الإطلاق بأنهم عباد مُكرَمون ممتثلون لأمر الله عز وجل، طيب هل لهم نصيب من تدبير الخلق بغير إذن الله؟ لا، لكن بإذن الله نعم، الموكَّل بالقطر والنبات، موكل بنفخ الصور، وفيه ملائكة موكلة بالأجنة، وملائكة موكلة بكتابة أعمال بني آدم، وملائكة موكلة بحفظ بني آدم ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ﴾ [الرعد ١١]، لكن كل هذا بأمر الله عز وجل وبإذنه، وليس لهم أي شيء في الكون منازعة لله عز وجل ولا معاونة، ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (٢٢ ) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾ [سبأ ٢٢، ٢٣]، فنفى جميع ما يتعلق به المشركون، ﴿لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ﴾ انفرادًا، ﴿وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ﴾ مشاركة، ﴿وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ﴾ معاونة، ﴿وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾ شفاعة ووساطة، ثم قال: ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ﴾ [سبأ ٢٣] من هم؟ الملائكة، وهم الملائكة إذا سمعوا الوحي صعقوا، فليس لهم أي شيء في التصرف في الكون، لكنهم يمتثلون أمر الله عز وجل.
* طالب: شيخ، من قال: إنه لا بد أن نؤمن أن من الملائكة من ليسوا بأجسام؟
* الشيخ: ما يجوز.
* الطالب: بأن يقول: الملك الموكل بأن يكتب عملك يقول ما نراه، والملائكة الذين..؟
* الشيخ: حتى جبريل ما نراه، وغير جبريل ما نراه، يجيء جبريل ويلقي الوحي على الرسول عليه الصلاة والسلام وهم ما يرونه، أن ما ترى، كل الذي لا ترى لا يكون جسمًا؟
* الطالب: لا، نقول: ممكن أن..
* الشيخ: لا ما نقول: ممكن، كل الملائكة كلهم أجسام.
* الطالب: ما يمكن أن يتحولوا عن صورتهم؟
* الشيخ: لا، يمكن، بإذن الله يتحولون، هذا جبريل تحوّل إلى صورة إنسان.
* طالب: يعني ممكن أن يتحولوا يقولون ليس..
* الشيخ: بإذن الله.
* الطالب: بإذن الله.
* الشيخ: ما أدري عن هذه، لكن ما أظنه يمكن.
* الطالب: لأنه الملائكة الذين يكونون معنا في المسجد ليسوا بأجسام؟
* الشيخ: إي نعم، ما هو بلازم تشاهدهم، الآن الجن أجسام يأكلون ويشربون ويبولون، ويبولون بأذن اللي ما يقوم يصلي الفجر، ومع ذلك تشوفهم؟
* الطالب: نقول: أجسام حسية؟
* الشيخ: أجسام حسية، لكن ما تشوفهم، الآن فيما بين أيدينا كما يقول الأطباء يقول: في هذا ممتلئ، الجو ممتلئ جراثيم وما جراثيم وأشياء ما عاد نصدقهم ولّا نكذبهم.
* الطالب: لا هذا نراه بأعيننا.
* الشيخ: إي لكن بس هل تراه بالعين المجردة؟
* الطالب: لو جعلت ثقب الشمس يدخل في غرفة مظلمة.
* الشيخ: لا ما هم دولا ما هذا جراثيم، هذا هباء، المهم على كل حال هم محجوبون عنا، الرسول ﷺ خرج من عند قريش وهم قريش يشوفون ﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ [يس ٩].
* الطالب: بس لا ترى يا شيخ أن الجسم لا بد أن يكون محسوسًا؟
* الشيخ: نعم نقول: هو محسوس، لكن ما يلزم من كونه محسوسًا أن نشاهده.
* طالب: إذن ما يكون جسمًا.
* الشيخ: أعوذ بالله سبحان الله، يمكن يصير جسم لكن ما نراه، الله على كل شيء قدير.
* طالب: قوله يا شيخ: ﴿قَعِيدٌ﴾ [ق ١٧] ما يدي معنى الجسم؟ قعيد يعني قاعد.
* الشيخ: ما فيه شك، الأدلة واضحة، واضحة جدًّا ما فيها إشكال، ولا أيضًا يعني ربما يشكل علينا قول الرسول ﷺ: «يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ»[[متفق عليه؛ أخرجه البخاري (٢٠٣٩)، ومسلم (٢١٧٥ / ٢٤) من حديث صفية.]] أكثر من أنهم عندنا ولا نشاهدهم، وكيف يدخل في الإنسان يجري منه مجرى الدم وهو ما يحس به، ولكن يجب علينا نصدق، نقول: هذه، الآن روحك تجري منك مجرى الدم كل عظم كل عصب وكل لحم، وتُنزع منك عند الموت ومع ذلك تشوفها ولّا لا؟
* طالب: نعم نراها.
* الشيخ: ترى إذا مات الإنسان رآها، لكن قبل ما يراها ولا يحس بها إذا دخلت عند الاستيقاظ، ولا يحس بها إذا خرجت عند النوم.
* طالب: ما نعلل ذلك بأنه ضعف قوة البصر بالنسبة للمخلوق؟
* الشيخ: لا لا، يمكن ضعف، المهم أنهم محجوبون عنا وهم أجسام، المهم أنهم محجوبون عنا، لو يجيء أقوى الناس بصرًا وبأكبر مكبر ومجهر ما رآهم أبدًا.
طيب الملائكة إذن عرفنا أنهم مخلوقون من نور، وبهذا نعرف أن الشيطان ليس منهم؛ لأن الشيطان خُلق من نار لا من نور بنص القرآن والسنة وإجماع المسلمين، قال الله تعالى عن إبليس: إنه قال لربه: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ [الأعراف ١٢]، وقال الله عز وجل: ﴿وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ﴾ [الحجر ٢٧]، وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن «الملائكة خُلِقت من نور، وأن الجن خُلِقوا من نار، وأن آدم خُلِق مما وُصِفَ لنا »[[أخرجه مسلم (٢٩٩٦ / ٦٠) من حديث عائشة.]] من التراب.
يبقى الإشكال في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة ٣٤]، وقد تقدم لنا في التفسير أن هذا الاستثناء منقطع، وأن إبليس كان منهم في المجتمع، مجتمِع بهم، فوُجِّه الخطاب إلى الملائكة وهم لا يحصيهم عددًا إلا الله، والشيطان واحد منهم، والواحد قد يوجَّه الخطاب للجماعة وهو منهم وإن لم يكن من جنسهم، العرب يقولون: جاء القوم إلا حمارًا، مع أن الحمار ما هو من جنس القوم، فالمهم أنه يوجه الكلام إلى الجماعة وإن كان فيهم واحد من عدد لا يحصيه إلا الله عز وجل.
وقوله: ﴿وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ﴾، الكتاب المراد به الجنس، فيشمل كل كتاب أنزله الله عز وجل، واعلم أنه ما من رسول إلا معه كتاب، الدليل ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ﴾ [الحديد ٢٥]، أنزلنا معهم مع هؤلاء الرسل الذين أُرسلوا بالبينات، فما من رسول إلا معه كتاب، أما النبي فقد لا يكون معه كتاب، بل الظاهر أنه لا كتاب معه؛ لأنه يحكم بشريعة من قبله، ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا﴾ [المائدة ٤٤]، ﴿بِهَا﴾: بالتوراة، ﴿النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا﴾، والكتب المعروفة لدينا هي خمسة.
* طالب: (...).
* الشيخ: أربعة؟ نعد: التوراة، والإنجيل، والزبور، والقرآن، صحف إبراهيم، وصحف موسى، صحف موسى اختلف العلماء هل هي التوراة ولّا غيرها، فمنهم من قال: إنها غيرها، ومنهم من قال: إنها هي، على كل حال الخمسة ما فيها إشكال، والسادس؟
* طالب: الزبور.
* الشيخ: عددناه.
* الطالب: المزامير.
* الشيخ: المزامير عبارة عن فصول من الزبور.
طيب، وأما ما لم نعلم به فنؤمن به أيش؟
* الطلبة: إجمالًا.
* الشيخ: إجمالًا، فتقول بقلبك ولسانك: آمنت بكل كتاب أنزله الله على كل رسول، ثم إن المراد أن تؤمن بأن الله أنزل على موسى كتابًا يسمى التوراة، وعلى عيسى كتابًا يسمى الإنجيل، وعلى داود كتابًا يسمى الزبور، أما أن تؤمن بالموجود منها الآن فليس بواجب عليك، لماذا؟ لأنه محرَّف ومغيَّر ومبدَّل، لكن تؤمن بأن له أصلًا نزل على هؤلاء الأنبياء، وثانيًا..
* طالب: نقول: لا يجب الإيمان بها ولّا ينبغي عدم الإيمان بها؟
* الشيخ: نعم، نؤمن بالأصل.
* الطالب: لا، التي هي الآن.
* الشيخ: اللي الآن، نعم، اللي الآن ما يجب علينا أن نؤمن بها، ولكننا نؤمن بأن لها أصلًا، أما بكل ما فيها لا، فيها تحريف، ولهذا قلنا: إننا نؤمن بأن الله أنزل على موسى كتابًا يسمى التوراة، أما التوراة التي في أيدي اليهود الآن فإنها محرفة ومغيرة، وإلا أصلها لا شك أنه حق، طيب، هذا الإيمان بهذه الكتب هل يلزمنا العمل بما فيها؟ أو ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة ٤٨]؟
* الطلبة: الثاني.
* الشيخ: الثاني، الثاني هو الذي يجب على المؤمن، فنحن نؤمن بأنها حق، وأن العمل بها واجب مفروض ما دامت رسالة النبي الذي أُرسل بها باقية، فإذا نُسخت بشريعة أخرى صار العمل للشريعة الثانية، ثم إذا نُسخت الثانية صارت العمل بالثالثة، وهكذا، ولهذا النصارى الآن بعضهم، بعض بسطائهم، يقولون: أيما أول؟ يعني نحن حصل لنا معهم محاضرة وأوردوا هذا السؤال، أيما أول الإنجيل أو القرآن؟ وأيش الجواب؟
* الطلبة: الإنجيل.
* الشيخ: الإنجيل، لكن وأيش الغاية من هذا السؤال؟ يقولون: إذن العمل على الأول، هذا وارد، فالعمل على الأول، نقول بكل بساطة..
* طالب: العمل بالتوراة.
* الشيخ: نعم مثل ما قلت، بكل بساطة إذا قررتم هذه القاعدة فلا عمل أيضًا بالإنجيل، العمل بالتوراة، وكذلك نرتقي إلى أن نصل إلى آدم، فالمهم على كل حال أن الأمر بالعكس في الحقيقة؛ أن المتأخر ناسخ للأول، ولا عكس، اختلف أهل العلم رحمهم الله فيما جاء في هذه الكتب من الشرائع الصحيحة إذا لم يرد شرعنا بخلافها، أما إذا ورد شرعنا بخلافها فبإجماع المسلمين أن العمل بما جاء به شرعنا، لكن إذا وُجد في التوراة أو الإنجيل شيء لم يرد شرعنا بخلافه فهل يجب علينا أن نعمل به وأنه شرع لنا أو لا يجب؟ فقال بعض أهل العلم: إنه لا يجب؛ لأن الله تعالى قال في القرآن: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ [المائدة ٤٨] وقال تعالى: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ [النحل ٨٩]، فلسنا بحاجة إلى شرعهم ولا يلزمنا أن نعمل به ما دام ليس في القرآن ما نعمل به وإن كان لا يخالف القرآن، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: «كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِئَةَ شَرْطٍ»[[متفق عليه؛ أخرجه البخاري (٤٥٦)، ومسلم (١٥٠٤ / ٦)، وابن ماجه (٢٥٢١) من حديث عائشة، واللفظ له.]]، وقال بعض أهل العلم: بل يجب علينا أن نعمل بما في التوراة والإنجيل وغيرها من الكتب السابقة إذا لم يرد شرعنا بخلافها، واستدلوا بقوله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ [الأنعام ٩٠]، فقال: إن الله أمر النبي عليه الصلاة والسلام أن يقتدي بهداهم، وفعلًا الرسول أشار إلى هذا، إلى شيء من ذلك، فقال: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ صِيَامُ دَاوُدَ كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا، وَأَفْضَلُ الْقِيَامِ قِيَامُ دَاوُدَ كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ»[[متفق عليه؛ أخرجه البخاري (٣٤٢٠)، ومسلم (١١٥٩ / ١٨٩) من حديث عبد الله بن عمرو بلفظ: «أَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ... وَأَحَبُّ الصَّلَاةِ إِلَى اللَّهِ...». ]]، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يفعل ذلك أكثر أحيانه، ينام في السحر ويقوم في ثلث الليل، فقالوا: الرسول عليه الصلاة والسلام أرشد إلى هذا، ثم إنه إذا لم يرد شرعنا بخلافه ما صار مخالفًا لشرعنا، وهو من عند الله، فيجب أن نعمل به، وهذا القول أصح من حيث النظر، لكنه يبقى الإشكال فيما يوجد الآن من الكتب السابقة، كيف الإشكال؟
* طالب: محرفة.
* الشيخ: إي نعم، الشك في صحته، هذا هو الذي يوجب للإنسان أن يتوقف، ومن هنا نعرف خطأ من يأتي أحيانًا بشيء من التوراة أو من الإنجيل أو من الزبور يريد أن يرغّب به الناس في العمل، فإن هذا خطأ ولا سيما في هذا الوقت الذي التبس على بعض الناس الأمر، صار بعض الناس يجيب من نصوص الإنجيل، وإذا جاء بها حجة على النصارى لا بأس، لكن أحيانًا يجيء بها ليقرر ما في القرآن، كأن القرآن في حاجة إلى أن يشهد له ما في الكتب السابقة، وليس بحاجة، لا سيما عند عامة الناس، العلماء قد ينتفعون من هذا في الحقيقة ولا سيما في المناظرات، مناظرات النصارى، لكن العامة ما ينبغي أبدًا أن نجعل في قلوبهم إلا شيئًا واحدًا، وهو القرآن، والسنة طبعًا؛ لأنها من القرآن مبينة له ومفسرة، كوننا نُدخل على العامة أشياء من هذا يلبّس عليهم الأمر ويظنون أن هذا الأمر أو أن هذا الدين ما زال قائمًا، دين غير المسلمين، وهذا خطره عظيم، وقد لمسنا خطره الآن، فأصبح بعض الناس يقولون: إن الأديان ما هي إلا أفكار كفكر أرسطوطاليس وغيرهم من هؤلاء القوم الفلاسفة، أفكار وكلٌّ له فكره وكل له رأيه، ولا ينبغي أن ننكر على أحد، وهذا تراه شيئًا علمنا به من هؤلاء الجهال الذين ما عرفوا أن الدين الإسلامي دين من الله تعبَّدَنا اللهُ به وليس لنا فيه رأي، ولّا لأ؟ هل هو فكر؟ لا، شيء أنزله الله لعباده يتعبدون له به عقيدة وقولًا وعملًا، كل العباد وليس هناك مجال لاجتهاد يخالف هذا الدين.
﴿الْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾، (النبيين) عليهم الصلاة والسلام يدخل فيهم الرسل هنا ولّا لا؟ يدخل فيهم الرسل بلا شك ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ﴾ [النساء ١٦٣] إلى آخره، فعند الإطلاق إذا أُطلق النبيون دخل فيهم الرسل، أما الرسل لا يدخل فيهم النبيون. قوله: ﴿النَّبِيِّينَ﴾ يشمل الرسل، وقد ورد في حديث صححه ابن حبان «أَنَّ عِدَّةَ الرُّسُلِ ثَلَاثُ مِئَةٍ وَبِضْعَةَ عَشَرَ رَسَولًا، وَأَنَّ عِدَّةَ الْأَنْبِيَاءِ مِئَةٌ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا»[[أخرجه أحمد في المسند (٢٢٢٨٨) من حديث أبي أمامة.]]، فإن صح الحديث فهو خبر معصوم يجب علينا الإيمان به، وإن لم يصح فإن الله يقول: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ﴾ [غافر ٧٨]، ونحن لا نكلَّف الإيمان إلا بما بلغنا، فالذين علمناه من الرسل يجب علينا أن نؤمن بهم بأعيانهم، والذين لم نعلمهم نؤمن بهم إجمالًا، ﴿كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ [البقرة ٢٨٥].
* طالب: الحديث ما يخالف الآية يا شيخ؟
* الشيخ: لا، ما يخالف الآية.
* الطالب: (...) ﴿مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ﴾؟
* الشيخ: إي، ما قُصُّوا علينا لكن عُلم عددهم، علم العدد لا يدل على القصة، طيب الآن يمكن نشوف القرآن، كم في القرآن من رسول؟
* طالب: خمسة عشر.
* طالب: ثمانية عشر.
* الشيخ: أو خمس وعشرون.
* طالب: خمس وعشرون.
* الشيخ: خمس وعشرين؟ إي.
* طالب: خمس وعشرون نبيًّا.
* الشيخ: خمس وعشرون رسولًا، أو لا؟ ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ﴾، ﴿وَوَهَبْنَا لَهُ﴾: لإبراهيم إسحاق ويعقوب، ﴿وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام ٨٤ - ٨٦]، بس كام دوله؟
* الطلبة: ثمانية عشر.
* الشيخ: ثمانية عشر، طيب من بقي؟
* طالب: آدم.
* الشيخ: آدم نبي وليس برسول.
* طالب: شعيب وصالح.
* الشيخ: شعيب وصالح، هود ومحمد.
* طالب: وإدريس.
* الشيخ: إدريس موجود.
* طالب: لا.
* الشيخ: إدريس ما هو موجود؟
* طالب: ما هو موجود في الآية.
* الشيخ: ما هو موجود في الآية؟ طيب إدريس وذو الكفل.
* طالب: وإلياس.
* الشيخ: وإلياس موجود، موجود عددناه، هم خمس وعشرون، ومحمد عليه الصلاة والسلام.
* طالب: عددناه.
* الشيخ: محمد؟ لا ما عددناه.
﴿آتَى الْمَالَ﴾ آتى بالمد بمعنى أعطى، إذن هي تنصب مفعولين، المفعول الأول: ﴿الْمَالَ﴾، والمفعول الثاني؟
* طالب: ﴿عَلَى حُبِّهِ﴾.
* الشيخ: لا، ﴿ذَوِي الْقُرْبَى﴾ وما عطف عليه.
وقوله: ﴿آتَى الْمَالَ﴾ المال: كل عين مباحة النفع بلا حاجة، هذا مال، أو إن شئت قل: بحاجة، أيضًا، كل عين مباحة النفع فهو مال، سواء كان هذا المال نقدًا أو ثيابًا أو طعامًا أو عقارًا أو أي شيء.
وقوله: ﴿عَلَى حُبِّهِ﴾ هذه الجار ومجرور حال من فاعل ﴿آتَى﴾، يعني: حال كونه محبًّا له، محبًّا له لحاجته فيه أو لتعلق نفسه به ولو بدون حاجة، أيهم؟
* طالب: تعلق نفسه به.
* الشيخ: أو لحاجة، لكن كلهم؛ لأنك قد تحب المال لأنك محتاج إليه، كما لو كان عند الإنسان بطانية في زمن الشتاء يحبه؛ لأنه محتاج إليه أو سيارة موديل ثلاثة وسبعين.
* طالب: (...).
* الشيخ: لا، ثلاثة وسبعين، موديل ثلاثة وسبعين، كفراتها بدأت تتفطر، ولا تمشي إلا بدفع، لكنه محتاج لها، هذا ما هو برغبته فيها، اللي جعله يرغب يحبه ما هو؟
* طالب: الحاجة.
* الشيخ: الحاجة، أو إنسان عنده سيارة موديل خمس وثمانين من أفخم سيارات العالم وعنده غيرها سيارات كثيرة، هذه يحبها لأيش؟ لتعلق نفسه بها، صح ولَّا لا؟ كان ابن عمر -رضي الله عنه وعن أبيه- إذا أعجبه شيء في ماله تصدق به، وقال: إن الله يقول: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [[أخرجه أبو نعيم في الحلية (١ / ٢٩٤)، من حديث نافع عنه بلفظ كان ابن عمر إذا اشتدّ عجبُهُ بشيء من ماله قرّبه لربه عز وجل.]] [آل عمران: ٩٢]، وهذا طبق الآية اللي معنا ﴿وَآتَى الْمَالَ﴾ الآية يتكلم الله فيها عن البر ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾، فهو يحبه لحاجته إليه أو لتعلق نفسه به، فيعطيه هؤلاء المحتاجين إليه، وأبو طلحة لا يخفى على الجميع ماذا فعل لما سمع هذه الآية تصدق ببستانه، اللي هو أغلى شيء عنده فيما أظن، لا لأنه بستانه فقط، ولكن لأن الرسول ﷺ كان يأتي إليه ويشرب فيه من ماء طيب، وقريبة من مسجد الرسول ﷺ، أنا أعتقد أن إنسانًا يجيء الرسول عليه الصلاة والسلام إلى بستانه ويشرب فيه من الماء الطيب، وأيش يصير بستانه عنده؟ رخيص ولا غالي؟
* الطلبة: غالي.
* الشيخ: غالي جدًّا، يعني: أن الرسول يجيء إلى هذا البستان شيء يوجب أن رسول الله عليه الصلاة والسلام يجيء إلينا، هذا أحب إلينا من كل شيء من المال، ومع ذلك «لما نزلت الآية ذهب به إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وقال: يا رسول الله، هو صدقة إلى الله ورسوله، فضعه حيث أراك الله، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام:«بَخٍ بَخٍ ذَاكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَاكَ مَالٌ رَابِحٌ» »[[متفق عليه؛ البخاري (١٤٦١)، ومسلم (٩٩٨ / ٤٢)، من حديث أنس رضي الله عنه بلفظ: «بَخ، ذلك مالٌ رابح، ذلك مال رابح».]]، صدق الرسول عليه الصلاة والسلام، هذا الربح، لو اشتراه بمليون وباعه بعشرة ملايين ربح أو لا؟
* الطلبة: نعم.
* الشيخ: لكن أيها أربح ولَّا هذا؟ هذا أربح بكثير، إلى سبع مئة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ثم قال: «أَرَى أَنْ تَجْعَلَهُ فِي الْأَقْرَبِينَ».
المهم أن ﴿آتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾ لماذا اشترط أن يكون على حبه؟ لأن اللي يأتي على غير حبه كلٌّ يبذل ما يهم الواحد..
* طالب: بس فيه مشقة.
* الشيخ: لا، ما فيه مشقة، كلن يبذل، ثم إنه يدخل أيضًا في قوله: ﴿عَلَى حُبِّهِ﴾ أن يكون في حال الصحة، وفي حال الإشفاق على المال، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في خير الصدقة وأفضلها: «أَنْ تَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ».
* طالب: «تَخْشَى الْفَقْرَ، وَتَأْمُلُ الْغِنَى».
* الشيخ: «تَخْشَى الْفَقْرَ، وَتَأَمُلُ الْبَقَاءَ» »[[أخرجه مسلم (١٠٣٢ / ٩٣)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.]]، البقاء هذا اللفظ الصحيح، ولًّا فيها «الْغِنَى» »[[متفق عليه؛ البخاري (١٤١٩)، ومسلم (١٠٣٢ / ٩٢)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.]]، لكن «تَأَمُلُ الْبَقَاءَ» هذا هو محل الشح الحقيقي يخاف من الفقر ويُؤَمِّنُ إنه باقي (...) الشاب، لكن واحد يعود له مئة سنة وعنده ملايين الملايين هذا يخشى الفقر ويأمل البقاء؟
* طالب: لا.
* الشيخ: لا، لكن الشاب اللي ما عنده إلا شوي، هذا هو اللي يخشى الفقر ويأمل البقاء يصير المال عنده غالي، فالمهم أن الحب إذن هذا تبين لنا معنى جديد في قوله: ﴿عَلَى حُبِّهِ﴾ تعلق رغبته بالمال، حاجته إليه، كونه يخشى الفقر ويأمل البقاء.
﴿عَلَى حُبِّهِ﴾ من؟ ﴿ذَوِي الْقُرْبَى﴾ -سبحان الله العظيم- ﴿ذَوِي الْقُرْبَى﴾ بدأ بهم قبل كل الأصناف، بينما إن الأمر عندنا الآن بالعكس، تلقى الواحد إذا وجد فقيرًا بعيدًا عنه يظن أنه أولى بالصدقة من قريبه اللي هو ابن عمه، لكن لا، ذوي القربى ولو كانوا أغنياء أعطهم؛ ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام في إحدى نسائه -أظن جويرية- وقد أعتقت مملوكة لها قال: «أَمَا أَنَّكِ لَوْ أَعْطَيْتِهَا أَخْوَالَكِ لَكَانَ أَعْظَمَ لِأَجْرِكِ» »[[متفق عليه؛ البخاري (٢٥٩٢) ومسلم (٩٩٩ / ٤٤)، من حديث كريب مولى ابن عباس عن ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين رضي الله عنها، واللفظ للبخاري.]]، جعل الرسول عليه الصلاة والسلام صلة الرحم أفضل من العتق، جعلها أفضل من العتق.
وقوله: ﴿ذَوِي الْقُرْبَى﴾ القربى من المراد بهم؟ قرابة الرسول ﷺ أو قرابة المعطي؟
* الطلبة: قرابة المعطي.
* الشيخ: قرابة المعطي، واعلم أن الحكم إذا علق بوصف فإنه يزداد قوة بقوة ذلك الوصف، فإذا كان معلقًا بالقرابة فكل من كان أقرب فهو أولى، وأقرب الناس إليك وأحقهم بالبر أبوك وأمك.
الثاني: ﴿الْيَتَامَى﴾ اليتامى جمع يتيم، وهو من مات أبوه قبل بلوغه من ذكر أو أنثى، فأما من ماتت أمه فليس بيتيم، ومن بلغ فليس بيتيم، وسمي يتيمًا من اليُتْم وهو الانفراد؛ ولهذا إذا صارت القصيدة جميلة أو قوية يقولون: هذه يتيمة، الدرة اليتيمة، يعني معناه: ما لها نظير منفردة، إذن اليتامى ماذا نقول؟ جمع يتيم، وهو من مات أبوه ولم يبلغ سواء كان ذكرًا أو أنثى، يعطون ولو كانوا أغنياء؟ نعم، يعطون ولو كانوا أغنياء جبرًا لقلوبهم، لكن لاحظوا أن عطية اليتيم الغني ليست كعطية الفقير، الفقير قد أعطيه ثوبًا أو كسرة خبز أو ما أشبه ذلك ينتفع بها، لكن اليتيم الغني ما أعطيه مثل هذا وأيش أعطيه؟ الآن نبغي (...) عليه وأيش أعطيه؟
* الطلبة: ما يناسب حاله.
* الشيخ: بما يناسب حاله، لفظ عام.
* طالب: سيارة.
* الشيخ: لا، السيارة، كبيرة السيارة، ممكن أعطيه قلمًا، يمكن أعطيه ساعة مثلًا، يمكن أعطيه شيئًا يعني يفرح به، أما يتيم بعطيه سيارة، (..) أربعة عشرة (...) ما عنده ولا رخصة، على كل حال يعطى ما يناسبه.
﴿وَالْمَسَاكِينَ﴾ المساكين جمع مسكين، وهو الفقير وهو الذي أسكنه الفقر، سمي مسكينًا؛ لأن الفقر أسكنه، والفقر -أعاذنا الله وإياكم منه- ما يجعل الإنسان يتكلم بطلاقة، هذا في الغالب؛ لأنه يرى نفسه أنه ما هو على المستوى الذي يمكنه من التكلم، ويرى نفسه أنه لا كلمة له، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: «رُبَّ أَشْعَثَ أَغْبَرَ مَدْفُوعٍ بِالْأَبْوَابِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ» »[[أخرجه مسلم (٢٦٢٢ / ١٣٨)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.]]، فالمهم أن المسكين هو الفقير، وسمي بذلك لأن الفقر أسكنه وأذله، واعلم أن الفقير بمعنى المسكين والمسكين بمعنى الفقير، إلا إذا اجتمعا فإذا اجتمعا صار لكل واحد منهما معنى غير الآخر، كما في آية الصدقة: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ﴾ [التوبة ٦٠] أيهما أشد؟
* طالب: الفقير.
* الشيخ: الصحيح أن الأشد الفقير؛ لأن الله بدأ به، ويبدأ بالأحق فالأحق والأحوج فالأحوج في مقام الإعطاء، وقال بعض أهل العلم: إن المسكين أشد؛ لأنه من أسكنه الفقر بخلاف الفقير، والصواب أن الفقير أشد؛ لأنه موافق للقفر، فقر وقفر، والقفر أيش معناه؟
* طالب: الجدب.
* الشيخ: القفر: الخلو، أرض قفر: خلو.
؎وَقَبْـــرُ حَـــرْبٍ بِمَكَـــانٍ قَفْــــــــرٍ ∗∗∗ وَلَــيْسَ قُــرْبَ قَــبْرِ حَــرْبٍقَبْــرُ
هذا فيه تنافر كلمات.
﴿وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ﴾ (...)..
السبيل بمعنى الطريق، والمراد بـ﴿ابْنَ السَّبِيلِ﴾ الملازم للطريق وهو المسافر، المسافر يكون في حاجة غالبًا فيحتاج إلى من يبره ويعطيه المال؛ ولهذا جعل الله له حظًّا، من؟ من الزكاة، وابن السبيل هو المسافر، وزاد العلماء قيدًا قالوا: المسافر المنقطع به، يعني: الذي انقطع به السفر، فليس معه ما يوصله إلى بلده؛ لأنه إذا كان معه ما يوصله إلى بلده فليس بحاجة، وهو والمقيم على حد سواء، فلا تتحقق حاجته إلا إذا انقطع به السفر.
قال: ﴿وَالسَّائِلِينَ﴾ السائلين جمع سائل، وهو المستفهم أو المستجدي؟
* الطلبة: المستجدي.
* الشيخ: كيف، المستجدي؟
* الطلبة: نعم.
* الشيخ: (...) الفرق بين المستفهم والمستجدي؟
* الطلبة: إي نعم.
* الشيخ: المستفهم اللي يقول: أين المال؟ والمستجدي اللي يقول: أعطني مالًا، فالمراد بالآية هنا السائلون، أي: المستجدين الذين يقولون: أعطنا، فالسائل له حق لا من أجله هو؛ لأنه قد يسأل وهو ليس بمحتاج، لكن من أجل صفة الكرم والحياء، بمن؟ بالمعطي؛ لأن الإنسان إذا سئل وكان عنده كرم ما يمكن يقول: لا، إذا سئل وكان عنده حياء -والحياء من الإيمان- ما يمكن يقول: لا، «وكان رسول الله ﷺ لا يسأل شيئًا على الإسلام إلا أعطاه، فسأله رجل ذات يوم فأعطاه غنمًا بين جبلين »[[أخرجه مسلم (٢٣١٢ / ٥٧)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.]]، «وأهدي إلى النبي عليه الصلاة والسلام جبة وكان عليه الصلاة والسلام محتاجًا إليها، فسألها رجل عنده فأعطاه إياها فقيل للرجل: لم صنعت والنبي عليه الصلاة والسلام محتاج إليها؟ قال: إني أريد أن تكون كفني، فكانت كفنه»[[أخرجه البخاري (١٢٧٧)، من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه بلفظ: أنّ امرأةً جاءتِ النبيَّ ﷺ ببردَةٍ منسوجةٍ، فيها حاشيتها، أتدرون ما البردةُ؟ قالوا: الشّمْلة، قال: نعم، قالت: نسجتُها بيدي فجئتُ لأكسوكها، فأخذها النبيّ ﷺ محتاجًا إليها، فخرج إلينا وإنها إزاره، فحسّنها فلان، فقال: اكسنُيها، ما أحسنَها، قال القوم: ما أحسنتَ، لبسَها النبيّ ﷺ محتاجًا إليها، ثم سألتَه، وعلمت أنه لا يردّ، قال: إني والله ما سألته لألبسه، إنما سألته لتكونَ كفني، قال سهلٌ: فكانت كفنَهُ.]]، فالنبي عليه الصلاة والسلام لكرمه وحيائه لا يسأل شيئًا إلا أعطاه، فالسائل له حق وقد روي عن النبي عليه الصلاة والسلام لكنه لا يصح: «لِلسَّائِلِ حَقٌّ وِإِنْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ» »[[أخرجه أبو داود (١٦٦٥)، من حديث الحسين بن على رضي الله عنه.]]، لكن هذا الحديث لا يصح مرفوعًا إلى النبي ﷺ.
واعلم أن السؤال -سؤال المال- الأصل فيه المنع والتحريم؛ ولهذا حذر النبي عليه الصلاة والسلام من سؤال المال وأخبر أن «الرَّجُلَ لَا يَزَالُ يَسْأَلُ النَّاسَ حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ» »[[متفق عليه؛ البخاري (١٤٧٤)، ومسلم (١٠٤٠ / ١٠٤)، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، بلفظ: «مَا يزالُ الرجلُ يسألُ الناس..» الحديث. ]] -والعياذ بالله- يكون وجهه يوم القيامة مقشرًا؛ لأنه مثل ما أذل وجهه لعباد الله عوقب بذلك بهذه العقوبة العظيمة في هذا المشهد العظيم، وقد بايع النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه من جملة ما بايعهم عليه: «أَنْ لَا يَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا»، فكان الواحد منهم يسقط سوطه من ناقته فينزل ويأخذه ولا يقول لأخيه: أعطني سوطي »[[أخرجه مسلم (١٠٤٣ / ١٠٨) من حديث عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه، بلفظ: ولا تسألوا الناس شيئًا، فلقد رأيتُ بعضَ أولئك النَّفَر يَسقطُ سوطُ أحدِهم فما يسألُ أحدًا يناولُهُ إيّاه.]].
ولا شك أن التنزه عن السؤال فيه عفة النفس والعزة والكرامة، وأما السؤال ففيه الذل للمخلوق، والإنسان السائل لا شك أن المسؤول مهما كان في الكرم وفي الحياء وفي الجود ينزل عنده هذا السائل تنزل قيمته وينحط من عينه؛ ولهذا لا يجوز السؤال إلا في الحاجة الملحة، الحاجة الملحة التي لا بد منها يسأل الإنسان، وقد ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام: «مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا، فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا فَلْيَسْتَقِلْ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ» »[[أخرجه مسلم (١٠٤١ / ١٠٥)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.]].
ثم اعلم أن السؤال نوعان: سؤال بلسان المقال، وسؤال بلسان الحال، أما السؤال بلسان المقال: فظاهر يجيء الإنسان إليك ويقول: أعطني كذا وكذا، وأما السؤال بلسان الحال، فأن ترى شخصًا عفيفًا لا يسأل لكنك تعرف حاجته أو تجده مثلًا يخطم أمامك ويدور حولك، فهذا ما سأل بلسان المقال لكنه سأل بلسان الحال.
فإذا قال قائل: إذا كان مؤتي المال للسائلين من أهل البر وأنتم حذرتم من السؤال من سؤال الناس، فكيف يتفق هذا وهذا؟
فالجواب: لا معارضة؛ لأن الجهة منفكة؛ فالممدوح المعطي، والمحذَّر السائل المعطَى، فإذا انفكت الجهة فلا تعارض، فلو رأيت أحدًا مبتلًى بهذه المهنة -وهي مهنة سؤال الناس- فأعطه إذا سألك ثم انصحه وحذره؛ لتكون مؤتيًا للمال وناصحًا للسائل، مؤتيًا للمال من أجل السؤال، وناصحًا للسائل؛ لأن بعض الناس -والعياذ بالله- تعلم علم اليقين أو يغلب على ظنك ظن المؤكد بأنه غني، وأنه إنما يسأل الناس أموالهم تكثرًا، فأنت إذا أعطيته ستغريه لا شك يذهب ويسأل غيرك، لكن أعطه لتكون ممن آتى المال السائلين، وانصحه لتكون من الناصحين.
وقوله: ﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾ شوف ما قال: وآتى الرقاب قال: ﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾؛ لأن المال المبذول في الرقاب لا يعطى الرقبة، من يعطى؟ يعطى مالك الرقبة؛ فلهذا أتى بـ(في) الدالة على الظرفية.
واعلم أن الرقاب ذكر أهل العلم أنها ثلاثة أنواع: عبد مملوك تشتريه وتعتقه، مكاتب اشترى نفسه من سيده فأعنته في كتابته، أسير مسلم عند الكفار فافتديته، وكذلك لو أسر عند غير الكفار مثل ها اللي يختطفون الآن -والعياذ بالله- إذا طلب المختطفون فدية، قالوا: ما نفكه إلا بهذا، فإنه يفك من الزكاة؛ لأن فيها فك رقبة، فك رقبة من القتل.
* طالب: القاتل؟
* الشيخ: لا، القاتل لا، القاتل ما يدخل فيه.
قوله: ﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾ إلى أن قال: ﴿وَأَقَامَ الصَّلَاةَ﴾.
نرجع مرة ثانية إلى ﴿آتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾ إذا آتى المال على غير حبه فهل يكون بارًّا؟ يعني: إنسان غني يتصدق بالمال ما يهمه يروح منه مئة ألف أو مئة ريال من أهل البر ولَّا لا؟
* الطلبة: (...).
* الشيخ: إي نعم، لكنه ما مثل الأول، بر ناقص، فالبر الكامل أن يؤتي الإنسان المال على حبه ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ [آل عمران ٩٢]، فظاهر الآية أن البر الكامل ما ينال إلا بهذا إذا آتى المال على حبه.
فإذا قال قائل: ﴿آتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾ هذا القيد لا معنى له؛ لأن المال كله محبوب إلى الإنسان؛ لقوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ [العاديات ٨]، ﴿وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا﴾ [الفجر ٢٠]؟
قلنا: الجواب على ذلك: أن حب المال على سبيل العموم هذا في كل نفس، لكن المراد هنا: آتى المال المعين على حب ذلك المال المعين، فهمتم؟ ﴿آتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾ ذلك المال المعين ولا المال كله محبوب للإنسان، لكن أنا مثلًا عندي عشر ورق من فئة المئة، أيهم أحب علي؟
* الطلبة: كلهم واحد.
* الشيخ: كلهم واحد، لكن مجموعهن محبوب إلي ولَّا لا؟
* طالب: إي نعم.
* الشيخ: محبوب إلي، لا شك، لكن عندي أعيان غير نقد، عندي مثلًا مسجل من هذا النوع وساعة من هذا النوع وسيارة من هذا النوع أحبهم يكون هذا حبًّا خاصًّا ولَّا لا؟ هذا حب خاص غير حب المال العام، وهذا هو المراد بالآية الكريمة هذه وبقوله تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾؛ فلهذا كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا أعجبه شيء من ماله تصدق به.
مرة ثانية عودة إلى الآية قوله: ﴿ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ﴾.
ظاهر الآية الإطلاق وأن الحكم معلق بالوصف، فالقريب ولو كان كافرًا إذا أعطيته المال فأنت محمود على ذلك، وكذلك اليتيم والمسكين وابن السبيل والسائل وفي الرقاب، فظاهر الآية العموم لأنها لم تقيد، لكنها في الحقيقة ليست على عمومها، بل هي خاصة بالمسلم والكافر غير المقاتل؛ لقوله تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة ٨]، هذه الآية اختلف أهل العلم هل هي منسوخة ولا محكمة، والصحيح أنها محكمة وأن الأصل عدم النسخ، ولكن بشرط أن لا يكونوا يقاتلوننا، سواء يقاتلوننا بأنفسهم بأن يكون هذا الرجل المعين مقاتلًا، أو يقاتلونا بحكمهم يقاتلوننا حكمًا، مثل أن يكونوا من دولة تقاتل المسلمين؛ لأن الذي من دولة تقاتل المسلمين مستعد للقتال حكمًا، أليس كذلك؟
* الطلبة: بلى.
* الشيخ: إذا أمرته دولته بقتال يلبي ولَّا لا؟
* الطلبة: يلبي.
* الشيخ: يلبي، وعلى هذا فإذا كان الكافر من دولة محاربة للمسلمين، فإنه لا يجوز بره ولا إعطاؤه المال؛ لأن مثل هذا ما دام حربًا للمسلمين، فإن المسلم يريد إعدامه كما أنه هو يريد إعدام المسلم وقتله، فهذا جزاءً وفاقًا وهذا العدل.
بقي علينا كلمة: ﴿فِي الرِّقَابِ﴾، إحنا ذكرنا أنها ثلاثة أنواع: مكاتب، والمملوك، والمأسور، لكن العلماء رحمهم الله خصوا المأسور بالمسلم، أما إذا كان غير مسلم فإنه لا يمدح مَن فك أسره؛ لأن ولاية المسلم أقوى من ولاية غير المسلم، ويمكن أن نقول: إن قول العلماء رحمهم الله تخصيص هذا في المسلم هذا بالنسبة للزكاة؛ لأن الزكاة ما تعطى غير المسلم بخلاف التطوع، فإنه يجوز أن يفك منها أسير ذمي، لو فرض أن هناك أسيرًا ذميًّا وأنه إن لم ينفع المسلمين ما ضرهم، فلا حرج من أن يفك.
ثم قال الله تعالى: ﴿وَأَقَامَ الصَّلَاةَ﴾ ﴿أَقَامَ الصَّلَاةَ﴾ هذه معطوفة على أيش؟
* الطلبة: ﴿مَنْ آمَنَ﴾.
* الشيخ: على ﴿مَنْ آمَنَ﴾؟
* الطلبة: إي نعم. إذن ﴿وَأَقَامَ﴾ معطوف على آمن اللي هي صلة الموصول.
﴿وَأَقَامَ الصَّلَاةَ﴾ الصلاة المراد بها الفرض والنفل، وإقامتها بمعنى الإتيان بها مستقيمة، بأن أقام الشيء جعله قائمًا مستقيمًا، وليس المراد بأقام الصلاة يعني: الله أكبر الله أكبر الإقامة المعروفة، المراد به أيش؟ الإتيان بالصلاة مستقيمة، كما تقول: أقمت الجدار، أقمت العصا، أقمت فلانًا: جعلته يقف حتى يكون مستقيمًا.
وقوله: ﴿الصَّلَاةَ﴾ (أل) هذه للعهد أو للعموم؟
* الطلبة: للعموم.
* الشيخ: للعموم؛ لأنها تشمل الفرض والنفل، واعلم أن الصلاة من الكلمات التي نقلها الشارع عن معناها اللغوي إلى معنى شرعي، فمعناها في اللغة: الدعاء، قال الله تعالى: ﴿وَصَلِّ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة ١٠٣] أي: ادع لهم بالصلاة، فقل: صلى الله عليكم، هذا معنى ﴿صَلِّ عَلَيْهِمْ﴾، ولكنها في الشرع هي الصلاة المعروفة: عبادة ذات أقوال وأفعال معلومة مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم، يجب أن نقول: عبادة ذات أقوال، مع أن المعروف عند كثير من المعرفين لها يقولون: هي أقوال وأفعال معلومة مفتحة بالتكبير ومختتمة بالتسليم، وهذا لا شك أنه قاصر، بل يجب أن نقول: عبادة؛ ولهذا لو جاء إنسان يعبث وكبر وقرأ وركع وسجد وسلم، يصير مصلي شرعًا؟
* الطلبة: لا.
* الشيخ: لا يكون مصليًا، إنما لا بد أن تكون عبادة مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم.
﴿وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ﴾ (آتى) بمعنى أعطى، (آتى) يعني أعطى، والزكاة أيضًا من الكلمات التي نقلها الشرع عن معناها اللغوي إلى معنى شرعي، الزكاة في اللغة: من زكا يزكو، أي: نما وزاد، وصَلُح أيضًا، والزكاة في اللغة أيضًا بمعنى الصلاح، ومنه قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا﴾ [الشمس ٩] أي: أصلحها وقومها.
لكنها في الشرع الزكاة هي: التعبد ببذل مال واجب في مال خاص لطائفة مخصوصة، هذه هي الزكاة، وسميت زكاة؛ لأنها تنمي الخُلق وتنمي المال وتنمي الثواب، تنمي الخُلق كيف؟
* طالب: يصير كريمًا..
* الشيخ: نعم، يكون بها الإنسان كريمًا من أهل البذل والجود والإحسان، وهذا لا شك أنه من أفضل الأخلاق شرعًا وعادة، وتنمي المال، تنمي المال كيف؟ أنا عندي مئة ريال أخذت منها ريالين ونصف بقي عندي سبع وتسعين ونصف نقص المال كيف يصير تنمي؟
* الطلبة: بالبركة.
* الشيخ: نقول: نعم، تنمي بالبركة والحماية والحفظ؛ ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ» »[[أخرجه مسلم (٢٥٨٨ / ٦٩)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.]]، ما يمكن تنقصه يعني: لو لم تخرج هذا القدر من المال ربما يأتيه آفات، تبيع وتشتري وتخسر، ربما تصاب أنت أو أهلك بأمراض تحتاج إلى علاج فيفنى كل ما عندك، ربما يأتي سارق ويسرقه، ربما تودعه عند إنسان فيجحده، أليس كذلك؟
* الطلبة: بلى.
* الشيخ: لكن الزكاة حماية له وحفظ وبركة، من بركة المال تشتري بعشرة ريالات ثوب، ربما إذا كنت لا تزكي يتمزق بسرعة، وإذا كنت تزكي ينزل الله فيه البركة ويبقى سنتين ثلاث صح على حسب الحال.
* طالب: عندي ثوب له أربع سنين يا شيخ..
* الشيخ: ما نقول شيئًا، هذا من البركة، المهم أن أنواع البركة التي تنزل في المال كثيرة، فلهذا قلنا: إن الزكاة تزكي المال. تزكي الثواب ولَّا لا؟
* الطلبة: نعم.
* الشيخ: تزكي الثواب؟ نعم، ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ فوق ذلك، ﴿وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة ٢٦١]، وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام وصح عنه أن: «مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ أَوْ بِعِدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَأْخُذُهَا بِيَمِينِهِ فَيُرَبَّيهَا كَمَا يُرَبِّي الْإِنْسَانُ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ» »[[أخرجه البخاري (١٤١٠) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ: «مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلَا يَقْبَلُ اللهُ إِلَّا الطَّيِّبَ، وَإنَّ اللهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلْوَهُ، حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ».]]، وهي عدل تمرة تكون مثل الجبل، أليس هذا تزكية؟
* الطلبة: بلى.
* الشيخ: بلى، والله تزكية، هذه التزكية الحقيقية، هذا اللي أزكى من أنك تعطي إنسانًا يضارب بمالك، هذا الذي تعطيه يضارب بمالك كم بيربح؟ خله يربح العشرة مئة أو يخسر، لكن هذه تقع في يمين الرحمن عز وجل، ونعم اليمين يمين الرب، فيربيها سبحانه وتعالى وينميها لك حتى تكون مثل الجبل، هذا الربح هذا الربح العظيم، ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ﴾ [البقرة ٢٤٥]. إذن سمي زكاة؛ لأنه يزكي المال والخلق والثواب.
﴿وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ﴾ عندنا (آتى) تنصب مفعولين أين مفعولها الأول؟
* الطلبة: الزكاة.
* الشيخ: الزكاة، أين المفعول الثاني؟
* الطلبة: محذوف.
* الشيخ: محذوف، وأيش التقدير؟
* طالب: مستحقها.
* الشيخ: مستحقها، تمام، مستحقها، شوف ﴿آتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى﴾ أتى بالمفعول الثاني ﴿ذَوِي الْقُرْبَى﴾، هذه ﴿آتَى الزَّكَاةَ﴾ لم يأت بالمفعول الثاني لكنه محذوف معلوم، وأهل الزكاة تكفل الله عز وجل بقسمها عليهم فقال: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾ [التوبة ٦٠] ثمانية فقط لا تحل لغيرهم.
﴿وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا﴾ هنا ما قال: وأوفى بع
هده، بل أتى بالجملة الاسمية؛ لأن الوفاء جبلة وخلق، لكن ما سبق أفعال يفعلها الإنسان أو لا؟ لكن هذه جبلة وخلق أن الإنسان يكون وفيًّا، وفيًّا بالعهد لكن إذا عاهد، ﴿إِذَا عَاهَدُوا﴾ (إذا) هنا مجردة من الشرطية فهي ظرفية محضة، يعني: ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ﴾ وقت العهد، يعني: في الحال التي يعاهدون فيها، فإذا عاهدوا وفوا.
واعلم أن العهد عهدان: عهد مع الله عز وجل، وعهد مع الخلق، فالعهد الذي مع الله ما هو؟
* طالب: (...).
* الشيخ: لا، الإيمان به، قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ [الأعراف ١٧٢]، وقال الله تعالى: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ [البقرة ٤٠]، فالعهد الذي عهد الله به إلينا أن نؤمن به ربًا فنرضى بشريعته، بل بأحكامه الكونية والشرعية، هذا هو العهد الذي بيننا وبين ربنا.
أما العهد الذي بينك وبين الناس: فكثير أنواعه غير محصورة كثيرة جدًّا، منها: العقود، العقود من العهود، يعني: العقد اللي بينك وبين واحد عقد بيع، عقد إجارة، عقد رهن، أي عقد من العقود يعتبر هذا عهدًا لأني..
* طالب: عقد الزواج يا شيخ؟
* الشيخ: وعقد الزواج؛ لأني إذا عقدت معك، وأيش معنى عقدت معك؟ التزمت بما يقتضيه هذا العقد، إذن فكل عقد عهد، كل عقد فهو عهد؛ ولهذا قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة ١]، وقال: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء ٣٤].
ومن العهود بينك وبين الخلق: العهد المعروف وهو أن تجري عقدًا بينك وبين الكفار -مثلًا- أن لا يعتدوا عليك ولا تعتدي عليهم، مثل ما جرى من النبي ﷺ مع المشركين في؟
* طلبة: صلح الحديبية.
* الشيخ: صلح الحديبية هذا يسمى عهدًا، قال الله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [التوبة ٤]، ﴿إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾ [التوبة ٧]، هذا العهد الذي بيننا وبين أعداء الله وأعدائنا له ثلاث حالات: إما أن يستقيموا لنا، وإما أن يخونوا، وإما أن نخاف منهم الخيانة، فإن استقاموا لنا وجب علينا أن نستقيم لهم، بأي ما يمكن نخون أبدًا، وإن خفنا منهم الخيانة ننبذ إليهم على سواء ﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ﴾ [الأنفال ٥٨].
* طالب: شيخ، نحاربهم؟
* الشيخ: لا، تقول: (...) عهد، تخبرهم أنه لا عهد بيننا ليكونوا على بصيرة.
وأما من خانوا فماذا نصنع معهم؟ نقاتلهم؛ لأنهم هم الذين نقضوا العهد، مثل ما فعلت قريش في العهد الذي جرى بينهم وبين الرسول ﷺ في الحديبية؛ لأنهم نقضوا العهد حيث أعانوا حلفاءهم على حلفاء النبي ﷺ، يعني هم -قريش- غدروا أعانوا حلفاءهم على حلفاء النبي ﷺ، وهذا نقض للعهد بلا شك؛ لأن حلفاء الرسول معناه أن الرسول يكون معهم على من ناوأهم، فلما نقضوا العهد حاربهم النبي ﷺ، من العهد أيضًا ما يقع بين الإنسان وبين غيره في الالتزامات غير العقود وغير العهود، مثل الوعد، فإن الوعد من العهد؛ ولهذا اختلف أهل العلم هل يجب الوفاء بالوعد أو لا يجب؟ والصحيح الذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية أنه يجب الوفاء بالوعد، أن الوفاء بالوعد واجب؛ لأنه داخل في العهد؛ إذ إنني إذا قلت: سآتيك غدًا في الوقت الفلاني، معناه تعهدت بذلك، فيجب الوفاء بالوعد؛ ولأن إخلاف الوعد من علامات النفاق، وإذا كان كذلك فهل نقول: إنه يجوز للمؤمن أن يتحلى بأخلاق المنافقين؟ إذا قلنا: لا، معناه صار الوفاء بالوعد واجبًا، والسؤال المطروح الآن هل نحن قائمون بهذا؟
* طالب: لا.
* الشيخ: نعم؟ نسأل الله العفو.
* طالب: ليس على الإطلاق.
* الشيخ: ليس على الإطلاق، في كل وقت ولا في كل إنسان، إنما من المؤسف أنه من المعروف عند الناس أن المسلمين أقل الناس وفاء بالوعد، حتى إن بعض -والعياذ بالله- المخدوعين إذا بغي يؤكد الوعد يقول: شوف ترى وعد إنجليزي -شوف أعوذ بالله- يعني: أن وعد الإنجليز ما يخلف دقيقة، الصواب أن نقول: ترى وعد مؤمن، ما هو إنجليزي، الإنجليزي ما أخذ هذه الأخلاق إلا من المؤمنين، وإلا فإنه كافر، يعني ما نقول: كل الإنجليز، يعني الكافر منهم، لكن مع الأسف إن عندنا نحن إخلاف الوعد أمر هين، وأما التقدم أو الغالب التأخر فهو أمر لازم إلا ما شاء الله، يواعدك الساعة اثنا عشر ويجيء الساعة اثنا عشر ونصف يا أخي (...) قال: هي بس نصف ساعة، هذا غلط حاول أنك تأتي بالموعد المحدد؛ لأنه قد يكون عطل أشغال أو ما أشبه ذلك، والله أعلم.
(...) ﴿وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ﴾..
قوله تعالى: ﴿وَالصَّابِرِينَ﴾ هذا فيه إشكال من حيث الإعراب؛ لأن الذي قبله مرفوع وهو غير مرفوع، فلماذا؟
* طالب: للاختصاص.
* الشيخ: التقدير؟
* طالب: (...).
* الشيخ: يقول بعض العلماء: إنه منصوب بفعل محذوف تقديره: وأخص الصابرين، وحينئذ نقول: لماذا عدل به عن العطف كأخواته السابقة؟ نقول: الحكمة أو البلاغة من هذا أنه إذا تغير أسلوب الكلام كان ذلك أدعى للانتباه، فإن الإنسان إذا قرأ الكلام على نسق واحد غفل ولها وصار كأنه شيء يدرج به ولا يلتفت، فإذا تغير الأسلوب فإنه يوجب الانتباه، وهذا مثل ما قلنا في شيء يمر علينا كثيرًا، وهو الالتفات، فإنه بتغير الأسلوب يتوجب على المخاطب أو القارئ أن ينتبه.
ثم إن هنا ﴿الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ﴾ الصبر في الواقع ليس بذل شيء ولكنه تحمل شيء، وما سبق كله بذل شي فهو مختلف من حيث النوع، من حيث النوع مختلف، شوف من آمن، وأقام، وآتى المال، وأوفى بالعهد، كل هذه أفعال، لكن ﴿الصَّابِرِينَ﴾ هذا ما هو فعل ما هو بيبذل الإنسان شي لكنه يتحمل.
وقوله: ﴿الصَّابِرِينَ﴾ الصبر في اللغة: الحبس، ومنه قولهم: فلان قُتل صبرًا، أي: حبسًا، وأما في الشرع: فإنه حبس النفس على طاعة الله، أو عن معصيته، أو على أقداره، عرفتم؟ فإذن الصبر ثلاثة أنواع: صبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، وصبر على الأقدار المؤلمة، أليس كذلك؟
* الطلبة: بلى.
* الشيخ: أيهما أفضل؟ أفضلها الصبر على الطاعة، هو أفضلها؛ لأنه جهاد وعمل، فإن الإنسان يجاهد نفسه على الصبر على الطاعة ومصابرتها وعمل، ويليها الصبر عن المعصية؛ لأنه كف، كف للنفس وليس فيه إيجاد، وإن كان في بعض الأحيان الصبر عن المعصية أشق من الصبر على الطاعة (...) تفلت به، السبب؟ لأنه قدر كائن، كائن غصبًا عليك رضيت أو ما رضيت، لكن كف نفسك عن الفجور هذا باختيارك إن شئت كففت وإن شئت لم تكف، صبر نفسك على الطاعة كذلك باختيارك، فأفضلها الصبر على الطاعة، ثم عن المعصية، ثم على الأقدار؛ ولهذا قال أهل العلم: إن صبر يوسف عن الفحشاء بامرأة العزيز إنه أقوى من صبره على ما أصابه من إخوته، أو لا؟ وأصابه من إخوته أنهم ألقوه في غيابت الجب وحصل له ما حصل.
﴿الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ﴾ البأساء: شدة الفقر، ومنه البؤس يعني: الفقر، والثاني الضراء: المرض، والثالث حين البأس: شدة القتال، فهم صابرون في أمور لهم فيها طاقة وأمور لا طاقة لهم بها.
﴿فِي الْبَأْسَاءِ﴾ يعني: في حال الفقر، لا يحملهم فقرهم على الطمع في أموال الناس، بل يصبرون عن المعصية لا يسرقون ولا يخونون ولا يكذبون ولا يغشون، وهذا صبر عن أيش؟
* طالب: عن المعصية.
* الشيخ: عن المعصية، ولا يحملهم الضراء -المرض وما يضر أبدانهم- لا يحملهم ذلك على أن يتسخطوا من قضاء الله وقدره، بل هم دائمًا يقولون بألسنتهم وقلوبهم: رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد رسولًا..
* طالب: هذا (...)؟
* الشيخ: نعم.
كذلك ﴿حِينَ الْبَأْسِ﴾ حين شدة القتال يصبرون ولا يولون الأدبار، وهذا صبر على أيش؟ على الطاعة، صبر على الطاعة، فتضمنت هذه الآية الصبر بأنواعه الثلاثة: صبر عن المعصية، وعلى الأقدار المؤلمة، وأيش عليه؟ وعلى الطاعة.
﴿الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ﴾ تقدم لنا أن قلنا: إن المصاب بالأقدار المؤلمة له أربع مراتب، أيكم الذي يذكرها؟ من وقع به ما يضره ويؤلمه فله أربع مقامات أو أربعة مقامات؟
* طالب: أولًا: يفرح فقط يفرح (...).
* الشيخ: لا.
* الطالب: يرضى.
* الشيخ: زين.
* الطالب: وثانيًا: يصبر يعني..
* الشيخ: يصبر، اترك يعني، خل التفسير بعدين، وثالثًا؟
* الطالب: وثالثًا..
* الشيخ: نعم؟
* طالب: يشكر.
* الشيخ: وثالثًا: يشكر، ورابعًا؟
* طالب: يصبر.
* الشيخ: ذكرها.
* الطالب: يجزع.
* الشيخ: يجزع ويتسخط، المصاب بالأقدار له أربع حالات أو أربعة مقامات، أولًا: أن يتسخط ولا يصبر يتسخط، والثاني: أن يصبر، والثالث: أن يرضى، والرابع: أن يشكر، أربعة مقامات، السخط محرم والصبر واجب، والرضا فيه خلاف والصحيح أنه مستحب، والشكر مستحب.
الفرق بين الرضا والصبر؟ الصبر: يكره هذا الشيء ويتألم منه ويراه مرًّا لكنه يصبر لا يتسخط لا بقوله ولا بفعله ولا بقلبه، عرفتم؟ لكنه كاره، والرضا: أن لا يكره هذا الشيء، ولكنه يعنى لا فرق بين أن يصاب بهذا الأذى أو لا يصاب هو متحمل وراضٍ ومطمئن، وهذا لا شك أنه أعلى من الصبر أو لا؟ ما هو بأعلى من الصبر؟ لأنه متضمن للصبر وزيادة.
أما الشكر فهو أعلى من ذلك أيضًا، ولكن يقال: كيف يشكر وقد أصيب؟ نقول: نعم، يشكر وقد أصيب؛ لأنه إذا رأى ثمرة هذه المصيبة على الرضا بها يشكر الله على هذه النعمة، ثم إنه يشكر الله أيضًا حيث يرى أنه قد يصاب بأعظم، ليست المصيبة التي أصبت بها أهون مصيبة على الدنيا ولَّا لا؟ ولهذا يقول العامة: قس المصيبة بما هو أعظم منها يتبين لك سهولتها، وهذا صحيح؟
* الطلبة: نعم.
* الشيخ: ﴿الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ﴾.
قال الله تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ ما شاء الله، هذه شهادة من الله عز وجل، شهادة وأعلى أعلى شهادة؛ لأنها شهادة من أعظم شاهد سبحانه وتعالى، ﴿أُولَئِكَ﴾ المشار إليهم كل من اتصف بهذه الصفات، ﴿الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ صدقوا بأيش؟
* طالب: الله.
* الشيخ: صدقوا الله وصدقوا عباده بوفائهم بالعهد، وإيتاء الزكاة وغير ذلك، فصدقوا صدقوا الله عز وجل، والصدق -كما تعرفون- هو موافقة الشيء للواقع، فالقائل عن المخبر بشيء إذا كان خبره موافقًا للواقع صار صادقًا، والعامل اللي يعمل بالطاعة إذا كانت صادرة عن إخلاص صار عمله صادقًا؛ لأنه ينبئ عما في قلبه إنباء صادقًا، والمنافق كاذب، المنافق المرائي بعمله كاذب؛ لأن عمله لا ينبئ عما في قلبه؛ إذ إن ظاهر عمله الإخلاص وهو غير مخلص خلاف ذلك، هؤلاء هم الذين صدقوا، صدقوا فيما أضمروه بقلوبهم، وفيما نطقوا به بألسنتهم، وفيما قاموا به بجوارحهم، صدق، صدق من أكمل الصدق، وقد قال الله تعالى في سورة الأحزاب: ﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ﴾ [الأحزاب ٢٤]..
* طالب: (...).
* الشيخ: ﴿لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ﴾ [الأحزاب ٨]، هذه ﴿لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ﴾، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة ١١٩]، وهذا الصدق فيما أظهروه وأعلنوه.
ثم قال: ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ أي: القائمون بالتقوى، والتقوى هي: اتخاذ الوقاية من عذاب الله عز وجل بفعل أوامره واجتناب نواهيه، وهذا أجمع ما قيل في تعريف التقوى هي اتخاذ وقاية من عذاب الله بفعل أوامره واجتناب نواهيه، وتأمل كيف جاءت هذه الجملة بالجملة الاسمية المؤكدة ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ الجملة اسمية في دلالتها على؟
* الطلبة: الثبوت.
* الشيخ: الثبوت والاستمرار؛ لأن الجملة اسمية تدل على أنها صفة ملازمة للمتصف بها، وهي مؤكدة هذه الجملة بماذا؟
* طالب: بـ(هم).
* الشيخ: بضمير الفصل (هم)؛ لأن ضمير الفصل له ثلاث فوائد: فائدة لفظية تتعلق بالإعراب، وفائدتان معنويتان، الفائدة اللفظية التي تتعلق بالإعراب هي؟
* طالب: أنه مؤكد.
* الشيخ: لا، هذه معنوية.
* طالب: (...) خبرًا يدل على أنه..
* الشيخ: أنه يفصل بين الخبر والنعت.
* الطالب: نعم.
* الشيخ: يفصل بين الخبر والنعت، ويبين أن ما بعده خبر لا نعت، الفائدتان معنويتان: أنه يفيد التوكيد، هذه واحدة، ثانيًا: يفيد الحصر، وهو إثبات الحكم في المذكور ونفيه عما سواه، نضرب مثلًا: إذا قلت: زيد الفاضل، كلمة (الفاضل) في هذا السياق هل تتعين أن تكون خبرًا؟
* الطلبة: لا.
* الشيخ: لا؛ لجواز أن يكون المعنى: زيد الفاضل خير الناس -مثلًا-، أليس كذلك؟
* الطلبة: بلى.
* الشيخ: فإذن يمكن أن تكون (الفاضل) هذه صفة لا خبرًا، فإذا قلت: هو الفاضل، زيد هو الفاضل؟
* الطلبة: (...).
* الشيخ: تعين أن تكون خبرًا، إذا قلت: زيد هو الفاضل، فهو أوكد من قولك: زيد الفاضل أو لا؟ أوكد في إثبات الفضل له، إذا قلت: زيد هو الفاضل أفاد أن غيره لا يشاركه في هذا الوصف، لأنك تقول: هو، هو لا غيره، هو الفاضل، فهذه فوائد ضمير الفصل.
وهل هذا الضمير له محل من الإعراب؟
* طالب: (...).
* الشيخ: فيه خلاف، بعضهم قال: إن محله ما قبله، محله من الإعراب محل ما قبله، وبعضهم قال: إنه حرف لا محل له من الإعراب؛ ولهذا يسميه الكوفيون يسمونه حرف عماد، يعني: تعتمد عليه الجملة وليس له محل من الإعراب، وهذا هو المعروف، فيقولون: هو ضمير فصل لا محل له من الإعراب.
وقوله: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ هؤلاء جمعوا بين البر والتقوى، البر بالصدق، والتقوى بهذا الوصف ﴿أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾، وإنما قلنا: إن الصدق بر؛ لقول النبي ﷺ: «عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ؛ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى البِّرِّ، وَإِنَّ البِّرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ» »[[أخرجه مسلم (٢٦٠٧ / ١٠٥)، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، وأخرجه البخاري (٦٠٩٤)، ومسلم (٢٦٠٧ / ١٠٣) بمثله دون أوله.]]، فجمعوا بين البر والتقوى، وهذا ما أمر الله في قوله: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ [المائدة ٢].
* طالب: هنا الترتيب هذه الآية ما فيه ترتيب يعني البأساء، الضراء، حين البأس صار يختلف عن الترتيب..
* الشيخ: إي، يختلف؛ وذلك لأن الانتقال من الأسهل إلى الأشد، الفقر أسهل على الإنسان من المرض أو لا؟
* الطلبة: نعم.
* الشيخ: والمرض أهون عليه من القتال، فهو انتقال من الأسهل إلى ما فوقه.
* طالب: ﴿أُولَئِكَ﴾ إشارة للبعيد؟
* الشيخ: إي، الإشارة للبعيد هنا لعلو المرتبة، الإشارة بالبعيد لما هو قريب لأجل علو مرتبته؛ ولهذا شوف ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا﴾ وكرر الإشارة مرة ثانية، كل هذا من باب التأكيد والمدح والثناء، كأن كل جملة منها -من هاتين الجملتين- مستقلة، ما قال: أولئك الذين صدقوا والمتقون أو واتقوا بل ﴿وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾، وقد قلنا: إن الإشارة للبعيد لعلو المرتبة في أول سورة البقرة في قوله تعالى: ﴿الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ﴾ [البقرة ١، ٢]، ولا قال: هذا الكتاب.
ثم قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى﴾ [البقرة ١٧٨] هذا النداء ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ قلنا: إن افتتاح الخطاب بالنداء يدل على الاهتمام به؛ لأن النداء يوجب انتباه المخاطب، فهمتم؟
ثم نداؤهم بهذا الوصف: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ فائدته له ثلاث فوائد، أولًا: الإغراء والحث، فإن وصفهم بالإيمان يفيد إغراءهم وحثهم على التزام ما ذكر الله عز وجل، هذه واحدة، الفائدة الثانية: أن ما ذكر من مقتضيات الإيمان، يا أيها الذين آمنوا كذا وكذا، معناه أن هذا من مقتضى الإيمان، الثالث: أن مخالفته نقص في الإيمان؛ ولهذا خوطب به المؤمن، فإذا لم يقم بذلك معناه أن إيمانه ناقص ما يستحق أن يوجه إليه هذا الخطاب.
فعندنا الآن بحثان -يا جماعة-: البحث الأول: تصدير الحكم أو تصدير توجيه الأحكام بالنداء، وأيش يفيد؟
* الطلبة: (...).
* الشيخ: الاهتمام، لماذا؟ وجه ذلك؟
* الطلبة: (...).
* الشيخ: لأنك إذا ناديته معناه أنك دعوته إلى أن ينتبه، والشيء الذي يدعى للانتباه به معناه أنه ذو أهمية يجب التنبه له.
وجعل الخطاب معلقًا بوصف الإيمان يفيد ثلاث فوائد، الأولى؟
* طالب: الإغراء والحث.
* الشيخ: الإغراء والحث. الثانية؟
* طالب: وصف الإيمان، أغراهم بوصف الإيمان.
* الشيخ: لا، ذكرنا هذا. الثاني؟
* الطالب: (...).
* الشيخ: لا.
* طالب: أن ذلك من مقتضيات الإيمان.
* الشيخ: أن هذا من مقتضيات الإيمان، والثالث؟
* طالب: أن عدمه نقص في الإيمان.
* الشيخ: نقص في الإيمان صحيح، أن مخالفته نقص في الإيمان.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ذكر أهل العلم أن غالب السور المدنية يكون فيها الخطاب بـ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ والمكية؟
* الطلبة: بـ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾.
* الشيخ: بـ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾، لكن هذا ليس على إطلاقه، هذا إن قلنا فإنما نقول: إنه أغلبي؛ لأن سورة البقرة مدنية بالاتفاق وفيها؟
* الطلبة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾.
* الشيخ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ و﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ صح ولَّا لا؟ سورة الحجرات مدنية بالاتفاق، ومع ذلك فيها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ و﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾، وفي سور كثيرة فيها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ وهي مكية، وعلى هذا فنقول: هذا الذي ذكره بعض أهل العلم إنما هو على سبيل الأغلبية فقط، إن صح ذلك.
* طالب: شيخ، بالنسبة لـ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ مكية؟
* الشيخ: إي نعم.
* الطالب: (...) أنا بحثت ما وجدت.
* الشيخ: ما وجدت؟ سورة الحج وأيش؟
* الطالب: الحج مدنية.
* الشيخ: مدنية؟
* طالب: (...) المصحف أنها مدنية.
* الشيخ: إي، فيها فيها، أنا متأكد، بس أنا ما أحفظ المكيات من المدنيات لكن متأكد أن فيه مدنيات فيها ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾.
* طالب: في بحثي أنا ما وجدت.
* الشيخ: لا، فيه فيه ابحث وتجد.
* طالب: يعني مدنية تبدأ بـ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾.
* طالب آخر: مكية.
* الشيخ: لا، مدنية فيها ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾.
* الطلبة: مكية.
* الشيخ: مكية فيها: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾.
* طالب: ما أعرف شيء فيها ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾.
* الشيخ: وفيها ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾.
* الطالب: إي، لكن يعني حسب قول العلماء يقولون: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ مكية، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ مدنية.
* الشيخ: إحنا قلنا: هذا غير صحيح في ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾، في ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أيضًا غير صحيح؛ لأن فيه سورًا مكيات وفيها ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾، تأملوها إن شاء الله تلقونها، وكلنا إن شاء الله نبحث فيها بعد.
* طالب: الحج ما هي مكية؟
* الشيخ: الحج أنا أتصور مكية شوف المصحف.
* طالب: في المصحف مدنية.
* الشيخ: مدنية؟
* طالب: (...) مثلًا مكية يقول: مكية إلا من آية كذا إلى كذا.
* طالب آخر: مدنية.
* الشيخ: مدنية؟
* طالب: كل الآيات وبين قوسين (...) ٥٤، (...) بين مكة والمدينة.
* الشيخ: هذه كلها غالبًا ما عليها دليل، إحنا نقول: إن السورة المكية إذا لم يذكر إنسان دليلًا على أنه مستثنى منها شيء، وإلا فهي مكية.
* طالب: فمن هذا اللي واضع (...)؟
* الشيخ: الظاهر أنهم من المفسرين والقراء.
[[اختُصِرَ كلام المؤلف لشدة طوله]]
{"ayahs_start":177,"ayahs":["۞ لَّیۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّوا۟ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَـٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ وَٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ وَٱلۡكِتَـٰبِ وَٱلنَّبِیِّـۧنَ وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِی ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡیَتَـٰمَىٰ وَٱلۡمَسَـٰكِینَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِیلِ وَٱلسَّاۤىِٕلِینَ وَفِی ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُوفُونَ بِعَهۡدِهِمۡ إِذَا عَـٰهَدُوا۟ۖ وَٱلصَّـٰبِرِینَ فِی ٱلۡبَأۡسَاۤءِ وَٱلضَّرَّاۤءِ وَحِینَ ٱلۡبَأۡسِۗ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ صَدَقُوا۟ۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ","یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ كُتِبَ عَلَیۡكُمُ ٱلۡقِصَاصُ فِی ٱلۡقَتۡلَىۖ ٱلۡحُرُّ بِٱلۡحُرِّ وَٱلۡعَبۡدُ بِٱلۡعَبۡدِ وَٱلۡأُنثَىٰ بِٱلۡأُنثَىٰۚ فَمَنۡ عُفِیَ لَهُۥ مِنۡ أَخِیهِ شَیۡءࣱ فَٱتِّبَاعُۢ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَأَدَاۤءٌ إِلَیۡهِ بِإِحۡسَـٰنࣲۗ ذَ ٰلِكَ تَخۡفِیفࣱ مِّن رَّبِّكُمۡ وَرَحۡمَةࣱۗ فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ بَعۡدَ ذَ ٰلِكَ فَلَهُۥ عَذَابٌ أَلِیمࣱ","وَلَكُمۡ فِی ٱلۡقِصَاصِ حَیَوٰةࣱ یَـٰۤأُو۟لِی ٱلۡأَلۡبَـٰبِ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ"],"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ كُتِبَ عَلَیۡكُمُ ٱلۡقِصَاصُ فِی ٱلۡقَتۡلَىۖ ٱلۡحُرُّ بِٱلۡحُرِّ وَٱلۡعَبۡدُ بِٱلۡعَبۡدِ وَٱلۡأُنثَىٰ بِٱلۡأُنثَىٰۚ فَمَنۡ عُفِیَ لَهُۥ مِنۡ أَخِیهِ شَیۡءࣱ فَٱتِّبَاعُۢ بِٱلۡمَعۡرُوفِ وَأَدَاۤءٌ إِلَیۡهِ بِإِحۡسَـٰنࣲۗ ذَ ٰلِكَ تَخۡفِیفࣱ مِّن رَّبِّكُمۡ وَرَحۡمَةࣱۗ فَمَنِ ٱعۡتَدَىٰ بَعۡدَ ذَ ٰلِكَ فَلَهُۥ عَذَابٌ أَلِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق