الباحث القرآني

* بابُ القِصاصِ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصاصُ في القَتْلى﴾ هَذا كَلامٌ مُكْتَفٍ بِنَفْسِهِ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إلى ما بَعْدَهُ، ألا تَرى أنَّهُ لَوِ اقْتُصِرَ عَلَيْهِ لَكانَ مَعْناهُ مَفْهُومًا مِن لَفْظِهِ، واقْتَضى ظاهِرُهُ وُجُوبَ القِصاصِ عَلى المُؤْمِنِينَ في جَمِيعِ القَتْلى ؟ والقِصاصُ هو أنْ يُفْعَلَ بِهِ مِثْلُ ما فَعَلَ بِهِ، مِن قَوْلِكَ: " اقْتَصَّ أثَرَ فُلانٍ " إذا فَعَلَ مِثْلَ فِعْلِهِ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فارْتَدّا عَلى آثارِهِما قَصَصًا﴾ [الكهف: ٦٤] وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وقالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ﴾ [القصص: ١١] أيِ اتَّبِعِي أثَرَهُ. وقَوْلُهُ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ﴾ [البقرة: ١٨٣] مَعْناهُ: فُرِضَ عَلَيْكم، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ﴾ [البقرة: ١٨٣] و﴿كُتِبَ عَلَيْكم إذا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا الوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ﴾ [البقرة: ١٨٠] وقَدْ كانَتِ الوَصِيَّةُ واجِبَةً. ومِنهُ: الصَّلَواتُ المَكْتُوباتُ، يَعْنِي بِها المَفْرُوضاتِ، فانْتَظَمَتِ الآيَةُ إيجابَ القِصاصِ عَلى المُؤْمِنِينَ إذا قَتَلُوا لِمَن قُتِلُوا مِن سائِرِ المَقْتُولِينَ لِعُمُومِ لَفْظِ المَقْتُولِينَ. والخُصُوصُ إنَّما هو في القاتِلِينَ؛ لِأنَّهُ لا يَكُونُ (p-١٦٥)القِصاصُ مَكْتُوبًا عَلَيْهِمْ إلّا وهم قاتِلُونَ، فاقْتَضى وُجُوبَ القِصاصِ عَلى كُلِّ قاتِلٍ عَمْدًا بِحَدِيدَةٍ إلّا ما خَصَّهُ الدَّلِيلُ، سَواءٌ كانَ المَقْتُولُ عَبْدًا أوْ ذِمِّيًّا، ذَكَرًا أوْ أُنْثى؛ لِشُمُولِ لَفْظِ القَتْلى لِلْجَمِيعِ. ولَيْسَ تَوْجِيهُ الخِطابِ إلى المُؤْمِنِينَ بِإيجابِ القِصاصِ عَلَيْهِمْ في القَتْلى بِمُوجِبٍ أنْ يَكُونَ القَتْلى مُؤْمِنِينَ؛ لِأنَّ عَلَيْنا اتِّباعَ عُمُومِ اللَّفْظِ ما لَمْ تَقُمْ دَلالَةُ الخُصُوصِ، ولَيْسَ في الآيَةِ ما يُوجِبُ خُصُوصَ الحُكْمِ في بَعْضِ القَتْلى دُونَ بَعْضٍ. فَإنْ قالَ قائِلٌ: يَدُلُّ عَلى خُصُوصِ الحُكْمِ في القَتْلى وجْهانِ: أحَدُهُما: في نَسَقِ الآيَةِ: ﴿فَمَن عُفِيَ لَهُ مِن أخِيهِ شَيْءٌ فاتِّباعٌ بِالمَعْرُوفِ﴾ والكافِرُ لا يَكُونُ أخًا لِلْمُسْلِمِ، فَدَلَّ عَلى أنَّ الآيَةَ خاصَّةٌ في قَتْلى المُؤْمِنِينَ. والثّانِي: قَوْلُهُ: ﴿الحُرُّ بِالحُرِّ والعَبْدُ بِالعَبْدِ والأُنْثى بِالأُنْثى﴾ قِيلَ لَهُ: هَذا غَلَطٌ مِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّهُ إذا كانَ أوَّلُ الخِطابِ قَدْ شَمِلَ الجَمِيعَ فَما عُطِفَ عَلَيْهِ بِلَفْظِ الخُصُوصِ لا يُوجِبُ تَخْصِيصَ عُمُومِ اللَّفْظِ، وذَلِكَ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿والمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ﴾ [البقرة: ٢٢٨] وهو عُمُومٌ في المُطَلَّقَةِ ثَلاثًا وما دُونَها، ثُمَّ عُطِفَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَبَلَغْنَ أجَلَهُنَّ فَأمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ [البقرة: ٢٣١] وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وبُعُولَتُهُنَّ أحَقُّ بِرَدِّهِنَّ في ذَلِكَ﴾ [البقرة: ٢٢٨] وهَذا حُكْمٌ خاصٌّ في المُطَلِّقِ لِما دُونَ الثَّلاثِ، ولَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ تَخْصِيصَ عُمُومِ اللَّفْظِ في إيجابِ ثَلاثَةِ قُرُوءٍ مِنَ العِدَّةِ عَلى جَمِيعِهِنَّ، ونَظائِرُ هَذا كَثِيرَةٌ في القُرْآنِ. والوَجْهُ الآخَرُ: أنْ يُرِيدَ الإخْوَةَ مِن طَرِيقِ النَّسَبِ لا مِن جِهَةِ الدِّينِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإلى عادٍ أخاهم هُودًا﴾ [هود: ٥٠] وأمّا قَوْلُهُ: ﴿الحُرُّ بِالحُرِّ والعَبْدُ بِالعَبْدِ﴾ فَلا يُوجِبُ تَخْصِيصَ عُمُومِ اللَّفْظِ في القَتْلى؛ لِأنَّهُ إذا كانَ أوَّلُ الخِطابِ مُكْتَفِيًا بِنَفْسِهِ غَيْرَ مُفْتَقِرٍ إلى ما بَعْدَهُ لَمْ يَجُزْ لَنا أنْ نَقْصُرَهُ عَلَيْهِ. وقَوْلُهُ: ﴿الحُرُّ بِالحُرِّ﴾ إنَّما هو بَيانٌ لِما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ عَلى وجْهِ التَّأْكِيدِ وذِكْرِ الحالِ الَّتِي خَرَجَ عَلَيْها الكَلامُ، وهو ما ذَكَرَهُ الشَّعْبِيُّ وقَتادَةُ: أنَّهُ كانَ بَيْنَ حَيَّيْنِ مِنَ العَرَبِ قِتالٌ. وكانَ لِأحَدِهِما طَوْلٌ عَلى الآخَرِ، فَقالُوا: لا نَرْضى إلّا أنْ نَقْتُلَ بِالعَبْدِ مِنّا الحُرَّ مِنكم، وبِالأُنْثى مِنّا الذَّكَرَ مِنكم فَأنْزَلَ اللَّهُ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصاصُ في القَتْلى الحُرُّ بِالحُرِّ والعَبْدُ بِالعَبْدِ﴾ مُبْطِلًا بِذَلِكَ ما أرادُوهُ، ومُؤَكِّدًا عَلَيْهِمْ فَرْضَ القِصاصِ عَلى القاتِلِ دُونَ غَيْرِهِ؛ لِأنَّهم كانُوا يَقْتُلُونَ غَيْرَ القاتِلِ، فَنَهاهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ وهو مَعْنى ما رُوِيَ عَنْهُ ﷺ أنَّهُ قالَ: «مِن أعْتى النّاسِ عَلى اللَّهِ يَوْمَ القِيامَةِ ثَلاثَةٌ: رَجُلٌ قَتَلَ غَيْرَ قاتِلِهِ، ورَجُلٌ قَتَلَ في الحَرَمِ، ورَجُلٌ أخَذَ بِذُحُولِ الجاهِلِيَّةِ» . وأيْضًا فَإنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿الحُرُّ بِالحُرِّ والعَبْدُ بِالعَبْدِ﴾ تَفْسِيرٌ لِبَعْضِ ما انْتَظَمَهُ عُمُومُ اللَّفْظِ، ولا يُوجِبُ ذَلِكَ تَخْصِيصَ (p-١٦٦)اللَّفْظِ، ألا تَرى أنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ ﷺ: «الحِنْطَةُ بِالحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ»، وذِكْرَهُ الأصْنافَ السِّتَّةَ لَمْ يُوجِبْ أنْ يَكُونَ حُكْمُ الرِّبا مَقْصُورًا عَلَيْها، ولا نَفْيَ الرِّبا عَمّا عَداها ؟ كَذَلِكَ قَوْلُهُ ﴿الحُرُّ بِالحُرِّ﴾ لا يَنْفِي اعْتِبارَ عُمُومِ اللَّفْظِ في قَوْلِهِ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصاصُ في القَتْلى﴾ ويَدُلُّ عَلى أنَّ قَوْلَهُ: ﴿الحُرُّ بِالحُرِّ﴾ غَيْرُ مُوجِبٍ لِتَخْصِيصِ عُمُومِ القِصاصِ، ولَمْ يَنْفِ القِصاصَ عَنْ غَيْرِ المَذْكُورِ اتِّفاقُ الجَمِيعِ عَلى قَتْلِ العَبْدِ بِالحُرِّ والأُنْثى بِالذَّكَرِ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ تَخْصِيصَ الحُرِّ بِالحُرِّ لَمْ يَنْفِ مُوجِبَ حُكْمِ اللَّفْظِ في جَمِيعِ القَتْلى. فَإنْ قالَ قائِلٌ: كَيْفَ يَكُونُ القِصاصُ مَفْرُوضًا، والوَلِيُّ مُخَيَّرٌ بَيْنَ العَفْوِ وبَيْنَ القِصاصِ ؟ قِيلَ لَهُ: لَمْ يَجْعَلْهُ مَفْرُوضًا عَلى الوَلِيِّ، وإنَّما جَعَلَهُ مَفْرُوضًا عَلى القاتِلِ لِلْوَلِيِّ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصاصُ في القَتْلى﴾ ولَيْسَ القِصاصُ عَلى الوَلِيِّ، وإنَّما هو حَقٌّ لَهُ، وهَذا لا يَنْفِي وُجُوبَهُ عَلى القاتِلِ، وإنْ كانَ الَّذِي لَهُ القِصاصُ مُخَيَّرًا فِيهِ. وهَذِهِ الآيَةُ تَدُلُّ عَلى قَتْلِ الحُرِّ بِالعَبْدِ، والمُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ، والرَّجُلِ بِالمَرْأةِ لِما بَيَّنّا مِنِ اقْتِضاءِ أوَّلِ الخِطابِ إيجابَ عُمُومِ القِصاصِ في سائِرِ القَتْلى، وأنَّ تَخْصِيصَهُ الحُرَّ بِالحُرِّ ومَن ذَكَرَ مَعَهُ لا يُوجِبُ الِاقْتِصارِ بِحُكْمِ القِصاصِ عَلَيْهِ دُونَ اعْتِبارِ عُمُومِ ابْتِداءِ الخِطابِ في إيجابِ القِصاصِ. ونَظِيرُها مِنَ الآيِ في إيجابِ القِصاصِ عامًّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطانًا﴾ [الإسراء: ٣٣] فانْتَظَمَ ذَلِكَ جَمِيعَ المَقْتُولِينَ ظُلْمًا وجَعَلَ لِأوْلِيائِهِمْ سُلْطانًا، وهو القَوَدُ؛ لِاتِّفاقِ الجَمِيعِ عَلى أنَّ القَوَدَ مُرادٌ بِذَلِكَ في الحُرِّ المُسْلِمِ إذا قَتَلَ حُرًّا مُسْلِمًا، فَكانَ بِمَنزِلَةِ قَوْلِهِ تَعالى فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ قَوَدًا؛ لِأنَّ ما حَصَلَ الِاتِّفاقُ عَلَيْهِ مِن مَعْنى الآيَةِ مُرادٌ فَكَأنَّهُ مَنصُوصٌ عَلَيْهِ فِيها، فَلَفْظُ السُّلْطانِ، وإنْ كانَ مُجْمَلًا فَقَدْ عُرِفَ مَعْنى مُرادِهِ مِن طَرِيقِ الِاتِّفاقِ. وقَوْلُهُ: ﴿ومَن قُتِلَ مَظْلُومًا﴾ [الإسراء: ٣٣] هو عُمُومٌ يَصِحُّ اعْتِبارُهُ عَلى حَسَبِ ظاهِرِهِ، ومُقْتَضى لَفْظِهِ. ونَظِيرُها أيْضًا مِنَ الآيِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ [المائدة: ٤٥] فَأخْبَرَ أنَّ ذَلِكَ كانَ مَكْتُوبًا عَلى بَنِي إسْرائِيلَ. وهو عُمُومٌ في إيجابِ القِصاصِ في سائِرِ المَقْتُولِينَ. وقَدِ احْتَجَّ أبُو يُوسُفَ بِذَلِكَ في قَتْلِ الحُرِّ بِالعَبْدِ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ مِن مَذْهَبِهِ أنَّ شَرِيعَةَ مَن كانَ قَبْلَنا مِنَ الأنْبِياءِ ثابِتَةٌ عَلَيْنا ما لَمْ يَثْبُتْ نَسْخُها عَلى لِسانِ الرَّسُولِ ﷺ ولا نَجِدُ في القُرْآنِ ولا في السُّنَّةِ ما يُوجِبُ نَسْخَ ذَلِكَ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ حُكْمُهُ ثابِتًا عَلَيْنا عَلى حَسَبِ ما اقْتَضاهُ ظاهِرُ لَفْظِهِ مِن إيجابِ القِصاصِ في سائِرِ الأنْفُسِ. ونَظِيرُهُ أيْضًا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكم فاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ ما اعْتَدى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٤]؛ (p-١٦٧)لِأنَّ مَن قُتِلَ ولِيُّهُ يَكُونُ مُعْتَدًى عَلَيْهِ، وذَلِكَ عُمُومٌ في سائِرِ القَتْلى. وكَذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿وإنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ [النحل: ١٢٦] يَقْتَضِي عُمُومُهُ وُجُوبَ القِصاصِ في الحُرِّ والعَبْدِ والذَّكَرِ والأُنْثى والمُسْلِمِ والذِّمِّيِّ. * * * بابُ قَتْلِ المَوْلى لِعَبْدِهِ وقَدِ اخْتُلِفَ في قَتْلِ المَوْلى لِعَبْدِهِ، فَقالَ قائِلُونَ، وهم شَواذٌّ: يُقْتَلُ بِهِ. وقالَ عامَّةُ الفُقَهاءِ: لا يُقْتَلُ بِهِ. فَمَن قَتَلَهُ احْتَجَّ بِظاهِرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصاصُ في القَتْلى الحُرُّ بِالحُرِّ﴾ عَلى نَحْوِ ما احْتَجَجْنا بِهِ في قَتْلِ الحُرِّ بِالحُرِّ، وقَوْلِهِ: ﴿النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ [المائدة: ٤٥] وقَوْلِهِ: ﴿فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكم فاعْتَدُوا عَلَيْهِ﴾ [البقرة: ١٩٤] وقَوْلِهِ ﷺ: «المُسْلِمُونَ تَتَكافَأُ دِماؤُهم» وقَدْ رُوِيَ حَدِيثٌ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «مَن قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْناهُ، ومَن جَدَعَ عَبْدَهُ جَدَعْناهُ» . أمّا ظاهِرُ الآيِ فَلا حُجَّةَ لَهم فِيها؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى إنَّما جَعَلَ القِصاصَ فِيها لِلْمَوْلى بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ومَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطانًا﴾ [الإسراء: ٣٣] ووَلِيُّ العَبْدِ هو مَوْلاهُ في حَياتِهِ، وبَعْدَ وفاتِهِ؛ لِأنَّ العَبْدَ لا يَمْلِكُ شَيْئًا، وما يَمْلِكُهُ فَهو لِمَوْلاهُ لا مِن جِهَةِ المِيراثِ لَكِنْ مِن جِهَةِ المِلْكِ، فَإذا كانَ هو الوَلِيَّ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ القِصاصُ عَلى نَفْسِهِ، ولَيْسَ هو بِمَنزِلَةِ مَن قَتَلَ وارِثَهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ القِصاصُ، ولا يَرِثُهُ؛ لِأنَّ ما يَحْصُلُ لِلْوارِثِ إنَّما يَنْتَقِلُ عَنْ مِلْكِ المُوَرِّثِ إلَيْهِ، والقاتِلُ لا يَرِثُ فَوَجَبَ عَلَيْهِ القِصاصُ لِغَيْرِهِ، والعَبْدُ لا يَمْلِكُ شَيْئًا فَيَنْتَقِلُ إلى مَوْلاهُ، ألا تَرى أنَّهُ لَوْ قُتِلَ ابْنُ العَبْدِ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ القِصاصُ عَلى قاتِلِهِ؛ لِأنَّهُ لا يَمْلِكُ ؟ فَكَذَلِكَ لا يَثْبُتُ لَهُ القِصاصُ عَلى غَيْرِهِ. ومَتى وجَبَ لَهُ القَوَدُ عَلى قاتِلِهِ فَإنَّما يَسْتَحِقُّهُ مَوْلاهُ دُونَهُ، فَلَمْ يَجُزْ مِن أجْلِ ذَلِكَ إيجابُ القِصاصِ عَلى مَوْلاهُ بِقَتْلِهِ إيّاهُ. ويَدُلُّ عَلى أنَّ العَبْدَ لا يَثْبُتُ لَهُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ﴾ [النحل: ٧٥] فَنَفى بِذَلِكَ مِلْكَ العَبْدِ نَفْيًا عامًّا عَنْ كُلَّ شَيْءٍ، فَلَمْ يَجْزِ أنْ يَثْبُتَ لَهُ بِذَلِكَ عَلى أحَدٍ شَيْءٌ. وإذا لَمْ يَجُزْ أنْ يَثْبُتَ لَهُ ذَلِكَ لِأجْلِ أنَّهُ مِلْكٌ لِغَيْرِهِ، والمَوْلى (p-١٧٠)إذا اسْتَحَقَّ ما يَجِبُ لَهُ فَلا يَجِبُ لَهُ القَوَدُ عَلى نَفْسِهِ، ولَيْسَ العَبْدُ في هَذا كالحُرِّ؛ لِأنَّ الحُرَّ يَثْبُتُ لَهُ القِصاصُ ثُمَّ مِن جِهَتِهِ يَنْتَقِلُ إلى وارِثِهِ، ولِذَلِكَ يَسْتَحِقُّونَهُ بَيْنَهم عَلى قَدْرِ مَوارِيثِهِمْ، فَمَن حُرِمَ مِيراثَهُ بِالقَتْلِ لَمْ يَرِثْهُ القَوَدَ فَكانَ القَوَدُ لِمَن يَرِثُهُ. فَإنْ قِيلَ: لَيْسَ دَمُ العَبْدِ في هَذا الوَجْهِ كَمالِهِ؛ لِأنَّ المَوْلى لا يَمْلِكُ قَتْلَهُ، ولا الإقْرارَ عَلَيْهِ بِالقِتَلِ فَهو بِمَنزِلَةِ الأجْنَبِيِّ فِيهِ. قِيلَ لَهُ: إنْ كانَ المَوْلى لا يَمْلِكُ قَتْلَهُ، ولا الإقْرارَ عَلَيْهِ بِهِ ولَكِنَّهُ ولِيٌّ، وهو المُسْتَحِقُّ لِلْقِصاصِ عَلى قاتِلِهِ إذا كانَ أجْنَبِيًّا، مِن حَيْثُ كانَ مالِكًا لِرَقَبَتِهِ لا مِن جِهَةِ المِيراثِ، ألا تَرى أنَّهُ المُسْتَحِقُّ لِلْقَوَدِ عَلى قاتِلِهِ دُونَ أقْرِبائِهِ ؟ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ يَمْلِكُ القَوَدَ بِهِ كَما يَمْلِكُ رَقَبَتَهُ. فَإذا كانَ هو القاتِلَ لَمْ يَجُزْ أنْ يَسْتَحِقَّ القَوَدَ غَيْرُهُ عَلَيْهِ، فاسْتَحالَ مِن أجْلِ ذَلِكَ وُجُوبُ القَوَدِ لَهُ عَلى نَفْسِهِ. وأيْضًا فَقَوْلُهُ ﴿فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكم فاعْتَدُوا عَلَيْهِ﴾ [البقرة: ١٩٤] لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ خِطابًا لِلْمَوْلى إذا كانَ هو المُعْتَدِي بِقَتْلِ عَبْدِهِ؛ لِأنَّهُ وإنْ كانَ مُعْتَدِيًا عَلى نَفْسِهِ بِقَتْلِ عَبْدِهِ وإتْلافِ مِلْكِهِ فَغَيْرُ جائِزٍ خِطابِهِ بِاسْتِيفاءِ القَوَدِ مِن نَفْسِهِ وغَيْرُ جائِزْ أنْ يَكُونَ غَيْرُهُ مُخاطَبًا بِاسْتِيفاءِ القَوَدِ مِنهُ؛ لِأنَّهُ غَيْرُ مُعْتَدٍ عَلَيْهِ، واللَّهُ تَعالى إنَّما أوْجَبَ الحَقَّ لِمَنِ اعْتُدِيَ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ. فَإنْ قالَ قائِلٌ: يُقِيدُ الإمامُ مِنهُ كَما يُقِيدُ مِمَّنْ قَتَلَ رَجُلًا لا وارِثَ لَهُ. قِيلَ لَهُ: إنَّما يَقُومُ الإمامُ بِما ثَبَتَ مِنَ القَوَدِ لِكافَّةِ المُسْلِمِينَ إذا كانُوا مُسْتَحِقِّينَ لِمِيراثِهِ، والعَبْدُ لا يُورَثُ فَيَثْبُتُ الحَقُّ في الِاقْتِصاصِ مِن قاتِلِهِ لِكافَّةِ المُسْلِمِينَ، ولا جائِزٌ أنْ يَثْبُتَ ذَلِكَ لِلْإمامِ ألا تَرى أنَّهُ لَوْ قُتِلَ العَبْدُ خَطَأً كانَ المَوْلى هو المُسْتَحِقَّ لِقِيمَتِهِ عَلى قاتِلِهِ دُونَ سائِرِ المُسْلِمِينَ، ودُونَ الإمامِ، وأنَّ الحُرَّ الَّذِي لا وارِثَ لَهُ لَوْ قُتِلَ خَطَأً كانَتْ دِيَتُهُ لِبَيْتِ المالِ ؟ فَكَذَلِكَ القَوَدُ لَوْ ثَبَتَ عَلى المَوْلى لَما اسْتَحَقَّهُ الإمامُ، ولَكانَ المَوْلى هو الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ، ويَسْتَحِيلُ ثُبُوتُ ذَلِكَ لَهُ عَلى نَفْسِهِ فَبَطَلَ. وأمّا الحَدِيثُ الَّذِي رُوِيَ فِيهِ فَهو مُعارَضٌ بِضِدِّهِ، وهو ما حَدَّثَنا ابْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا المَقْبُرِيُّ قالَ: حَدَّثَنا خالِدُ بْنُ يَزِيدَ بْنِ صَفْوانَ النَّوْفَلِيُّ قالَ: حَدَّثَنا ضَمْرَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وعَنِ الأوْزاعِيِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ «أنَّ رَجُلًا قَتَلَ عَبْدَهُ مُتَعَمِّدًا فَجَلَدَهُ النَّبِيُّ ﷺ ونَفاهُ سَنَةً، ومَحا سَهْمَهُ مِنَ المُسْلِمِينَ، ولَمْ يُقِدْهُ بِهِ» فَنَفى هَذا الخَبَرُ ظاهِرَ ما أثْبَتَهُ خَبَرُ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ، مَعَ مُوافَقَتِهِ لِما ذَكَرْنا مِن ظاهِرِ الآيِ ومَعانِيها مِن إيجابِ اللَّهِ تَعالى القَوَدَ لِلْمَوْلى، ومِن نَفْيِهِ لِمِلْكِ العَبْدِ بِقَوْلِهِ ﴿لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ﴾ [النحل: ٧٥] ولَوِ انْفَرَدَ خَبَرُ سَمُرَةَ عَنْ مُعارَضَةِ الخَبَرِ الَّذِي قَدَّمْناهُ لَما جازَ القَطْعُ بِهِ لِاحْتِمالِهِ لِغَيْرِ ظاهِرِهِ، وهو (p-١٧١)أنَّهُ جائِزٌ أنْ يَكُونَ رَجُلٌ أعْتَقَ عَبْدَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ أوْ جَدَعَهُ أوْ لَمْ يُقْدِمْ عَلى ذَلِكَ، ولَكِنَّهُ هَدَّدَهُ بِهِ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ ﷺ فَقالَ: «مَن قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْناهُ» يَعْنِي عَبْدَهُ المُعْتَقَ الَّذِي كانَ عَبْدَهُ. وهَذا الإطْلاقُ شائِعٌ في اللُّغَةِ والعادَةِ فَقَدْ «قالَ النَّبِيُّ ﷺ لِبِلالٍ حِينَ أذَّنَ قَبْلَ طُلُوعِ الفَجْرِ: ألا إنَّ العَبْدَ نامَ»، وقَدْ كانَ حُرًّا في ذَلِكَ الوَقْتِ، وقالَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلامُ: " اُدْعُوا لِي هَذا العَبْدَ الأبْظَرَ " يَعْنِي شُرَيْحًا حِينَ قَضى في ابْنَيْ عَمٍّ أحَدُهُما أخٌ لِأُمٍّ بِأنَّ المِيراثَ لِلْأخِ مِنَ الأُمِّ؛ لِأنَّهُ كانَ قَدْ جَرى عَلَيْهِ رِقٌّ في الجاهِلِيَّةِ فَسَمّاهُ بِذَلِكَ، وقالَ تَعالى: ﴿وآتُوا اليَتامى أمْوالَهُمْ﴾ [النساء: ٢] والمُرادُ الَّذِينَ كانُوا يَتامى. وقالَ ﷺ: «تُسْتَأْمَرُ اليَتِيمَةُ في نَفْسِها» يَعْنِي الَّتِي كانَتْ يَتِيمَةً. ولا يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ مُرادُ النَّبِيِّ ﷺ بِقَوْلِهِ: «مَن قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْناهُ» ما وصَفْناهُ فِيمَن كانَ عَبْدًا فَأُعْتِقَ، وزالَ بِهَذا تَوَهُّمُ مُتَوَهِّمٍ لَوْ ظَنَّ أنَّ مَوْلى النِّعْمَةِ لا يُقادُ بِمَوْلاهُ الأسْفَلِ كَما لا يُقادُ والِدٌ بِوَلَدِهِ. وقَدْ كانَ جائِزًا أنْ يَسْبِقَ إلى ظَنِّ بَعْضِ النّاسِ أنْ لا يُقادَ بِهِ ﷺ قَدْ جَعَلَ حَقَّ مَوْلى النِّعْمَةِ كَحَقِّ الوالِدِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ﷺ: «لَنْ يَجْزِيَ ولَدٌ والِدَهُ إلّا أنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ» فَجَعَلَ عِتْقَهُ لِأبِيهِ كِفاءً لِحَقِّهِ ومُساوِيًا لِيَدِهِ عِنْدَهُ ونِعْمَتِهِ لَدَيْهِ، واللَّهُ أعْلَمُ. * * * بابُ القِصاصِ بَيْنَ الرِّجالِ والنِّساءِ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصاصُ في القَتْلى﴾ وقالَ: ﴿ومَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطانًا﴾ [الإسراء: ٣٣] فَظاهِرُ ما ذُكِرَ مِن ظَواهِرِ الآيِ المُوجِبَةِ لِلْقِصاصِ في الأنْفُسِ بَيْنَ العَبِيدِ والأحْرارِ مُوجِبٌ لِلْقِصاصِ بَيْنَ الرِّجالِ والنِّساءِ فِيها. وقَدِ اخْتَلَفَ الفُقَهاءُ في ذَلِكَ، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ وزُفَرُ، وابْنُ شُبْرُمَةَ: " لا قِصاصَ بَيْنَ الرِّجالِ والنِّساءِ إلّا في الأنْفُسِ " ورُوِيَ عَنِ ابْنِ شُبْرُمَةَ رِوايَةٌ أُخْرى: أنَّ بَيْنَهم قِصاصًا فِيما دُونَ النَّفْسِ. وقالَ ابْنُ أبِي لَيْلى ومالِكٌ والثَّوْرِيُّ واللَّيْثُ والأوْزاعِيُّ والشّافِعِيُّ: " القِصاصُ واقِعٌ فِيما بَيْنَ الرِّجالِ والنِّساءِ في الأنْفُسِ وما دُونَها " إلّا أنَّ اللَّيْثَ قالَ: " إذا جَنى الرَّجُلُ عَلى امْرَأتِهِ عَقَلَها ولَمْ يُقْتَصَّ مِنهُ " . وقالَ عُثْمانُ البَتِّيُّ: " إذا قَتَلَتِ امْرَأةٌ رَجُلًا قُتِلَتْ بِهِ، وأُخِذَ مِن مالِها نِصْفُ الدِّيَةِ، وكَذَلِكَ إنْ أصابَتْهُ بِجِراحَةٍ " قالَ: " وإنْ كانَ هو الَّذِي قَتَلَها أوْ جَرَحَها فَعَلَيْهِ القَوَدُ، ولا يُرَدُّ عَلَيْهِ شَيْءٌ " . وقَدْ رُوِيَ عَنِ السَّلَفِ اخْتِلافٌ في ذَلِكَ، فَرَوى قَتادَةُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ: " أنَّ عُمَرَ قَتَلَ نَفَرًا مِن أهْلِ صَنْعاءَ بِامْرَأةٍ أقادَهم بِها " . ورُوِيَ عَنْ عَطاءٍ والشَّعْبِيِّ ومُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ: أنَّهُ يُقْتَلُ بِها. واخْتُلِفَ عَنْ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ فِيها، فَرَوى لَيْثٌ عَنِ الحَكَمِ عَنْ عَلِيٍّ وعَبْدِ اللَّهِ (p-١٧٢)قالا: " إذا قَتَلَ الرَّجُلُ المَرْأةَ مُتَعَمِّدًا فَهو بِها قَوَدٌ " . ورُوِيَ عَنْ عَطاءٍ، والشَّعْبِيِّ، والحَسَنِ البَصْرِيِّ أنَّ عَلِيًّا قالَ: " إنْ شاءُوا قَتَلُوهُ، وأدَّوْا نِصْفَ الدِّيَةِ، وإنْ شاءُوا أخَذُوا نِصْفَ دِيَةِ الرَّجُلِ " . ورَوى أشْعَثُ عَنِ الحَسَنِ في امْرَأةٍ قَتَلَتْ رَجُلًا عَمْدًا قالَ: " تُقْتَلُ، وتَرُدُّ نِصْفَ الدِّيَةِ " . قالَ أبُو بَكْرٍ: ما رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ مِنَ القَوْلَيْنِ في ذَلِكَ مُرْسَلٌ؛ لِأنَّ أحَدًا مِن رُواتِهِ لَمْ يَسْمَعْ مِن عَلِيٍّ شَيْئًا، ولَوْ ثَبَتَتِ الرِّوايَتانِ كانَ سَبِيلُهُما أنْ تَتَعارَضا، وتَسْقُطا فَكَأنَّهُ لَمْ يُرْوَ عَنْهُ في ذَلِكَ شَيْءٌ. وعَلى أنَّ رِوايَةً الحَكَمِ في إيجابِ القَوَدِ دُونَ المالِ أوْلى لِمُوافَقَتِها لِظاهِرِ الكِتابِ، وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصاصُ في القَتْلى﴾ وسائِرُ الآيِ المُوجِبَةِ لِلْقَوَدِ لَيْسَ في شَيْءٍ مِنها ذِكْرُ الدِّيَةِ، وهو غَيْرُ جائِزٍ أنْ يَزِيدَ في النَّصِّ إلّا بِنَصٍّ مِثْلِهِ؛ لِأنَّ الزِّيادَةَ في النَّصِّ تُوجِبُ النَّسْخَ. حَدَّثَنا ابْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا إبْراهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأنْصارِيِّ قالَ: حَدَّثَنا حُمَيْدٌ عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ: «أنَّ الرُّبَيِّعَ بِنْتَ النَّضْرِ لَطَمَتْ جارِيَةً فَكَسَرَتْ ثَنِيَّتَها فَعَرَضَ عَلَيْهِمُ الأرْشَ فَأبَوْا، فَأتَوْا النَّبِيَّ ﷺ فَأمَرَهم بِالقِصاصِ فَجاءَ أخُوها أنَسُ بْنُ النَّضْرِ فَقالَ: يا رَسُولَ اللَّهِ تُكْسَرُ سِنُّ الرُّبَيِّعِ ؟ لا، والَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ فَقالَ: يا أنَسُ كِتابُ اللَّهِ القِصاصُ فَعَفا القَوْمُ، فَقالَ ﷺ: إنَّ مِن عِبادِ اللَّهِ مَن لَوْ أقْسَمَ عَلى اللَّهِ لَأبَرَّهُ» فَأخْبَرَ ﷺ أنَّ الَّذِي في كِتابِ اللَّهِ القِصاصُ دُونَ المالِ فَلا جائِزٌ إثْباتُ المالِ مَعَ القِصاصِ. ومِن جِهَةٍ أُخْرى أنَّهُ إذا لَمْ يَجِبِ القِصاصُ بِنَفْسِ القَتْلِ فَغَيْرُ جائِزٍ إيجابُهُ مَعَ إعْطاءِ المالِ؛ لِأنَّ المالَ حِينَئِذٍ يَصِيرُ بَدَلًا مِنَ النَّفْسِ، وغَيْرُ جائِزٍ قَتْلُ النَّفْسِ بِالمالِ، ألا تَرى أنَّ مَن رَضِيَ أنْ يُقْتَلَ، ويُعْطى مالًا يَكُونُ لِوارِثِهِ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ، ولَمْ يَجُزْ أنْ يَسْتَحِقَّ النَّفْسَ بِالمالِ ؟ فَبَطَلَ أنْ يَكُونَ القِصاصُ مَوْقُوفًا عَلى إعْطاءٍ المالِ. وأمّا مَذْهَبُ الحَسَنِ، وقَوْلُ عُثْمانَ البَتِّيِّ في أنَّ المَرْأةَ إذا كانَتِ القاتِلَةَ قُتِلَتْ، وأُخِذَ مِن مالِها نِصْفُ الدِّيَةِ، فَقَوْلٌ يَرُدُّهُ ظاهِرُ الآيِ المُوجِبَةِ لِلْقِصاصِ، ويُوجِبُ زِيادَةَ حُكْمٍ غَيْرِ مَذْكُورٍ فِيها. وقَدْ رَوى قَتادَةُ عَنْ أنَسٍ: «أنَّ يَهُودِيًّا قَتَلَ جارِيَةً، وعَلَيْها أوْضاحٌ لَها، فَأُتِيَ بِهِ النَّبِيُّ ﷺ فَقَتَلَهُ بِها» . ورَوى الزُّهْرِيُّ عَنْ أبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «إنَّ الرَّجُلَ يُقْتَلُ بِالمَرْأةِ» . وأيْضًا قَدْ ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ قَتْلُ جَماعَةِ رِجالٍ بِالمَرْأةِ الواحِدَةِ مِن غَيْرِ خِلافٍ ظَهَرَ مِن أحَدٍ مِن نُظَرائِهِ مَعَ اسْتِفاضَةِ ذَلِكَ، وشُهْرَتِهِ عَنْهُ، ومِثْلُهُ يَكُونُ إجْماعًا. ومِمّا يَدُلُّ عَلى قَتْلِ الرَّجُلِ بِها مِن غَيْرِ بَدَلِ مالٍ، ما قَدَّمْنا مِن سُقُوطِ اعْتِبارِ، (p-١٧٣)المُساواةِ بَيْنَ الصَّحِيحَةِ، والسَّقِيمَةِ، وقَتْلِ العاقِلِ بِالمَجْنُونِ، والرَّجُلِ بِالصَّبِيِّ، وهَذا يَدُلُّ عَلى سُقُوطِ اعْتِبارِ المُساواةِ في النُّفُوسِ، وأمّا دُونَ النَّفْسِ فَإنَّ اعْتِبارَ المُساواةِ، واجِبٌ فِيهِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ اتِّفاقُ الجَمِيعِ عَلى امْتِناعِ أخْذِ اليَدِ الصَّحِيحَةِ بِالشَّلّاءِ. وكَذَلِكَ لَمْ يُوجِبْ أصْحابُنا القِصاصَ بَيْنَ الرِّجالِ، والنِّساءِ فِيما دُونَ النَّفْسِ، وكَذَلِكَ بَيْنَ العَبِيدِ، والأحْرارِ؛ لِأنَّ ما دُونَ النَّفْسِ مِن أعْضائِها غَيْرُ مُتَساوِيَةٍ. فَإنْ قالَ قائِلٌ: هَلّا قُطِعَتْ يَدُ العَبْدِ، ويَدُ المَرْأةِ بِيَدِ الرَّجُلِ كَما قُطِعَتِ اليَدُ الشَّلّاءُ بِالصَّحِيحَةِ قِيلَ لَهُ: إنَّما سَقَطَ القِصاصُ في هَذا المَوْضِعِ لِاخْتِلافِ أحْكامِها لا مِن جِهَةِ النَّقْصِ، فَصارَ كاليُسْرى لا تُؤْخَذُ بِاليُمْنى، وأوْجَبَ أصْحابُنا القِصاصَ بَيْنَ النِّساءِ فِيما دُونَ النَّفْسِ لِتَساوِي أعْضائِهِما مِن غَيْرِ اخْتِلافٍ في أحْكامِهِما، ولَمْ يُوجِبُوا القِصاصَ فِيما بَيْنَ العَبِيدِ فِيما دُونَ النَّفْسِ؛ لِأنَّ تَساوِيَهُما إنَّما يُعْلَمُ مِن طَرِيقِ التَّقْوِيمِ، وغالِبِ الظَّنِّ. كَما لا تُقْطَعُ اليَدُ مِن نِصْفِ السّاعِدِ؛ لِأنَّ الوُصُولَ إلى عِلْمِهِ مِن طَرِيقِ الِاجْتِهادِ. وعِنْدَهم أنَّ أعْضاءَ العَبْدِ حُكْمُها حُكْمُ الأمْوالِ في جَمِيعِ الوُجُوهِ، فَلا يَلْزَمُ العاقِلَةَ مِنها شَيْءٌ، وإنَّما يَلْزَمُ الجانِي في مالِهِ، ولَيْسَ كَذَلِكَ النَّفْسُ؛ لِأنَّها تَلْزَمُ العاقِلَةَ في الخَطَأِ، وتَجِبُ فِيها الكَفّارَةُ فَفارَقَ الجِناياتِ عَلى الأمْوالِ، واللَّهُ أعْلَمُ. * * * بابُ قَتْلِ المُؤْمِنِ بِالكافِرِ قالَ أبُو حَنِيفَةَ وأبُو يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ وزُفَرُ وابْنُ أبِي لَيْلى وعُثْمانُ البَتِّيُّ " يُقْتَلُ المُسْلِمُ بِالذِّمِّيِّ " . وقالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ والثَّوْرِيُّ والأوْزاعِيُّ والشّافِعِيُّ: " لا يُقْتَلُ " . وقالَ مالِكٌ واللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ: " إنْ قَتَلَهُ غِيلَةً قُتِلَ بِهِ، وإلّا لَمْ يُقْتَلْ " . قالَ أبُو بَكْرٍ: سائِرُ ما قَدَّمْنا مِن ظَواهِرِ الآيِ يُوجِبُ قَتْلَ المُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ عَلى ما بَيَّنّا؛ إذْ لَمْ يُفَرِّقْ شَيْءٌ مِنها بَيْنَ المُسْلِمِ، والذِّمِّيِّ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصاصُ في القَتْلى﴾ عامٌّ في الكُلِّ، وكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿الحُرُّ بِالحُرِّ والعَبْدُ بِالعَبْدِ والأُنْثى بِالأُنْثى﴾ وقَوْلُهُ في سِياقِ الآيَةِ: ﴿فَمَن عُفِيَ لَهُ مِن أخِيهِ شَيْءٌ﴾ لا دَلالَةَ فِيهِ عَلى خُصُوصِ أوَّلِ الآيَةِ في المُسْلِمِينَ دُونَ الكُفّارِ؛ لِاحْتِمالِ الأُخُوَّةِ مِن جِهَةِ النَّسَبِ، ولِأنَّ عَطْفَ بَعْضِ ما انْتَظَمَهُ لَفْظُ العُمُومِ عَلَيْهِ بِحُكْمٍ مَخْصُوصٍ لا يَدُلُّ عَلى تَخْصِيصِ حُكْمِ الجُمْلَةِ عَلى ما بَيَّنّاهُ فِيما سَلَفَ عِنْدَ ذِكْرِنا حُكْمَ الآيَةِ. وكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى ﴿وكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ [المائدة: ٤٥] يَقْتَضِي عُمُومُهُ قَتْلَ المُؤْمِنِ بِالكافِرِ؛ لِأنَّ شَرِيعَةَ مَن قَبْلَنا مِنَ الأنْبِياءِ ثابِتَةٌ في حَقِّنا ما لَمْ يَنْسَخْها اللَّهُ تَعالى عَلى لِسانِ رَسُولِهِ ﷺ وتَصِيرُ حِينَئِذٍ شَرِيعَةً لِلنَّبِيِّ ﷺ (p-١٧٤)قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهِ﴾ [الأنعام: ٩٠] ويَدُلُّ عَلى أنَّ ما في هَذِهِ الآيَةِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ [المائدة: ٤٥] إلى آخِرِها هو شَرِيعَةٌ لِنَبِيِّنا ﷺ قَوْلُهُ ﷺ في إيجابِهِ القِصاصَ في السِّنِّ في حَدِيثِ أنَسٍ الَّذِي قَدَّمْنا حِينَ قالَ أنَسُ بْنُ النَّضْرِ: لا تُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ: «كِتابُ اللَّهِ القِصاصُ»، ولَيْسَ في كِتابِ اللَّهِ السِّنُّ بِالسِّنِّ إلّا في هَذِهِ الآيَةِ، فَأبانَ النَّبِيُّ ﷺ عَنْ مُوجِبِ حُكْمِ الآيَةِ عَلَيْنا، ولَوْ لَمْ تَلْزَمْنا شَرِيعَةُ مَن قَبْلَنا مِنَ الأنْبِياءِ بِنَفْسِ وُرُودِها لَكانَ قَوْلُهُ كافِيًا في بَيانِ مُوجِبِ حُكْمِ هَذِهِ الآيَةِ، وأنَّها قَدِ اقْتَضَتْ مِن حُكْمِها عَلَيْنا مِثْلَ ما كانَ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ فَقَدْ دَلَّ قَوْلُ النَّبِيِّ ﷺ هَذا عَلى مَعْنَيَيْنِ: أحَدُهُما: لُزُومُ حُكْمِ الآيَةِ لَنا، وثُبُوتُهُ عَلَيْنا، والثّانِي: إخْبارُهُ أنَّ ظاهِرَ الكِتابِ قَدْ ألْزَمَنا هَذا الحُكْمَ قَبْلَ إخْبارِ النَّبِيِّ ﷺ بِذَلِكَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى ما حَكاهُ اللَّهُ في كِتابِهِ مِمّا شَرَّعَهُ لِغَيْرِهِ مِنَ الأنْبِياءِ فَحُكْمُهُ ثابِتٌ ما لَمْ يُنْسَخْ، وإذا ثَبَتَ ما وصَفْنا، ولَيْسَ في الآيَةِ فَرْقٌ بَيْنَ المُسْلِمِ، والكافِرِ، وجَبَ إجْراءُ حُكْمِها عَلَيْهِما. ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿ومَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطانًا﴾ [الإسراء: ٣٣] وقَدْ ثَبَتَ بِالِاتِّفاقِ أنَّ السُّلْطانَ المَذْكُورَ في هَذا المَوْضِعِ قَدِ انْتَظَمَ القَوَدَ، ولَيْسَ فِيها تَخْصِيصُ مُسْلِمٍ مِن كافِرٍ فَهو عَلَيْهِما. ومِن جِهَةِ السُّنَّةِ ما رُوِيَ عَنِ الأوْزاعِيِّ، عَنْ يَحْيى بْنِ أبِي كَثِيرٍ، عَنْ سَلَمَةَ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ «خَطَبَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَقالَ: ألا، ومَن قَتَلَ قَتِيلًا فَوَلِيُّهُ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَيْنَ أنْ يَقْتَصَّ أوْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ» . ورَوى أبُو سَعِيدٍ المَقْبُرِيُّ عَنْ أبِي شُرَيْحٍ الكَعْبِيِّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ مِثْلَهُ. وحَدِيثُ عُثْمانَ وابْنِ مَسْعُودٍ، وعائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «لا يَحَلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلّا بِإحْدى ثَلاثٍ: زِنًا بَعْدَ إحْصانٍ، وكُفْرٌ بَعْدَ إيمانٍ، وقَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ» . وحَدِيثُ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «العَمْدُ قَوَدٌ» . وهَذِهِ الأخْبارُ يَقْتَضِي عُمُومُها قَتْلَ المُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ. ورَوى رَبِيعَةُ بْنُ أبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ السَّلْمانِيِّ: أنَّ «النَّبِيَّ ﷺ أقادَ مُسْلِمًا بِذِمِّيٍّ، وقالَ: أنا أحَقُّ مَن وفّى بِذِمَّتِهِ» . وقَدْ رَوى الطَّحاوِيُّ عَنْ سُلَيْمانَ بْنِ شُعَيْبٍ قالَ: حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ سَلّامٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أبِي حُمَيْدٍ المَدَنِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ المُنْكَدِرِ، عَنِ النَّبِيِ٥ ﷺ مِثْلَهُ. وقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وعَلِيٍّ وعَبْدِ اللَّهِ قَتْلُ المُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ، حَدَّثَنا ابْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا عَلِيُّ بْنُ الهَيْثَمِ، عَنْ عُثْمانَ الفَزارِيِّ قالَ: حَدَّثَنا مَسْعُودُ بْنُ جُوَيْرِيَةَ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ خِراشٍ، عَنْ واسِطٍ، عَنْ الحَسَنِ بْنِ مَيْمُونٍ، عَنْ أبِي الجَنُوبِ الأسَدِيِّ قالَ: جاءَ رَجْلٌ مِن أهْلِ الحِيرَةَ إلى عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وجْهَهُ فَقالَ: يا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ قَتَلَ ابْنِي، ولِيَ بَيِّنَةٌ فَجاءَ الشُّهُودُ فَشَهِدُوا، وسَألَ عَنْهم (p-١٧٥)فَزُكُّوا، فَأمَرَ بِالمُسْلِمِ فَأُقْعِدَ، وأُعْطِيَ الحِيرِيُّ سَيْفًا وقالَ: " أخْرِجُوهُ مَعَهُ إلى الجَبّانَةِ فَلْيَقْتُلْهُ، وأمْكَنّاهُ مِنَ السَّيْفِ "، فَتَباطَأ الحِيرِيُّ، فَقالَ لَهُ بَعْضُ أهْلِهِ: هَلْ لَكَ في الدِّيَةِ تَعِيشُ فِيها، وتَصْنَعُ عِنْدَنا يَدًا ؟ قالَ: نَعَمْ، وغَمَدَ السَّيْفَ، وأقْبَلَ إلى عَلِيٍّ فَقالَ: " لَعَلَّهم سَبُّوكَ وتَواعَدُوكَ ؟ " قالَ: لا، واللَّهِ، ولَكِنِّي اخْتَرْتُ الدِّيَةَ. فَقالَ عَلِيٌّ: " أنْتَ أعْلَمُ " قالَ: ثُمَّ أقْبَلَ عَلِيٌّ عَلى القَوْمِ فَقالَ: " أعْطَيْناهُمُ الَّذِي أعْطَيْناهم لِتَكُونَ دِماؤُنا كَدِمائِهِمْ، ودِياتُنا كَدِياتِهِمْ " . وحَدَّثَنا ابْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا مُعاذُ بْنُ المُثَنّى قالَ: حَدَّثَنا عَمْرُو بْنُ مَرْزُوقٍ قالَ: حَدَّثَنا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ المَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنِ النَّزّالِ بْنِ سَبْرَةَ: أنَّ رَجُلًا مِنَ المُسْلِمِينَ قَتَلَ رَجُلًا مِنَ العَبّادِيِّينَ، فَقَدِمَ أخُوهُ عَلى عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ، فَكَتَبَ عُمَرُ أنْ يُقْتَلَ، فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: يا جُبَيْرُ اُقْتُلْ فَجَعَلَ يَقُولُ: حَتّى يَأْتِيَ الغَيْظُ. فَكَتَبَ عُمَرُ أنْ لا يُقْتَلَ، ويُودى. ورُوِيَ في غَيْرِ هَذا الحَدِيثِ أنَّ الكِتابَ، ورَدَ بَعْدَ أنْ قُتِلَ، وأنَّهُ إنَّما كَتَبَ أنْ يَسْألَ الصُّلْحَ عَلى الدِّيَةِ حِينَ كُتِبَ إلَيْهِ أنَّهُ مِن فُرْسانِ المُسْلِمِينَ. ورَوى أبُو بَكْرِ بْنُ أبِي شَيْبَةَ قالَ: حَدَّثَنا ابْنُ إدْرِيسَ، عَنْ لَيْثٍ عَنِ الحَكَمِ، عَنْ عَلِيٍّ وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قالا: " إذا قَتَلَ يَهُودِيًّا أوْ نَصْرانِيًّا قُتِلَ بِهِ " . ورَوى حُمَيْدٌ الطَّوِيلُ عَنْ مَيْمُونٍ عَنْ مِهْرانَ: أنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ العَزِيزِ أمَرَ أنْ يُقْتَلَ مُسْلِمٌ بِيَهُودِيٍّ فَقُتِلَ. فَهَؤُلاءِ الثَّلاثَةُ أعْلامُ الصَّحابَةِ، وقَدْ رُوِيَ عَنْهم ذَلِكَ، وتابَعَهم عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ عَلَيْهِ، ولا نَعْلَمُ أحَدًا مِن نُظَرائِهِمْ خِلافَهُ. واحْتَجَّ مانِعُو قَتْلِ المُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ بِما رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «لا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكافِرٍ، ولا ذُو عَهْدٍ في عَهْدِهِ» رَواهُ قَيْسُ بْنُ عَبّادٍ، وحارِثَةُ بْنُ قُدامَةَ، وأبُو جُحَيْفَةَ. وقِيلَ لِعَلِيٍّ: هَلْ عِنْدَكم مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَهْدٌ سِوى القُرْآنِ ؟ فَقالَ: ما عَهْدِي إلّا كِتابٌ في قِرابِ سَيْفِي، وفِيهِ: «المُسْلِمُونَ تَتَكافَأُ دِماؤُهم، وهم يَدٌ عَلى مَن سِواهم، ولا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكافِرٍ، ولا ذُو عَهْدٍ في عَهْدِهِ» . وحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: «لا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكافِرٍ، ولا ذُو عَهْدٍ في عَهْدِهِ»، وقَدْ رَوى ابْنُ عُمَرَ أيْضًا ما حَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا إدْرِيسُ بْنُ عَبْدِ الكَرِيمِ الحَدّارُ قالَ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّبّاحِ: حَدَّثَنا سُلَيْمانُ بْنُ الحَكَمِ: حَدَّثَنا القاسِمُ بْنُ الوَلِيدِ، عَنْ سِنانِ بْنِ الحارِثِ، عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ عَنْ مُجاهِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكافِرٍ، ولا ذُو عَهْدٍ في عَهْدِهِ» . ولِهَذا الخَبَرِ ضُرُوبٌ مِنَ التَّأْوِيلِ كُلُّها تُوافِقُ ما قَدَّمْنا ذِكْرَهُ مِنَ الآيِ والسُّنَنِ أحَدُها: أنَّهُ قَدْ ذَكَرَ أنَّ ذَلِكَ كانَ في خُطْبَتِهِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وقَدْ كانَ رَجُلٌ مِن خُزاعَةَ قَتَلَ رَجُلًا مِن هُذَيْلٍ بِذَحْلِ الجاهِلِيَّةِ (p-١٧٦)فَقالَ ﷺ: «ألا إنَّ كُلَّ دَمٍ كانَ في الجاهِلِيَّةِ فَهو مَوْضُوعٌ تَحْتَ قَدَمَيَّ هاتَيْنِ لا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكافِرٍ، ولا ذُو عَهْدٍ في عَهْدِهِ» يَعْنِي واللَّهُ أعْلَمَ بِالكافِرِ الَّذِي قَتَلَهُ في الجاهِلِيَّةِ، وكانَ ذَلِكَ تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ: «كُلُّ دَمٍ كانَ في الجاهِلِيَّةِ فَهو مَوْضُوعٌ تَحْتَ قَدَمَيَّ»؛ لِأنَّهُ مَذْكُورٌ في خِطابٍ واحِدٍ في حَدِيثٍ. وقَدْ ذَكَرَ أهْلُ المَغازِي أنَّ عَهْدَ الذِّمَّةِ كانَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وأنَّهُ إنَّما كانَ قَبْلَ ذَلِكَ بَيْنَ النَّبِيِّ ﷺ وبَيْنَ المُشْرِكِينَ عُهُودٌ إلى مُدَدٍ لا عَلى أنَّهم داخِلُونَ في ذِمَّةِ الإسْلامِ وحُكْمِهِ. وكانَ قَوْلُهُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ «لا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكافِرٍ» مُنْصَرِفًا إلى الكُفّارِ المُعاهَدِينَ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ هُناكَ ذِمِّيٌّ يَنْصَرِفُ الكَلامُ إلَيْهِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: «ولا ذُو عَهْدٍ في عَهْدِهِ» كَما قالَ تَعالى: ﴿فَأتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهم إلى مُدَّتِهِمْ﴾ [التوبة: ٤] وقالَ: ﴿فَسِيحُوا في الأرْضِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ﴾ [التوبة: ٢] وكانَ المُشْرِكُونَ حِينَئِذٍ ضَرْبَيْنِ: أحَدُهُما: أهْلُ الحَرْبِ، ومَن لا عَهْدَ بَيْنَهُ وبَيْنَ النَّبِيِّ ﷺ والآخَرُ: أهْلُ عَهْدٍ إلى مُدَّةٍ، ولَمْ يَكُنْ هُناكَ أهْلُ ذِمَّةٍ، فانْصَرَفَ الكَلامُ إلى الضَّرْبَيْنِ مِنَ المُشْرِكِينَ، ولَمْ يَدْخُلْ فِيهِ مَن لَمْ يَكُنْ عَلى أحَدِ هَذَيْنِ الوَصْفَيْنِ. وفِي فَحْوى هَذا الخَبَرِ ومَضْمُونِهِ ما يَدُلُّ عَلى أنَّ الحُكْمَ المَذْكُورَ في نَفْيِ القِصاصِ مَقْصُورٌ عَلى الحَرْبِيِّ المُعاهَدِ دُونَ الذِّمِّيِّ، وذَلِكَ أنَّهُ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: «ولا ذُو عَهْدٍ في عَهْدِهِ»، ومَعْلُومٌ أنَّ قَوْلَهُ: «ولا ذُو عَهْدٍ في عَهْدِهِ» غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ في إيجابِ الفائِدَةِ لَوِ انْفَرَدَ عَمّا قَبْلَهُ، فَهو إذًا مُفْتَقِرٌ إلى ضَمِيرٍ، وضَمِيرُهُ ما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، ومَعْلُومٌ أنَّ الكافِرَ الَّذِي لا يُقْتَلُ بِهِ ذُو العَهْدِ المُسْتَأْمَنِ هو الحَرْبِيُّ، فَثَبَتَ أنَّ مُرادَهُ مَقْصُورٌ عَلى الحَرْبِيِّ. وغَيْرُ جائِزٍ أنْ يُجْعَلَ الضَّمِيرُ «ولا يُقْتَلُ ذُو عَهْدٍ في عَهْدِهِ» مِن وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّهُ لَمّا كانَ القَتْلُ المَبْدُوُّ قَتْلًا عَلى وجْهِ القِصاصِ، وكانَ ذَلِكَ القَتْلُ بِعَيْنِهِ سَبِيلُهُ أنْ يَكُونَ مُضْمَرًا في الثّانِي، لَمْ يَجُزْ لَنا إثْباتُ الضَّمِيرِ قَتْلًا مُطْلَقًا، إذا لَمْ يَتَقَدَّمْ في الخِطابِ ذِكْرُ قَتْلٍ مُطْلَقٍ غَيْرِ مُقَيَّدٍ بِصِفَةٍ، وهو القَتْلُ عَلى وجْهِ القَوَدِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ هو المَنفِيَّ بِقَوْلِهِ: " ولا ذُو عَهْدٍ في عَهْدِهِ " فَصارَ تَقْدِيرُهُ: ولا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكافِرٍ، ولا يُقْتَلُ ذُو عَهْدٍ في عَهْدِهِ بِالكافِرِ المَذْكُورِ بَدِيًّا. ولَوْ أضْمَرْنا قَتْلًا مُطْلَقًا كُنّا مُثْبِتِينَ لِضَمِيرٍ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ في الخِطابِ، وهَذا لا يَجُوزُ. وإذا ثَبَتَ ذَلِكَ وكانَ الكافِرُ الَّذِي لا يُقْتَلُ بِهِ ذُو العَهْدِ هو الكافِرُ الحَرْبِيُّ، كانَ قَوْلُهُ: «لا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكافِرٍ» بِمَنزِلَةِ قَوْلِهِ: لا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكافِرٍ حَرْبِيٍّ، فَلَمْ يَثْبُتْ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ نَفْيُ قَتْلِ المُؤْمِنِ بِالذِّمِّيِّ. والوَجْهُ الآخَرُ: أنَّهُ مَعْلُومٌ أنَّ ذِكْرَ العَهْدِ يَحْظُرُ قَتْلَهُ ما دامَ في عَهْدِهِ، فَلَوْ حَمَلْنا قَوْلَهُ: " ولا ذُو عَهْدٍ في عَهْدِهِ " عَلى أنَّهُ لا يُقْتَلُ ذُو عَهْدٍ في عَهْدِهِ، لَأخْلَيْنا اللَّفْظَ مِنَ الفائِدَةِ، (p-١٧٧)وحُكْمُ كَلامِ النَّبِيِّ ﷺ حَمْلُهُ عَلى مُقْتَضاهُ في الفائِدَةِ، وغَيْرُ جائِزٍ إلْغاؤُهُ، ولا إسْقاطُ حُكْمِهِ. فَإنْ قالَ قائِلٌ: قَدْ رُوِيَ في حَدِيثِ أبِي جُحَيْفَةَ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «لا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكافِرٍ» ولَمْ يَذْكُرِ العَهْدَ، وهَذا اللَّفْظُ يَنْفِي قَتْلَ المُؤْمِنِ بِسائِرِ الكُفّارِ. قِيلَ: هو حَدِيثٌ واحِدٌ قَدْ عَزاهُ أبُو جُحَيْفَةَ أيْضًا إلى الصَّحِيفَةِ. وكَذَلِكَ قَيْسُ بْنُ عَبّادٍ، وإنَّما حَذَفَ بَعْضُ الرُّواةِ ذِكْرَ العَهْدِ، فَأمّا أصْلُ الحَدِيثِ فَواحِدٌ. ومَعَ ذَلِكَ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ في الخَبَرِ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ حَدِيثٌ واحِدٌ لَكانَ الواجِبُ حَمْلَهُما عَلى أنَّهُما ورَدا مَعًا؛ وذَلِكَ لِأنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ ذَلِكَ في وقْتَيْنِ مَرَّةً مُطْلَقًا مِن غَيْرِ ذِكْرِ ذِي العَهْدِ، وتارَةً مَعَ ذِكْرِ ذِي العَهْدِ. وأيْضًا فَقَدْ وافَقْنا الشّافِعِيَّ عَلى أنَّ ذِمِّيًّا لَوْ قَتَلَ ذِمِّيًّا ثُمَّ أسْلَمَ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ القَوَدُ، فَلَوْ كانَ الإسْلامُ مانِعًا مِنَ القِصاصِ ابْتِداءً لَمَنَعَهُ إذا طُرِئَ بَعْدَ وُجُوبِهِ قَبْلَ اسْتِيفائِهِ، ألا تَرى أنَّهُ لَمّا لَمْ يَجِبِ القِصاصِ لِلِابْنِ عَلى الأبِ إذا قَتَلَهُ كانَ ذَلِكَ حُكْمَهُ إذا ورِثَ ابْنُهُ القَوَدَ مِن غَيْرِهِ ؟ فَمَنَعَ ما عَرَضَ مِن ذَلِكَ مِنِ اسْتِيفائِهِ كَما مَنَعَ ابْتِداءَ وُجُوبِهِ. وكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَ مُرْتَدًّا لَمْ يَجِبِ القَوَدُ، ولَوْ جَرَحَهُ، وهو مُسْلِمٌ ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ ماتَ مِنَ الجِراحَةِ سَقَطَ القَوَدُ، فاسْتَوى فِيهِ حُكْمُ الِابْتِداءِ والبَقاءِ. فَلَوْ لَمْ يَجِبِ القَتْلُ بَدِيًّا لَما وجَبَ إذا أسْلَمَ بَعْدَ القَتْلِ. وأيْضًا لَمّا كانَ المَعْنى في إيجابِ القِصاصِ ما أرادَ اللَّهُ تَعالى مِن بَقاءِ حَياةِ النّاسِ بِقَوْلِهِ: ﴿ولَكم في القِصاصِ حَياةٌ﴾ [البقرة: ١٧٩] وكانَ هَذا المَعْنى مَوْجُودًا في الذِّمِّيِّ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى قَدْ أرادَ بَقاءَهُ حِينَ حَقَنَ دَمَهُ بِالذِّمَّةِ وجَبَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِلْقِصاصِ بَيْنَهُ وبَيْنَ المُسْلِمِ كَما يُوجِبُهُ في قَتْلِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا. فَإنْ قِيلَ: يَلْزَمُكَ عَلى هَذا قَتْلُ المُسْلِمِ بِالحَرْبِيِّ المُسْتَأْمَنِ؛ لِأنَّهُ مَحْظُورُ الدَّمِ ؟ قِيلَ لَهُ: لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ هو مُباحُ الدَّمِ إباحَةً مُؤَجَّلَةً، ألا تَرى أنّا لا نَتْرُكُهُ في دارِ الإسْلامِ، ونُلْحِقُهُ بِمَأْمَنِهِ والتَّأْجِيلُ لا يُزِيلُ عَنْهُ حُكْمَ الإباحَةِ كالثَّمَنِ المُؤَجَّلِ لا يُخْرِجُهُ التَّأْجِيلُ عَنْ وُجُوبِهِ ؟ واحْتَجَّ أيْضًا مَن مَنَعَ القِصاصَ بِقَوْلِهِ ﷺ: «المُسْلِمُونَ تَتَكافَأُ دِماؤُهم» قالُوا: وهَذا يَمْنَعُ كَوْنَ دَمِ الكافِرِ مُكافِئًا لِدَمِ المُسْلِمِ. وهَذا لا دَلالَةَ فِيهِ عَلى ما قالُوا؛ لِأنَّ قَوْلَهُ «المُسْلِمُونَ تَتَكافَأُ دِماؤُهم» لا يَنْفِي مُكافَأةَ دِماءِ غَيْرِ المُسْلِمِينَ، وفائِدَتُهُ ظاهِرَةٌ، وهي إيجابُ التَّكافُؤِ بَيْنَ الحُرِّ والعَبْدِ والشَّرِيفِ والوَضِيعِ والصَّحِيحِ والسَّقِيمِ فَهَذِهِ كُلُّها فَوائِدُ هَذا الخَبَرِ وأحْكامُهُ. ومِن فَوائِدِهِ أيْضًا إيجابُ القَوَدِ بَيْنَ الرَّجُلِ والمَرْأةِ، وتَكافُؤُ دِمائِهِما، ونَفْيٌ لِأخْذِ شَيْءٍ مِن أوْلِياءِ المَرْأةِ إذا قَتَلُوا القاتِلَ أوْ إعْطاءِ نِصْفِ الدِّيَةِ مِن مالِ المَرْأةِ مَعَ قَتْلِها إذا كانَتْ هي القاتِلَةَ. فَإذا كانَ قَوْلُهُ ﷺ: (p-١٧٨)«المُسْلِمُونَ تَتَكافَأُ دِماؤُهم» قَدْ أفادَ هَذِهِ المَعانِيَ، فَهو حُكْمٌ مَقْصُورٌ عَلى المَذْكُورِ، ولا دَلالَةَ فِيهِ عَلى نَفْيِ التَّكافُؤِ بَيْنَهم وبَيْنَ غَيْرِهِمْ مِن أهْلِ الذَّمَّةِ. ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ أنَّهُ لَمْ يَمْنَعْ تَكافُؤَ دِماءِ الكُفّارِ حَتّى يُقادَ مِن بَعْضِهِمُ البَعْضِ إذا كانُوا ذِمَّةً لَنا، فَكَذَلِكَ لا يَمْنَعُ تَكافُؤَ دِماءِ المُسْلِمِينَ وأهْلِ الذِّمَّةِ. ومِمّا يَدُلُّ عَلى قَتْلِ المُسْلِمِ بِالذِّمِّيِّ اتِّفاقُ الجَمِيعِ عَلى أنَّهُ يُقْطَعُ إذا سَرَقَهُ، فَوَجَبَ أنْ يُقادَ مِنهُ؛ لِأنَّ حُرْمَةَ دَمِهِ أعْظَمُ مِن حُرْمَةِ مالِهِ، ألا تَرى أنَّ العَبْدَ لا يُقْطَعُ في مال مَوْلاهُ، ويُقْتَلُ بِهِ. واحْتَجَّ الشّافِعِيُّ بِأنَّهُ لا خِلافَ أنَّهُ لا يُقْتَلُ بِالحَرْبِيِّ المُسْتَأْمَنِ كَذَلِكَ لا يُقْتَلُ بِالذِّمِّيِّ، وهُما في تَحْرِيمِ القَتْلِ سَواءٌ. وقَدْ بَيَّنّا وُجُوهَ الفَرْقِ بَيْنَهُما. والَّذِي ذَكَرَهُ الشّافِعِيُّ مِنَ الإجْماعِ لَيْسَ كَما ظَنَّ؛ لِأنَّ بِشْرَ بْنَ الوَلِيدِ قَدْ رَوى عَنْ أبِي يُوسُفَ: أنَّ المُسْلِمَ يُقْتَلُ بِالحَرْبِيِّ المُسْتَأْمَنِ. وأمّا قَوْلُ مالِكٍ واللَّيْثِ في قَتْلِ الغِيلَةِ، فَإنَّهُما يَرَيانِ ذَلِكَ حَدًّا لا قَوَدًا، والآياتُ الَّتِي فِيها ذِكْرُ القَتْلِ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ قَتْلِ الغِيلَةِ وغَيْرِهِ. وكَذَلِكَ السُّنَنُ الَّتِي ذَكَرْنا، وعُمُومُها يُوجِبُ القَتْلَ عَلى وجْهِ القِصاصِ لا عَلى وجْهِ الحَدِّ، فَمَن خَرَجَ عَنْها بِغَيْرِ دَلالَةٍ كانَ مَحْجُوجًا، واللَّهُ أعْلَمُ. * * * بابُ ما يَجِبُ لِوَلِيِّ قَتِيلِ العَمْدِ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصاصُ في القَتْلى﴾ وقالَ تَعالى: ﴿وكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ﴾ [المائدة: ٤٥] وقالَ تَعالى: ﴿ومَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطانًا﴾ [الإسراء: ٣٣] وقَدِ اتَّفَقُوا أنَّ القَوَدَ مُرادٌ بِهِ. وقالَ تَعالى: ﴿وإنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ﴾ [النحل: ١٢٦] وقالَ: ﴿فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكم فاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ ما اعْتَدى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٤] فاقْتَضَتْ هَذِهِ الآياتُ إيجابَ القِصاصِ لا غَيْرُ. وقَدِ اخْتَلَفَ الفُقَهاءُ في مُوجِبِ القَتْلِ العَمْدِ، فَقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأصْحابُهُ ومالِكُ بْنُ أنَسٍ والثَّوْرِيُّ وابْنُ شُبْرُمَةَ والحَسَنُ بْنُ صالِحٍ: " لَيْسَ لِلْوَلِيِّ إلّا القِصاصُ، ولا يَأْخُذُ الدِّيَةَ إلّا بِرِضى القاتِلِ " . وقالَ الأوْزاعِيُّ واللَّيْثُ والشّافِعِيُّ: الوَلِيُّ بِالخِيارِ بَيْنَ أخْذِ القِصاصِ والدِّيَةِ، وإنْ لَمْ يَرْضَ القاتِلُ " . وقالَ الشّافِعِيُّ: " فَإنْ عَفا المُفْلِسُ عَنِ القِصاصِ جازَ، ولَمْ يَكُنْ لِأهْلِ الوِصايَةِ والدَّيْنِ مَنعُهُ؛ لِأنَّ المالَ لا يُمْلَكُ بِالعَمْدِ إلّا بِمَشِيئَةِ المَجْنِيِّ عَلَيْهِ إذا كانَ حَيًّا أوْ بِمَشِيئَةِ الوَرَثَةِ إذا كانَ مَيِّتًا " . قالَ أبُو بَكْرٍ: ما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِن ظَواهِرِ آيِ القُرْآنِ بِما تَضَمَّنَهُ مِن بَيانِ المُرادِ مِن غَيْرِ اشْتِراكٍ في اللَّفْظِ يُوجِبُ القِصاصَ دُونَ المالِ، وغَيْرُ جائِزٍ إيجابُ المالِ عَلى وجْهِ التَّخْيِيرِ إلّا بِمِثْلِ ما يَجُوزُ بِهِ نَسْخُهُ؛ لِأنَّ الزِّيادَةَ في نَصِّ القُرْآنِ تُوجِبُ نَسْخَهُ. ويَدُلُّ عَلَيْهِ أيْضًا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أمْوالَكم بَيْنَكم بِالباطِلِ إلا أنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنكُمْ﴾ [النساء: ٢٩] فَحَظَرَ أخْذَ مالِ كُلِّ واحِدٍ مِن أهْلِ الإسْلامِ إلّا بِرِضاهُ عَلى وجْهِ التِّجارَةِ. وبِمِثْلِهِ قَدْ ورَدَ الأثَرُ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ في قَوْلِهِ: «لا يَحِلُّ مالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلّا بِطِيبَةٍ مِن نَفْسِهِ» فَمَتى لَمْ يَرْضَ القاتِلُ بِإعْطاءِ المالِ، ولَمْ تَطِبْ بِهِ نَفْسُهُ فَمالُهُ مَحْظُورٌ عَلى كُلِّ أحَدٍ. ورُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ وقَدْ ذَكَرْنا سَنَدَهُ فِيما تَقَدَّمَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «العَمْدُ قَوَدٌ إلّا أنْ يَعْفُوَ ولِيُّ المَقْتُولِ» . ورَوى سُلَيْمانُ بْنُ كَثِيرٍ قالَ: حَدَّثَنا عَمْرُو بْنُ دِينارٍ عَنْ طاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَن قُتِلَ في عِمِّيّا أوْ في زَحْمَةٍ لَمْ يُعْرَفْ قاتِلُهُ أوْ رِمِّيًّا تَكُونُ بَيْنَهم بِحَجَرٍ أوْ سَوْطٍ أوْ عَصًا فَعَقْلُهُ عَقْلُ خَطَأٍ، ومَن قُتِلَ عَمْدًا فَقَوَدُ يَدَيْهِ فَمَن حالَ بَيْنَهُ وبَيْنَهُ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ والمَلائِكَةِ والنّاسِ أجْمَعِينَ» فَأخْبَرَ ﷺ في هَذَيْنِ الحَدِيثَيْنِ أنَّ الواجِبَ بِالعَمْدِ هو القَوَدُ، ولَوْ كانَ لَهُ خِيارٌ في أخْذِ الدِّيَةِ لَما اقْتَصَرَ عَلى ذِكْرِ القَوَدِ دُونَها؛ لِأنَّهُ (p-١٨٦)غَيْرُ جائِزٍ أنْ يَكُونَ لَهُ أحَدُ شَيْئَيْنِ عَلى وجْهِ التَّخْيِيرِ، ويَقْتَصِرُ ﷺ بِالبَيانِ عَلى أحَدِهِما دُونَ الآخَرِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ نَفْيَ التَّخْيِيرِ، ومَتى ثَبَتَ فِيهِ تَخْيِيرٌ بَعْدَهُ كانَ نَسْخًا لَهُ. فَإنْ قِيلَ: قَدْ رَوى ابْنُ عُيَيْنَةَ هَذا الحَدِيثَ الآخَرَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينارٍ عَنْ طاوُسٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، ولَمْ يَذْكُرْ فِيهِ ابْنَ عَبّاسٍ، ولا رَفَعَهُ إلى النَّبِيِّ ﷺ قِيلَ لَهُ: كانَ ابْنُ عُيَيْنَةَ حَدَّثَ بِهِ مَرَّةً هَكَذا غَيْرَ مَرْفُوعٍ، وحَدَّثَ بِهِ مَرَّةً أُخْرى كَما حَدَّثَ سُلَيْمانُ بْنُ كَثِيرٍ، وقَدْ كانَ ابْنُ عُيَيْنَةَ سَيِّئَ الحِفْظِ كَثِيرَ الخَطَأِ، ومَعَ ذَلِكَ فَجائِزٌ أنْ يَكُونَ طاوُسٌ رَواهُ مَرَّةً عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ ومَرَّةً أفْتى بِهِ، وأخْبَرَ عَنِ اعْتِقادِهِ، فَلَيْسَ إذًا في ذَلِكَ ما يُوهِنُ الحَدِيثَ. وقَدْ تَنازَعَ أهْلُ العِلْمِ مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَمَن عُفِيَ لَهُ مِن أخِيهِ شَيْءٌ فاتِّباعٌ بِالمَعْرُوفِ وأداءٌ إلَيْهِ بِإحْسانٍ﴾ فَقالَ قائِلُونَ: العَفْوُ ما سَهُلَ وما تَيَسَّرَ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿خُذِ العَفْوَ﴾ [الأعراف: ١٩٩] يَعْنِي واللَّهُ أعْلَمُ: ما سَهُلَ مِنَ الأخْلاقِ. وقالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أوَّلُ الوَقْتِ رِضْوانُ اللَّهِ وآخِرُهُ عَفْوُ اللَّهِ» يَعْنِي تَيْسِيرَ اللَّهِ وتَسْهِيلَهُ عَلى عِبادِهِ، فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَمَن عُفِيَ لَهُ مِن أخِيهِ شَيْءٌ﴾ يَعْنِي الوَلِيَّ إذا أُعْطِيَ شَيْئًا مِنَ المالِ فَلْيَقْبَلْهُ ولْيُتْبِعْهُ بِالمَعْرُوفِ ولْيُؤَدِّ القاتِلُ إلَيْهِ بِإحْسانٍ، فَنَدَبَهُ اللَّهُ تَعالى إلى أخْذِ المالِ إذا سَهُلَ ذَلِكَ مِن جِهَةِ القاتِلِ، وأخْبَرَ أنَّهُ تَخْفِيفٌ مِنهُ ورَحْمَةٌ، كَما قالَ عَقِيبَ ذِكْرِ القِصاصِ مِن سُورَةِ المائِدَةِ: ﴿فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهو كَفّارَةٌ لَهُ﴾ [المائدة: ٤٥] فَنَدَبَهُ إلى العَفْوِ والصَّدَقَةِ، وكَذَلِكَ نَدَبَهُ بِما ذَكَرَ في هَذِهِ الآيَةِ إلى قَبُولِ الدِّيَةِ إذا بَذَلَها الجانِي؛ لِأنَّهُ بَدَأ بِذِكْرِ عَفْوِ الجانِي بِإعْطاءِ الدِّيَةِ ثُمَّ أمَرَ الوَلِيَّ بِالِإتْباعِ، وأمَرَ الجانِيَ بِالأداءِ بِالإحْسانِ، وقالَ بَعْضُهم: المَعْنى فِيهِ ما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وهو ما حَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي بْنُ قانِعٍ قالَ: حَدَّثَنا الحُمَيْدِيُّ قالَ: حَدَّثَنا سُفْيانُ الثَّوْرِيُّ قالَ: حَدَّثَنا عَمْرُو بْنُ دِينارٍ قالَ: سَمِعْتُ مُجاهِدًا يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبّاسٍ يَقُولُ: كانَ القِصاصُ في بَنِي إسْرائِيلَ، ولَمْ يَكُنْ فِيهِمُ الدِّيَةُ فَقالَ اللَّهُ لِهَذِهِ الأُمَّةِ: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصاصُ في القَتْلى﴾ إلى قَوْلِهِ ﴿فَمَن عُفِيَ لَهُ مِن أخِيهِ شَيْءٌ﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: العَفْوُ أنْ يَقْبَلَ الدِّيَةَ في العَمْدِ ﴿فاتِّباعٌ بِالمَعْرُوفِ وأداءٌ إلَيْهِ بِإحْسانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِن رَبِّكم ورَحْمَةٌ﴾ فِيما كانَ كُتِبَ عَلى مَن كانَ قَبْلَكم ﴿فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذابٌ ألِيمٌ﴾ قالَ: بَعْدَ قَبُولِ الدِّيَةِ فَأخْبَرَ ابْنُ عَبّاسٍ أنَّ الآيَةَ نَزَلَتْ ناسِخَةً لِما كانَ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ مِن حَظْرِ قَبُولِ الدِّيَةِ، وأباحَتْ لِلْوَلِيِّ قَبُولَ الدِّيَةِ إذا بَذَلَها القاتِلُ تَخْفِيفًا مِنَ اللَّهِ عَلَيْنا ورَحْمَةً بِنا فَلَوْ كانَ الأمْرُ عَلى ما ادَّعاهُ مُخالِفُنا مِن إيجابِ التَّخْيِيرِ لَما قالَ " فالعَفْوُ أنْ يَقْبَلَ الدِّيَةَ " لِأنَّ (p-١٨٧)القَبُولَ لا يُطْلَقُ إلّا فِيما بَذَلَهُ غَيْرُهُ. ولَوْ لَمْ يَكُنْ أرادَ ذَلِكَ لَقالَ: إذا اخْتارَ الوَلِيُّ. فَثَبَتَ بِذَلِكَ أنَّ المَعْنى كانَ عِنْدَ جَوازِ تَراضِيهِما عَلى أخْذِ الدِّيَةِ. وقَدْ رُوِيَ عَنْ قَتادَةَ ما يَدُلُّ عَلى أنَّ الحُكْمَ الَّذِي كانَ في بَنِي إسْرائِيلَ مِنِ امْتِناعِ قَبُولِ الدِّيَةِ ثابِتٌ عَلى مَن قَتَلَ بَعْدَ أخْذِ الدِّيَةِ، وهو ما حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إسْحاقَ المَرْوَزِيِّ قالَ: حَدَّثَنا الحُسَيْنُ بْنُ أبِي الرَّبِيعِ الجُرْجانِيُّ قالَ: حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّزّاقِ قالَ: أخْبَرَنا مَعْمَرٌ عَنْ قَتادَةَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذَلِكَ﴾ قالَ: " يَقُولُ مَن قَتَلَ بَعْدَ أخْذِ الدِّيَةِ فَعَلَيْهِ القَتْلُ لا يُقْبَلُ مِنهُ الدِّيَةُ " . وقَدْ رُوِيَ فِيهِ مَعْنًى آخَرُ، وهو ما رَوى سُفْيانُ بْنُ حُسَيْنٍ عَنْ ابْنِ أشْوَعَ عَنْ الشَّعْبِيِّ قالَ: كانَ بَيْنَ حَيَّيْنِ مِنَ العَرَبِ قِتالٌ فَقُتِلَ مِن هَؤُلاءِ ومِن هَؤُلاءِ، فَقالَ أحَدُ الحَيَّيْنِ: لا نَرْضى حَتّى نَقْتُلَ الرَّجُلَ بِالمَرْأةِ، وبِالرَّجُلِ الرَّجُلَيْنِ، وارْتَفَعُوا إلى النَّبِيِّ ﷺ فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: " القَتْلُ بَواءٌ " أيْ سَواءٌ فاصْطَلَحُوا عَلى الدِّياتِ، فَفَضَلَ لِأحَدِ الحَيَّيْنِ عَلى الآخَرِ، فَهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصاصُ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿فَمَن عُفِيَ لَهُ مِن أخِيهِ شَيْءٌ﴾ قالَ سُفْيانُ: ﴿فَمَن عُفِيَ لَهُ مِن أخِيهِ شَيْءٌ﴾ يَعْنِي: فَمَن فَضَلَ لَهُ عَلى أخِيهِ شَيْءٌ فَلْيُؤَدِّهِ بِالمَعْرُوفِ. فَأخْبَرَ الشَّعْبِيُّ عَنِ السَّبَبِ في نُزُولِ الآيَةِ، وذَكَرَ سُفْيانُ أنَّ مَعْنى العَفْوِ هاهُنا الفَضْلُ وهو مَعْنًى يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿حَتّى عَفَوْا﴾ [الأعراف: ٩٥] يَعْنِي كَثُرُوا، وقالَ ﷺ: «أعْفُوا اللِّحى» فَتَقْدِيرُ الآيَةِ عَلى ذَلِكَ: فَمَن فَضَلَ لَهُ عَلى أخِيهِ شَيْءٌ مِنَ الدِّياتِ الَّتِي وقَعَ الِاصْطِلاحُ عَلَيْها فَلْيَتْبَعْهُ مُسْتَحِقٌّ بِالمَعْرُوفِ، ولْيُؤَدِّ إلَيْهِ بِإحْسانٍ وقَدْ ذُكِرَ فِيهِ مَعْنًى آخَرُ، وهو أنَّهم قالُوا: هو في الدَّمِ بَيْنَ جَماعَةٍ إذا عَفا بَعْضُهم تَحَوَّلَ نَصِيبُ الآخَرِينَ مالًا. وقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وعَلِيٍّ وعَبْدِ اللَّهِ ذَلِكَ، ولَمْ يَذْكُرُوا أنَّهُ تَأْوِيلُ الآيَةِ. وهَذا تَأْوِيلُ لَفْظِ الآيَةِ يُوافِقُهُ؛ لِأنَّهُ قالَ: ﴿فَمَن عُفِيَ لَهُ مِن أخِيهِ شَيْءٌ﴾ وهَذا يَقْتَضِي وُقُوعَ العَفْوِ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الدَّمِ لا عَنْ جَمِيعِهِ، فَيَتَحَوَّلُ نَصِيبُ الشُّرَكاءِ مالًا، وعَلَيْهِمُ إتْباعُ القاتِلِ بِالمَعْرُوفِ، وعَلَيْهِ أداؤُهُ إلَيْهِمْ بِإحْسانٍ. وتَأوَّلَهُ بَعْضُهم عَلى أنَّ لِوَلِيِّ الدَّمِ أخْذُ المالِ بِغَيْرِ رِضى القاتِلِ. وهَذا تَأْوِيلٌ يَدْفَعُهُ ظاهِرُ الآيَةِ؛ لِأنَّ العَفْوَ لا يَكُونُ مَعَ أخْذِ الدِّيَةِ، ألا تَرى أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: «العَمْدُ قَوَدٌ إلّا أنْ يَعْفُوَ الأوْلِياءُ» فَأُثْبِتَ لَهُ أحَدُ الشَّيْئَيْنِ: قَتْلٌ أوْ عَفْوٌ، ولَمْ يُثْبِتْ لَهُ مالًا بِحالٍ ؟ فَإنْ قالَ قائِلٌ: إذا عَفا عَنِ الدَّمِ لِيَأْخُذَ المالَ كانَ عافِيًا ويَتَناوَلُهُ لَفْظُ الآيَةِ. قِيلَ لَهُ: إنْ كانَ الواجِبُ أحَدَ الشَّيْئَيْنِ فَجائِزٌ أيْضًا أنْ يَكُونَ عافِيًا بِتَرْكِ المالِ وأخْذِ القَوَدِ، فَعَلى هَذا لا يَخْلُو الوَلِيُّ مِن عَفْوِ قَتْلٍ أوْ أخْذِ مالٍ، وهَذا فاسِدٌ (p-١٨٨)لا يُطْلِقُهُ أحَدٌ. ومِن جِهَةٍ أُخْرى يَنْفِيهِ ظاهِرُ الآيَةِ، وهو أنَّهُ إذا كانَ الوَلِيُّ هو العافِي بِتَرْكِ القَوَدِ وأخْذِ المالِ فَإنَّهُ لا يُقالُ لَهُ: " عَفا لَهُ " وإنَّما يُقالَ لَهُ: " عَفا عَنْهُ " فَيَتَعَسَّفُ فَيُقِيمُ " اللّامَ " مَقامَ " عَنْ " أوْ يَحْمِلُهُ عَلى أنَّهُ " عَفا عَنِ الدَّمِ " فَيُضْمِرُ حَرْفًا غَيْرَ مَذْكُورٍ، ونَحْنُ مَتى اسْتَغْنَيْنا بِالمَذْكُورِ عَنِ المَحْذُوفِ لَمْ يَجُزْ لَنا إثْباتُ الحَذْفِ. وعَلى أنَّ تَأْوِيلَنا هو سائِغٌ مُسْتَعْمَلٌ عَلى ظاهِرِهِ مِن غَيْرِ إثْباتِ ضَمِيرٍ فِيهِ، وهو أنْ يُحْمَلَ عَلى مَعْنى التَّسْهِيلِ مِن جِهَةِ القاتِلِ بِإعْطائِهِ المالَ، ومِن جِهَةٍ أُخْرى يُخالِفُ ظاهِرَها، وهو أنَّ قَوْلَهُ: ﴿مِن أخِيهِ شَيْءٌ﴾ فَقَوْلُهُ: " مِن " تَقْتَضِي التَّبْعِيضَ؛ لِأنَّ ذَلِكَ حَقِيقَتُها وبابُها إلّا أنْ تَقُومَ الدَّلالَةُ عَلى غَيْرِهِ، فَيُوجِبُ هَذا أنْ يَكُونَ العَفْوُ عَنْ بَعْضِ دَمِ أخِيهِ، وعِنْدَ المُخالِفِ هو عَفْوٌ عَنْ جَمِيعِ الدَّمِ، وتَرْكُهُ إلى الدِّيَةِ، وفِيهِ إسْقاطُ حُكْمِ ﴿مِن﴾ ومِن وجْهٍ آخَرَ وهو قَوْلُهُ ﴿شَيْءٌ﴾ وهَذا أيْضًا يُوجِبُ العَفْوَ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الدَّمِ لا عَنْ جَمِيعِهِ، فَمَن حَمَلَهُ عَلى الجَمِيعِ لَمْ يُوَفِّ الكَلامَ حَظَّهُ مِن مُقْتَضاهُ ومُوجِبِهِ؛ لِأنَّهُ يَجْعَلُهُ بِمَنزِلَةِ ما لَوْ قالَ: فَمَن عُفِيَ لَهُ عَنِ الدَّمِ وطُولِبَ بِالدِّيَةِ، فَأسْقَطَ حُكْمَ قَوْلِهِ ﴿مِن﴾ وقَوْلِهِ ﴿شَيْءٌ﴾ وغَيْرُ جائِزٍ لِأحَدٍ تَأْوِيلُ الآيَةِ عَلى وجْهٍ يُؤَدِّي إلى إلْغاءِ شَيْءٍ مِن لَفْظِها ما أمْكَنَ اسْتِعْمالُهُ عَلى حَقِيقَتِهِ، ومَتى اسْتُعْمِلَ عَلى ما ذَكَرْنا كانَ مُوافِقًا لِظاهِرِ الآيَةِ مِن غَيْرِ إسْقاطٍ مِنهُ؛ لِأنَّهُ إنْ كانَ التَّأْوِيلُ ما ذَكَرَهُ الشَّعْبِيُّ مِن نُزُولِها عَلى السَّبَبِ، وما فَضَلَ مِن بَعْضِهِمْ عَلى بَعْضٍ مِنَ الدِّياتِ، فَهو مُوافِقٌ لِلَفْظِ الآيَةِ؛ لِأنَّهُ عُفِيَ لَهُ مِن أخِيهِ بِمَعْنى أنَّهُ فَضَلَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ المالِ فِيهِ التَّقاضِي، وذَلِكَ بَعْضٌ مِن جُمْلَةٍ وشَيْءٌ مِنها، فَتَناوَلَ اللَّفْظَ عَلى حَقِيقَتِهِ. وإنْ كانَ التَّأْوِيلُ أنَّهُ إنْ سَهَّلَ لَهُ بِإعْطاءِ شَيْءٍ مِنَ المالِ فالوَلِيُّ مَندُوبٌ إلى قَبُولِهِ مَوْعُودٌ بِالثَّوابِ عَلَيْهِ، فَذَلِكَ قَدْ يَتَناوَلُ أيْضًا لِلْبَعْضِ بِأنْ يَبْذُلَ بَعْضَ الدِّيَةِ، وذَلِكَ جُزْءٌ مِن كُلٍّ مِمّا أتْلَفَهُ. وإنْ كانَ التَّأْوِيلُ الإخْبارَ بِنَسْخِ ما كانَ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ مِن إيجابِ حُكْمِ القَوَدِ، ومَعَ أخْذِ البَدَلِ، فَتَأْوِيلُنا أيْضًا عَلى هَذا الوَجْهِ أشَدُّ مُلاءَمَةً لِمَعْنى الآيَةِ لِأنّا نَقُولُ: إنَّ الآيَةَ اقْتَضَتْ جَوازَ الصُّلْحِ مِنهُما عَلى ما يَقَعُ الِاصْطِلاحُ عَلَيْهِ مِن قَلِيلٍ أوْ كَثِيرٍ، فَذَكَرَ البَعْضَ، وأفادَ بِهِ حُكْمَ الكُلِّ أيْضًا كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ ولا تَنْهَرْهُما﴾ [الإسراء: ٢٣] نَصَّ عَلَيْهِ هَذا القَوْلُ بِعَيْنِهِ، وأرادَ بِهِ ما فَوْقَهُ، في نَظائِرَ لِذَلِكَ في القُرْآنِ. وإنْ كانَ التَّأْوِيلُ عَفْوَ بَعْضِ الأوْلِياءِ عَنْ نَصِيبِهِ، فَهو أيْضًا يُواطِئُ ظاهِرَ الآيَةِ لِوُقُوعِ العَفْوِ عَنِ البَعْضِ دُونَ الجَمِيعِ. فَعَلى أيِّ وجْهٍ يُصْرَفُ تَأْوِيلُ المُتَأوِّلِينَ مِمَّنْ قَدَّمْنا قَوْلَهُ فَتَأْوِيلُهُ مُوافِقٌ لِظاهِرِ الآيَةِ غَيْرَ تَأْوِيلِ مَن تَأوَّلَهُ عَلى أنَّ لِلْوالِي العَفْوَ عَنِ (p-١٨٩)الجَمِيعِ، وأخْذِ المالِ. ولَيْسَ يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ جَمِيعُ المَعانِي الَّتِي قَدَّمْنا ذِكْرَها عَنْ مُتَأوِّلِيها مُرادَةً بِالآيَةِ، فَيَكُونُ نُزُولُها عَلى سَبَبِ نَسَخَ بِها ما كانَ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ، وأُبِيحَ لَنا بِها أخْذُ قَلِيلِ المالِ وكَثِيرِهِ، ويَكُونُ الوَلِيُّ مَندُوبًا إلى القَبُولِ إذا تَسَهَّلَ لَهُ القاتِلُ بِإعْطاءِ المالِ، ومَوْعُودًا عَلَيْهِ بِالثَّوابِ، ويَكُونُ السَّبَبُ الَّذِي نَزَلَتْ عَلَيْهِ الآيَةُ حُصُولَ الفَضْلِ مِن بَعْضٍ عَلى بَعْضٍ في الدِّياتِ، فَأُمِرُوا بِهِ بِالِاتِّباعِ بِالمَعْرُوفِ، وأُمِرَ القاتِلُ بِالأداءِ إلَيْهِمْ بِإحْسانٍ، ويَكُونُ عَلى اخْتِلافٍ فِيهِ بَيانُ حُكْمِ الدَّمِ إذا عَفا عَنْهُ بَعْضُ الأوْلِياءِ. فَهَذِهِ الوُجُوهُ كُلُّها عَلى اخْتِلافِ مَعانِيها تَحْتَمِلُها الآيَةُ، وهي مُرادَةٌ مِن غَيْرِ إسْقاطِ شَيْءٍ مِن لَفْظِها. فَإنْ قالَ قائِلٌ: وما تَأوَّلَهُ المُخالِفُونَ في إيجابِ الدِّيَةِ لِلْوَلِيِّ بِاخْتِيارِهِ مِن غَيْرِ رِضى القاتِلِ تَحْتَمِلُهُ الآيَةُ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ مُرادًا؛ إذْ لَيْسَ فِيهِ نَفْيٌ لِتَأْوِيلاتِ الآخَرِينَ، ويَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿فَمَن عُفِيَ لَهُ﴾ مَعْناهُ أنَّهُ تَرَكَ لَهُ، مِن قَوْلِهِمْ: " عَفَتِ المَنازِلُ ": إذا تُرِكَتْ حَتّى دُرِسَتْ، والعَفْوُ عَنِ الذُّنُوبِ تَرْكُ العُقُوبَةِ عَلَيْها، فَيُفِيدُ ذَلِكَ تَرْكَ القَوَدِ إلى الدِّيَةِ. قِيلَ لَهُ: إنْ كانَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي أنْ يَكُونَ لَوْ تَرَكَ الدِّيَةَ، وأخَذَ القَوَدَ أنْ يَكُونَ عافِيًا؛ لِأنَّهُ تارِكٌ لِأخْذِ الدِّيَةِ، وقَدْ يُسَمّى تَرْكُ المالِ وإسْقاطُهُ عَفْوًا، قالَ اللَّهُ: ﴿فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إلا أنْ يَعْفُونَ أوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ﴾ [البقرة: ٢٣٧] فَأطْلَقَ اسْمَ العَفْوِ عَلى الإبْراءِ مِنَ المالِ. ومَعْلُومٌ عِنْدَ الجَمِيعِ امْتِناعُ إطْلاقِ العَفْوِ عَلى مَن آثَرَ أخْذَ القَوَدِ وتَرَكَ أخْذَ الدِّيَةِ، فَكَذَلِكَ العادِلُ عَنِ القَوَدِ إلى أخْذِ الدِّيَةِ لا يَسْتَحِقُّ اسْمَ العافِي؛ إذْ كانَ إنَّما اخْتارَ أحَدَ شَيْئَيْنِ كانَ مُخَيَّرًا في اخْتِيارِ أيِّهِما شاءَ؛ لِأنَّ مَن كانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ أحَدِ شَيْئَيْنِ فاخْتارَ أحَدَهُما كانَ الَّذِي اخْتارَهُ هو حَقَّ الواجِبِ لَهُ قَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ حُكْمُهُ عِنْدَ فِعْلِهِ كَأنَّهُ لَمْ يَكُنْ غَيْرَهُ، ألا تَرى أنَّ مَنِ اخْتارَ التَّكْفِيرَ بِالعِتْقِ في كَفّارَةِ اليَمِينِ كانَ العِتْقُ هو كَفّارَتَهُ كَأنَّهُ لَمْ يَكُنْ غَيْرَهُ، وسَقَطَ عَنْهُ حُكْمُ ما عَداهُ أنْ يَكُونَ مِن فَرْضِهِ ؟ كَذَلِكَ هَذا الوَلِيُّ لَوْ كانَ مُخَيَّرًا في أحَدِ شَيْئَيْنِ مِن قَوَدٍ أوْ مالٍ ثُمَّ اخْتارَ أحَدَهُما لَمْ يَسْتَحِقَّ اسْمَ العافِي لِتَرْكِهِ أحَدَهُما إلى الآخَرِ. فَلَمّا كانَ اسْمُ العَفْوِ مُنْتَفِيًا عَمَّنْ ذَكَرْنا لَمْ يَجُزْ تَأْوِيلُ الآيَةِ عَلَيْهِ وكانَتِ المَعانِي الَّتِي قَدَّمْنا ذِكْرَها أوْلى بِتَأْوِيلِها. ثُمَّ لَيْسَ يَخْلُو الواجِبُ لِلْوَلِيِّ بِنَفْسِ القَتْلِ أنْ يَكُونَ القَوَدَ والدِّيَةَ جَمِيعًا أوِ القَوَدَ دُونَ الدِّيَةِ أوْ أحَدَهُما عَلى وجْهِ التَّخْيِيرِ لا جائِزٌ أنْ يَكُونَ حَقَّ الأمْرَيْنِ جَمِيعًا بِالِاتِّفاقِ، ولا يَجُوزُ أيْضًا أنْ يَكُونَ الواجِبُ أحَدَهُما عَلى حَسَبِ ما يَخْتارُهُ الوَلِيُّ كَما في كَفّارَةِ اليَمِينِ ونَحْوِها، لِما بَيَّنّا مِن أنَّ الَّذِي أوْجَبَهُ اللَّهُ تَعالى في الكِتابِ (p-١٩٠)هُوَ القِصاصُ، وفي إثْباتِ التَّخْيِيرِ بَيْنَهُ وبَيْنَ غَيْرِهِ زِيادَةٌ في النَّصِّ، ونَفْيٌ لِإيجابِ القِصاصِ، ومِثْلُهُ عِنْدَنا يُوجِبُ النَّسْخَ، فَإذًا الواجِبُ هو القَوَدُ لا غَيْرُهُ، فَلا جائِزٌ لَهُ أخْذُ المالِ إلّا بِرِضى القاتِلِ؛ لِأنَّ كُلَّ مَن لَهُ قِبَلَ غَيْرِهِ حَقٌّ يُمْكِنُ اسْتِيفاؤُهُ مِنهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ نَقْلُهُ إلى بَدَلٍ غَيْرِهِ إلّا بِرِضى مَن عَلَيْهِ الحَقُّ. وعَلى أنَّ قائِلَ هَذا القَوْلِ مُخْطِئٌ في العِبارَةِ حِينَ قالَ: " الواجِبُ هو القَوَدُ، ولَهُ أنْ يَأْخُذَ المالَ "؛ لِأنَّهُ لَمْ يُخْرِجْهُ مِن أنْ يَكُونَ مُخَيَّرًا فِيهِ؛ إذْ قَدْ جَعَلَ لَهُ أنْ يَسْتَوْفِيَ القَوَدَ إنْ شاءَ، وإنْ شاءَ المالَ، فَلَوْ قالَ قائِلٌ: " الواجِبُ هو المالُ، ولَهُ نَقْلُهُ إلى القَوَدِ بَدَلًا مِنهُ " كانَ مُساوِيًا لَهُ، فَلَمّا فَسَدَ قَوْلُ هَذا القائِلِ مِن أنَّ الواجِبَ هو المالُ، ولَهُ نَقْلُهُ إلى القَوَدِ لِإيجابِهِ التَّخْيِيرَ. كَذَلِكَ قَوْلُ مَن قالَ " الواجِبُ هو القَوَدُ، ولَهُ نَقْلُهُ إلى المالِ "؛ إذْ لَمْ يَنْفَكَّ في الحالَيْنِ مِن إيجابِ التَّخْيِيرِ بِنَفْسِ القَتْلِ، واللَّهُ سُبْحانَهُ إنَّما كَتَبَ عَلى القاتِلِ القِصاصَ بِقَوْلِهِ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصاصُ في القَتْلى﴾ ولَمْ يَقُلْ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ المالُ في القَتْلى، ولا: كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصاصُ أوِ المالُ في القَتْلى. والقائِلُ بِأنَّ الواجِبَ هو القَوَدُ، ولَهُ نَقْلُهُ إلى المالِ إنَّما عَبَّرَ عَنِ التَّخْيِيرِ الَّذِي أوْجَبَهُ لَهُ بِغَيْرِ اسْمِهِ، وأخْطَأ في العِبارَةِ عَنْهُ. فَإنْ قالَ قائِلٌ: هَذا كَما تَقُولُ: إنَّ الواجِبَ هو القِصاصُ، ولَهُما جَمِيعًا نَقْلُهُ إلى المالِ بِتَراضِيهِما، ولَمْ يَكُنْ في جَوازِ تَراضِيهِما عَلى نَقْلِهِ إلى المالِ إسْقاطٌ لِمُوجِبِ حُكْمِ الآيَةِ مِنَ القِصاصِ. قِيلَ لَهُ: مِن قِبَلِ أنّا قَدْ بَيَّنّا بَدِيًّا أنَّ القِصاصَ حَقٌّ لِلْوَلِيِّ عَلى القاتِلِ مِن غَيْرِ إثْباتِ تَخْيِيرٍ لَهُ بَيْنَ القَوَدِ وغَيْرِهِ، وتَراضِيهِما عَلى نَقْلِهِ إلى البَدَلِ لا يُخْرِجُهُ مِن أنْ يَكُونَ هو الحَقَّ الواجِبَ دُونَ غَيْرِهِ؛ لِأنَّ ما تَعَلَّقَ حُكْمُهُ بِتَراضِيهِما لا يُؤَثِّرُ في الأصْلِ الَّذِي كانَ واجِبًا مِن غَيْرِ خِيارٍ، ألا تَرى أنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَمْلِكُ العَبْدَ والدّارَ، ولِغَيْرِهِ أنْ يَشْتَرِيَهُ مِنهُ بِرِضاهُ، ولَيْسَ في جَوازِ ذَلِكَ نَفْيٌ لِمِلْكِ الأصْلِ لِمالِكِهِ الأوَّلِ، ولا مُوجِبًا؛ لَأنْ يَكُونَ مِلْكُهُ مَوْقُوفًا عَلى الخِيارِ ؟ وكَذَلِكَ الرَّجُلُ يَمْلِكُ طَلاقَ امْرَأتِهِ، ويَمْلِكُ الخُلْعَ، وأخْذَ البَدَلِ عَنِ الطَّلاقِ. ولَيْسَ في ذَلِكَ إثْباتُ مِلْكِ الطَّلاقِ لَهُ بَدِيًّا، عَلى أنَّهُ مُخَيَّرٌ في نَقْلِهِ إلى المالِ مِن غَيْرِ رِضا المَرْأةِ، وأنَّهُ لَوْ كانَ لَهُ أنْ يُطَلِّقَ أوْ يَأْخُذَ المالَ بَدِيًّا مِن غَيْرِ رِضاها لَكانَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِكَوْنِهِ مالِكًا لِأحَدِ شَيْئَيْنِ مِن طَلاقٍ أوْ مالٍ، ويَدُلُّ عَلى أنَّ الواجِبَ بِالقَتْلِ هو القَوَدُ لا غَيْرُ حَدِيثُ أنَسٍ الَّذِي قَدَّمْنا إسْنادَهُ في قِصَّةِ الرُّبَيِّعِ حِينَ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جارِيَةٍ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «كِتابُ اللَّهِ القِصاصُ» فَأخْبَرَ أنَّ مُوجَبَ الكِتابِ هو القِصاصُ، فَغَيْرُ جائِزٍ لِأحَدٍ إثْباتُ شَيْءٍ مَعَهُ، ولا نَقْلُهُ إلى غَيْرِهِ إلّا بِمِثْلِ ما يَجُوزُ (p-١٩١)بِهِ نَسْخُ الكِتابِ. ولَوْ سَلَّمْنا احْتِمالَ الآيَةِ لِما ادَّعَوْهُ مِن تَأْوِيلِها في جَوازِ أخْذِ المالِ مِن غَيْرِ رِضى القاتِلِ في قَوْلِهِ: ﴿فَمَن عُفِيَ لَهُ مِن أخِيهِ شَيْءٌ﴾ مَعَ احْتِمالِهِ لِلْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنا، كانَ أكْبَرُ أحْوالِهِ أنْ يَكُونَ اللَّفْظُ مُشْتَرَكًا مُحْتَمِلًا لِلْمَعانِي، فَيُوجِبُ ذَلِكَ أنْ يَكُونَ مُتَشابِهًا، ومَعْلُومٌ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصاصُ﴾ مُحْكَمٌ ظاهِرُ المَعْنى بَيِّنُ المُرادِ لا اشْتِراكَ في لَفْظِهِ، ولا احْتِمالَ في تَأْوِيلِهِ. وحُكْمُ المُتَشابِهِ أنْ يُحْمَلَ عَلى مَعْنى المُحْكَمِ، ويُرَدَّ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿مِنهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتابِ وأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ﴾ [آل عمران: ٧] إلى قَوْلِهِ: ﴿وابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ [آل عمران: ٧] فَأمَرَ اللَّهُ تَعالى بِرَدِّ المُتَشابِهِ إلى المُحْكَمِ؛ لِأنَّ وصْفَهُ لِلْمُحْكَمِ بِأنَّهُ أُمُّ الكِتابِ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ غَيْرُهُ مَحْمُولًا عَلَيْهِ، ومَعْناهُ مَعْطُوفًا عَلَيْهِ؛ إذْ كانَ أُمُّ الشَّيْءِ ما مِنهُ ابْتِداؤُهُ وإلَيْهِ مَرْجِعُهُ. ثُمَّ ذَمَّ مَنِ اتَّبَعَ المُتَشابِهَ، واكْتَفى بِما احْتَمَلَهُ اللَّفْظُ مِن تَأْوِيلِهِ مِن غَيْرِ رَدٍّ لَهُ إلى المُحْكَمِ، وحَمْلِهِ عَلى مُوافَقَتِهِ في مَعْناهُ، وحَكَمَ عَلَيْهِمْ بِالزَّيْغِ في قُلُوبِهِمْ بِقَوْلِهِ: ﴿فَأمّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنهُ ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ وابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ [آل عمران: ٧] وإذا ثَبَتَ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصاصُ﴾ مُحْكَمٌ. وقَوْلَهُ: ﴿فَمَن عُفِيَ لَهُ مِن أخِيهِ شَيْءٌ﴾ مُتَشابِهٌ وجَبَ حَمْلُ مَعْناهُ عَلى مَعْنى المُحْكَمِ مِن غَيْرِ مُخالَفَةٍ لَهُ ولا إزالَةٍ لِشَيْءٍ مِن حُكْمِهِ، وهو أنْ يَكُونَ عَلى أحَدِ الوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْنا مِمّا لا يَنْفِي مُوجِبَ لَفْظِ الآيَةِ مِنَ القِصاصِ، مِن غَيْرِ مَعْنًى آخَرَ يُضَمُّ إلَيْهِ، ولا عُدُولَ عَنْهُ إلى غَيْرِهِ. وكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكم فاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ ما اعْتَدى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٤] إذْ كانَتِ النَّفْسُ مِثْلًا فِيما يَسْتَحِقُّهُ الوَلِيُّ وهو القَوَدُ، فَإذا كانَ المِثْلُ هو القَوَدَ، وإتْلافَ نَفْسِهِ كَما أتْلَفَ كانَ بِمَنزِلَةِ مُتْلِفِ المالِ الَّذِي لَهُ مِثْلٌ، ولا يَعْدِلُ عَنْهُ إلى غَيْرِهِ إلّا بِالتَّراضِي لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿بِمِثْلِ ما اعْتَدى عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٤] وبِدَلالَةِ الأُصُولِ عَلَيْهِ. واحْتَجَّ مَن أوْجَبَ لِلْوَلِيِّ الخِيارَ بَيْنَ القَوَدِ، وأخْذِ المالِ مِن غَيْرِ رِضا القاتِلِ بِأخْبارٍ مِنها: حَدِيثُ يَحْيى بْنِ كَثِيرٍ عَنْ أبِي سَلَمَةَ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ حِينَ فَتَحَ مَكَّةَ: «مَن قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهو بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إمّا أنْ يَقْتُلَ، وإمّا أنْ يُودِيَ»، وحَدِيثُ يَحْيى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ أبِي ذِئْبٍ قالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدٌ المَقْبُرِيُّ قالَ: سَمِعْتُ أبا شُرَيْحٍ الكَعْبِيَّ يَقُولُ: قالَ النَّبِيُّ ﷺ في خُطْبَتِهِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: «ألا إنَّكم مَعْشَرَ خُزاعَةَ قَتَلْتُمْ هَذا القَتِيلَ مِن هُذَيْلٍ، وإنِّي عاقِلُهُ، فَمَن قُتِلَ لَهُ بَعْدَ مَقالَتِي هَذِهِ قَتِيلٌ فَأهْلُهُ بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ: بَيْنَ أنْ يَأْخُذُوا العَقْلَ وبَيْنَ أنْ يَقْتُلُوا» ورَواهُ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحاقَ، عَنِ الحارِثِ بْنِ فُضَيْلٍ، عَنْ سُفْيانَ، عَنْ أبِي العَرْجاءِ، عَنْ أبِي شُرَيْحٍ الخُزاعِيِّ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ (p-١٩٢)ﷺ: «مَن أُصِيبَ بِدَمٍ أوْ بِخَبْلٍ يَعْنِي الجِراحَ فَوَلِيُّهُ بِالخِيارِ بَيْنَ إحْدى ثَلاثٍ: بَيْنَ العَفْوِ أوْ يَقْتَصَّ أوْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ» . وهَذِهِ الأخْبارُ غَيْرُ مُوجِبَةٍ لِما ذَكَرُوا؛ لِاحْتِمالِها أنْ يَكُونَ المُرادُ أخْذَ الدِّيَةِ بِرِضى القاتِلِ كَما قالَ تَعالى: ﴿فَإمّا مَنًّا بَعْدُ وإمّا فِداءً﴾ [محمد: ٤] والمَعْنى فِداءً بِرِضى الأسِيرِ. فاكْتَفى بِالمَحْذُوفِ عَنْ ذِكْرِهِ لِعِلْمِ المُخاطَبِينَ عِنْدَ ذِكْرِ المالِ بِأنَّهُ لا يَجُوزُ إلْزامُهُ إيّاهُ بِغَيْرِ رِضاهُ. كَذَلِكَ قَوْلُهُ: «أوْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ» . وقَوْلُهُ: «أوْ يُودِيَ» وكَما يَقُولُ القائِلُ لِمَن لَهُ دَيْنٌ عَلى غَيْرِهِ: إنْ شِئْتَ فَخُذْ دَيْنَكَ دَراهِمَ، وإنْ شِئْتَ دَنانِيرَ. وكَما «قالَ ﷺ لِبِلالٍ حِينَ أتاهُ بِتَمْرٍ: أكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذا ؟ فَقالَ: لا، ولَكِنّا نَأْخُذُ الصّاعَ مِنهُ بِالصّاعَيْنِ، والصّاعَيْنِ بِالثَّلاثَةِ، فَقالَ ﷺ: لا تَفْعَلُوا، ولَكِنْ بِعْ تَمْرَكَ بِعَرْضٍ ثُمَّ خُذْ بِالعَرْضِ هَذا»، ومَعْلُومٌ أنَّهُ لَمْ يُرَدْ أنْ يَأْخُذَ التَّمْرَ بِالعَرْضِ بِغَيْرِ رِضى الآخَرِ، ويَكُونُ ذِكْرُهُ الدِّيَةَ إبانَةً عَمّا نَسَخَهُ اللَّهُ عَمّا كانَ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ مِنِ امْتِناعِ أخْذِ الدِّيَةِ بِرِضى القاتِلِ، وبِغَيْرِ رِضاهُ تَخْفِيفًا عَنْ هَذِهِ الأُمَّةِ عَلى ما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ " أنَّ القِصاصَ كانَ في بَنِي إسْرائِيلَ، ولَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أخْذُ الدِّيَةِ فَخَفَّفَ اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الأُمَّةِ " . ويَدُلُّ عَلى ما وصَفْنا مِن أنَّ المُرادَ أخْذُ الدِّيَةِ بِرِضى القاتِلِ أنَّ الأوْزاعِيَّ قَدْ رَوى حَدِيثَ أبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ يَحْيى بْنِ أبِي كَثِيرٍ، عَنْ أبِي سَلَمَةَ، عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وقالَ فِيهِ: «مَن قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهو بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إمّا أنْ يَقْتُلَ، وإمّا أنْ يُفادِيَ» . والمُفاداةُ إنَّما تَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ كالمُقاتَلَةِ، والمُضارَبَةِ، والمُشاتَمَةِ، ونَحْوِ ذَلِكَ، فَدَلَّ عَلى أنَّ مُرادَهُ في سائِرِ الأخْبارِ أخْذُ الدِّيَةِ بِرِضى القاتِلِ. وهَذِهِ الأخْبارُ تُبْطِلُ قَوْلَ مَن يَقُولُ: " إنَّ الواجِبَ عَلى القاتِلِ هو القَوَدُ، ولِلْوَلِيِّ نَقْلُهُ إلى الدِّيَةِ "؛ لِأنَّ في جَمِيعِها إثْباتَ التَّخْيِيرِ لِلْوَلِيِّ بِنَفْسِ القَتْلِ بَيْنَ القَوَدِ وأخْذِ الدِّيَةِ، ولَوْ كانَ الواجِبُ هو القَوَدَ لا غَيْرُ، وإنَّما لِلْوَلِيِّ نَقْلُهُ إلى الدِّيَةِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ كَما يَنْقُلُ الدَّيْنَ إلى العَرْضِ، والعَرْضَ إلى الدَّيْنِ عَلى وجْهِ العِوَضِ عَنْهُ، ولَيْسَ هُناكَ خِيارٌ مُوجِبٌ بِنَفْسِ القَتْلِ بَلِ الواجِبُ شَيْءٌ واحِدٌ، وهو القَوَدُ، والقائِلُ بِإيجابِ القَوَدِ بِالقَتْلِ دُونَ غَيْرِهِ إلّا أنْ يَنْقُلَهُ الوَلِيُّ إلى الدِّيَةِ، مُخالِفٌ لِهَذِهِ الآثارِ. وقَدْ رَوى الأنْصارِيُّ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ في قِصَّةِ الرُّبَيِّعِ، أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «كِتابُ اللَّهِ القِصاصُ»، وذَلِكَ يُنافِي كَوْنَ المُرادِ بِالكِتابِ المالَ أوِ القِصاصَ. وقَدْ رَوى عَلْقَمَةُ بْنُ وائِلٍ عَنْ أبِيهِ،، وثابِتٌ البُنانِيُّ عَنْ أنَسٍ: «أنَّ رَجُلًا قَتَلَ رَجُلًا، فَدَفَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ إلى ولِيِّ المَقْتُولِ ثُمَّ قالَ: أتَعْفُو ؟ قالَ: لا. قالَ: أفَتَأْخُذُ الدِّيَةَ ؟ قالَ: لا قالَ: أما إنَّكَ إنْ قَتَلْتَهُ كُنْتَ مِثْلَهُ فَمَضى الرَّجُلُ فَلَحِقَهُ النّاسُ فَقالُوا: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ (p-١٩٣)ﷺ قالَ: أما إنَّكَ إنْ قَتَلْتَهُ كُنْتَ مِثْلَهُ فَعَفا عَنْهُ» . فاحْتَجَّ المُوجِبُونَ لِلْخِيارِ بَيْنَ القَوَدِ والمالِ بِهَذا الحَدِيثِ. وهَذا لا دَلالَةَ فِيهِ عَلى ما ذَكَرُوا؛ وذَلِكَ لِأنَّهُ يَحْتَمِلُ أنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ بِرِضى القاتِلِ كَما قالَ ﷺ لِامْرَأةِ ثابِتِ بْنِ قَيْسٍ حِينَ جاءَتْ تَشْكُوهُ: «أتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ ؟ قالَتْ: نَعَمْ» . ومَعْلُومٌ أنَّ رِضا ثابِتٍ قَدْ كانَ مَشْرُوطًا فِيهِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا في الخَبَرِ؛ لِأنَّ النَّبِيَّ ﷺ لَمْ يَكُنْ يُلْزِمُ ثابِتًا الطَّلاقَ، ولا يُمَلِّكُهُ الحَدِيقَةَ إلّا بِرِضاهُ. وجائِزٌ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَصَدَ إلى أنْ يَعْقِدَ عَقْدًا عَلى مالٍ فَيَكُونَ مَوْقُوفًا عَلى رِضا القاتِلِ أوْ فَسْخِهِ، وجائِزٌ أنْ يَكُونَ أرادَ أنْ يُؤَدِّيَ الدِّيَةَ مِن عِنْدِهِ كَما فَعَلَ في قَتِيلِ الخُزاعِيِّ بِمَكَّةَ، وكَما تَحَمَّلَ عَنِ اليَهُودِ دِيَةَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ الَّذِي وُجِدَ قَتِيلًا بِخَيْبَرَ. وقَوْلُهُ ﷺ: «إنْ قَتَلْتَهُ كُنْتَ مِثْلَهُ» يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّكَ قاتِلٌ كَما أنَّهُ قاتِلٌ، لا أنَّكَ مِثْلُهُ في المَأْثَمِ؛ لِأنَّهُ اسْتَوْفى حَقًّا لَهُ فَلا يَسْتَحِقُّ اللَّوْمَ عَلَيْهِ، والأوَّلُ فَعَلَ ما لَمْ يَكُنْ لَهُ فَكانَ آثِمًا، فَعَلِمْنا أنَّهُ لَمْ يُرِدْ " كُنْتَ مِثْلَهُ في المَأْثَمِ " . والآخَرُ: أنَّكَ إذا قَتَلْتَهُ فَقَدِ اسْتَوْفَيْتَ حَقَّكَ مِنهُ، ولا فَضْلَ لَكَ عَلَيْهِ، وقَدْ نَدَبَ اللَّهُ تَعالى إلى الإفْضالِ بِالعَفْوِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهو كَفّارَةٌ لَهُ﴾ [المائدة: ٤٥] فَإنْ قالَ قائِلٌ: لَمّا كانَ عَلَيْهِ إحْياءُ نَفْسِهِ وجَبَ أنْ يُحْكَمَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ إذا اخْتارَ الوَلِيُّ أخْذَ المالِ. قِيلَ لَهُ: وعَلى كُلِّ أحَدٍ أنْ يُحْيِيَ غَيْرَهُ إذا خافَ عَلَيْهِ التَّلَفَ، مِثْلُ أنْ يَرى إنْسانًا قَدْ قَصَدَ غَيْرَهُ بِالقَتْلِ أوْ خافَ عَلَيْهِ الغَرَقَ، وهو يُمْكِنُهُ تَخْلِيصُهُ، أوْ كانَ مَعَهُ طَعامٌ، وخافَ عَلَيْهِ أنْ يَمُوتَ مِنَ الجُوعِ، فَعَلَيْهِ إحْياؤُهُ بِإطْعامِهِ، وإنْ كَثُرَتْ قِيمَتُهُ. وإنْ كانَ عَلى القاتِلِ إعْطاءُ المالِ لِإحْياءِ نَفْسِهِ فَعَلى الوَلِيِّ أيْضًا إحْياؤُهُ إذا أمْكَنَهُ ذَلِكَ، فَوَجَبَ عَلى هَذِهِ القَضِيَّةِ إجْبارُ الوَلِيِّ عَلى أخْذِ المالِ إذا بَذَلَهُ القاتِلُ، وهَذا يُؤَدِّي إلى بُطْلانِ القِصاصِ أصْلًا؛ لِأنَّهُ إذا كانَ عَلى كُلِّ واحِدٍ مِنهُما إحْياءُ نَفْسِ القاتِلِ فَعَلَيْهِما التَّراضِي عَلى أخْذِ المالِ، وإسْقاطِ القَوَدِ. وأيْضًا فَيَنْبَغِي إذا طَلَبَ الوَلِيُّ دارَهُ أوْ عَبْدَهُ أوْ دِياتٍ كَثِيرَةً أنْ يُعْطِيَهُ؛ لِأنَّهُ لا يُخْتَلَفُ فِيما يَلْزَمُهُ إحْياءُ نَفْسِهِ حُكْمُ القَلِيلِ والكَثِيرِ. فَلَمّا لَمْ يَلْزَمْهُ إعْطاءُ أكْثَرَ مِنَ الدِّيَةِ عِنْدَ القائِلِينَ بِهَذِهِ المَقالَةِ كانَ بِذَلِكَ انْتِقاضُ هَذا الِاعْتِلالِ وفَسادُهُ. واحْتَجَّ المُزَنِيُّ لِلشّافِعِيِّ في هَذِهِ المَسْألَةِ بِأنَّهُ لَوْ صالَحَ مِن حَدِّ القَذْفِ عَلى مالٍ أوْ مِن كَفالَةٍ بِنَفْسٍ لَبَطَلَ الحَدُّ والكَفالَةُ، ولَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا، ولَوْ صالَحَ مِن دَمٍ عَمْدٍ عَلى مالٍ بِاتِّفاقِ الجَمِيعِ قُبِلَ ذَلِكَ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّ دَمَ العَمْدِ مالٌ في الأصْلِ لَوْلا ذَلِكَ لَما صَحَّ الصُّلْحُ كَما لَمْ يَصِحَّ عَنْ حَدِّ القَذْفِ والكَفالَةِ. قالَ أبُو بَكْرٍ: قَدِ انْتَظَمَ هَذا الِاحْتِجاجُ الخَطَأ والمُناقَضَةَ، (p-١٩٤)فَأمّا الخَطَأُ فَهو أنَّ مِن أصْلِنا أنَّ الحَدَّ لا يَبْطُلُ بِالصُّلْحِ ويَبْطُلُ المالُ، والكَفالَةُ بِالنَّفْسِ فِيها رِوايَتانِ: إحْداهُما: لا تَبْطُلُ أيْضًا، والأُخْرى: أنَّها تَبْطُلُ، وأمّا المُناقَضَةُ فَهي اتِّفاقُ الجَمِيعِ عَلى جَوازِ أخْذِ المالِ عَلى الطَّلاقِ، ولا خِلافَ أنَّ الطَّلاقَ في الأصْلِ لَيْسَ بِمالٍ، وأنَّهُ لَيْسَ لِلزَّوْجِ أنْ يُلْزِمَها مالًا عَنْ طَلاقٍ بِغَيْرِ رِضاها. وعَلى أنَّ الشّافِعِيَّ قَدْ قالَ فِيما حَكاهُ المُزَنِيُّ عَنْهُ " إنَّ عَفْوَ المَحْجُورِ عَلَيْهِ عَنِ الدَّمِ جائِزٌ، ولَيْسَ لِأصْحابِ الوَصايا والدَّيْنِ مَنعُهُ مِن ذَلِكَ؛ لِأنَّ المالَ لا يُمْلَكُ في العَمْدِ إلّا بِاخْتِيارِ المَجْنِيِّ عَلَيْهِ، فَلَوْ كانَ الدَّمُ مالًا في الأصْلِ لَثَبَتَ فِيهِ حَقُّ الغُرَماءِ وأصْحابِ الوَصايا " وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ مُوجِبَ العَمْدِ عِنْدَهُ هو القَوَدُ لا غَيْرُ، وأنَّهُ لَمْ يُوجِبْ لَهُ خِيارًا بَيْنَ القَتْلِ وبَيْنَ الدِّيَةِ. فَإنْ قالَ قائِلٌ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ومَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطانًا﴾ [الإسراء: ٣٣] يُوجِبُ لِوَلِيِّهِ الخِيارَ بَيْنَ أخْذِ القَوَدِ والمالِ؛ إذْ كانَ اسْمُ السُّلْطانِ يَقَعُ عَلَيْهِما، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّ بَعْضَ المَقْتُولِينَ ظُلْمًا تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ، نَحْوُ قَتِيلِ شِبْهِ العَمْدِ، والأبِ إذا قَتَلَ ابْنَهُ، وبَعْضُهم يَجِبُ فِيهِ القَوَدُ، وذَلِكَ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ جَمِيعُ ذَلِكَ مُرادًا بِالآيَةِ؛ لِاحْتِمالِ اللَّفْظِ لَهُما. وقَدْ تَأوَّلَهُ الضَّحّاكُ بْنُ مُزاحِمٍ عَلى ذَلِكَ، فَقالَ في مَعْنى قَوْلِهِ ﴿فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطانًا﴾ [الإسراء: ٣٣] " إنَّهُ إنْ شاءَ قَتَلَ، وإنْ شاءَ عَفا، وإنْ شاءَ أخَذَ الدِّيَةَ " فَلَمّا احْتَمَلَ السُّلْطانُ ما وصَفْنا وجَبَ إثْباتُ سُلْطانِهِ في أخْذِ المالِ كَهو في أخْذِ القَوَدِ لِوُقُوعِ الِاسْمِ عَلَيْهِما ولِأنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بِاتِّفاقِ الجَمِيعِ أنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهُما مُرادًا لِلَّهِ تَعالى في حالٍ، وحِينَئِذٍ يَكُونُ تَقْدِيرُ الآيَةِ: ومَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطانًا في القَوَدِ والدِّيَةِ. ولَمّا حَصَلَ الِاتِّفاقُ عَلى أنَّهُما لا يَجِبانِ مُجْتَمِعَيْنِ وجَبَ أنْ يَكُونَ وُجُوبُهُما عَلى وجْهِ التَّخْيِيرِ، وكَما احْتَجَجْتُمْ في إيجابِ القَوَدِ بِقَوْلِهِ ﴿فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطانًا﴾ [الإسراء: ٣٣] لِاتِّفاقِ الجَمِيعِ عَلى أنَّ القَوَدَ مُرادٌ، وصارَ كالمَنصُوصِ عَلَيْهِ فِيهِ، وجَعَلْتُمُوهُ كَعُمُومِ لَفْظِ القَوَدِ، فَيَلْزَمُكم مِثْلُهُ في إثْباتِ المالِ لِوُجُودِنا مَقْتُولِينَ ظُلْمًا يَكُونُ سُلْطانُ الوَلِيِّ هو المالُ قِيلَ لَهُ: حَمْلُهُ عَلى القَوَدِ أوْلى مِن حَمْلِهِ عَلى الدِّيَةِ؛ وذَلِكَ لِأنَّهُ لَمّا كانَ السُّلْطانُ لَفْظًا مُشْتَرَكًا مُحْتَمِلًا لِلْمَعانِي كانَ مُتَشابِهًا يَجِبُ رَدُّهُ إلى المُحْكَمِ، وحَمْلُهُ عَلى مَعْناهُ، وهي آيَةٌ مُحْكَمَةٌ في إيجابِ القِصاصِ، وهو قَوْلُهُ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصاصُ في القَتْلى﴾ فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ مِن حَيْثُ ثَبَتَ أنَّ القَوَدَ مُرادٌ بِالسُّلْطانِ المَذْكُورِ في هَذِهِ الآيَةِ أنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى ما في الآيَةِ المُحْكَمَةِ مِن ذِكْرِ إيجابِ القِصاصِ. ولَيْسَ مَعَكَ آيَةٌ مُحْكَمَةٌ في إيجابِ المالِ عَلى قاتِلِ العَمْدِ، فَيَكُونُ مَعْنى المُتَشابِهِ مَحْمُولًا عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ وجَبَ الِاقْتِصارُ (p-١٩٥)بِمَعْنى الِاسْمِ عَلى القَوَدِ دُونَ المالِ وغَيْرِهِ لِمُوافَقَتِهِ لِمَعْنى المُحْكَمِ الَّذِي لا اشْتِراكَ فِيهِ، ومَن حَمَلَهُ عَلى تَخْيِيرِهِ في أخْذِ الدِّيَةِ أوِ القَوَدِ فَلَمْ يَلْجَأْ إلى أصْلٍ لَهُ مِنَ المُحْكَمِ يَحْمِلُهُ عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ إثْباتُ التَّخْيِيرِ مَعَ احْتِمالِ اللَّفْظِ لَهُ. وفي فَحْوى الآيَةِ ما يَدُلُّ عَلى أنَّ المُرادَ القَوَدُ دُونَ ما سِواهُ؛ لِأنَّهُ قالَ: ﴿ومَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطانًا فَلا يُسْرِفْ في القَتْلِ إنَّهُ كانَ مَنصُورًا﴾ [الإسراء: ٣٣] يَعْنِي، واللَّهُ أعْلَمُ: السَّرَفُ في القِصاصِ بِأنْ يَقْتُلَ غَيْرَ قاتِلِهِ أوْ أنْ يُمَثِّلَ بِالقاتِلِ فَيَقْتُلَهُ عَلى غَيْرِ الوَجْهِ المُسْتَحِقِّ مِنَ القَتْلِ. وفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى أنَّ المُرادَ بِقَوْلِهِ: سُلْطانًا القَوَدُ. وأيْضًا لَمّا ثَبَتَ أنَّ القَوَدِ مُرادٌ بِالآيَةِ انْتَفَتْ إرادَةُ المالِ؛ لِأنَّهُ لَوْ كانَ مُرادًا مَعَ القَوَدِ لَكانَ الواجِبُ هُما جَمِيعًا في حالَةٍ واحِدَةٍ لا عَلى وجْهِ التَّخْيِيرِ؛ إذْ لَيْسَ في الآيَةِ ذِكْرُ التَّخْيِيرِ، فَلَمّا امْتَنَعَ إرادَتُهُما جَمِيعًا، وكانَ القَوَدُ لا مَحالَةَ مُرادًا عَلِمْنا أنَّهُ لَمْ يُرِدِ المالَ، وأنَّ إيجابَنا لِلدِّيَةِ في بَعْضِ المَقْتُولِينَ ظُلْمًا لَيْسَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ. * * * بابُ العاقِلَةِ هَلْ تَعْقِلُ العَمْدَ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فَمَن عُفِيَ لَهُ مِن أخِيهِ شَيْءٌ فاتِّباعٌ بِالمَعْرُوفِ وأداءٌ إلَيْهِ بِإحْسانٍ﴾ وقَدْ قَدَّمْنا تَأْوِيلَ مَن تَأوَّلَهُ عَلى عَفْوِ بَعْضِ الأوْلِياءِ عَنْ نَصِيبِهِ مِنَ الدَّمِ، ووُجُوبِ الأرْشِ لِلْباقِينَ، واحْتِمالِ اللَّفْظِ لِذَلِكَ، وفِيهِ دَلالَةٌ عَلى أنَّ الواجِبَ عَلى القاتِلِ الَّذِي لَمْ يَعْفُ في مالِهِ، وكَذَلِكَ كُلُّ عَمْدٍ فِيهِ القَوَدُ فَهو عَلى الجانِي في مالِهِ، كالأبِ إذا قَتَلَ ابْنَهُ، وكالجِراحَةِ فِيما دُونَ النَّفْسِ، ولا يُسْتَطاعُ فِيها القِصاصُ نَحْوُ قَطْعِ اليَدِ مِن نِصْفِ السّاعِدِ، والمُنَقِّلَةِ والجائِفَةِ، فالعامِدُ والمُخْطِئُ إذا قَتَلا أنَّ عَلى العامِدِ نِصْفَ الدِّيَةِ في مالِهِ، والمُخْطِئُ عَلى عاقِلَتِهِ، وهو قَوْلُ أصْحابِنا وعُثْمانَ البَتِّيِّ والثَّوْرِيِّ والشّافِعِيِّ. وقالَ ابْنُ وهْبٍ، وابْنُ القاسِمِ عَنْ مالِكٍ: " هي عَلى العاقِلَةِ " وهو آخِرُ قَوْلِ مالِكٍ. قالَ ابْنُ القاسِمِ: "، ولَوْ قَطَعَ يَمِينَ رَجُلٍ، ولا يَمِينَ لَهُ كانَتْ دِيَةُ اليَدِ في مالِهِ، ولا تَحْمِلُها العاقِلَةُ " . وقالَ الأوْزاعِيُّ: " هو في مالِ الجانِي فَإنْ لَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ مالُهُ حُمِلَ عَلى عاقِلَتِهِ، وكَذَلِكَ إذا قَتَلَتِ المَرْأةُ زَوْجَها مُتَعَمِّدَةً، ولَها مِنهُ أوْلادٌ فَدِيَتُهُ في مالِها خاصَّةً، فَإنْ لَمْ يَبْلُغْ ذَلِكَ مالُها حُمِلَ عَلى عاقِلَتِها " قالَ أبُو بَكْرٍ: دَلالَةُ الآيَةِ ظاهِرَةٌ عَلى أنَّ الصُّلْحَ عَنْ دَمِ العَمْدِ، وسُقُوطَ القَوَدِ بِعَفْوِ بَعْضِ الأوْلِياءِ يُوجِبُ الدِّيَةَ في مالِ الجانِي؛ لِأنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿فَمَن عُفِيَ لَهُ مِن أخِيهِ شَيْءٌ﴾ وهو يَعْنِي القاتِلَ إذا كانَ المَعْنى عَفْوَ بَعْضِ الأوْلِياءِ، ثُمَّ قالَ: ﴿فاتِّباعٌ بِالمَعْرُوفِ﴾ يَعْنِي اتِّباعَ الوَلِيِّ لِلْقاتِلِ، ثُمَّ قالَ: ﴿وأداءٌ إلَيْهِ بِإحْسانٍ﴾ يَعْنِي أداءَ القاتِلِ، (p-١٩٦)فاقْتَضى ذَلِكَ وُجُوبَهُ في مالِ القاتِلِ. وكَذَلِكَ تَأْوِيلُ مَن تَأوَّلَهَ عَلى التَّراضِي عَنِ الصُّلْحِ عَلى مالٍ فَفِيهِ وُجُوبُ الأداءِ عَلى القاتِلِ دُونَ غَيْرِهِ، إذْ لَيْسَ لِلْعاقِلَةِ ذِكْرٌ في الآيَةِ، وإنَّما فِيها ذِكْرُ الوَلِيِّ والقاتِلِ. ورَوى ابْنُ أبِي الزِّنادِ عَنْ أبِيهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: لا تَعْقِلُ العاقِلَةُ عَمْدًا ولا عَبْدًا ولا صُلْحًا ولا اعْتِرافًا. وحَدَّثَنا عَبْدُ الباقِي قالَ: حَدَّثَنا أحْمَدُ بْنُ الفَضْلِ الخَطِيبُ قالَ: حَدَّثَنا إسْماعِيلُ بْنُ مُوسى قالَ: حَدَّثَنا شَرِيكٌ عَنْ جابِرِ بْنِ عامِرٍ قالَ: " اصْطَلَحَ المُسْلِمُونَ عَلى أنْ لا يَعْقِلُوا عَبْدًا ولا عَمْدًا ولا صُلْحًا ولا اعْتِرافًا " . ورَوى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ في قِصَّةِ قَتادَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ المُدْلِجِيِّ الَّذِي قَتَلَ ابْنَهُ: " أنَّ عُمَرَ جَعَلَ عَلَيْهِ مِائَةً مِنَ الإبِلِ، وأعْطاها إخْوَتَهُ، ولَمْ يُوَرِّثْهُ مِنها شَيْئًا " فَجَعَلَ ذَلِكَ في مالِهِ لَمّا كانَ عَمْدًا، ولَمّا ثَبَتَ ذَلِكَ في النَّفْسِ، ولَمْ يُخالِفْ عُمَرَ فِيهِ غَيْرُهُ مِنَ الصَّحابَةِ كانَ كَذَلِكَ حُكْمُ ما دُونَها إذا سَقَطَ القِصاصُ.، ورَوى هِشامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أبِيهِ قالَ: " لَيْسَ عَلى العاقِلَةِ عَقْلٌ في عَمْدٍ وإنَّما عَلَيْهِمُ الخَطَأُ " وقالَ عُرْوَةُ أيْضًا: " ما كانَ مِن صُلْحٍ فَلا تَعْقِلُهُ العَشِيرَةُ إلّا أنْ تَشاءَ " . وقالَ قَتادَةُ: " كُلُّ شَيْءٍ لا يُقادُ مِنهُ فَهو في مالِ الجانِي " . وقالَ أبُو حَنِيفَةَ عَنْ حَمّادٍ عَنْ إبْراهِيمَ: " لا تَعْقِلُ العاقِلَةُ صُلْحًا ولا عَمْدًا ولا اعْتِرافًا " .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب