الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ الآية، قال المفسرون: لما نزل قوله: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ عجب المشركون، وقالوا: إن محمدًا يقول: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾؛ فليأتنا بآية إن كان من الصادقين، فأنزل الله هذه الآية [[رواه الثوري في "تفسيره" ص 54، وسعيد بن منصور في "سننه" 2/ 640، وأبو الشيخ في "العظمة" 1/ 252، وابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 272، والبيهقي في "شعب الإيمان" 1/ 130، والثعلبي 1/ 1208 كلهم عن أبي الضحى. ورواه الطبري 2/ 60 عن عطاء، وذكرهما الواحدي في "أسباب النزول" ص 50 - 51، وروى ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 273 عن ابن عباس أن قريشًا سألت النبي ﷺ أن يجعل لهم الصفا ذهبًا، فأوحى الله إليه: إني معطيهم، ولكن إن كفروا عذبتهم عذابًا لا أعذبه أحدًا من العالمين، فنزلت، وذكره السيوطي في "لباب النقول" == ص 31 وجود إسناده، وروي عن ابن عباس أنها نزلت حين قالوا: انسب لنا ربك وصفه. وينظر: "العجاب" 1/ 414 - 415، "زاد المسير" 1/ 167.]]، وعلّمهم كيفيةَ الاستدلالِ على الصانع، وعلى توحيدِه، وردَّهم إلى التفكر في آياته، والنظرِ في مصنوعاته، على ما عدّها في الآية. وبيَّن أنّ فيما ذكره في هذه الآية من عجيب صنعه، وإتقانِ أفعاله، واتساق صنائعه دليلًا على توحيده، فإن هذه الأفعال لا تحصل في الوجود لو كان لها صانعان؛ لوجوب التمانع بينهما [[دليل التمانع: هو أنه لو كان للعالم صانعان، فعند اختلافهما -مثل أن يريد أحدهما: تحريك جسم، والآخر تسكينه، أو يريد أحدهما: إحياءه، والآخر إماتته- فإما: أن يحصل مرادهما، أو مراد أحدهما، أو لا يحصل مراد واحد منهما، والأول ممتنع؛ لأنه يستلزم الجمع بين الضدين، والثالث ممتنع؛ لأنه يلزم خلو الجسم عن الحركة والسكون وهو ممتنع، ويستلزم أيضًا عجز كل منهما، والعاجز لا يكون إلها، وإذا حصل مراد أحدهما دون الآخر، كان هذا هو الإله القادر، والآخر عاجزًا لا يصلح للإلهية. ينظر: "شرح العقيدة الطحاوية" 1/ 28.]]، واستحالة تساويهما في صفة الكمال. قال أهل المعاني: وجمع السماوات؛ لأنها أجناس مختلفة، كل سماء من جنس غير الأخرى، ووحّد الأرض؛ لأنها كلها تراب [["تفسير البغوي" 1/ 177، وينظر أيضاً: "تفسير الطبري" 1/ 191 - 195، "البحر المحيط" 1/ 464.]]. وقوله تعالى: ﴿وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَار﴾ فسّر الاختلاف هاهنا تفسيرين يرجعان إلى أصل واحد: أحدهما: أنه افتعال، من قولهم: خلَفه يخلُفه، إذا ذهب الأول وجاء الثاني خلافه، أي: بعده، فاختلاف الليل والنهار: تعاقبهما في الذهاب والمجيء، ومنه يقال: فلان يختلف إلى فلان، إذا كان يذهب إليه، ويجيء من عنده، فذهابه يخلف مجيئه، ومجيئه يخلف ذهابه. أحدهما خلاف الآخر، أي: بعده، وكل شيء يجيء بعده شيء، فهو خِلفه. وبهذا فُسِّر قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً﴾ [الفرقان: 62] [[ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 63 ولم يذكر غيره، "تفسير البغوي" 1/ 177، "تفسير القرطبي" 2/ 176.]]، قال الفراء: يذهب هذا، ويجيء هذا [["معاني القرآن" للفراء 2/ 271، وينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1308، "اللسان" 2/ 1237 (خلف).]]. الثاني: قال ابن كيسان [[ذكره في "تفسير الثعلبي" 1/ 1309، "البحر المحيط" 1/ 465.]] وعطاء [[ينظر: "تفسير الثعلبي" 1/ 1309، "القرطبي" 2/ 176، "البغوي" 1/ 177.]] في هذه الآية: أراد: اختلافهما في الطول والقصر، والنور والظلمة، والزيادة والنقصان. قال الكسائي: يقال لكل شيئين اختلفا: هما خِلْفان وخِلْفتان، وقول زهير: بها العِينُ والآرامُ يمشين خِلْفةً [[عجز البيت: وأطلاؤها ينهضن من كل مجثم وهو في "ديوانه" ص 5، "جمهرة اللغة" ص415 - 416، "لسان العرب" 2/ 1237 (خلف)، و 5/ 2700، وبلا نسبة في "رصف المباني" ص 145. وقوله: بها: أى بدار من يتغزل بها، والعين: البقر، واحدها: أعين وعيناء، وذلك لسعة عيونها، والآرام: الظباء الخوالص البياض، والأطلاء: الصغار من البقر والظباء، والمجثم: ما تربض فيه وترقد.]] فسّر بالوجهين: تكون مختلفة في ألوانها وتكون يذهب هذا، ويجيء هذا. وهذا القول يرجع إلى معنى الأول؛ لأن معنى الاختلاف في اللغة: التفرق في الجهات، جهة اليمين والشمال والخلف والقُدّام، ثم شبّه الاختلاف في المذاهب وفي كل شيء بالاختلاف في الطريق [[في (ش): (بالطريق).]]، من جهة أن كل واحد من المختلفين على نقيض ما ذهب إليه الآخر، كالمختلفين في الطريق، ولما تفاوت الليل والنهار في النور والظلمة وغيرهما جعل ذلك اختلافا، فهذا أيضًا يعود في الاشتقاق إلى الخلف. وقوله تعالى: ﴿وَالْفُلْكِ﴾ الفُلْك: واحد وجمع، ويذكر ويؤنث، وأصله من الدوران، وكل مستدير فُلك، وفَلَك السماء: اسم لأطواق [[في (ش): (لأطواف).]] سبعة، تجري فيها النجوم، وفَلَكَتِ الجارية: إذا استدارَ ثَدْيُها، وفَلَكَة [[في (م): (وفلك).]] المِغْزلَ من هذا، والسفينة سميت فُلكًا؛ لأنها تدور بالماء أسهل دور [[ينظر في الفلك: "تفسير غريب القرآن" ص 64، "تفسير الطبري" 2/ 64، "تهذيب اللغة" 3/ 2830 - 2831، "المفردات" ص 387، "اللسان" 6/ 3465 (فلك)، "تفسير القرطبي" 2/ 178.]]. وإنما كانت للواحد والجمع؛ لأنه على بناء يصلح لها [[في (م): (بها).]]، فإذا أريد به الواحد ذُكِّر، وإذا أريد به الجمع أُنِّث. ومثلُ الفلك من الجموع التي كسرت الآحاد عليها واللفظ فيهما [[في (ش): (فيها).]] واحد: قولهم: ناقة هِجَان، ونوق هِجَان [[(نوق هجان) سقطت من (ش). والهجان: البيض الخوالص.]]، ودرع دِلاصٍ، وأدرُع دِلاص [[دلاص: ملساء ليِّنة.]]، وشِمال: للخليقة والطبع، وجمعه شِمالٌ. ومجيء الجمع على لفظ الواحد مما يدل على قلة حفلهم بالفرق بينهما من طريق اللفظ، وأنهم اعتمدوا في الفرق على دلالة الحال، ومتقدم الكلام ومتأخره [[ينظر: "تفسير غريب القرآن" ص 64، "تفسير الطبري" 2/ 64، "تهذيب اللغة" 3/ 2831 (فلك)، "تفسير الثعلبي" 1/ 1310.]]. وقال سيبويه [[قريب منه ما في "الكتاب" 3/ 577، ونقله عنه في "اللسان" 6/ 3465 (فلك).]]: الفلك إذا أريد به الواحد فضمة الفاء فيه بمنزلة ضمة [[في (م): (ضمها).]] باء بُرْد، وخاء خُرْج، وإذا أريد به الجمع، فضمة الفاء بمنزلة ضمة الحاء في حُمْر، والصاد من صُفْر، فالضمتان وإن اتفقتا في اللفظ فإنَّهما مختلفتان [[في (م): (فهما مختلفان)، وفي (أ): (فإنهما مختلفان).]] في المعنى، وغير منكر أن يتفق اللفظان من أصلين مختلفين، ألا ترى أن من رخّم منصورًا في قول من قال: يا جار، قال: يامنصُ، فبقى الصاد مضمومة، كما بَقَّى الراء مكسورة، ومن قال: يا جارُ، فاجتلب للنداء ضمةً قال أيضًا: يا منصُ، فحذف ضمّةَ الصاد، كما حذف كسرة الراء، واجتلب للصاد ضمةَ النداء، كما اجتلب للراء ضمة النداء، إلا أن لفظ: يا منصُ في الوجهين واحد، والمعنيان متباينان. وقوله تعالى: ﴿تَجْرِي فِي الْبَحْرِ﴾ قد مضى الكلام في البحر. والآية في الفلك: تسخيرُ الله تعالى إياها، حتى يجريَها على وجه الماء، كما قال: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ﴾ [إبراهيم: 32]، ووقُوفُها فوق الماء مع ثقلها وكثرة وزنها. وقوله تعالى: ﴿يَنْفَعُ النَّاسَ﴾ أي: بالذي ينفعهم، من ركوبها، والحمل عليها في التجارات، وينفع الحامل؛ لأنه يريح، والمحمول إليه؛ لأنه ينتفع بما حمل إليه [[ساقط من (ش).]] [[ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 64، "تفسير الثعلبي" 1/ 1310، "تفسير البغوي" 1/ 177، "تفسير الرازي" 4/ 197، "تفسير القرطبي" 2/ 180.]]. وقوله تعالى: ﴿فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ أراد بموت الأرض: جدوبتَها ويُبُوستَها، فسمّاها موتًا مجازًا، وذلك أن الأرضَ إذا لم يصبها مطر لم تُنبت، ولم تُنْمِ نباتًا، وكانت [[في (ش) و (م): (وكان).]] من هذا الوجه كالميت، وإذا أصابها المطر أنبتت، ونحو هذا قوله: ﴿وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ﴾ [الحج: 5]، فلما وصفت بالاهتزاز وهو [[في (ش): (وهي).]] الحركة عند نزول الماء، توصف عند إمساك الماء بالسكون، والعربُ تسمي السكون موتًا [[ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 64، "تفسير الثعلبي" 1/ 1311، "تفسير البغوي" 1/ 177، "تفسير الرازي" 4/ 198.]]، قال الشاعر: إني لأرجو أن تموتَ الريحُ ... فأسكنَ اليوم وأستريحُ [[البيت في "اللسان" 7/ 4295 (موت)، بغير نسبة. وينظر: "شأن الدعاء" ص 116، "الحجة للقراء السبعة" 2/ 381.]] فيجوز أن يراد بالموت في هذه الآية: ضد الاهتزاز الذي وُصِفَت به عند نزول الماء، ولما سَمّى ذلك موتًا سمّى [[سقطت جملة: (ذلك موتًا سمي) من (ش).]] إِزالتَها إحياءً ليتجانس اللفظ [[ينظر: "تفسير الرازي" 4/ 198 - 199.]]. وقوله تعالى: ﴿وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ﴾ البثُّ: النشر والتفريق، ومنه قوله تعالى: ﴿وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ [النساء: 1]، ومنه: ﴿كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ﴾ [القارعة: 4]، ويقال: بثثته سِرِّي [[سقطت من (ش).]] أبثثته، إذا أطلعته عليه؛ لأنك فرقت بين سرّك وبينك، ويقال للحزن: بَثٌ؛ لأن صاحبَه لا يصبر عليه حتى يظهره [[ينظر في البث: "الطبري" 2/ 64، "المفردات" ص 47، "اللسان" 1/ 208 (بثث).]]. وقوله تعالى: ﴿مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ﴾ قال ابن عباس: يريد: كلّ ما دبّ على الأرض من جميع الخلق، من الناس وغيرهم [[لم أجد هذا عن ابن عباس.]]. وقوله تعالى: ﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ﴾ أراد: وتصريفه الرياح، فأضاف المصدر إلى المفعول، وهو كثير [[ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 64، واختار هذا الوجه، ونقل الرازي في "تفسيره" 4/ 201 هذا عن الواحدي، "البحر المحيط" 1/ 467، وذكر وجهًا آخر وهو أن يكون تصريف مصدرًا مضافًا للفاعل، أي: وتصريف الرياح السحاب، أو غيره مما له فيه تأثير بإذن الله.]]. والرياح: جمع الريح. قال أبو علي: الريح: اسم على فعل، والعين منه واو، انقلبت في الواحد [[سقطت من (م).]] للكسرة، فأما في الجمع القليل: أرواح، فصحّت؛ لأنه لا شيء فيه يوجب الإعلال، ألا ترى أن سكون الراء لا يوجب إعلال هذه الواو في نحو: قوم، وعون، وقول. وفي الجمع الكثير: رياح، انقلبت الواو ياء؛ للكسرة التي قبلها، نحو: ديمة ودِيَم، وحِيلَة وحِيَل [[ونقله عنه ابن سيده في "المخصص" المجلد 2/ السفر التاسع ص 83، والرازي في "تفسيره" 4/ 201، وينظر: "لسان العرب" 3/ 1763.]]. وقال ابن الأنباري: إنما سميت الريح ريحًا؛ لأن الغالب عليها في هبوبها المجيء بالرَّوح والرَّاحة، وانقطاعُ هبوبها يُكسِبُ الكربَ والغَمّ، فهي مأخوذة من الروح. وأصلها: رِوْح، فصارت الواو ياء؛ لسكونها وانكسار ما قبلها، كما فعلوا في الميزان والميعاد والعيد، والدليل على أن أصلها الواو: قولهم في الجمع: أرواح [[نقله عنه الرازي في "تفسيره" 4/ 201.]]. قال زهير: قِفْ بالديار التي لم يعفُها القدمُ ... بلى وغيَّرَها الأرواحُ والدِيَمُ [[ينظر: "ديوانه" ص 145، "لسان العرب" 8/ 4942.]] ويقال: رِحْتُ الريح أَراحُها، وأُرحتُها أرِيحُها: إذا وجدتها، ومنه الحديث: "من استُرعي رعيةً فلم يَحُطهم بنصيحة، لم يُرِحْ رائحةَ الجنة، وإن ريحَها لتوجد من مسيرة مائة عام" [[الحديث أصله في الصحيحين، رواه البخاري (7150، 7151) كتاب الأحكام، باب: من استرعى رعية فلم ينصح، ومسلم (142) في الإيمان، باب: استحقاق الوالي الغاش لرعيته النار، وليس في ألفاظهما: "لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها لتوجد من مسيرة مائة عام"، ولفظ (لم يرح) في حديث عبد الله بن عمرو مرفوعًا: "من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عامًا" رواه البخاري (3166) كتاب الجزية، باب: إثم من قتل معاهدًا بغير جرم، (6914) كتاب: الديات، باب: إثم من قتل ذميًّا بغير جرم.]]. قال الكسائي: الصواب: لم يُرحْ، من: أرَحتُ أُريح، وقال الفراء: لم يَرَح، بفتح الراء. وقال غيرهما: الصواب: لم يرِحْ، من رحت أريح. قال أبو عبيد: الصواب: بفتح الراء [["اللسان" 3/ 1765: لم يُرح رائحة الجنة: من أرحتُ، ولم يَرَح رائحة الجنة: من رِحتُ أراحُ، ولم يرِح تجعله من راح الشيء أريحه إذا وجدت ريحه، وقال الكسائي: إنما هو لم يُرح رائحة الجنة، من أرحت الشيء فأنا أُريحه، إذا وجدت ريحه، والمعنى واحد، وقال الأصمعي: لا أدري هو من رِحت أو من أرحت؟.]]، وأنشد: وماءٍ وَرَدْتُ على زَوْرَةٍ ... كَمَشْيِ السَّبَنْتَى يَراحُ الشَّفِيفَا [[البيت لصخر الغَيِّ الهذلي في "شرح أشعار الهذليين" ص 300، "لسان العرب" 3/ 1764، 3/ 1887. والزورة: البعد، وقيل: انحراف عن الطريق، والشفيف: لذع البرد، والسبنتى: النمِر.]] وقال أبو زيد: قال القيسيون: الرياح أربع: الشمال والجنوب والصَّبَا والدَّبُور. فأما الشمال فمن عن يمين القبلة، والجنوب من عن جهة شمالها، والصَّبَا والدَّبور متتابعتان [[في كتاب "الحجة" 2/ 250: متقابلتان. وهو أصوب.]]، فالصَّبا من قبل المشرق، والدَّبور من قبل المغرب، وأنشد أبو زيد البيت لأبي صخر الهذلي: إذا قلتُ هذا حينَ أسلُو يهيجُني ... نسيمُ الصَّبا من حيث يَطَّلِعُ الفَجْر [[البيت لأبي صخر الهذلي في "شرح أشعار الهذليين" 2/ 957، و"شرح شواهد المغني" 1/ 169، و"لسان العرب" 5/ 2689 (طلع)، و"مغني اللبيب" 2/ 518.]] [[من كتاب "الحجة" 2/ 250.]] وربما تسمى الصبا: قبولًا؛ لأنها استقبلت الدبور. وقال الأصمعي: إذا انحرفت واحدة منهن عن هذه المهابّ فهي نكباء. قال: وأخبرنا ابن الأعرابي قال: مهبّ الجنوب من مطلع سُهيل إلى مطلع الثُّرَيّا، والصبا من مطلع الثريا إلى بناتِ نَعْشٍ، والشمال من بنات نعش إلى مسقط النسر الطائر، والدبور من مسقط النسر الطائر إلى مطلع سُهَيل. وقال غيره: الجنوب: التي تجيء من قبل اليمن، والشمال: التي تهبّ من قبل الشام، والدَّبور: التي تجيء من عن يمين القبلة شيئًا، والصّبا: بإزائها [[من كتاب "الحجة" 2/ 250، و 251 بتصرف وتقديم وتأخير.]]. والشمال ريح باردة، تكرهها العرب؛ لبردها وذهابها بالغيم، وفيه [[في (ش): (وفيها).]] الحَيَا والخِصْبُ [[من كلام الأصمعي، نقله أبو علي في "الحجة" 2/ 255.]]، وإذا سمعت الريح تنسب إلى الشام فهي الشمال الباردة، كقول زياد بن منقذ: والمطعِمون إذا هبّتْ شاميةً ... وباكر الحيَّ من صُرّادها صِرَمُ [[في (أ): ضبطت صِرَم، وفي (ش): صَرَم.]] [[ينظر: "معجم البلدان" 1/ 203 (أشي).]] وقال النابغة: وهبّت الريحُ مِن تلقاءِ ذي أُرُلٍ ... تُزجى مع الليل من صُرّادها صِرَمًا [[البيت في "ديوانه" ص 63، "لسان العرب" 1/ 65، 4/ 2439، "مقاييس اللغة" 3/ 345، "أساس البلاغة" (مادة: صرم).]] وذُو أُرُلٍ: جبل بأرض غطفان من ناحية الشام، ولكراهتهم الشمال يسمّون كل مكروه عندهم: مشْمولًا، قال زهير: جرت سُنُحًا [[في (ش): (كأنها بسحًا).]] فقلت لها مَرُوعُا ... نَوًى مَشْمُولةٌ فمتى اللِّقاءُ [[البيت في "ديوانه" ص 59، و"لسان العرب" 4/ 2113، 4/ 2329، "أساس البلاغة" 1/ 506 (مادة: شمل).]] مشمولة أي: مكروهة [[ينظر: "الحجة" لأبي علي الفارسي 2/ 255.]]. وقد صرّح طرفة بأن الشمال شامية، في قوله: فأنت [[في (ش)، (م): (وأنت).]] على الأدنى شَمالٌ عَرِيّةٌ [[في (ش): (عزية).]] ... شآميّةٌ [[سقطت من (م).]] تَزوي [[في (ش): (تزري).]] الوجوهَ بَلِيلُ ويحبون الجنوب لدفئها، ولأنها تجيء بالسحاب والمطر [[من كلام الأصمعي تابع للنقل السابق عنه، نقله أبو علي في "الحجة" 2/ 255، وقطعه المؤلف وأدخل فيه غيره.]]، أنشد الأصمعي لحُميد بن ثور: فلا يُبْعِدِ اللهُ الشبابَ وقولَنا ... إذا ما صَبَوْنا صبْوَةً سَنَتُوبُ لياليَ أَبْصَارُ الغواني وسمعُها ... إليَّ وإذ ربْحِي لهن جنوبُ [[البيتان لحميد بن ثور، وردا في "الإصابة" 1/ 356، "الاستيعاب" 1/ 431، "الأغاني" 18/ 132، "الزاهر" 1/ 367. ينظر: "وضح البرهان" 2/ 332.]] أي: محبوبة كما تحب الجنوب. وقال أبو عبيدة: الشمال عند العرب للرَّوْح، والجنوب للأمطار والأنداء، والدَّبور للبلاء، أهونه أن يكون غبارًا عاصفًا، يقْذي [[في (م): (يؤذي).]] العين، وهي أقلهن هُبوبًا، والصَّبا لإلقاح الشجر، وكل ريح انحرفت فوقعت بين ريحين من هذه الأربع فهي نكباء. وتقول العرب: إنَّ النُّكْب أربع: فنكباء الصبا والجنوب ميباس للبقل ونكباء الصبا [[في (ش): (للصبا).]] والشمال مِعْجاجٌ مِصْراد، لا مطر فيها ولا خير، ونكباء الشمال والجنوب ريح قَرَّة، وربما كان فيها مطر وهو قليل، ونكباء الدبور والجنوب قد تكون في الشتاء والصيف [[في (أ): (كأنها المصيف).]]. وقول الخثعمي: مِن كلِّ فيّاضِ اليدين إذا غدَتْ ... نكباءُ تُلْوي بالكنيفِ [[في (ش): (الكثيف).]] المُوصَدِ [[ورد البيت في "ديوان الحماسة" 1/ 334.]] هذه في الشتاء [[في (م): (الثنا).]] [[ينظر في تفصيلات الريح وأسمائها وأنواعها:"المخصص" لابن سيده 2 سفر 962 وما بعدها.]]. واختلف القراء في ﴿الرِّيَاحِ﴾ فقرأ بعضهم: بالجمع في مواضع، وبالتوحيد في مواضع [[فبهذه الآية قرأ حمزة والكسائي وخلف بإسكان الياء وحذف الألف بعدها، على الإفراد، وغيرهم بفتح الياء وألف بعدها على الجمع. ينظر: "السبعة" ص 173،== "النشر" 2/ 223، "الحجة" 2/ 248 - 251، وقد ذكروا المواضع التي اختلفت فيها القراء في القرآن كله.]]، وهم مختلفون فيها. والأظهر في هذه الآية الجمع؛ لأن كل واحد من هذه الرياح مثل الأخرى في دلالتها على الوحدانية، وتسخيرها؛ لينتفع الناس بها بتصريفها، وإذا كان كذلك فالوجه أن تجمع؛ لمساواة كل واحدة منها الأخرى. وأما من وحّد فإنه يريد الجنس، كما قالوا [[في (م): (يقال).]]: أهلك [[في (م): (هلك).]] الناس الدينار والدرهم، وإذا أريد بالريح الجنس كانت قراءة من وحّد كقراءة من جمع. فأما ما روي في الحديث من أن النبي ﷺ كان إذا هبت ريح قال: "اللهم اجعلها رياحًا ولا تجعلها ريحاً" [[أخرجه الشافعي في الأم 1/ 253 باب القول في الإنصات عند رؤية السحاب، وفي "المسند" 1/ 175 برقم 502، باب في الدعاء من طريق العلاء بن راشد عن عكرمة عن ابن عباس، ومن طريق الشافعي أخرجه البيهقي في "معرفة السنن والآثار" 5/ 189، وأخرجه أبو الشيخ في "العظمة" 4/ 1352 من طريق العلاء بن راشد، وهو ضعيف، وأخرجه أبو يعلى في "مسنده" 4/ 341، والطبراني في "الكبير" 11/ 213 من طريق الحسين بن قيس، وهو متروك. قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" 10/ 135: رواه الطبراني وفيه: حسين بن قيس، الملقب بحنش، وهو متروك، وقد وثقه حصين بن نمير، وبقية رجاله رجال الصحيح.]]. فمما [[في (م): (رايدًا).]] يدل على أن مواضع الرحمة بالجمع أولى قوله [[في كتاب "الحجة" 2/ 257: ومواضع العذاب بالإفراد، ويقوي ذلك قوله تعالى.]]: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ﴾ [الروم: 46]، وإنما تبشر بالرحمة، ويشبه أن يكون النبي ﷺ قصد هذا الموضع من التنزيل. ومواضع الإفراد من العذاب [[في (أ)، (م): (الإفراد والعذاب).]] كقوله: ﴿وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ﴾ [الذاريات: 41]. وقد يختص اللفظ في التنزيل بشيء فيكون أمارة له، فمن ذلك أن عامة ما جاء في التنزيل من قوله: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ﴾ مبهم غير مبيّن، كقوله: ﴿وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ﴾ [الشورى: 17]، وما كان من لفظ (أدراك) مفسّر، كقوله: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ﴾ [القارعة: 3]، ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ﴾ [القارعة: 10] [[من كتاب "الحجة" 2/ 256 - 258 بتصرف.]]. فأما التفسير، فالتصريف في اللغة: التقليب، وهو تَفْعيل من الصَّرف، والصَّرف: القلب عن الشيء. والصَّرِيف: اللبنُ الذي سَكَنَت [[في (ش): (سكتت). ولعلها كذلك في (م).]] رَغْوتُه؛ لانصراف الرغوة عنه، وقيل: لا يُسمَى صريفًا حتى يُنصرف به عن الضرع [[ينظر في معاني التصريف: "المفردات" ص 283، "اللسان" 4/ 2434 (صرف).]]، والصريف: الفحل نابيه؛ لأنه يقلب أحدهما بالآخر [[العبارة غير واضحة، وقد يكون صوابها: صرف الفحل نابه، أي: حرقه فسمعت له صوتًا، ولنابه صريف أي: صوت. قال في "اللسان" 4/ 2436: الصريف: صوت الأنياب، وصرف الإنسان والبعير نابه، وبنابه حرقة فسمعت له صريفًا، وناقة صروف بينة الصريف، وصريف الفحل: تهدُّره.]]. قال المفسرون: ومعنى ﴿وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ﴾: تَقْليبُها قَبُولًا ودَبُورًا وشمالًا وجنوبًا، كما بَيَّنَّا، وتصريفها مرةً بالرحمة، ومرةً بالعذاب، وتصريفها مرة حارةً، ومرةً باردةً، ومرة لينةً، ومرةً عاصفة [[ينظر: "تفسير الطبري" 2/ 64، "تفسير ابن أبي حاتم" 1/ 275، "تفسير الثعلبي" 1/ 1311، "المحرر الوجيز" 2/ 51، "البحر المحيط" 1/ 467.]]. وقوله تعالى: ﴿وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّر﴾ سمي السحاب لانسحابه في الهواء [["تفسير الثعلبي" 1/ 1312، وينظر: "المفردات" ص 231، "التفسير الكبير" 4/ 202، "اللسان" 4/ 1948.]]. ومعنى التسخير: التذليل، ﴿وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّر﴾: المطيعة لله تعالى [[ينظر: "المفردات" 233، "التفسير الكبير" 4/ 202، "اللسان" 4/ 1963 (سخر).]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب